العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد0%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمّد علي يوسف الاشيقر
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 42915
تحميل: 7184

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42915 / تحميل: 7184
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبعد رحيل الزهراء (عليها السّلام) إلى جوار ربّها (ت ١١هـ)(١) ، والذي تمّ هذا بعد فترة قصيرة من رحيل والدها (صلّى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى والتي هي (٧٢) يوماً أو أكثر، طلب الإمام علي (عليه السّلام) من أخيه عقيل بن أبي طالب (ت ٦٠هـ)، والذي كان مختصّاً بعلم أنساب العرب وأحسابها، بل كان حجّة كبيرة في ذلك، وكان أيضاً أحد الذين يتحاكم إليهم الناس في علم الأنساب(٢) ، طلب منه أن يختار له امرأة، حيث خاطبه بالحرف: (( انظر لي امرأة قد ولدتها الفحول من بني العرب؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً )).

وإنّما طلب الإمام (عليه السّلام) من أخيه هذا الأمر؛ وذلك لأنّ العرب في الجاهليّة والإسلام كانت تولي مسألة الأحساب والأنساب مكانة خاصّة، وأهمية عظمى؛ حيث كانوا ولا زالوا على مدار التاريخ يحتفظون بأنساب قبائلهم وأفخاذهم وبطونهم بصورة جيدة وكاملة، وهو الذي ندعوه الآن بعصبة الدم، وسواء كان هؤلاء العرب من قبائل العدنانيّة التي تقطن في الشمال عند مكة وأطرافها، أو من القبائل القحطانيّة من عرب الجنوب الذين يقيمون في اليمن وحواليه(٣) .

____________________

(١) إنّ حرف (ت) الذي يرد في هذا الكتاب يشير إلى تاريخ الوفاة.

(٢) لقد كان في قريش أربعة أشخاص يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش، ويُرجع إلى قولهم، وهم: عقيل بن أبي طالب، مخرمة بن نوفل الزهري، أبو الجهم بن حذيفة العدوي، حويطب بن عبد العزى العامري، وكان عقيل أسرعهم جواباً، وأبلغهم وأقدمهم.

(٣) لا زال أبناء اليمن إلى الآن - كبقية العرب - يعتزّون بأنسابهم وأحسابهم، ولقد صادف في سفرتي الأخيرة إلى اليمن السعيدة (١٩٩٧) أن سألت أحد الأشخاص (ممّن تعرفت عليه هناك) عن نسبه، فما كان منه إلاّ أن أخرج فوراً من جيبه شجرة نسبه التي توصله أباً عن جدٍّ إلى آدم أبي البشر (عليه السّلام).

٢١

حيث حرص كلّ هؤلاء العرب واهتمّ بالنسب هذا اهتماماً بالغاً، وكان هؤلاء يطلقون على الرجل الذي لا يعرف نسبه اسم (الخليع)، أي المخلوع عن أيّة شجرة نسب يمكنه أن ينتسب إليها؛ لذا فقد قالت العرب هنا: مَنْ لم يعرف نسبه لم يعرف الناس، ومَنْ لم يعرف الناس لم يُعدّ من الناس؛ لهذا نرى اعتزاز أبناء العروبة - على مرّ الزمن - بعشائرهم وأحسابهم، وباتوا يضحّون بأنفسهم وأرواحهم رخيصة دفاعاً عنها.

وقد تجلّى ذلك عبر الكلمات، والقصائد الشعرية الحماسية، والمعلّقات التي تمجّد هذه القبائل دفاعاً عنها، وتشيد بهذه العشائر وترفعها إلى القمّة حقّاً أو من دون استحقاق.

وإنّ الإمام علي (عليه السّلام) لم يغفل هذه الناحية حيث قال لابنه الحسن (عليه السّلام) في وصيته له: (( أكرم عشيرتك؛ فإنّهم جناحك الذي بهم تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول )).

والعجيب هنا أنّ العرب لم تعتز بأنسابها وأحسابها البشرية فقط، بل قد تجاوزوا في ذلك إلى أنساب خيولهم واُصولها؛ حيث نرى هؤلاء يحتفظون بأنساب الخيول الأصيلة والتي قُسّمت لديهم إلى عدّة سلالات، وباتوا يحرصون على عدم تزاوج أي فرس من سلالة معينة باُخرى من سلالة تقع دونها؛ وذلك حرصاً على الاحتفاظ بالنسب خالصاً من الاختلاط

٢٢

بسواه من السلالات المتدنية(١) .

وللفرس الأصيلة - قديماً وحديثاً - ثمن باهظ قد يعادل أو يزيد على أثمان عشرة خيول من سلالات متدنية وواطئة.

هذا وقد أجاب عقيل على طلب أخيه بالبحث له عن امرأة، أجاب بعد تفكير واستعراض لأنساب العرب وأحسابها بالقول: تزوّج اُمّ البنين الكلابيّة؛ فإنّه ليس في العرب على وجه الإطلاق أشجع من آبائها ولا أفرس.

ثمّ أخذ عقيل يذكر لأخيه علي (عليه السّلام) نسب اُمّ البنين كاملاً من جهة آبائها حيث قال له: هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

كما وذكر لأخيه نسبها من جهة الاُمّ بقوله: واُمّها هي ثمامة بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.

ثمّ قام عقيل يعدّد لأخيه أمجاد ومكارم أجداد اُمّ البنين، وإخوة الأجداد وأعمامها وأخوالها، حتّى حصل عند الإمام اليقين التامّ عنها، فطلب (عليه السّلام) من أخيه عقيل التوجّه إلى أهلها وأن يخطبها له من دون تأخير.

وطبيعي إنّ طلب الإمام علي (عليه السّلام) من أخيه عقيل أن يخطب له امرأة ما كان

____________________

(١) يعتبر سكّان الجزيرة أنّ أصول الخيل - أرساؤها أو عوائلها - سبعة، هي: صقلاوي جدران، حمداني السمري، معنق حدرج، كحيلة العجوز، شويمة بسياح، عبية الشراك، هدية نزحي.

هذا وبزيادة النسل وانتشاره لدى مالكين جدد غير الأصليِّين صارت لهذه الأصول فروع كثيرة بات تعدادها متعذّراً.

٢٣

ليكون إلاّ لمعرفة الإمام بأنساب العرب وقبائلها، وما تمتاز به بعض هذه القبائل من مكارم وفضائل (وهو ما ندعوه بالأصل والفصل)، وما يلوك سواها من سيئات وسمعه بذيئة لغرض تجنّب المصاهرة مع الأخيرة؛ وذلك وفقاً لما ينقل عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) في هذا الصدد بقوله: (( اختاروا لنطفكم؛ فإنّ العرق دسّاس )).

وقوله (عليه السّلام) أيضاً: (( اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم )).

وقوله: (( إنّ الخال أحد الضجيعين )).

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (( إيّاكم وخضراء الدمن ))، وحين سُئل: ما خضراء الدمن؟ قال: (( المرأة الحسناء في منبت السوء )).

ومن هذا جاء المثل العربي الشائع وهو: الولد لخاله(١) .

وهكذا كانت أفخاذ وبطون عامر وكعب وكلاب - وهي التي وقع الاختيار عليها من قبل عقيل؛ لغرض مصاهرة أخيه منها - هي قمّة الأفخاذ والبطون العربية شرفاً وعزّة، وشجاعة ومروءة في عهدي الجاهليّة والإسلام.

ولقد أشار إلى هذه الحقيقة أحد الشعراء حين نظم في ذمّ فخذ نمير فقال:

فغضَّ الطرفَ إنّكَ من نميرٍ فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

كما وأشار شاعر عربي ثانٍ، وهو أوس بن حجر، إلى ذلك، حيث نظم في

____________________

(١) يشير العلم الحديث إلى أنّ المرء يرث صفاته المعنوية والجسدية عن أعمامه وأخواله، بل وعن جدوده؛ سواء لأبيه، أم لاُمّه؛ لذا اهتم العرب بالنسب اهتماماً كبيراً، واعتبروه سبباً في التعارف، وسلّماً للتواصل فيما بينهم.

٢٤

وصف شجاعة أحد أفخاذ اُمّ البنين يقول:

يلاعبُ أطرافَ الأسنةِ عامرُ فراحَ لهُ حظُّ الكتائبِ أجمعُ

ونظم شاعر ثالث، وهو لبيد، يخاطب النعمان بن المنذر ملك الحيرة حول هذا المعنى:

يا واهبَ الخيرَ الجزيلَ من سعهْ نحنُ بنو اُمّ البنين الأربعهْ

ونحنُ خيرُ عامرِ بن صعصعهْ الضاربونَ الهامَ وسطَ الخيضعهْ

٢٥

في رحاب اُمّ البنين

لقد أشرنا في الفصل السابق إلى الأفخاذ والبطون التي تنتسب إليها اُمّ البنين، وكونها أفخاذ وبطون تبعث على المفاخرة والعزّة عند مصاهرتها.

أمّا في هذا الفصل فنشير إلى سيرة هذه المرأة الصالحة النقية، وسلوكها وطبيعة خُلقها؛ لنرى مدى تطابق وانعكاس مفاخر آبائها وأمّهاتها، ومآثرهم على طبيعة سلكوها وسيرتها، بدءاً من ولادتها ومروراً بإنجابها للشهداء الكرام الأربعة، والذي كان العبّاس (عليه السّلام) في طليعتهم ومقدّمتهم، واختتاماً غير موقفها المشرف حين سمعت بمصير أبنائها مع سيّدهم الحسين (عليه السّلام) في طفّ كربلاء، ومن ثمّ رحيلها إلى جوار ربّها آمنة مطمئنة لتُدفن في مقبرة البقيع بالقرب من قبر سميّتها فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، ومشيّعة إلى مثواها الأخير هذا من قبل كلّ مَنْ بقى موجوداً من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومن كلّ الطيبين والأخيار في المدينة المنوّرة.

لقد ولدت فاطمة (اُمّ البنين) الكلابيّة في حدود عام (٥هـ) في أصح الأقوال، أي إنّها تصغر بسنة واحدة عن عمر الحسين (عليه السّلام).

ولقد وضع لها اسم فاطمة؛ وذلك لأنّه كانت هناك أسماء جميلة ولطيفة تميل إليها العرب وتختارها لتسمية بناتها حين ولادتهنّ، وإنّ اسم (فاطمة) يقع في قمّة هذه الأسماء الجميلة وأفضلها.

ومن هذا المنطلق يُنقل عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) في مقولته هذه هي:(١)

____________________

(١) هكذا وردت العبارة في الأصل من غير أن تُذكر مقولة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ويبدو أن هناك سقطاً وقع أثناء الطباعة والنسخ دون أن يلتفت إليه المولِّف أو المصحّح، علماً أن لهذا السقط ارتباطاً بالصفحة التي تليها. (موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٢٦

١ - فاطمة بنت أسد(١) : وهي اُمّ الإمام علي (عليه السّلام)، والذي ترعرع الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أحضانها عند رحيل والدته آمنة بنت وهب، وكان يدعوها بالاُمّ.

٢ - فاطمة بنت حمزة أو ربيعة.

٣ - فاطمة الزهراء (عليها السّلام): وهي ابنة الرسول (صلّى الله عليه وآله) نفسه، وزوجة الإمام علي (عليه السّلام)، واُمّ الحسن والحسين (عليهما السّلام). ولقد اُطلق عليها اسم (أمّ أبيها) وفقاً لمقولة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الآنفة.

وهناك ما يقرب من (٢٠) صحابية تحمل اسم (فاطمة) وفقاً لما أشار إليه الفيروز آبادي في قاموسه، وإنّ أغلبهنّ أو كلّهنّ قد أدركن وواكبن عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أوقات مختلفة، والذي منهنّ فاطمة اُمّ البنين؛ لكونها صحابية جليلة محترمة؛ لأنّ الصحابي هو مَنْ أدرك عصر الرسول وأسلم على يده، وأخذ عنه العلم، ونقل حديثه من الرجال والنساء... إلخ، كما سنشير إليه في فصل لاحق.

أمّا عن علّة تسميتها هنا باُمّ البنين، فنشير إلى أنّ العرب في الجاهليّة والإسلام كانت تضع هذا الاسم، وتُكنى به المرأة التي تلد ثلاثة أبناء فما فوق.

والمفروض هنا هو أنّ هؤلاء الأبناء لا يأتون إلى الحياة الدنيا إلاّ بعد زواج المرأة وولادتها العدد المذكور من الأبناء، وهذا الأمر يتطلّب تأخير وضع الاسم - اُمّ البنين - إلى ما بعد هذه الولادة، والإنجاب بهذا العدد من الذكور.

____________________

(١) كانت فاطمة بنت أسد ذات رأي أصيل، وقد سارت سيرة خديجة الكبرى في الدفاع عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومؤازرته وإعلاء كلمته، وكثيراً ما وقفت بوجه المشركين وردّت عداوتهم، وهاجرت إلى المدينة.

ولمّا توفيت عام (٤هـ) كفّنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قميصه، ودخل قبرها، وقال: (( اللّهمّ اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد، ولقّنها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها )). وقيل للرسول (صلّى الله عليه وآله) عن علّة ذلك، فقال: (( إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها؛ كانت تجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني، وكانت اُمّي )).

٢٧

إلاّ أنّ الحقيقة والواقع هنا هو أنّ البعض من العرب - وخلافاً لهذا الفرض - كان يُكني ابنته عند الولادة وفي عهد الطفولة بهذه الكنية (اُمّ البنين)؛ وذلك على سبيل الأمل والتفاؤل في أن تتزوّج ابنته هذه فيما بعد وترزق بعدد وفير من الأطفال الذكور.

والذي ندعوه الآن بـ (استباق الحوادث)، وعلى النحو والكيفية التي كانوا يدعون ويسمّون بناتهم بأسماء تبعث على الأمل والرجاء، مثل أمّ أيمن، وأمّ الخير، وأمّ المكارم، وأمّ البركة.

ويظهر لنا هنا أنّ اسم اُمّ البنين كانت قد كُنّيت بـ (فاطمة) منذ نعومة أظفارها، وقبل زواجها من الإمام علي (عليه السّلام) وإنجابها لأربعة أولاد منه(١) ، بسبب أنّ عقيل كان قد أشار إلى هذه الكُنية عندما طلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يبحث له في قبائل العرب عن زوجة بمواصفات معينة وخاصة.

ولقد غلبت هذه الكُنية على اسمها الحقيقي (فاطمة) حتّى غدت علماً، وباتت

____________________

(١) يذهب البعض إلى أنّ سبب تسمية فاطمة الكلابيّة باُمّ البنين قد تمّ مؤخراً وبعد زواجها بالإمام علي (عليه السّلام)؛ وذلك عندما طلبت هي من الإمام (عليه السّلام) أن يستبدل ويغيّر اسمها، وحينها استفسر الإمام منها عن علّة ذلك، قالت: بأنّه عند مناداتها باسم فاطمة ترى في وجوه الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام) علائم الحزن والألم؛ لأنّ هذا الاسم يذكّرهم بأمّهم فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، فما كان من الإمام - وفقاً لهذه الرواية - إلاّ أن يغيّر اسمها إلى اُمّ البنين.

ونرى هنا أنّ اسم اُمّ البنين كان قديماً وقبل زواجها ولقائها بالإمام (عليه السّلام) إلاّ أنّها ربّما طلبت من الإمام (عليه السّلام) والذي كان يناديها في الغالب باسم فاطمة - ليستذكر ذكرى زوجته وحبيبته الزهراء (عليها السّلام) - بأن يناديها باسمها الآخر وهو اُمّ البنين؛ تجنّباً من سماع أبناء فاطمة الزهراء (عليها السّلام) لاسم أمّهم الراحلة، رغم أنّ سماع اسم الأمّ الراحلة - كما هو متعارف الآن - قد يبعث الفخر والفرحة والاستذكار عند الأبناء لا الحزن.

ويؤيد هذا المنحى ما قاله عقيل لأخيه علي (عليه السّلام) إزاء الزواج بالحرف: تزوّج اُمّ البنين الكلابيّة. ولو لم يكن اسمها اُمّ البنين لقال له: تزوّج فاطمة... إلخ.

٢٨

لا تعرف ولا تذكر إلاّ بها، وحتى نسي الكثيرون اسمها الأوّل.

وطبيعي إنّ الله سبحانه قد حقّق الأمل والرجاء الذي من أجله قد كُنّيت (فاطمة) العامرية الكلابيّة به، وهو (اُمّ البنين) في السنوات التالية؛ حيث إنّها وبعد زواجها من الإمام علي (عليه السّلام) قد رزقها الله تعالى بأكثر من ثلاثة أولاد، هم أربعة على وجه التحديد، وقد كان كلّ واحد منهم ولا سيما أوّلهم وهو العبّاس فارساً وشجاعاً وباسلاً يشار إليه بالبنان. وأمّا أسماؤهم فهي كما يلي:

١ - العباس

٢ - عبد الله

٣ - عثمان

٤ - جعفر

هذا ونشير إلى أنّ اُمّ البنين العامرية الكلابيّة لم تكن هي الفتاة الوحيدة في الإسلام التي كُنّيت بهذا الاسم (اُمّ البنين)، بل نجد هناك قبلها أو بعدها مَنْ كنّى بناته بهذا الاسم.

ولقد برزت مكانة بعضهن أو اختفت تبعاً لمواقفهنّ وأدوارهنّ السياسية والدينية والاجتماعية والأدبية عبر التاريخ. ومن النساء اللاتي كُنّيت باسم (اُمّ البنين) وأمكن إحصائها هي كما يلي:

١ - اُمّ البنين: وهي فاطمة بنت حزام الكلابيّة، وهي موضوع هذا الفصل.

٢ - اُمّ البنين: المعروفة بالخصومة الكلابيّة، وتدعى هذه أيضاً باسم فاطمة، وهي زوجة عقيل بن أبي طالب، وتشابه اُمّ البنين الاُخرى (اُمّ العباس) في الاسم والكُنية، وفي العشيرة والقبيلة، وهي كلاب.

والعجيب هنا هو أنّها أنجبت لعقيل أربعة أولاد على النحو الذي أنجبت الاُخرى أربعة أولاد أيضاً.

٣ - اُمّ البنين: ليلى الكلابيّة، وهي بنت عمر بن عامر بن فارس.

٢٩

٤ - اُمّ البنين: العابدة بنت محمّد بن عبد الله، وكانت هذه تعدّ في وقتها من الزاهدات والعابدات.

٥ - اُمّ البنين المروانيّة: وهي زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، ويذكر عن سيرتها أنّها كانت تمتاز بفضائل وخصائص محمودة، ومنها إسهامها في مشاريع خيرية مختلفة فضلاً عن شهرتها في الجود والكرم والسخاء.

٦ - اُمّ البنين: الخنساء، وهي الشاعرة العربية المشهورة، تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية، وتعدّ هذه من خيرة وطليعة شاعرات العرب في عصرها، ولم تبلغ منزلتها شاعرة اُخرى، ولقد توفاها الله سبحانه عام (٤٦هـ).

ومن بديع شعرها المعروف، ولا نزال نحفظه منذ دراستنا الابتدائية والمتوسطة، والذي نظمته في رثاء أخيها صخر هو:

يذكرُ لي طلوعُ الشمسِ صخراً وأذكرهُ لكلِّ غروبِ شمسِ

ألا يا صخرُ لا أنساكَ حتّى أُفارقُ مهجتي ويُشقُّ رمسي

ولولا كثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي

ومن شعرها المشهور أيضاً القصيدة، والتي منها هذه الأبيات:

وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ بهِ كأنّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ

حمّالُ ألويةٍ شهّادُ أنديةٍ خوّاضُ أوديةٍ للجيشِ جرارُ

٧ - اُمّ البنين: وهي والدة الإمام الثامن (عند الشيعة الإماميّة) علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) (ت ٢٠٣هـ)، وقد كان لهذه السيدة الجليلة منزلة مرموقة، وفضائل محمودة يحسدها عليها كثير من النساء، حتّى إنّه قد نُظم في شأنها قصيدة، ومنها هذه الأبيات:

ألا إنّ خيرَ الناسِ نفساً ووالداً ورهطاً وأجداداً عليُّ المُعظّمُ

أتتنا بهِ للعلمِ والحلمِ ثامناً إماماً يؤدّي حجّةَ اللهِ تكتمُ

٣٠

أمّا عن الحالة الاجتماعية والفكرية لاُمّ البنين (والدة العباس) فقد كانت هذه من النساء الفاضلات في سموّ آدابها، وحسن سمعتها وسماتها، فضلاً عن كونها من المقرّات بحقّ أهل البيت (عليهم السّلام) في الولاية والإدارة والإمامة، ومخلصة في هذا الولاء والمودّة، وأنّها - من ثمّ - كانت ذات عقل راجح، وإيمان عميق، وأدب جم يحسدها على ذلك الكثيرون.

فليس من العجيب هنا أن يقع الاختيار عليها؛ لتكون زوجة بارة، ومخلصة للإمام علي (عليه السّلام) حيث عُدّ زواجها هذا كسباً وشرفاً لعشيرتها وقبيلتها؛ لمصاهرتها أعزّ عشيرة، وأقدس قبيلة في العرب.

كما وعُدّ أيضاً ربحاً لأهل البيت حيث انضمت إلى صفوفهم امرأة عفيفة ونجيبة باءت عبر أصلاب الشجعان والفرسان، فضلاً عمّا كانت تحمله وتتلى به عن ولاء مطلق، وودّ عارم، وانحياز كامل لهذا البيت الكريم.

وقد تجلّى بعض ذلك ساطعاً وظاهراً في التربية والرعاية التي مارستها إزاء أبنائها الأربعة، والتي حيّرتهم ليكونوا قنابل موقوته، وألغام متفجّرة، وسيوفاً مشرعة بوجه كلّ أعداء أهل البيت ومناوئيهم، وحيثما وجدوا وحلّوا، وفي هذا المكان أو ذاك.

وإزاء ولائها المطلق هذا لأهل البيت (عليهم السّلام) كان أبناء هذا البيت الكريم بدورهم يثمّنون موقفها هذا، ويُكنّون لها الحبّ العارم، والودّ والعطف الكبيرين، وقد أحلّوها بينهم في المنزلة والمكانة التي تستحقها معزّزة ومبجلة؛ لأنّها وبزواجها من علي (عليه السّلام) باتت من ضمن نساء أهل البيت (عليهم السّلام) مع مكانة مميّزة، ودرجة خاصة بما ليس لها نظير.

أمّا بقية سيرتها، فقد توزّع على بعض الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٣١

اُمّ البنين تُزفّ إلى عليٍّ (عليه السّلام)

عند رحيل فاطمة الزهراء (عليها السّلام) [ إلى ] جوار ربّها بعد عدّة أشهر من رحيل والدها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، كانت قد أوصت زوجها الإمام علي (عليه السّلام) قبل الرحيل، وعند اقتراب أجلها فيما أوصت به قولها: (( جزاك الله تعالى عنّي خير الجزاء. يابن عمّ، اُوصيك أوّلاً أن تتزوّج بعدي بابنة اُختي اُمامة؛ فإنّها تكون لولدي (الحسن والحسين) مثلي، فإنّ الرجال لا بدّ لهم من النساء، واجعل لها يوماً وليلة، وللحسنين يوماً وليلة )).

لذا فقد اضطر الإمام (عليه السّلام) بعد وفاة الزهراء (عليها السّلام) أن يبادر إلى اختيار امرأة تتولّى شؤون أولاده، وتعاملهم معاملة الاُمّ لأبنائها، فضلاً عن رعايته وخدمته خصوصاً فيما يتعلّق بالأولاد، وأنّهم لازالوا براعم صغار ولم تُفتح بعد، وأنّ أكبرهم وهو الإمام الحسن (عليه السّلام) كان عمره حينذاك في حدود (٧) سنوات وعدّة شهور، وقد ترك فقد الزهراء (عليها السّلام) اللوعة والألم في نفوسهم.

وتنفيذاً لوصية الزهراء (عليها السّلام) الحرفية فقد تزوّج الإمام (عليه السّلام) من اُمامة بنت أبي العاص، واُمّها هي زينب بنت الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومن بعد ذلك تزوّج الإمام (عليه السّلام) من اُمّ البنين.

وقبل الخطبة والزواج من اُمّ البنين فاطمة أقبلت هذه المرأة على اُمّها ثمامة الكلابيّة لتقصّ عليها حلماً كانت قد شاهدته لتوّه في المنام، وخلاصته هو: إنّها رأت كأنّ قمراً وثلاثة كواكب في السماء نزلوا وصاروا في حجرها، فضمتهم إلى صدرها وهي فرحة ومسرورة بذلك، ولكن عندما انتبهت من نومها لم تجد شيئاً،

٣٢

فحزنت وتألّمت على فقد هؤلاء.

وأخذتها اُمّها ثمامة إلى مَنْ يفسّر لها هذه الرؤيا، فكان التعبير لهذه الرؤيا هو أنّ هذه الفتاة ستتزوج من رجل عظيم ينجب له منها أربعة بنين، يكون بينهم وبين عشيرته واحد منهم هو كالقمر في ليلة تمامه وكماله بين الكواكب والنجوم. وما هي إلاّ فترة قصيرة حتّى يطرق بابها رسول الإمام علي (عليه السّلام) الذي جاء ليخطبها إلى الإمام (عليه السّلام) من أهلها (ولي أمرها)، كزوجة للإمام مكرّمة ومبرورة، فأسرع الأخير فرحاً إليها، فاستجابت باعتزاز وفخر.

وهنا استذكرت اُمّ البنين الرؤيا، والذي جاء في تعبيرها بأنّ رجلاً مهمّاً وعظيماً سيطلب يدها، ولم يكن في ذلك الوقت مَنْ هو أعظم من الإمام علي (عليه السّلام) مكانة ودرجة، وعلماً وأدباً، وخلقاً وبلاغة، وفي طول العالم الإسلامي وعرضه.

أمّا الشطر الثاني من الرؤيا فظلّت اُمّ البنين تكنزه في فكرها في انتظار تحقيقه في يوم لاحق من الأيام.

إنّ زواج الإمام (عليه السّلام) من اُمّ البنين لم يطلب من ورائه هنا امرأة ذات حسن وجمال، ولا امرأة تكتمل فيها صفات الاُنوثة، وإنّما كان يطلب امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وكان يريد نقاء الأصل ونقاء الروح، وهذه الصفات هي التي جاءت بالعباس وإخوته إلى الحياة الدنيا.

هذا ولا نعلم على وجه الدقّة والتحديد موعد هذا الزواج الميمون حيث لم تُشر كتب التاريخ إلى وقته، ولكن إذا ما علمنا بأنّ تاريخ مولد الابن البكر، وهو العبّاس (عليه السّلام) كان في عام (٢٦هـ)؛

٣٣

لذا فيمكن أن نستنتج بأنّ تاريخ زواجها من الإمام علي (عليه السّلام) كان - طبعاً - قبل هذا التاريخ بمدّة قد تكون في حدود سنة واحدة أو أكثر بمدّة قليلة.

ولقد رأى الإمام (عليه السّلام) فيها العقل الراجح، والإيمان الوثيق، وسموّ الآداب، ومحاسن الصفات، فأعزّها وأخلص لها كأعظم ما يكون الإخلاص.

وحينما زفّت اُمّ البنين إلى بيت الإمام علي (عليه السّلام) كان الحسن والحسين (عليهما السّلام) مريضين، فانقطعت من أوّل يوم في خدمتهما ورعايتهما، رغم أنّ الجميع كانوا في أعمار متقاربة، وقالت: إنّي لن أشعر بفرحة الزواج إلاّ بعد شفاء ابنيّ الحسن والحسين.

وقيل: إنّها قالت لهم عند الدخول: أنا هنا خادمة عندكم، جئت لخدمتكم، فهل تقبلون بهذا الشرط، وإلاّ فإنّي راجعة إلى داري. فرحّب بها الحسن والحسين وزينب (عليهم السّلام) وقالوا لها: أنت عزيزة كريمة، وهذا بيتك.

ولقد أحبّها الحسن والحسين (عليهما السّلام) بدورهما حبّاً جمّاً، واعتبراها - كما اعتبرت هي نفسها - أمّاً رحيمة وعطوفة عليهما، وبالمقابل فقد أحبّتهما اُمّ البنين بدورها، كما وكانت تحنو عليهما وتلاطفهما بحنانها، وهو - ما لا تكنّه لأولادها - ممّا عوّضهما عن الخسارة الكبيرة التي أصابتهما بفقد ورحيل أمّهما فاطمة الزهراء (عليها السّلام).

وعن هذه الحالة يقول الأديب الشاعر علي محمّد الحائري:

أفاطمُ بعدكِ اُمُّ البنين ستقبس من جمرةِ المصطلينا

هي الكفءُ تعقبُ خيرَ النساء أربت على شيمِ الحازمينا

سليلُ الأكرمِ من قومها وبنتُ البهاليلِ إذ ينسبونا

٣٤

علماً بأنّ العثور على امرأة تحمل مثل هذا السلوك المحمود، والمواصفات الحسنة إزاء أبناء زوجها - من زوجة اُخرى - أمر نادر في عالم اليوم والأمس.

حيث نرى أنّ غالبية النساء في المجتمع تغلب على طبيعتهم الغيرة والأثرة، وطالما تسبّبت زوجة الأب في بعث مآسي، وكوارث فظيعة في العائلة، وذلك حين ينام ضميرها، وتبتعد عن إنسانيتها حيث تتولّى الإساءة إلى أبناء زوجها الصغار - من زوجة اُخرى -، وتحاول الوقيعة بينهم وبين أبيهم؛ لتستأثر هي - وخصوصاً إن كانت تحمل شيئاً من الجمال والحسن - بكلّ قلبه وعاطفته، وبالتالي بثروته وملكيته إن وجدت دون هؤلاء المساكين.

وقد تزداد هذه الحالة والنزوة شدّة وقسوة إزاء أبناء زوجها فيما إذا رُزقت هي بأطفال من زوجها، حيث تحاول هنا أن تدع كلّ أفكار وعواطف واهتمام زوجها منصباً على أولادها من دون أولاده الآخرين، وكأنّ هؤلاء ليسوا بأولاده، ولم ينزلوا من صلبه عبر زوجته الأولى.

ولقد زادت اُمّ البنين في النبل والسلوك الحسن، وتألّقت مكانتها وعظمتها حين رزقها الله تعالى بأربعة أشبال، حيث قامت بإشعار وتنبيه أبناءها وأبناء فاطمة الزهراء (عليها السّلام) بأنّهم جميعاً إخوة وأشقاء، حيث غرست في قلوبهم جميعاً الحبّ المتبادل، والإخلاص والوفاء، والإخاء والتعاون المشترك حتّى بات الواحد منهم يفدي أخاه بكلّ ما يملك، وبأغلى ما لديه.

وعن طبيعة هذه الحالة نظم الأديب الشاعر السيد سلمان هادي آل طعمة يقول:

اُمُّ أبي الفضلِ خيرُ معتمدِ واُمُّ عثمان بيضةِ البلدِ

ثالثُهم جعفرُ الأبيُّ ومَنْ ما لانَ في شدّةٍ ولم يجدِ

واُمُّ عبد الله الذي اجتمعت فيهِ خصالٌ تهدي إلى الرشدِ

٣٥

ونظم الشاعر الشيخ هادي كاشف الغطاء حول الموضوع يقول:

اُمُّ البنين طابتِ الأبناءُ منكِ كما قد طابتِ الآباءُ

اُمُّ الاُسودِ من بني عمرو العُلا اُمّ الحُماةِ والأُباةِ النُّبلا

اُمُّ أبي الفضلِ واُمُّ جعفرِ واُمُّ عبد اللهِ شبلُ حيدرِ

واُمُّ عثمان الذي سمّاهُ باسمِ ابنِ مظعون الأبُ الأوّاهُ

الأنجبينَ الطاهرينَ أنفسا الأكرمينَ الطيبينَ مغرسا

آجركِ اللهُ وإيّانا فما أملكُ لو رمتُ أعزيكِ فما

كما ونظم شاعر ثالث، هو الأديب علي محمّد الحائري يقول:

ويا اُمّ مَنْ نصروا في الطفوف حسيناً ولم يرتضوا العيشَ هونا

هززتِ بهم راسياتِ الجبال بما نلتِ من ذكرهِ ثائرينا

أمّا عن هؤلاء الأشبال الأربعة الذين رُزقت بهم اُمّ البنين، والذين كانوا في العدد والصورة وفقاً للشطر الثاني من الرؤيا التي شاهدتها قبل خطبتها من الإمام (عليه السّلام)، فهم باختصار كما يلي:

١ - العبّاس: وهو الوليد الأوّل، حيث ولد في يوم الجمعة (٤) شعبان من عام (٢٦هـ)، علماً بأنّ أخاه الحسين (عليه السّلام) كان قد ولد في شهر شعبان أيضاً وفي الثالث منه من عام (٣هـ).

ولقد كان العبّاس وسيماً وجميلاً، وفقاً لما سنشير إليه في الفصل القادم، ولقد كان عمره في يوم عاشوراء، وهو يوم شهادته مع بقية إخوته، (٣٤) سنة.

وقد سمّاه الإمام علي (عليه السّلام) في اليوم السابع من ولادته بالعباس؛ لعلمه بشجاعته وسطوته، وصولته وعبوسه عند قتال الأعداء، ومنازلة الظالمين في كلّ أدوار حياته؛ حيث جاء في الصحاح أنّ عباس هو كشدّاد، وهو الأسد الضاري، ولقد عقّ (فدى)

٣٦

له والده كبشاً كما فعل مع الحسن والحسين (عليهما السّلام) من قبل، وأمر اُمّه أن تحلق رأسه وتتصدّق بوزن شعره فضّة أو ذهباً على المساكين، والأذان في الأُذن اليمنى، والإقامة في اليسرى عند ولادته.

٢ - عبد الله: وهو الوليد الثاني لاُمّ البنين، وكان عمره يوم الطفّ وشهادته (٢٥) سنة.

٣ - عثمان: وهو الوليد الثالث لاُمّ البنين، وكان عمره يوم استشهاده في كربلاء (٢٣) سنة.

٤ - جعفر: وهو الوليد الرابع والأخير لاُمّ البنين، وكان عمره يوم استشهاده (٢١) سنة(١) .

وهكذا عاش الأشبال الأربعة لاُمّ البنين مع بقية إخوتهم من أبناء فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، أو سواهم من الإخوة عاش الجميع في اُخوّة ومحبّة كاملة في المدينة المنورة، أو في الكوفة من دون أن يعكّر صفو هذا الحبّ والودّ المتبادل أيّ شيء، إلى حين انتقال والدهم العظيم علي (عليه السّلام) إلى جوار ربّه عام (٤٠هـ) مستشهداً في الكوفة بسيف الشقي ابن ملجم المرادي؛ حيث عاد الجميع إلى المدينة منذ ذلك الوقت ليعيشوا في ظلّ عهد جديد هو عهد الدولة الاُمويّة التي سامت جماهير المسلمين في هذا القطر، أو ذاك الخسف والجور، والذي امتد هذا إلى وقت سقوطها وانهيارها في عام (١٣٢هـ).

ولقد عاشت اُمّ البنين في المدينة ولم تتزوّج بعد رحيل زوجها (عليه السّلام)، وكانت

____________________

(١) تشير كثير من المصادر إلى أنّ عمر جعفر عند استشهاده كان (١٩) سنة، وهذا غير صحيح، حيث إنّ والده الإمام علي (عليه السّلام) كان قد استشهد قبل أكثر من (٢٠) سنة من وقت مصرعه.

٣٧

هي في نفس هذه البلدة يوم خروج الحسين (عليه السّلام) منها إلى مكة المكرّمة، ثمّ إلى كربلاء برفقة أبنائها الأربعة، وكذلك بقيت مقيمة في المدينة حين وصلها نعي الحسين (عليه السّلام) وأولادها الأربعة جميعاً، وظلّت حيّة تُرزق في المدينة إلى يوم رحيلها إلى دار الآخرة، وهو يوم الجمعة (١٣) جمادي الثانية من عام (٦٤هـ)، وقد دُفنت في البقيع بالقرب من مرقد فاطمة الزهراء (عليها السّلام).

ولقد بقي اسمها وذكرها خالداً ومتألّقاً في سجل الخالدات والعظيمات، والذي لا يجود الزمن بمثلهنّ إلاّ نادراً، كما وبرزت لها بعد رحيلها إلى جوار ربّها كرامات من الله تعالى غنية عن التعريف، ومثل الكرامات التي برزت لولدها الأول العبّاس، والتي سنشير إليها موجزاً في فصل مستقل قادم.

لذا نرى كثيراً من أبناء بلدنا وقطرنا يتوجّهون إلى الله تعالى عبرها - على بعد المزار - في تحقيق مطالب معينة، أو حلّ مشاكل مستعصية، أو محن وكوارث عظيمة، أو طلباً للشفاء من أمراض مزمنة ومستعصية، أو سوى ذلك؛ حيث يجدون الاستجابة الكاملة والتامة والسريعة لكثير منها، والفرج لغالبيتها بإذن الله تعالى.

٣٨

ولمّا بلغ أشده واستوى

ولد العبّاس بن علي (عليه السّلام) في (٤) شعبان من عام (٢٦هـ) وفي خلافة عثمان بن عفان في المدينة المنورة، ويُقال هنا: إنّ الإمام علي (عليه السّلام) كان قد دمعت عيناه حينما رأى ابنه الوليد هذا لأوّل مرّة، حيث قام الإمام (عليه السّلام) بضمّه إليه، وأخذ يتحسّس يده اليمنى واليسرى، ويهزّ رأسه من أسى، ثمّ يقبّل رأسه، ثمّ يمرّ براحته على صدره الغض؛ لأنّه يعلم وفقاً لفراسته، ولما أخبره به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الله تعالى عمّا سيجري على ولده الحسين (عليه السّلام) وإخوته من المآسي ونكبات في أرض كربلاء بقطر العراق، في عهد الدولة الاُمويّة، وفي خلافة يزيد بن معاوية على وجه التحديد.

وإنّه (عليه السّلام) من ثمّ ما تزوّج من اُمّ البنين إلاّ ليأخذ أبناؤها أدوارهم كاملة في ملحمة الطفّ بكربلاء في نصرة أخيهم الحسين (عليه السّلام) وبقية أهل بيته، نصرة غير محدودة.

وحين استفسرت اُمّ البنين من الإمام علي (عليه السّلام) عن علّة بكائه عند مشاهدته للوليد، وسبب حركة يده على أعضاء جسمه ورأسه بصورة خاصة... إلخ.

إلاّ أنّه من جوابه لها لم يخبرها عمّا يعلمه هو عن مستقبل هذا الطفل، وما سيجري عليه في يوم عاشوراء مع أخيه الحسين (عليه السّلام) من مصائب وكوارث حتّى لا يعكّر الأمر صفو حياتها ومعيشتها، وإنّما اكتفى الإمام علي (عليه السّلام) بأن قال لها: بأنّ مكانة هذا الطفل ستكون عظيمة وسامية عند الله تعالى في يوم القيامة، وأنّه سبحانه وتعالى سيمنحه جناحين يطير بهما في الجنة كالملائكة على النحو الذي أعطى أخاه جعفر بن أبي طالب

٣٩

(ت ٨هـ) مثل هذين الجناحين(١) .

ففرحت الزوجة لهذا التعليل المفرح والمسر الذي جاء على لسان زوجها إزاء ما قام به برأس وأعضاء وجسم الطفل، وأيقنت بصحة ذلك؛ لما تعهده في زوجها من بصيرة نافذة، وفراسة صادقة، ونظرة بعيدة.

قد كان العبّاس (عليه السّلام) منذ ولادته وسيماً جميل الصورة والشكل والمنظر، وشديد البياض بصورة غير اعتيادية، ويقال عنه هنا: إنّه كان أجمل طفل على الإطلاق، بل آية من آيات الجمال.

وزاد البعض بالقول: بأنّ تقاطيع وجهه كانت تبرق كالبدر المنير في ليلة تمامه وكماله، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء، فضلاً عمّا كان يتّصف به من ثغر باسم ووجه طلق؛ ولذلك فقد أطلق عليه اسم (قمر بني هاشم)، حيث إنّ العرب كانت تصف الرجل الوسيم الطاهر الأخلاق بالقمر.

هذا وليس العبّاس وحده هو الذي سمّي بالقمر بل سبقه آخرون من أجداده في هذا الوصف لحسن وجمال صورهم، فقد كان (عبد مناف) والد هاشم يسمى (قمر البطحاء)، وكان (عبد الله) والد الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) يسمى (قمر الحرم).

وبمرور الزمان برزت بقيّة خصال وشمائل العبّاس (عليه السّلام)، حيث تجلّت شجاعته

____________________

(١) يرى البعض أنّ الإمام (عليه السّلام) كان قد أشعر اُمّ البنين هنا بتفاصيل مأساة ولدها العبّاس في كربلاء، ونرى أنّ الإمام قد احتفظ بقلبه بكلّ تلك التفاصيل - والتي وردته عن النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الله تعالى - ولم يشعر بها إلاّ الخواصّ، أو مَنْ تطلب الحال إشعاره؛ وذلك حتّى لا تؤثر هذه على حياة واستقرار وهدوء العائلة والأولاد.

٤٠