العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد27%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45673 / تحميل: 8306
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

(( أخشى أن يصيب الحسنين مكروه فتذهب ذرّيّة رسول الله )).

وعن شجاعة العبّاس في معركة صفّين، والتي جرت عام (٣٧هـ)، يروى أنّه خرج من بين صفوف جيش الإمام علي في صفّين شاب مقنّع في خطوات ثابتة نحو أفراد جيش معاوية، وارتقى مرتفعاً من الأرض في وسط سهل صفّين، وصاح بأعلى صوته [ يتحدّى ] فيه نزال أشجع شجعان جيش معاوية.

فتقاعس أهل الشام من منازلته؛ ظناً منهم أنّه الإمام علي (عليه السّلام)، أو أحد قادته البارزين، وجلسوا ينظرون إليه حيث لفّهم الخوف والخشية، ولم يبرز أحد منهم لمنازلته. وهنا نادى معاوية رجلاً من أصحابه (كان محسوباً من شجعانهم)، وكان يُعدّ بألف فارس، ويدعى (أبو الشعشاع)، فقال له: إنّك أبرع فارس في الشام، فتقدّم واقتل هذا الرجل ليكون في قتله عبرة للآخرين.

فأجابه أبو الشعشاع: كلاّ، إنّ أهل الشام يعدّوني بألف فارس، وهو لا يستحق أن اُنازله، وسأبعث إليه أحد أولادي ليقتله.

فنادى أبو الشعشاع أحد أولاده، وكان رجلاً قوياً، فتبارز مع الشاب المُقنّع فقُتل، ثمّ بعث إليه آخر فقتله الشاب أيضاً، حتّى بعث إليه سائر أولاده - ويُقال: إنّ عددهم كان سبعة - فقتلهم الشاب جميعاً، وألحق آخرهم بأوّلهم.

وإثر ذلك برز أبو الشعشاع بنفسه لمواجهة هذا الشاب المقنّع، وسار نحوه وهو يخاطبه: لقد قتلت أيّها الشاب كافة أولادي، والله لأقتلنّك الآن شرّ قتلة، وأثكل بك أباك واُمّك.

٦١

وهنا استل أبو الشعشاع سيفه واندفع بقوّة نحو الشاب، حيث جرت بينهما معركة عنيفة تمكّن الشاب من ضرب خصمه ضربة قاضية قضت عليه، وألحقته بأولاده غير مأسوف عليه وعليهم.

ثمّ تقدّم الشاب أمام صفوف جيش العدوان وهو يصيح بهم: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد، أو يخرج إليه مَنْ ينازله من بين صفوف الخصم. وعاد الشاب المقنّع إلى صفوف جيش الإمام (عليه السّلام)، حيث تعجّب أفراده من بسالة هذا الشاب النادرة، والذي صرع أشجع شجعان الشام، والتي لم يعرف العرب لها مثيلاً إلاّ في بطولة الإمام علي (عليه السّلام)، أو الحمزة بن عبد المطلب، أو جعفر الطيار.

وهنا دعاه الإمام علي (عليه السّلام) وأزال اللثام (القناع) عن وجهه، فإذا هو ابنه العبّاس قمر بني هاشم، فقبّل الإمام ما بين عينيه، وباركه على شجاعته وبسالته التي أبداها في منازلة الأعداء(١) .

وهكذا نرى أنّ الشجاعة والباسلة ليست غريبة على أبناء أهل البيت ابتداءً من الإمام علي وجعفر الطيار، ومروراً على الحسن والحسين والعباس ومحمد بن الحنفيّة والقاسم ومسلم وزيد بن علي ويحيى بن زيد... إلخ ومن دون انتهاء.

حيث إنّ كلّ واحد من هؤلاء الفرسان قد حارب بعنف وشدّة، وفي هذه الموقعة أو تلك، وقتل فيها الكثير من الخصوم، وأوردهم صرعى على أرض صفّين، أو كربلاء، أو الكوفة، أو فخ، أو باخمري، أو الجوزجان... إلخ، حتى يروى عن

____________________

(١) العبّاس بن علي - محمّد كامل حسن، نقلاً عن كتاب مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي، العبّاس بطولة الروح وشجاعة السيف - محمّد هادي.

٦٢

الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذا الشأن قوله: (( لو ولد أبو طالب الناس كلّهم لكانوا شجعاناً )).

هذا وبعد رحيل الإمام علي (عليه السّلام) إلى الرفيق الأعلى في عام (٤٠هـ) ظلّ العبّاس، وكان عمره حينذاك (١٤) سنة، ظلّ موالياً لإخوته، ومؤيّداً ومناصراً لكلّ حقوقهم ودعواتهم باليد واللسان والقلب.

وحين وفاة أخيه الحسن المجتبى الزكي عم (٥٠هـ) رأى العبّاس بأمّ عينيه جنازة أخيه الحسن (عليه السّلام) وهي تُرمى في الطريق بالسهام، فهاله الأمر، وعظم عليه الحال، ولم يطق عليه صبراً، حيث اشتعلت في أحشائه الحمية والنخوة والشجاعة الهاشمية والكلابيّة، فما دعاه لأن يجرّد سيفه وأن يفتك ويبطش بمروان بن الحكم ومَنْ يقف خلفه من أزلام بني اُميّة، لولا أنّ أخاه الحسين (عليه السّلام) كان قد نهاه، ومنعه من إمضاء إرادته هذه بقوله له: (( ليس يومك هذا يا أخي ))؛ وذلك تبعاً لوصية الإمام الحسن (عليه السّلام) نفسه، والمتضمّنة عدم دفنه عند جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) إذا ما أدّى هذا الدفن إلى الاقتتال والفتنة، والتي هي بالحرف: (( لا تهرق من أمري ملء محجمة من دم )).

وإثر ذلك جيء بالجثمان الطاهر إلى البقيع ليوارى الثرى قرب مرقد أمّه الزهراء (عليها السّلام)، ولولا هذا النهي من أخيه لما أبقى العبّاس من أعدائه باقية، ولوضع سيفه في رقابهم، كما وضع أبوه علي (عليه السّلام) - من قبل - سيفه في رقاب آبائهم في يوم صفّين وبدر وغيرها.

حيث صبر العبّاس على الأمر على أحر من جمر الغضا، ينتظر الفرصة المناسبة لردّ هذا التعدّي والتحدّي بكيل الصاع صاعين، والضربة بضربتين.

٦٣

ولقد كان المكان المناسب والملائم، والفرصة المواتية التي كان يرجوها قد أطلّت بعد عقد كامل من هذا التعدّي، وليست في طرق وشوارع المدينة، وإنّما على مسافة بعيدة من هذا المكان يزيد على الألف كيلومتر، وفي أرض كربلاء بقطر العراق على وجه التحديد، وفي المحرّم من عام (٦١هـ).

وبالفعل حلّ هذا الموعد، ووصل إلى المكان المحدّد، حيث كال العبّاس (عليه السّلام) هناك لأعدائه من أزلام النظام الضربات الموجعة والمؤلمة، حتّى قيل إنّ كلّ بيت من بيوت هؤلاء الأزلام والمرتزقة في الكوفة أو أطرافها قد ضمّ ناعية، أو ناعي على قتلاهم في كربلاء بسيف العبّاس أو الحسين، أو سواهما من فرسان بني هاشم أو الأصحاب الميامين.

٦٤

المدينة بعد هلاك معاوية

عندما هلك معاوية بن أبي سفيان في دمشق بتاريخ ١٥ رجب من عام (٦٠هـ) قام بالأمر من بعده ولده يزيد، وكان معاوية - والذي كان ينظر إلى الدولة الإسلاميّة كأنّها ملك خاصّ له ولأولاده من بعده - كان قد قرّر من قبل بتدبير منه، أو بإيحاء من بعض مستشاريه أو بها معاً(١) أن لا يخرج السلطان والحكم من بيته بنصب نجله يزيد ولياً للعهد.

وهو - معاوية - وإنّ كان يعرف مباذل ابنه يزيد إلاّ أنّه كان يتغافل عنها حيث كان يردّد دوماً: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.

وبنصب معاوية لابنه يزيد ولياً للعهد يكون بذلك قد تجاهل الكثير من الصحابة(٢) والتابعين(٣) المنتشرين في الأقطار الإسلاميّة، والذين كانوا أهلاً لتسلّم المنصب الذي آثر أن يشغله يزيد بعد هلاكه وغيابه عن الحياة الدنيا.

وكانت عملية نصب يزيد ولياً للعهد عام (٥٦هـ) هي من محدثات عهد معاوية

____________________

(١) ينقل هنا عن الحسن البصري (ت١١٠) قوله: أفسد أمر هذه الأمّة اثنان؛ عمر بن العاص في التحكيم، والمغيرة بن شعبة في البيعة ليزيد. نهضة الحسين - هبة الدين الشهرستاني.

(٢) الصحابة: هم الذين صاحبوا الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأسلموا على يده، وأخذوا عنه العلم، وتعلّموا منه، ونقلوا حديثه، وأطاعوه وعملوا في خدمة العقيدة الإسلاميّة ونشرها.

(٣) التابعون: هم مَنْ لقى الصحابة وإن لم يصحبوهم. وأضاف البعض: أنّه لا بدّ من أن يكونوا قد صحبوهم، ويلقوا منهم شيئاً، وإنّ آخر عصر التابعين هو في حدود عام (١٥٠هـ).

٦٥

وبدعها، وقد أحدثها معاوية في أسوء وأفضع مهزلة ومسرحية عرفها التاريخ في اختيار أولياء العهد.

وقد تمّ ذلك عن طريق شراء الذمم بالمال والمناصب، والإغراءات الاُخرى، ثمّ اختتم الحفل البائس - الخاص بالاختيار - عندما صعد أحد أزلام معاوية المنبر في المسجد الجامع في دمشق ليقول للناس، ويهدّدهم برفيع صوته: أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى معاوية - وإذا مات فهذا - وأشار إلى ولده يزيد - ومن أبى (عارض) فهذا - وأشار إلى السيف أو السيّاف الذي كان يقف بين يديّ معاوية وبيده سيف طويل بطول الطغيان الاُموي(١) .

وبذلك فقد انتقلت الخلافة الراشدة من إسلاميّة ثورية إلى ملك عضوض، وملكية وراثية، ومزرعة اُمويّة، وغدت كسروية وهرقلية كلّما هلك كسرى وهرقل قام كسرى وهرقل مكانه.

لقد كان معاوية - ولا سيما بعد رحيل الإمام الحسن (عليه السّلام) - متساهلاً ومتسامحاً مع الحسين (عليه السّلام)، ولم يمسّه بسوء أو ضرر؛ وذلك مغبّة الفتنة، واضطراب الأمن، وتمرّد الأقاليم والجماعات الإسلاميّة عليه، لما يعرف عن الحسين من إباء وعزّة، وأنّ شيعته وأنصاره حينذاك هم غيرهم الذين كانوا في عهد أخيه الحسن (عليه السّلام) عدداً وعدّة وموقفاً.

____________________

(١) كان معاوية مع عمر بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه يعدّون من دهاة العرب، ولمعاوية في دهائه مقولة مشهورة هي: ما وضعت سوطي إذا أمكن وضع لساني، وما وضعت سيفي إذا أمكن وضع سوطي، وأنا بيني وبين الناس حبل (خيط) لا ينقطع؛ إذا أرخوه شددته، وإذا شدّوه أرخيته...

ويظهر أنّ معاوية كان من الدهاء والحلم على طرفي نقيض في أمور كثيرة؛ منها نصبه لولي عهده يزيد، وقتله لحجر بن عدي الطائي صبراً في عذراء بالشام، وسبّه للإمام علي (عليه السّلام) على المنابر... إلخ.

٦٦

وكان معاوية قد طلب البيعة في حينه من الحسين (عليه السّلام)، إلاّ أنّ الحسن كان قد اعترض على ذلك بعد صلحه المعروف معه(١) ، وقال له بالحرف: (( لا تكرهه؛ فإنّه لا يبايع أبداً أو يُقتل، ولن يُقتل حتّى يُقتل معه أهل بيته )). فتركه معاوية ولم يتعرّض له أبداً من قريبٍ أو بعيد طيلة مدّة حياته.

كما ونصح معاوية ابنه يزيد عندما فرضه على رقاب المسلمين نصحه بعدم مسّ الحسين (عليه السّلام) من بعده بسوء، أو التعرّض له من قريب أو بعيد، وأن يصفح عنه عند المقدرة؛ وذلك لقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وموقعه المميز والخاص في قلوب المسلمين، وفي هذا القطر أو ذاك.

إلاّ أنّ يزيد بن معاوية حين تربّع على عرش السلطة، واستوى على كرسي النظام، والذي كانت تنقصه كلّ مقوّمات الرجل المناسب في المكان المناسب، تجاهل كلّ نصائح والده إليه إزاء الحسين (عليه السّلام) بل سحق هذه النصائح بأقدامه، حيث

____________________

(١) إنّ من شروط الصلح بين الحسن بن علي (عليه السّلام) وبين معاوية هي:

١ - أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين، وأن ترجع الخلافة من بعده إلى المسلمين حيث يختارون بإرادتهم الحرّة مَنْ يرونه أصلح لها.

٢ - أن لا يؤاخذ الذين ناصروا أباه علي (عليه السّلام) بما صنعوا ضد معاوية، وأن لا يحرم أحداً من حقّه.

٣ - الكف وإيقاف حملات السبّ والشتم واللعنة ضدّ الإمام علي (عليه السّلام)، وعدم تشجيعها، وأن لا يذكر الإمام إلاّ بخير.

٤ - الاستمرار في دفع العطاء المقرّر له ولأخيه الحسين (عليهما السّلام)، علماً بأنّ معاوية لم يفِ للحسن أو يعرها أيّ اهتمام أو اعتبار ولو بشرط واحد فقط؛ ذلك لأنّ معاوية كان قد [تعهّد] للحسن (عليه السّلام) في الصلح على إمضاء وتنفيذ هذه الشروط، ثمّ أعلن أنّه قد وضعها تحت قدميه.

٦٧

أوعز إلى واليه (عامله) في المدينة وابن عمّه - الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - بأخذ البيعة له من الحسين (عليه السّلام)، وسواه من أبناء الصحابة بالشدّة والعنف، وطلب منه ضرب عنق كلّ مَنْ يتخلّف من هؤلاء عن أداء البيعة هذه فوراً، وإرسال رؤوسهم إليه.

وهكذا غدت الخلافة؛ إمّا بالبيعة لمَنْ يتربّع على عرشها من دون نقاش، أو كلام أو استفتاء، وإمّا التهيؤ لقطع الرؤوس وإرسالها إلى العاصمة عند الرفض والاعتراض عليها.

وقام الوالي (العامل) في المدينة بدوره بتنفيذ أوامر يزيد المشدّدة، حيث كلّف حرسه الخاصّ بالتوجّه إلى الحسين (عليه السّلام) وأخيه العبّاس وابن الحنفيّة وابن الزبير وابن عمر... إلخ، واستدعائهم جميعاً للمثول أمامه في هذه اللحظة، ومن دون تأخير، وأكّد عليه في أوامر مشدّدة بأنّه يهمّه في الدرجة الأولى حضور الحسين وأخيه العبّاس (عليهما السّلام) قبل الآخرين.

ولمّا أشعر رسول الوالي الحسين (عليه السّلام) برغبة الوالي في مقابلته في هذه الساعة، أجابه الحسين (عليه السّلام) بالعودة إلى الوالي وإشعاره بأنّه في الطريق إليه بعد قليل.

وقال الحسين (عليه السّلام) لمَنْ معه من الناس بصدد الموضوع: (( بأنّ أغلب الظنّ أنّ طاغيتهم في الشام معاوية قد هلك، وأنّ الوليد يريدنا في هذا الوقت لمبايعة يزيد، وهو أمر لن يحدث أبداً )).

وطلب الحسين (عليه السّلام) من أخيه العبّاس استدعاء وتهيئة (٣٠) شخصاً من رفاقه ومعارفه لمرافقتهم له إلى دار الوالي، وعند الباب قال الحسين (عليه السّلام) لهؤلاء: إنّه إذا علا صوته فعليهم المسارعة في اقتحام دار الوليد ليخرجوه منها عنوة.

٦٨

ودخل الحسين (عليه السّلام) دار الوالي، واستقبله الوليد بحفاوة وتكريم، وبعد أن استقر المجلس بالحسين (عليه السّلام) نعى الوليد إليه هلاك معاوية، ثمّ صارحه بضرورة البيعة ليزيد، فأجابه الحسين (عليه السّلام) بالقول: (( إنّ مثلي لا يبايع يزيد سرّاً، فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً )).

فردّ عليه الوالي: حسناً لك ما تريد.

ونهض الحسين (عليه السّلام) من مكانه، وهمّ بمغادرة الدار إلاّ أنّ مروان بن الحكم قال للوليد: احبس هذا الرجل حتّى يبايع، أو اضرب عنقه وأرسل رأسه إلى الخليفة كما أمرك؛ لأنّه إن فارقك الآن ولم يبايع لا تقدر عليه بعد.

وهنا اشتدّ غضب الحسين (عليه السّلام) على مروان، وصاح في وجهه: (( يابن الزرقاء، أنت تقتلني أم الوليد؟! كذبت والله وأثمت )).

وحدثت مشادّة ما بين الطرفين ارتفع خلالها صوت الحسين (عليه السّلام) وهو يردّ بعنف على مروان، وهنا سمع العبّاس صوت أخيه الحسين قد علا فشهر سيفه وصاح في رجاله: هلمّ بنا. واقتحم العبّاس مع رجاله دار الوليد حيث لم يجرأ أحد من حرس الوليد عند الباب على اعتراضه أو منعه من الدخول؛ لما يعرفون عن شجاعة العبّاس وجرأته الكبيرة، وعنفه بما ليس له نظير. فأخرج العبّاس ورجاله الحسين (عليه السّلام) قهراً من دار الوليد قبل حدوث ما لا يُحمد عقباه بين الطرفين.

ولقد استغل الحسين (عليه السّلام) الفترة القصيرة التي سبقت موعد انعقاد البيعة للطاغية الجديد في جمع أهله وأقربائه، وتهيئة متاعهم وأثاثهم تمهيداً للخروج بهم من المدينة؛ للابتعاد عن مراسيم ومقدّمات حفلة البيعة المتوقّعة للحاكم المتربّع على

٦٩

عرش الشام، وعن فصول المسرحية الجديدة الخاصة بقطع الرؤوس وإرسالها إلى العاصمة لمَنْ تحفّظ، أو امتنع عن إظهار التأييد والموافقة لهذه البيعة المشؤومة.

وقال الحسين (عليه السّلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة بعد أن طلب منه البقاء في المدينة؛ لموافاته بأحوال البلدة وشؤون أهلها أوّلاً بأوّل، قال له بالحرف: (( والله يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد، ومثلي لا يبايع مثله )).

وبالعبارة الأخيرة فقد ختم الحسين (عليه السّلام) صيحة تحديد للطاغية يزيد، وبدأ بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو مصارع شهادته.

وهو بهذا قد وضع وصية أبيه علي (عليه السّلام) على فراش الموت إليه وإلى أخيه الحسن (عليه السّلام) نصب عينيه، والتي تقول بالحرف: (( أوصيكما وجميع ولدي، ومَنْ بلغه كتابي هذا بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما. قولا بالحقّ واعملا للآخرة، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً... )). وهكذا ترك الحسين (عليه السّلام) وأخوه العبّاس وبقية أهل بيته المدينة المنوّرة باتّجاه مكة المكرمة؛ لعلّ الله تعالى أن يجعل لهم من أمرهم رشداً.

وقبل الرحيل أقبل الحسين (عليه السّلام) إلى قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فودّعه وهو يبكي، ثمّ توجّه إلى قبر أمّه الزهراء (عليها السّلام) فودّعها أيضاً، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه السّلام) ففعل مثل ذلك ورجع إلى منزله عند الصبح.

نعم، قبل الحركة وانطلاق مسيرة التحدي لم تبقَ جارية ولا مولى ولا فتى ولا فتاة إلاّ وتعلّق بالحسين (عليه السّلام) وبنسائه وأولاده، ومنهم اُمّ البنين، سيفارقها أبناؤها الأربعة

٧٠

ولا تملك سواهم، وكلّ واحد منهم كالقمر في ليلة تمامه وكماله.

وقام الحسين (عليه السّلام) بدوره بتقديم شكره وثناءه لهم على شعورهم الفيّاض هذا، وطلب منهم التزام جانب الصبر والهدوء، كما وأخبر بأنّ كلّ شيء لا يحدث على وجه الأرض إلاّ بعلم الله تعالى وإرادته، وأنّه لا راد لهذا الحكم والإرادة.

فتركوهم ودموعهم تسيل على وجناتهم حزناً لفراق آل رسول الله عنهم، حيث ما هان عليهم أن يحرموا من طلعة الحسين (عليه السّلام) وفيها نور النبوّة، ولا هان عليهم أن يمسّوا ويغدوا وقد ارتحل عنهم خير بيت، وأعزّ رهط، وأشرف قوم.

وعن هذه الحالة نظم الشاعر دعبل الخزاعي يقول:

لا أضحكَ اللهُ سنَّ الدهرِ إن ضحكت وآلَ أحمد مظلومون قد قُهروا

مشرّدونَ نُفوا عن عُقرِ دارهمُ كأنّهم قد جنوا ما ليس يُغتفرُ

٧١

المسيرة الطويلة

كان خروج الحسين (عليه السّلام) مع أخيه العبّاس (عليه السّلام)، وبقية إخوته وأبنائه (بما فيهم إخوة العبّاس الثلاثة) وأهل بيته، وبعض خاصّة أصحابه من المدينة في يوم (٢٨) رجب من عام (٦٠هـ)، وكان (عليه السّلام) يردّد عند خروجه من مدينة جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قوله تعالى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) .

وفي هذا المعنى نظم الشاعر السيد حيدر الحلّي يقول:

خرجَ الحسينُ من المدينةِ خائفاً كخروجِ موسى خائفاً يتكتمُ

وقد انجلى عن مكّةَ وهو ابنها وبهِ تشرّفتِ الحطيمُ وزمزمُ

خرج الحسين (عليه السّلام) والعباس من المدينة في جوف الليل لا يلويان على شيء، وهما لا يطلبان بخروجهما الكرسي والسلطان، بل فراراً من الظلم والطغيان بعد أن آن أوان المحنة، وبدت علائم الامتحان والابتلاء.

لقد سار موكب الحسين والعباس في طريقهم إلى مكة على الطريق العام (الأعظم) الذي يسير عليه عادة كلّ رائح وغاد، فقيل للحسين: لو تنكّبت الطريق الأعظم إلى إحدى الطرق الفرعية التي توصل إلى مكة المكرّمة حتّى لا يدركك الطلب؛ اُسوة بما فعل عبد الله بن الزبير قبل ليلة حين فرّ من المدينة إلى مكة، ولم يدركه رسل الوليد في الطريق.

فأجاب الحسين (عليه السّلام) بقوّة وعزم: (( لا والله، لا اُفارقه أو أنظر إلى أبيات مكة، [أو] يقضي الله ما هو قاضٍ )).

____________________

(١) سورة القصص / ٢١.

٧٢

والظاهر هنا: إنّ وجود العبّاس في الموكب الحسيني وبقيّة شباب أهل البيت الشجعان حال دون تعرّض رسل الوالي له بسوء أو مكروه عند الخروج أو في الطريق.

نعم، سار الحسين (عليه السّلام) على الطريق الأعظم مع كلّ صحبه من أهل بيته بكلّ إباء وشمم حتّى وصل إلى مكة المكرّمة بسلام وأمان، واستقبل استقبالاً حافلاً من قبل المكيين، ثمّ حطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب.

ولقد كان حال أهل البيت ومشاعرهم وهم سائرون من المدينة إلى مكة في الموكب الحسيني الجليل هو وفق ما جاء على لسان سكينة بنت الحسين (عليه السّلام)، والتي قالت: لم يكن في شرق الأرض وغربها أهل بيت أشدّ خوفاً وهمّاً وغمّاً منّا آل رسول الله.

لقد وصل الحسين وإخوته وأهل بيته (عليهم السّلام) إلى مكة في يوم (٣) شعبان، أي بعد مضي خمسة أيام من مغادرتهم المدينة، وكان (عليه السّلام) يردّد عند دخوله البلد الأمين قوله تعالى:( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) .

وبوصوله (عليه السّلام) إلى مكة المكرّمة بدأت الصفحة (المرحلة) الثانية من مسلسل الكفاح والنضال ضدّ الظلم والجور، بعد أن كانت مغادرته للمدينة وابتعاده عن مسرحية البيعة لطاغية الشام هي الصفحة (المرحلة) الأولى في هذا النضال والكفاح.

ولقد ظل الحسين (عليه السّلام) مقيماً في مكة عدّة شهور، وكان الناس خلالها يختلفون إليه

____________________

(١) سورة القصص / ٢٢.

٧٣

بكرة وعشية، ويجلسون حواليه وهم يسألوه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيهم، وكانوا أيضاً يستمعون كلامه وينتفعون بما يسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه من دون خوف من أزلام وعيون النظام القائم.

كما وقد أطلّت عليه ووافته خلال هذه المدّة كتب أهل العراق، ولاسيما أهل الكوفة والبصرة، وهم يدعونه ويلحّون عليه فيها بالقدوم إليهم، والقيام معه بالأمر والتضحية دونه، لاسيما بعد أن تسنّم يزيد زمام السلطة والحكم، وأنّه قد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وأنّه لا إمام لهم سواه، وأنّهم - كما أضافوا - لم يحضروا الصلاة مع الولاة، وأنّهم أيضاً في مئة ألف، وأنّهم عند عدم الاستجابة لهذا النداء والدعوة سيحاجّونه عند الله تعالى في يوم الحشر والحساب.

وكان مجموع ما بلغ من رسائل أهل الكوفة زهاء (١٢) ألف رسالة، وكلّ رسالة موقّعة من قبل رجلين أو ثلاثة أو أربعة، وصادف أن تسلّم الحسين (عليه السّلام) منهم في يوم واحد فقط ما يقرب من (٦٠٠) رسالة كما تشير إليه إحدى الروايات.

وعن هذه الرسائل قال الحسين (عليه السّلام) لعبد الله بن العبّاس لمّا ألحّ عليه ترك المسيرة إلى العراق، وتغييرها إلى اليمن إن كان ولا بد منها، قال له: (( يابن عمّ، لقد كثرت عليّ كتبهم، وتواترت عليّ رسلهم، ووجبت عليّ إجابتهم )).

كما ونصحه البعض بعدم استصحاب النساء والأطفال معه؛ وذلك خشية أن يصيبه مكروه وهم بجواره، كما جرى للخليفة عثمان في المدينة من قتل ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلاّ أنّه (عليه السّلام) أجابهم بما يقنعهم(١) .

____________________

(١) نشير إلى أنّه ليس من عادة العرب أو غيرهم - في الغالب - استصحاب النساء والأطفال إلى =

٧٤

____________________

= ساحات القتال أو مناطق التوتر والنزال؛ وذلك خشية أن يصيبهم مكروه أو وقوعهم في الأسر كغنائم.

لذا فقد وجّه الإمام علي (عليه السّلام) اللوم الشديد إلى طلحة والزبير على استصحابهم لأمّ المؤمنين عائشة إلى البصرة للمطالبة المزعومة بدم الخليفة عثمان وتركهم لزوجاتهم في بيوتهم؛ لأنّ خروجها من بيتها على الجمل ليس أهون من قتل الخليفة عثمان؛ لأنّه كما لها من الله تعالى ستر وحرمة فهتكت واُبيحت الحرمة بهذا الخروج، وأنّ مَنْ يرى قتالها يرى قتلها.

إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يغفل هذه النقطة أو ينساها عند استصحابه لنسائه إلى العراق، وإنّما كان يرجو من ذلك الجانب الإعلامي لنهضته وثورته بحمل ألسنة ناطقة معه لنشرها في العالم الإسلامي؛ لأنّ كلّ ثورة تخلو من النشاط الإعلامي ستؤول إلى النسيان والضمور بمرور الزمن، ولا تُذكر إلاّ في بطون بعض كتب التاريخ كنبأ بسيط مشوّه عن حقيقتها وواقعها.

إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) لو كانت بغير نساء لذهب دم مفجّرها هدراً، ولما شعر أو أحسّ أحد من المسلمين؛ لأنّ رؤوس الشهداء كانت ستدخل الكوفة أو دمشق على أنّها رؤوس خوارج، ودون أن يعرف أحد أنّها لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّها لا تتكلم ولا تحرّك ساكناً، ودون أن يعرف هؤلاء عظم المأساة التي أنزلها الطاغية يزيد بالحسين وآله وأصحابه في كربلاء.

إنّ نساء الحسين (عليه السّلام) رغم ما أصابهنّ من المتاعب والقلق طيلة الطريق إلاّ أنّ ما قدمنَ للثورة الحسينيّة من إعلام، وكشف للحقائق، ونشر للوعي، وتنبيه للغافلين، وفضح للدعايات المضللة يهون بجواره كلّ تعب وألم أصابهنّ هنا وهناك.

وعن هذه الحالة كتبت الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها (بطلة كربلاء) بالحرف: إنّ موقف السيّدة زينب بعد المذبحة هو الذي جعل من كربلاء مأساة خالدة. وكتب أنطون بارا في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) بالحرف: لو لم تقم زينب بدورها الصعب الذي قامت به، لما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة أيّة معركة تُدار فيها الأيدي والسيوف، وتصهل فيها الخيل.

وزاد كاتب آخر، وهو جمال المشاط في كتابه (دروس من نهضة الحسين) بالقول: ولا غلو في أنّ عطاء زينب المتمثّل بمواقفها الخطابية والإعلامية التي تنمّ عن عميق ما خبرت به من حنكة سياسية، =

٧٥

علماً بأنّ قيام الحسين (عليه السّلام) هذا، وتحديداً للنظام القائم كان لا بد منه، ولو لم يدعه أحد من العراق، ولم تأته كتب أهل الكوفة؛ لأنّ كلّ ما صنعته كتب ووفود الكوفة وسواها هو التعجيل في الخروج من مكة.

ولئن كانت تضحية الإمام علي (عليه السّلام) وجهاده في منع كارثة طوفان الجور والظلم من نزوها، إلاّ أنّ ولده الإمام الحسين (عليه السّلام) قام من بعده بالرحيل إلى العراق، وبتضحية حياته في هذا القطر؛ وذلك ليمنع امتداد هذه الكارثة واستمرارها. فكأنّ دم الأب امتد هنا ليلتقي مع دم الابن؛ ليكوّنا الشلال العرم، والتيّار الجارف الذي ينير للناس - كلّ الناس - الدرب المفضي إلى الكرامة والحرية والمساواة.

وعن هذا الأمر يقول الشاعر المعروف أبو العلاء المعري:

وعلى الدهرِ من دماءِ الشهيدي نِ عليٍّ ونجلهِ شاهدانِ

فهما في أواخرِ الليلِ فجرا ن وفي اُولياتهِ شفقانِ

ولقد آثر الحسين (عليه السّلام) هنا وقبل أن ينطلق موكبه السامي إلى قطر العراق أن يسبقه إلى هناك رسول أو سفير واحد له أو أكثر؛ وذلك ليشعروه عن حقيقة الوضع في الساحة العراقية، وطبيعة الرسائل الواردة إليه؛ وذلك لكي يكون سيره وحركته على أرض صلبه وثابتة، وبعيداً عن العواطف والأهواء والرغبات غير المدروسة

____________________

= وضلاعة في شؤون الاجتماع والإعلام لا يمكن أن يُقارن بما عداه من عطاء اُنثوي في تاريخ هذه الدنيا، فلا نفرتيتي، ولا كاترين، ولا الخنساء، ولا جان دارك، ولا شجرة الدر، ولا كوربسكايا... لا هذه ولا تلك بقادرة على أن تواكب مستوى العطاء في الفكر، وفي براعة إنهاء المواقف، والانتقال بتدوير الكلام من موقف الضعف والمغلوب إلى موقف المنتصر والغالب الذي جاءت به هذه العقيلة الهاشمية، والتي سجّلت بها مجتمعة ملحمتها العظيمة الخالدة.

٧٦

بدقة وعناية، ومخافة أن يلومه لائم فيما بعد على خطوته هذه بأنّه قد خطاها من دونما حذر أو تبصّر.

ولقد كان ابن عمّه مسلم بن عقيل - وكان عمره حينذاك (٣٨) سنة - هو طليعه، وأحد الرسل والسفراء الذين أرسلهم إلى الكوفة.

ولقد رحّب أهل الكوفة بمسلم رسول الحسين (عليه السّلام) خير ترحيب، وفتحوا له قلوبهم قبل أيديهم، وأظهروا له كلّ علائم الطاعة والإخلاص، وقد تلا عليهم رسالة الحسين (عليه السّلام) الموجّهة إليهم فزادتهم هذه تصميماً على الفداء معه، والتضامن من أجل الإطاحة بكلّ الطغاة والظالمين.

ولقد بايعه عند وصوله إلى الكوفة على الموت والشهادة، والكفاح ضد النظام القائم ما يقرب من (١٨) ألف رجل إن لم يكن أكثر من ذلك.

وإثر هذه الوقائع والحوادث كتب مسلم إلى الحسين (عليه السّلام) رسالة ضمّنها تفصيلات الوضع العام في الكوفة، وطالبه فيها التعجيل في المسير إليها ومن دون إبطاء؛ حيث إنّ أهلها هم في انتظاره واستقباله على أحرّ من الجمر.

وهكذا قرّر الحسين (عليه السّلام) التوكّل على الله والاستعداد للحركة إلى العراق استجابة لنداءات وصيحات أهل الكوفة الملحّة والمتواصلة بالقدوم إليهم، والكفاح تحت لوائه لتقويض أركان الظلم، واستئصال شأفته من الجذور، وإقامة حكم ودولة العدل والحرية.

وعلماً بأنّ الحسين (عليه السّلام) في رحيله التاريخي هذا إلى قطر العراق لم يقع ضحية خدعة لم يحسن تدبّرها، أو ضحية أنصار لم يقف على حقيقة نيّاتهم، أو مدى إخلاصهم وولائهم له

٧٧

بل إنّ الأمر كان على العكس تماماً، حيث كان (عليه السّلام) لا يضع قدمه في كلّ خطوة كان يخطوها إلاّ على أرض ثابتة ومتماسكة، وإنّ تصميمه وإرادته في الرحيل إلى العراق كان حكيماً وبليغاً، وإنّه (عليه السّلام) « كان يهتدي إلى مسؤولياته بنور إيمانه، وبصوت ضميره، وليس بتحريض قوّة خارجية »(١) .

ولكن إذا ما كلّفته هذه الخطوة أن يقدّم حياته كثمن لها فليكن ذلك، ولكن ليتمّ أمام واسع الجماهير، وأمام أكثر من قطر وبلاد حتّى يمكن للشهادة من أن تؤتي ثمارها كاملة لكلّ الناس، والفداء صداه لكلّ الأقطار، والتضحية انعكاسها لجميع بلدان العالم؛ ذلك لأنّه (عليه السّلام) من أهل بيت لم يخلقوا لأنفسهم ولا لبلدهم ولا لقطرهم، بل صاغهم الله تعالى ليكونوا لكلّ الناس حيثما حلّوا، ولكلّ الأقطار والبلدان على الأرض هداية ورحمة، وبركة وسعادة وكرامة.

وهذا ولم تستطع (مكة) أن تحول دون خروج الحسين وأهله وأصحابه منها؛ لأنّه (عليه السّلام) كان قد « وعد وعزم وقرّر، فما تستطيع قوّة في الأرض أن تصدّه عن النضال في سبيل الحقّ، وما يستطيع أيّ إنسان أن يغمه بإيثار السلامة والعافية »(٢) .

ولقد كان الجميع في مكة المكرّمة واثقين من أنّ رحيل الحسين (عليه السّلام) إلى العراق - فيما لو حصل - فإنّما يكون هذا بالتأكيد بعد انتهاء فريضة الحجّ وعيد الأضحى المبارك لعام (٦٠هـ)، وليس قبل هذا الوقت مطلقاً.

إلاّ أنّه (عليه السّلام) كان قد فاجأ جماهير الناس يوم الثلاثاء (٨ ذي الحجة) وهو يوم

____________________

(١) أبناء الرسول في كربلاء - خالد محمّد خالد.

(٢) سكينة بنت الحسين - الدكتورة بنت الشاطئ.

٧٨

التروية(١) بذهابه إلى الحرم الشريف، والطواف بالبيت المقدّس، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل من إحرامه وجعلها عمرة منفردة، وترك التمتع بالحجّ، ثمّ قام بتوديع أهالي مكة الذين كانوا في سبيل تركها إلى منى وعرفات لإتمام مراسيم الحجّ لذلك العام، الوداع الذي لا لقاء بعده.

لم يخرج الحسين (عليه السّلام) لوحده بل سار معه حشد كبير من أهل بيته، وعلى رأسهم أخوه العبّاس (عليه السّلام) وإخوته الثلاثة، ومواليه وعدد كبير من أهالي الحجاز، ونفر من أهل الكوفة والبصرة مَنْ قدموا إليه وهم يحملون رسائل الدعوة ومواثيق البيعة، وليبلغوه أيضاً بدعوة أهالي الكوفة للإسراع في القدوم إلى العراق(٢) .

هذا ولولا حبّ مَنْ خرج مع الحسين له، وتعلّقهم به ما تركوا ديارهم الآمنة ليخرجوا معه وهم لا يدرون ما يخبِّئه لهم الغد من أحداث، وما قد ينزل بهم من متاعب وأهوال.

وعند بدء رحيله (عليه السّلام) من مكة أمر بقرطاس وقلم، وكتب لبني هاشم عليه ما يلي:

____________________

(١) سُمّي يوم التروية؛ لأنهم (الحجيج) كانوا يرتون فيه من الماء من منى ويخرجون إلى عرفات. وعندما سُئل الحسين (عليه السّلام) عن أسباب خروجه يوم التروية، قال: (( لو لم أعجل لأخذت أخذاً )).

(٢) نشير هنا إلى وجود « هجرتان في الإسلام أخلدهما التاريخ إلى الأبد، هجرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة أسست الإسلام ووطّدت دعائمه، وهجرة الحسين من المدينة إلى الكوفة أعادت جدّة الإسلام ونشرت كلمته » ذكرى الحسين - محمّد علي آل ياسين.

ويذهب آخرون إلى أنّ « الهجرة الأولى كانت وغايتها البناء، وأنّ الهجرة الثانية كانت وغايتها المحافظة على البناء » الإمام الحسين - عبد الله العلايلي.

فما « أقرب الشبه، وأشدّ التطابق والتقارب بين الهجرتين في العوامل والثمرات، بل وحتى في الحالات النفسية » مأساة الحسين - الشيخ عبد الوهاب الكاشي.

٧٩

(( بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى بني هاشم. أمّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم فقد استشهد، ومَنْ تخلّف لم يدرك الفتح، والسّلام )).

ولقد كان الحسين (عليه السّلام) يردّد عند الرحيل، أو أنّها نظمت على لسان حاله:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى الرجالَ الصالحينَ بنفسه وفارقَ مثبوراً وخالفَ مجرما

فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم كفى بكَ ذُلاً أن تعيشَ وترغما

وفي رحيل الحسين (عليه السّلام) إلى العراق نظم الشاعر يقول:

لمّا رأى الشرعَ الشريفَ مضيّعاً وحبالَ دينِ اللهِ عُدنَ رثاثا

وبني أميّةَ في العبادِ تحكّموا ويزيد أفسدَ في البلادِ وعاثا

أمَّ العراقَ على النجائبِ طالباً حقّاً لهُ من جدّهِ ميراثا

عجباً بني الطلقاءِ أضحت تدّعي سلطانَ آلِ محمدٍ ميراثا

وتُساقُ آلُ محمدٍ ما بينهم سوقَ السبايا لا يجدنَ مغاثا

غادر الحسين (عليه السّلام) مكة المكرّمة باتّجاه الكوفة في قطر العراق بعد أن ودّع الكعبة بيت الله تعالى وهو يحمل روحها بين جنبيه، وشعلتها بكلتا يديه، تواكبه الملائكة وتباركه، وتطيف به كأنّه حذرة عليه؛ لأنّه البقية الباقية من إرث السماء المتواجدة على سطح الأرض.

هذا، ولن نشير هنا إلى تفصيل ما حدث لرسول الحسين (عليه السّلام) في الكوفة وهو مسلم بن عقيل(١) حيث انفضّ عنه أهل الكوفة، وأخذ لوحده في منازلة قوات وعساكر والي الكوفة بشجاعته المعهودة، والتي وصفها أحدهم بقوله:

____________________

(١) لقد تمّ توضيح سيرة مسلم بن عقيل مفصّلة في كتابنا (مسلم بن عقيل - بريق النبوّة في ظلمات الكوفة).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

«ثمود» : من أقدم الأقوام ، ونبيّهم صالحعليه‌السلام ، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام ، وكانوا يعيشون حياة مرفهة ، ومدنهم عامرة.

وقيل : «ثمود» اسم جدّ القبيلة ، وقد سميت به(١) .

«جابوا» : من (الجوبة) ـ على زنة توبة ـ وهي الأرض المقطوعة ، ثمّ استعملت في قطع كلّ أرض ، وجواب كلام ، هو ما يقطع الهواء فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع ، (أو لأنّه يقطع السؤال وينهيه).

وعلى أيّة حال ، فمراد الآية : قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٨٢) من سورة الحجر ـ حول ثمود أنفسهم ـ :( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) ، والآية (١٤٩) من سورة الشعراء ، والتي جاء فيها :( ... بُيُوتاً فارِهِينَ ) .

وقيل : قوم ثمود أوّل من قطع الأحجار من الجبال ، وصنع البيوت المحكمة في قلبها.

«واد» : في الأصل (وادي) ، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر ، ومنه سمي المفرج بين الجبلين واديا ، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثّاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم ، وما ذكرناه آنفا يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال(٢) .

وروي : إنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما وصل إلى وادي ثمود ـ شمال الجزيرة العربية ـ في طريقه إلى تبوك ، قال وهو راكب على فرسه : «أسرعوا ، فهي أرض ملعونة»(٣) .

__________________

(١) «ثمود» : من (الثمد) ، وهو الماء القليل الذي لا مادة له ، والمثمود : إذا كثر عليه السؤال حتى فقد مادة ما له ، ويقال أنّها كلمة أعجمية (مفردات الراغب).

(٢) الباء في «الواد» : تعطي معنى الظرفية.

(٣) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٥ (ما مضمونه).

١٨١

ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمود قوم قد وصلوا إلى أعلى درجات التمدن في زمانهم ، ولكنّ ما يذكر عنهم في بعض كتب التّفسير ، يبدو وكأنّه مبالغ فيه أو اسطورة ، كأن يقولوا : إنّهم بنوا ألفا وسبعمائة مدينة من الحجر!

وتتعرض الآية التالية لقوم ثالث :( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) .

أي : ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد» : جمع (وتد) ، وهو ما يثبّت به.

ولم وصف فرعون بذي الأوتاد؟

وثمّة تفاسير مختلفة :

الأوّل : لأنّه كان يملك جنودا وكتائبا كثيرة ، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثّاني : لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم ، حيث غالبا ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض ، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد ، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وورد هذا الكلام في رواية نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وتنقل كتب التاريخ إنّه قد عذّب زوجته «آسية» بتلك الطريقة البشعة حتى الموت ، لأنّها آمنت بما جاء به موسىعليه‌السلام وصدّقت به.

الثّالث : «ذي الأوتاد» : كناية عن قدرة واستقرار الحكم.

ولا تنافي فيما بين التفاسير الثلاثة ، ويمكن إدخالها جميعها في معنى الآية.

وينتقل القرآن العرض ما كانوا يقومون به من أعمال :( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ) ( فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ )

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧١ ، الحديث (٦) ، كما نقله عن علل الشرائع.

١٨٢

الفساد الذي يشمل كلّ أنواع الظلم والاعتداء والانحراف ، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم ، فكلّ من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة :( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ )

«السوط» : هو الجلد المضفور الذي يضرب به ، وأصل السوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، وهو هنا كناية عن العذاب ، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء.

وجاء في كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام عن الامتحان : «والذي بعثه بالحقّ للتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر»(١) .

«صبّ عليهم» : تستعمل في الأصل لانسكاب الماء ، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب ، ويمكن أن يكون إشارة لتطهير الأرض من هؤلاء الطغاة أمّا أنسب معاني «السوط» فهو المعروف بين النّاس به.

فعلى إيجاز الآية ، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم ، فعاد أصيبوا بريح باردة ، كما تقول الآية (٦) من سورة الحاقة :( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) ، وأهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة ، كما جاء في الآية (٥) من سورة الحاقة أيضا :( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) ، والآية (٥٥) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون :( فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وتحذر الآية التالية كلّ من سار على خطو أولئك الطواغيت :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) .

«المرصاد» : من (الرصد) ، وهو الاستعداد للترقب ، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة الله وقبضته ، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.

١٨٣

وبديهي ، أنّ التعبير لا يعني أنّ الله تعالى له مكان وكمين يرصد فيه الطواغيت ، بل كناية عن إحاطة القدرة الإلهية بكلّ الجبارين والطغاة والمجرمين ، وسبحانه وتعالى عن التجسيم وما شابه.

وقد ورد في معنى الآية عن الإمام عليعليه‌السلام قوله : «إنّ ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «المرصاد قنطرة على الصراط ، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد»(٢) .

وهذا مصداق جلّي للآية ، حيث أنّ المرصاد الإلهي لا ينحصر بيوم القيامة والصراط ، بل هو تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم حتى في هذه الدنيا ، وما عذاب تلك الأقوام الآنفة الذكر إلّا دليل واضح على هذا.

«ربّك» : إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة ، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك تسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطمينا لقلوب المؤمنين ، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبدا أبدا ، وفيه تحذير أيضا لأولئك الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويظلمون المؤمنين ، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة ، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين ، أتى بجهنّم ثمّ يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، عليه ثلاث قناطر الاولى : الأمانة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٧.

(٢) المصدر السابق.

١٨٤

والرحم ، والثّانية : عليها الصلاة ، والثّالثة : عليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممر عليها ، فتحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين جلّ ذكره ، وهو قول الله تبارك وتعالى :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) (١) .

وعن الإمام عليعليه‌السلام : «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد ، على مجاز طريقه ، وبموضع الشجى من مساغ ريقه»(٢) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧٣ ، عن روضة الكافي الحديث ٤٨٦ ، اقتباس.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٩٧.

١٨٥

الآيات

( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) )

التّفسير

موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة ، وتحذيرهم وإنذارهم ، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الابتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي ، وتعتبر مسألة الابتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب :( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) .

وكأنّه لا يدري بأنّ الابتلاء سنّة ربّانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء

١٨٦

واخرى بالعسر والضراء.

فلا ينبغي للإنسان أن يغتر عند الرخاء ، ولا أن ييأس عند ما تصيبه عسرة الضراء ، ولا ينبغي له أن ينسى هدف وجوده في الحالتين ، وعليه أن لا يتصور بأن الدنيا إذا ما أرخت نعمها عليه فهو قد أصبح مقرّبا من الله ، بل لا بدّ أن يفهمها جيّدا ويؤدّي حقوقها ، وإلّا فسيفشل في الامتحان.

ومن الجدير بالملاحظة ، أنّ الآية ابتدأت بالحديث عن إكرام الله تعالى للإنسان «فأكرمه ونعمه» ، في حين تلومه على اعتقاده بهذا الإكرام في آخرها :( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) ، وذلك لأنّ الإكرام الأوّل هو الإكرام الطبيعي ، والإكرام الثّاني بمعنى القرب عند الله تعالى.

( وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) .

فيأخذه اليأس ، ويظن إنّ الله قد ابتعد عنه ، غافلا عن سنّة الابتلاء في عملية التربية الربّانية لبني آدم ، والتي تعتبر رمزا للتكامل الإنساني ، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للابتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته ، فأمّا النعيم الدائم ، وأمّا العقاب الخالد.

وتوضح الآيتان بأنّ حالة اليسر في الدنيا ليست دليل قرب الله من ذلك الإنسان ، وكذا الحال بالنسبة لحالة العسر فلا تعني بعد الله عن عبده ، وكلّ ما في الأمر أنّ الحالتين صورتان مختلفتان للامتحان الذي قررته الحكمة الإلهية ، ليس إلّا.

وتأتي الآية (٥١) من سورة فصّلت في سياق الآيتين :( وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) .

وكذا الآية (٩) من سورة هود :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ) .

وتنبهنا الآيتان أيضا ، بأن لا نقع في خطأ التشخيص ، فنحكم على فلان بأن

١٨٧

الله راضي عنه لأنّه يفعم بالنعم الإلهية ، وأن فلان قد سخط عليه الله لأنّه محروم من نعم كثيرة ، ولا بدّ لنا من الرجوع إلى المعايير الثابتة عند القيام بعملية التشخيص والتقييم ، فالعلم والإيمان والتقوى هي أسس التقييم ، وليس ظاهر التمتع بحالة السراء

فما أكثر الأنبياء الذين تناوشتهم أنياب البلايا والمصائب ، وما أكثر الكافرين والطغاة الذين تنعموا بمختلف ملاذ الدنيا ، إنّها من سنن طبيعة الحياة الدنيا ، ولكن

أين الأنبياء من الكافرين و.. عقبى الدار؟!

فالآية إذن ، تشير إلى فلسفة البلاء ، وما يصيب الإنسان من محن وإحن في دنياه.

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحقّ للبعد عن الله ، وتوجب عقابه :( كَلَّا ) فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من الله ، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه ،( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) ( وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام ، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الانكسار والذلة بفقدان أبيه ، وينبغي الاعتناء به وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه ، وقد أولت الأحاديث الشريفة والرّوايات هذا الجانب أهمية خاصّة ، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم.

فعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، إنّه قال : «ما من عبد يمسح يده على رأس يتيم رحمة له إلّا أعطاه الله بكلّ شعرة نورا يوم القيامة»(١) .

وتقول الآية (٩) من سورة الضحى :( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٥ ، ص ١٢٠ (الطبعة القديمة).

١٨٨

وهذه الدعوة الربّانية تقابل ما كان سائدا في عصور الجاهلية ، كيف وكانوا يتعاملون مع اليتامى ، ولا تنفصل جاهلية اليوم عن تلك الجاهلية ، فنرى من لم يدخل الإيمان قلبه ، كيف يتوسل بمختلف الحيل والألاعيب لسرقة أموال اليتامى ، والأشد من هذا فإنّهم يتركون اليتامى جانبا بلا اهتمام ولا رعاية ليعيشوا غمّ فقدان الآباء وبأشدّ صورة!

فإكرام اليتيم لا ينحصر بحفظ أموالهم ـ كما يقول البعض ـ بل يشمل حفظ الأموال وغيرها.

«تحاضون» : من (الحض) ، وهو الترغيب ، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على النّاس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كلّ المجتمع(١) .

وقد قرنت الآية (٣٤) من سورة الحاقة عدم الإكرام بعدم الإيمان باللهعزوجل :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) (٢) .

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة :( وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ) (٣) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ الاستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم ، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الأمور التالية :

الأوّل : الجمع بين حقّ الإنسان وحقّ الآخرين في الميراث ، لأنّ كلمة «لمّ» بمعنى الجمع ، وفسّرها الزمخشري في الكشّاف بمعنى الجمع بين الحلال والحرام.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

__________________

(١) «تخاضون» : في الأصل (تتحاضون) ، وحذفت إحدى التائين للتخفيف.

(٢) «طعام» هو في الآية ذو معنى مصدري أي : (إطعام).

(٣) «لمّ» : بمعنى الجمع ، وتأتي بمعنى الجمع مع الإصلاح أيضا.

١٨٩

الثّاني : عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم ، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء ، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله ، وهذا عيب كبير فيكم.

الثّالث : هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار ، وذلك من أقبح الذنوب ، لأنّ فيه استغلال فاحش لحقّ من لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

والجمع بين هذه التّفاسير الثلاث ممكن(١) .

ثمّ يأتي الذّم الرّابع :( وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) (٢) .

فأنتم عبدة دنيا ، طالبي ثروة ، عشاق مال ومتاع ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال ، أكان من حلال أم من حرام ، ومن الطبيعي أيضا أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه ، بأن لا ينفقها أو ينقص منها ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللهعزوجل .

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان ، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

إكرام اليتيم.

إطعام المسكين.

أسهم الإرث.

وجمعه من طريق مشروع وغير مشروع.

وجمع المال بدون قيد أو شرط.

والملاحظ أنّ الاختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال ، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة ، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في

__________________

(١) «تراث» : في الأصل (وراث) ، ثمّ أبدلت الواو تاء.

(٢) «الجم» : بمعنى الكثير ، كما جاء في (مصباح اللغة) ، و (المقاييس) ، و (الجمّة) الشعر المتجمع في مقدمة الرأس.

١٩٠

طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

وثمّة من يكون متذبذبا في الأمانة (بين أن يؤدي أو يخون) ، وهكذا إنسان غالبا ما تصرعه ووساوس الشيطان وترميه في جانب الخيانة أمّا أولئك الصادقون في إيمانهم فهم الأمناء حقّا في الرعاية والاهتمام لأداء الحقوق الواجبة والمستحبة للآخرين ، ولا تراهم يتهاونون بأدنى درجات التهاون ، ومثلهم هو الذي يتمكن من صعود سلم الرفعة والسمو على طريق الإيمان والتقوى.

والخلاصة : من تجاوز اختبار المال بنجاح ، فهو أهل للاعتماد ، ومن أهل التقوى والورع ، وهو خير أخ وصديق ، وغالبا ما تراه صالحا في كافة مجالات حياته والمجتمع.

ولذلك ، نرى الاختبارات هنا دارت حول محور المال.

* * *

١٩١

الآيات

( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) )

التّفسير

يوم لا تنفع الذكرى!

بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين ، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء.

فتقول أوّلا : «كلا» (فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء ، وأنّ الله قد أعطاكم المال تكريما وليس امتحانا)( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) .

«الدك» : الأرض اللينة السهلة ، ثمّ استعملت في تسوية الأرض من الارتفاعات والتعرجات ، و (الدكان) : المحل السوي الخالي من الارتفاعات و (الدكة) : المكان السوي المهيأ للجلوس.

١٩٢

وجاء تكرار «دكّا» في الآية للتأكيد.

وعموما ، فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة ، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض ، كما أشارت لذلك الآيات (١٠٦ ـ ١٠٨) من سورة طه :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) .

وبعد أن ينتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار) ، تأتي المرحلة الثّانية ، حيث يعود النّاس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الالهي :( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) .

نعم ، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربّانية ، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم ، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّا الرضوخ التام بين قبضة العدل الالهي.

( وَجاءَ رَبُّكَ ) : كناية عن حضور الأمر الالهي لمحاسبة الخلائق ، أو أنّ المراد : ظهور آيات عظمة الله سبحانه وتعالى ، أو ظهور معرفة اللهعزوجل في ذلك اليوم ، بشكل بحيث لا يمكن لأيّ كان إنكاره ، وكأنّ الجميع ينظرون إليه بأم أعينهم.

وبلا شك ، إنّ حضور الله بمعناه الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحديد بالمكان ، هذا المعنى ليس هو المراد ، لأنّ سبحانه وتعالى مبرّأ من الجسمية وخواص الجسمية(١) .

وقد ورد هذا المعنى في كلام للإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام (٢) .

كما وتؤيد الآية (٣٣) من سورة النحل هذا التّفسير بقولها :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في تفسيره : إن في الآية محذوف ، تقديره (أمر) أو (قهر) أو (جلائل آيات) أو (ظهور ومعرفة) وظهرت هذه التقديرات في كتب غيره من المفسرين أيضا ، وخصوصا التقدير الأول.

(٢) راجع تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٦.

١٩٣

أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) .

( صَفًّا صَفًّا ) : إشارة إلى ورود الملائكة عرصة يوم القيامة على هيئة صفوف ، ويحتمل تعلق الصفوف بكلّ السماوات.

وتقول الآية التالية :( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ) .

وما نستنبطه من الآية ، إنّ جهنم قابلة للحركة ، فتقرب للمجرمين ، كما هو حال حركة الجنّة للمتقين :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

وثمّة من يعطي للآية معنى مجازيا ، ويعتبرها كناية عن ظهور الجنّة والنّار أمام أعين المحسنين والمسيئين.

ولكن ، لا دليل على الأخذ بخلاف الظاهر ، ومن الأفضل التعامل مع ظاهر الآية ، لأنّ حقائق عالم القيامة لا يمكن فهمها وتصورها بشكل دقيق لمحدودية عالمنا أمام ذلك العالم من جهة؟ ولاختلاف القوانين والسنن التي تحكم ذلك العالم من جهة اخرى ثمّ ، ما المانع في تحرك كلّ من الجنّة والنّار في ذلك اليوم؟

وروي : لمّا نزلت هذه الآية ، تغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبيّ الله ، فجاء عليعليه‌السلام فاحتضنه ثمّ قال : «يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ، ما الذي حدث اليوم؟».

قال : «جاء جبرائيلعليه‌السلام فأقرأني( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) .

قال : فقلت : كيف يجاء بهم؟

قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ أتعرض لجهنم ، فتقول : ما لي ولك يا محمّد ، فقد

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٩٠.

١٩٤

حرّم الله لحمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي ، وإنّ محمّدا يقول : ربّ أمّتي أمّتي»(١) .

نعم ، فحينما يرى المذنب كلّ تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعبا ، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ ، ويتحسر على كلّ لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه ، ولكن. هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وكم سيتمنى المذنب لو تسنح له الفرصة ثانية للرجوع إلى الدنيا وإصلاح ما أفسد ، ولكنّه سيرى أبواب العودة مغلقة ، ولا من مخرج!

ويودّ التوبة وهل للتوبة من معنى بعد غلق أبوابها؟!

ويريد أن يعمل صالحا ولكن أين؟ فقد طويت صحائف الأعمال ، ويومها يوم حساب بلا عمل!

وعندها بملإ يصرخ كيانه :( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) .

وفي قولته نكتة لطيفة ، فهو لا يقول قدّمت لآخرتي بل «لحياتي» ، وكأنّ المعنى الحقيقي للحياة لا يتجسد إلّا في الآخرة.

كما أشارت لهذه الآية (٦٤) من سورة العنكبوت :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

نعم ، ففي دنياهم : يسرقون أموال اليتامى ، لم يطعموا المساكين ، يأخذون من الإرث أكثر ممّا يستحقون ويحبّون المال حبّا جمّا.

وفي أخراهم ، يقول كلّ منهم : يا ليتني قدّمت لحياتي الحقيقية الباقية ولكنّ التمني ليس أكثر من رأس مال المفلسين.

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ) .

نعم ، فمن استخدم في دنياه كلّ قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٣ ؛ وعنه الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٥ ، ومثله في تفسير الدّر المنثور.

١٩٥

فلا يجني في آخرته إلّا أشد العذاب

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب ، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، فالله «أرحم الراحمين» لمن أخلص النيّة وعمل ، و «أشدّ المعاقبين» لمن تجاوز حدود هدف خلقه.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب :( وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) .

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين ، وعذابه كذلك ، كلّ ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق ، ومارس معهم التعذيب بكلّ وحشية ، متجرد عن كلّ ما وهبه الله من إنسانية.

* * *

١٩٦

الآيات

( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) )

التّفسير

الشّرف العظيم :

وتنتقل السّورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة بالله وبهدف الخلق ، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا ، فتخاطبهم بكلّ لطف ولين ومحبّة ، حيث تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) ( ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير!

تعبير يحكي دعوة الله سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة ، المخلصة ، المحبّة والواثقة بوعده جلّ شأنه دعوتها لتعود إلى ربّها ومالكها ومصلحها الحقيقي

دعوة مفعمة برضا الطرفين ، رضا العاشق على معشوقه ، ورضا المعشوق على عاشقه

١٩٧

وتتوج تلك النفوس الطاهرة بتاج العبودية ، لتدخل في صف المقرّبين عند الله ، ولتحصل على إذن دخول جنان الخلد ، وما قوله تعالى : «جنتي» إلّا للإشارة إلى أنّ المضيف هو الله جلّ جلاله فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داع! وما أسعده من مدعو!

ويراد بالنفس هنا : الروح الإنسانية.

«المطمئنة» : إشارة إلى الاطمئنان الحاصل من الإيمان ، بدلالة الآية (٢٨) من سورة الرعد :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) .

ويعود اطمئنان النفس ، لاطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة ، ولاطمئنانها لما اختارت من طريق

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت ، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضا.

أمّا (الرجوع إلى الله) ، فهو ـ على قول جمع من المفسّرين ـ رجوع إلى ثوابه ورحمته

ولكنّ الأنسب أن يقال : إنّه رجوع إليه جلّ وعلا ، رجوع إلى جواره وقربه بمعناها الروحي المعنوي ، وليست بمعناها المكاني والجسماني.

وثمّة سؤال يرد إلى الذهن متى ستكون دعوته المباركة ، هل ستكون بعد مفارقة الروح البدن ، أم في يوم القيامة؟؟

لو أخذنا بظاهر الآيات المباركة ، فسياقها يرتبط بالقيامة ، وإن كان تعبير الآية ذو شمولية.

«راضية» : لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر ممّا كانت تتصور ، وشمول العبد برحمة وفضل الله سيدخل في قلبه الرضا بكلّ ما يحمل الرضا من معان وأكثر.

«مرضيّة» : لرضا الله تبارك وتعالى عنها.

١٩٨

فعبد بما ذكر من أوصاف ، بلا شكّ مكانه الجنّة ، وذلك لأنّه عمل بكلّ ما يملك في سبيل رضوان معبوده الأحد الصمد ، ووصل في عمله لمقام الرضا التام والتسليم الكامل لخالقه تبارك وتعالى ، حتى نال وسام حقيقة العبودية ، ودخل طائعا وواثقا في صف عباد الله الصالحين

وقد خصّ بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآيات في (حمزة سيد الشهداء) ، ولكن بلحاظ كون السّورة مكّية ، فيمكن اعتبار ذلك أحد تطبيقات (مصاديق) الآيات وليس شأنا للنزول ، كما هو الحال في ما ذكرنا في أوّل السّورة بشأن الإمام الحسينعليه‌السلام .

روي أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قد سأله قائلا : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، هل يكره المؤمن على قبض روحه؟

قال : «لا والله ، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليّ الله ، لا تجزع ، فو الذي بعث محمّدا لأنا أبرّبك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، قال : ويمثل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ذريتهمعليهم‌السلام ، فيقال له : هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك ، قال : فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : «يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّدا وأهل بيته) وادخلي جنّتي» ، فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي»(١) .

اللهمّ! اجعل نفوسنا مطمئنة ليشملنا خطابك الكريم

اللهمّ! ولا ينال ذلك إلّا بلطفك ، فاغمرنا به

__________________

(١) الكافي ، ج ٣ ، ص ١٢٧ ، باب إنّ المؤمن لا يكره على قبض روحه ، الحديث ٢.

١٩٩

اللهمّ! منّ علينا بكرمك الذي لا ينفد ، واجعلنا من النفوس المطمئنة

اللهمّ! لا يكون الاطمئنان إلّا بذكرك ، فوفقنا إليه بفضلك

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الفجر

* * *

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216