العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد0%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمّد علي يوسف الاشيقر
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 42918
تحميل: 7184

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42918 / تحميل: 7184
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(( أخشى أن يصيب الحسنين مكروه فتذهب ذرّيّة رسول الله )).

وعن شجاعة العبّاس في معركة صفّين، والتي جرت عام (٣٧هـ)، يروى أنّه خرج من بين صفوف جيش الإمام علي في صفّين شاب مقنّع في خطوات ثابتة نحو أفراد جيش معاوية، وارتقى مرتفعاً من الأرض في وسط سهل صفّين، وصاح بأعلى صوته [ يتحدّى ] فيه نزال أشجع شجعان جيش معاوية.

فتقاعس أهل الشام من منازلته؛ ظناً منهم أنّه الإمام علي (عليه السّلام)، أو أحد قادته البارزين، وجلسوا ينظرون إليه حيث لفّهم الخوف والخشية، ولم يبرز أحد منهم لمنازلته. وهنا نادى معاوية رجلاً من أصحابه (كان محسوباً من شجعانهم)، وكان يُعدّ بألف فارس، ويدعى (أبو الشعشاع)، فقال له: إنّك أبرع فارس في الشام، فتقدّم واقتل هذا الرجل ليكون في قتله عبرة للآخرين.

فأجابه أبو الشعشاع: كلاّ، إنّ أهل الشام يعدّوني بألف فارس، وهو لا يستحق أن اُنازله، وسأبعث إليه أحد أولادي ليقتله.

فنادى أبو الشعشاع أحد أولاده، وكان رجلاً قوياً، فتبارز مع الشاب المُقنّع فقُتل، ثمّ بعث إليه آخر فقتله الشاب أيضاً، حتّى بعث إليه سائر أولاده - ويُقال: إنّ عددهم كان سبعة - فقتلهم الشاب جميعاً، وألحق آخرهم بأوّلهم.

وإثر ذلك برز أبو الشعشاع بنفسه لمواجهة هذا الشاب المقنّع، وسار نحوه وهو يخاطبه: لقد قتلت أيّها الشاب كافة أولادي، والله لأقتلنّك الآن شرّ قتلة، وأثكل بك أباك واُمّك.

٦١

وهنا استل أبو الشعشاع سيفه واندفع بقوّة نحو الشاب، حيث جرت بينهما معركة عنيفة تمكّن الشاب من ضرب خصمه ضربة قاضية قضت عليه، وألحقته بأولاده غير مأسوف عليه وعليهم.

ثمّ تقدّم الشاب أمام صفوف جيش العدوان وهو يصيح بهم: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد، أو يخرج إليه مَنْ ينازله من بين صفوف الخصم. وعاد الشاب المقنّع إلى صفوف جيش الإمام (عليه السّلام)، حيث تعجّب أفراده من بسالة هذا الشاب النادرة، والذي صرع أشجع شجعان الشام، والتي لم يعرف العرب لها مثيلاً إلاّ في بطولة الإمام علي (عليه السّلام)، أو الحمزة بن عبد المطلب، أو جعفر الطيار.

وهنا دعاه الإمام علي (عليه السّلام) وأزال اللثام (القناع) عن وجهه، فإذا هو ابنه العبّاس قمر بني هاشم، فقبّل الإمام ما بين عينيه، وباركه على شجاعته وبسالته التي أبداها في منازلة الأعداء(١) .

وهكذا نرى أنّ الشجاعة والباسلة ليست غريبة على أبناء أهل البيت ابتداءً من الإمام علي وجعفر الطيار، ومروراً على الحسن والحسين والعباس ومحمد بن الحنفيّة والقاسم ومسلم وزيد بن علي ويحيى بن زيد... إلخ ومن دون انتهاء.

حيث إنّ كلّ واحد من هؤلاء الفرسان قد حارب بعنف وشدّة، وفي هذه الموقعة أو تلك، وقتل فيها الكثير من الخصوم، وأوردهم صرعى على أرض صفّين، أو كربلاء، أو الكوفة، أو فخ، أو باخمري، أو الجوزجان... إلخ، حتى يروى عن

____________________

(١) العبّاس بن علي - محمّد كامل حسن، نقلاً عن كتاب مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي، العبّاس بطولة الروح وشجاعة السيف - محمّد هادي.

٦٢

الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذا الشأن قوله: (( لو ولد أبو طالب الناس كلّهم لكانوا شجعاناً )).

هذا وبعد رحيل الإمام علي (عليه السّلام) إلى الرفيق الأعلى في عام (٤٠هـ) ظلّ العبّاس، وكان عمره حينذاك (١٤) سنة، ظلّ موالياً لإخوته، ومؤيّداً ومناصراً لكلّ حقوقهم ودعواتهم باليد واللسان والقلب.

وحين وفاة أخيه الحسن المجتبى الزكي عم (٥٠هـ) رأى العبّاس بأمّ عينيه جنازة أخيه الحسن (عليه السّلام) وهي تُرمى في الطريق بالسهام، فهاله الأمر، وعظم عليه الحال، ولم يطق عليه صبراً، حيث اشتعلت في أحشائه الحمية والنخوة والشجاعة الهاشمية والكلابيّة، فما دعاه لأن يجرّد سيفه وأن يفتك ويبطش بمروان بن الحكم ومَنْ يقف خلفه من أزلام بني اُميّة، لولا أنّ أخاه الحسين (عليه السّلام) كان قد نهاه، ومنعه من إمضاء إرادته هذه بقوله له: (( ليس يومك هذا يا أخي ))؛ وذلك تبعاً لوصية الإمام الحسن (عليه السّلام) نفسه، والمتضمّنة عدم دفنه عند جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) إذا ما أدّى هذا الدفن إلى الاقتتال والفتنة، والتي هي بالحرف: (( لا تهرق من أمري ملء محجمة من دم )).

وإثر ذلك جيء بالجثمان الطاهر إلى البقيع ليوارى الثرى قرب مرقد أمّه الزهراء (عليها السّلام)، ولولا هذا النهي من أخيه لما أبقى العبّاس من أعدائه باقية، ولوضع سيفه في رقابهم، كما وضع أبوه علي (عليه السّلام) - من قبل - سيفه في رقاب آبائهم في يوم صفّين وبدر وغيرها.

حيث صبر العبّاس على الأمر على أحر من جمر الغضا، ينتظر الفرصة المناسبة لردّ هذا التعدّي والتحدّي بكيل الصاع صاعين، والضربة بضربتين.

٦٣

ولقد كان المكان المناسب والملائم، والفرصة المواتية التي كان يرجوها قد أطلّت بعد عقد كامل من هذا التعدّي، وليست في طرق وشوارع المدينة، وإنّما على مسافة بعيدة من هذا المكان يزيد على الألف كيلومتر، وفي أرض كربلاء بقطر العراق على وجه التحديد، وفي المحرّم من عام (٦١هـ).

وبالفعل حلّ هذا الموعد، ووصل إلى المكان المحدّد، حيث كال العبّاس (عليه السّلام) هناك لأعدائه من أزلام النظام الضربات الموجعة والمؤلمة، حتّى قيل إنّ كلّ بيت من بيوت هؤلاء الأزلام والمرتزقة في الكوفة أو أطرافها قد ضمّ ناعية، أو ناعي على قتلاهم في كربلاء بسيف العبّاس أو الحسين، أو سواهما من فرسان بني هاشم أو الأصحاب الميامين.

٦٤

المدينة بعد هلاك معاوية

عندما هلك معاوية بن أبي سفيان في دمشق بتاريخ ١٥ رجب من عام (٦٠هـ) قام بالأمر من بعده ولده يزيد، وكان معاوية - والذي كان ينظر إلى الدولة الإسلاميّة كأنّها ملك خاصّ له ولأولاده من بعده - كان قد قرّر من قبل بتدبير منه، أو بإيحاء من بعض مستشاريه أو بها معاً(١) أن لا يخرج السلطان والحكم من بيته بنصب نجله يزيد ولياً للعهد.

وهو - معاوية - وإنّ كان يعرف مباذل ابنه يزيد إلاّ أنّه كان يتغافل عنها حيث كان يردّد دوماً: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.

وبنصب معاوية لابنه يزيد ولياً للعهد يكون بذلك قد تجاهل الكثير من الصحابة(٢) والتابعين(٣) المنتشرين في الأقطار الإسلاميّة، والذين كانوا أهلاً لتسلّم المنصب الذي آثر أن يشغله يزيد بعد هلاكه وغيابه عن الحياة الدنيا.

وكانت عملية نصب يزيد ولياً للعهد عام (٥٦هـ) هي من محدثات عهد معاوية

____________________

(١) ينقل هنا عن الحسن البصري (ت١١٠) قوله: أفسد أمر هذه الأمّة اثنان؛ عمر بن العاص في التحكيم، والمغيرة بن شعبة في البيعة ليزيد. نهضة الحسين - هبة الدين الشهرستاني.

(٢) الصحابة: هم الذين صاحبوا الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأسلموا على يده، وأخذوا عنه العلم، وتعلّموا منه، ونقلوا حديثه، وأطاعوه وعملوا في خدمة العقيدة الإسلاميّة ونشرها.

(٣) التابعون: هم مَنْ لقى الصحابة وإن لم يصحبوهم. وأضاف البعض: أنّه لا بدّ من أن يكونوا قد صحبوهم، ويلقوا منهم شيئاً، وإنّ آخر عصر التابعين هو في حدود عام (١٥٠هـ).

٦٥

وبدعها، وقد أحدثها معاوية في أسوء وأفضع مهزلة ومسرحية عرفها التاريخ في اختيار أولياء العهد.

وقد تمّ ذلك عن طريق شراء الذمم بالمال والمناصب، والإغراءات الاُخرى، ثمّ اختتم الحفل البائس - الخاص بالاختيار - عندما صعد أحد أزلام معاوية المنبر في المسجد الجامع في دمشق ليقول للناس، ويهدّدهم برفيع صوته: أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى معاوية - وإذا مات فهذا - وأشار إلى ولده يزيد - ومن أبى (عارض) فهذا - وأشار إلى السيف أو السيّاف الذي كان يقف بين يديّ معاوية وبيده سيف طويل بطول الطغيان الاُموي(١) .

وبذلك فقد انتقلت الخلافة الراشدة من إسلاميّة ثورية إلى ملك عضوض، وملكية وراثية، ومزرعة اُمويّة، وغدت كسروية وهرقلية كلّما هلك كسرى وهرقل قام كسرى وهرقل مكانه.

لقد كان معاوية - ولا سيما بعد رحيل الإمام الحسن (عليه السّلام) - متساهلاً ومتسامحاً مع الحسين (عليه السّلام)، ولم يمسّه بسوء أو ضرر؛ وذلك مغبّة الفتنة، واضطراب الأمن، وتمرّد الأقاليم والجماعات الإسلاميّة عليه، لما يعرف عن الحسين من إباء وعزّة، وأنّ شيعته وأنصاره حينذاك هم غيرهم الذين كانوا في عهد أخيه الحسن (عليه السّلام) عدداً وعدّة وموقفاً.

____________________

(١) كان معاوية مع عمر بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه يعدّون من دهاة العرب، ولمعاوية في دهائه مقولة مشهورة هي: ما وضعت سوطي إذا أمكن وضع لساني، وما وضعت سيفي إذا أمكن وضع سوطي، وأنا بيني وبين الناس حبل (خيط) لا ينقطع؛ إذا أرخوه شددته، وإذا شدّوه أرخيته...

ويظهر أنّ معاوية كان من الدهاء والحلم على طرفي نقيض في أمور كثيرة؛ منها نصبه لولي عهده يزيد، وقتله لحجر بن عدي الطائي صبراً في عذراء بالشام، وسبّه للإمام علي (عليه السّلام) على المنابر... إلخ.

٦٦

وكان معاوية قد طلب البيعة في حينه من الحسين (عليه السّلام)، إلاّ أنّ الحسن كان قد اعترض على ذلك بعد صلحه المعروف معه(١) ، وقال له بالحرف: (( لا تكرهه؛ فإنّه لا يبايع أبداً أو يُقتل، ولن يُقتل حتّى يُقتل معه أهل بيته )). فتركه معاوية ولم يتعرّض له أبداً من قريبٍ أو بعيد طيلة مدّة حياته.

كما ونصح معاوية ابنه يزيد عندما فرضه على رقاب المسلمين نصحه بعدم مسّ الحسين (عليه السّلام) من بعده بسوء، أو التعرّض له من قريب أو بعيد، وأن يصفح عنه عند المقدرة؛ وذلك لقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وموقعه المميز والخاص في قلوب المسلمين، وفي هذا القطر أو ذاك.

إلاّ أنّ يزيد بن معاوية حين تربّع على عرش السلطة، واستوى على كرسي النظام، والذي كانت تنقصه كلّ مقوّمات الرجل المناسب في المكان المناسب، تجاهل كلّ نصائح والده إليه إزاء الحسين (عليه السّلام) بل سحق هذه النصائح بأقدامه، حيث

____________________

(١) إنّ من شروط الصلح بين الحسن بن علي (عليه السّلام) وبين معاوية هي:

١ - أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين، وأن ترجع الخلافة من بعده إلى المسلمين حيث يختارون بإرادتهم الحرّة مَنْ يرونه أصلح لها.

٢ - أن لا يؤاخذ الذين ناصروا أباه علي (عليه السّلام) بما صنعوا ضد معاوية، وأن لا يحرم أحداً من حقّه.

٣ - الكف وإيقاف حملات السبّ والشتم واللعنة ضدّ الإمام علي (عليه السّلام)، وعدم تشجيعها، وأن لا يذكر الإمام إلاّ بخير.

٤ - الاستمرار في دفع العطاء المقرّر له ولأخيه الحسين (عليهما السّلام)، علماً بأنّ معاوية لم يفِ للحسن أو يعرها أيّ اهتمام أو اعتبار ولو بشرط واحد فقط؛ ذلك لأنّ معاوية كان قد [تعهّد] للحسن (عليه السّلام) في الصلح على إمضاء وتنفيذ هذه الشروط، ثمّ أعلن أنّه قد وضعها تحت قدميه.

٦٧

أوعز إلى واليه (عامله) في المدينة وابن عمّه - الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - بأخذ البيعة له من الحسين (عليه السّلام)، وسواه من أبناء الصحابة بالشدّة والعنف، وطلب منه ضرب عنق كلّ مَنْ يتخلّف من هؤلاء عن أداء البيعة هذه فوراً، وإرسال رؤوسهم إليه.

وهكذا غدت الخلافة؛ إمّا بالبيعة لمَنْ يتربّع على عرشها من دون نقاش، أو كلام أو استفتاء، وإمّا التهيؤ لقطع الرؤوس وإرسالها إلى العاصمة عند الرفض والاعتراض عليها.

وقام الوالي (العامل) في المدينة بدوره بتنفيذ أوامر يزيد المشدّدة، حيث كلّف حرسه الخاصّ بالتوجّه إلى الحسين (عليه السّلام) وأخيه العبّاس وابن الحنفيّة وابن الزبير وابن عمر... إلخ، واستدعائهم جميعاً للمثول أمامه في هذه اللحظة، ومن دون تأخير، وأكّد عليه في أوامر مشدّدة بأنّه يهمّه في الدرجة الأولى حضور الحسين وأخيه العبّاس (عليهما السّلام) قبل الآخرين.

ولمّا أشعر رسول الوالي الحسين (عليه السّلام) برغبة الوالي في مقابلته في هذه الساعة، أجابه الحسين (عليه السّلام) بالعودة إلى الوالي وإشعاره بأنّه في الطريق إليه بعد قليل.

وقال الحسين (عليه السّلام) لمَنْ معه من الناس بصدد الموضوع: (( بأنّ أغلب الظنّ أنّ طاغيتهم في الشام معاوية قد هلك، وأنّ الوليد يريدنا في هذا الوقت لمبايعة يزيد، وهو أمر لن يحدث أبداً )).

وطلب الحسين (عليه السّلام) من أخيه العبّاس استدعاء وتهيئة (٣٠) شخصاً من رفاقه ومعارفه لمرافقتهم له إلى دار الوالي، وعند الباب قال الحسين (عليه السّلام) لهؤلاء: إنّه إذا علا صوته فعليهم المسارعة في اقتحام دار الوليد ليخرجوه منها عنوة.

٦٨

ودخل الحسين (عليه السّلام) دار الوالي، واستقبله الوليد بحفاوة وتكريم، وبعد أن استقر المجلس بالحسين (عليه السّلام) نعى الوليد إليه هلاك معاوية، ثمّ صارحه بضرورة البيعة ليزيد، فأجابه الحسين (عليه السّلام) بالقول: (( إنّ مثلي لا يبايع يزيد سرّاً، فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً )).

فردّ عليه الوالي: حسناً لك ما تريد.

ونهض الحسين (عليه السّلام) من مكانه، وهمّ بمغادرة الدار إلاّ أنّ مروان بن الحكم قال للوليد: احبس هذا الرجل حتّى يبايع، أو اضرب عنقه وأرسل رأسه إلى الخليفة كما أمرك؛ لأنّه إن فارقك الآن ولم يبايع لا تقدر عليه بعد.

وهنا اشتدّ غضب الحسين (عليه السّلام) على مروان، وصاح في وجهه: (( يابن الزرقاء، أنت تقتلني أم الوليد؟! كذبت والله وأثمت )).

وحدثت مشادّة ما بين الطرفين ارتفع خلالها صوت الحسين (عليه السّلام) وهو يردّ بعنف على مروان، وهنا سمع العبّاس صوت أخيه الحسين قد علا فشهر سيفه وصاح في رجاله: هلمّ بنا. واقتحم العبّاس مع رجاله دار الوليد حيث لم يجرأ أحد من حرس الوليد عند الباب على اعتراضه أو منعه من الدخول؛ لما يعرفون عن شجاعة العبّاس وجرأته الكبيرة، وعنفه بما ليس له نظير. فأخرج العبّاس ورجاله الحسين (عليه السّلام) قهراً من دار الوليد قبل حدوث ما لا يُحمد عقباه بين الطرفين.

ولقد استغل الحسين (عليه السّلام) الفترة القصيرة التي سبقت موعد انعقاد البيعة للطاغية الجديد في جمع أهله وأقربائه، وتهيئة متاعهم وأثاثهم تمهيداً للخروج بهم من المدينة؛ للابتعاد عن مراسيم ومقدّمات حفلة البيعة المتوقّعة للحاكم المتربّع على

٦٩

عرش الشام، وعن فصول المسرحية الجديدة الخاصة بقطع الرؤوس وإرسالها إلى العاصمة لمَنْ تحفّظ، أو امتنع عن إظهار التأييد والموافقة لهذه البيعة المشؤومة.

وقال الحسين (عليه السّلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة بعد أن طلب منه البقاء في المدينة؛ لموافاته بأحوال البلدة وشؤون أهلها أوّلاً بأوّل، قال له بالحرف: (( والله يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد، ومثلي لا يبايع مثله )).

وبالعبارة الأخيرة فقد ختم الحسين (عليه السّلام) صيحة تحديد للطاغية يزيد، وبدأ بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو مصارع شهادته.

وهو بهذا قد وضع وصية أبيه علي (عليه السّلام) على فراش الموت إليه وإلى أخيه الحسن (عليه السّلام) نصب عينيه، والتي تقول بالحرف: (( أوصيكما وجميع ولدي، ومَنْ بلغه كتابي هذا بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما. قولا بالحقّ واعملا للآخرة، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً... )). وهكذا ترك الحسين (عليه السّلام) وأخوه العبّاس وبقية أهل بيته المدينة المنوّرة باتّجاه مكة المكرمة؛ لعلّ الله تعالى أن يجعل لهم من أمرهم رشداً.

وقبل الرحيل أقبل الحسين (عليه السّلام) إلى قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فودّعه وهو يبكي، ثمّ توجّه إلى قبر أمّه الزهراء (عليها السّلام) فودّعها أيضاً، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه السّلام) ففعل مثل ذلك ورجع إلى منزله عند الصبح.

نعم، قبل الحركة وانطلاق مسيرة التحدي لم تبقَ جارية ولا مولى ولا فتى ولا فتاة إلاّ وتعلّق بالحسين (عليه السّلام) وبنسائه وأولاده، ومنهم اُمّ البنين، سيفارقها أبناؤها الأربعة

٧٠

ولا تملك سواهم، وكلّ واحد منهم كالقمر في ليلة تمامه وكماله.

وقام الحسين (عليه السّلام) بدوره بتقديم شكره وثناءه لهم على شعورهم الفيّاض هذا، وطلب منهم التزام جانب الصبر والهدوء، كما وأخبر بأنّ كلّ شيء لا يحدث على وجه الأرض إلاّ بعلم الله تعالى وإرادته، وأنّه لا راد لهذا الحكم والإرادة.

فتركوهم ودموعهم تسيل على وجناتهم حزناً لفراق آل رسول الله عنهم، حيث ما هان عليهم أن يحرموا من طلعة الحسين (عليه السّلام) وفيها نور النبوّة، ولا هان عليهم أن يمسّوا ويغدوا وقد ارتحل عنهم خير بيت، وأعزّ رهط، وأشرف قوم.

وعن هذه الحالة نظم الشاعر دعبل الخزاعي يقول:

لا أضحكَ اللهُ سنَّ الدهرِ إن ضحكت وآلَ أحمد مظلومون قد قُهروا

مشرّدونَ نُفوا عن عُقرِ دارهمُ كأنّهم قد جنوا ما ليس يُغتفرُ

٧١

المسيرة الطويلة

كان خروج الحسين (عليه السّلام) مع أخيه العبّاس (عليه السّلام)، وبقية إخوته وأبنائه (بما فيهم إخوة العبّاس الثلاثة) وأهل بيته، وبعض خاصّة أصحابه من المدينة في يوم (٢٨) رجب من عام (٦٠هـ)، وكان (عليه السّلام) يردّد عند خروجه من مدينة جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قوله تعالى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) .

وفي هذا المعنى نظم الشاعر السيد حيدر الحلّي يقول:

خرجَ الحسينُ من المدينةِ خائفاً كخروجِ موسى خائفاً يتكتمُ

وقد انجلى عن مكّةَ وهو ابنها وبهِ تشرّفتِ الحطيمُ وزمزمُ

خرج الحسين (عليه السّلام) والعباس من المدينة في جوف الليل لا يلويان على شيء، وهما لا يطلبان بخروجهما الكرسي والسلطان، بل فراراً من الظلم والطغيان بعد أن آن أوان المحنة، وبدت علائم الامتحان والابتلاء.

لقد سار موكب الحسين والعباس في طريقهم إلى مكة على الطريق العام (الأعظم) الذي يسير عليه عادة كلّ رائح وغاد، فقيل للحسين: لو تنكّبت الطريق الأعظم إلى إحدى الطرق الفرعية التي توصل إلى مكة المكرّمة حتّى لا يدركك الطلب؛ اُسوة بما فعل عبد الله بن الزبير قبل ليلة حين فرّ من المدينة إلى مكة، ولم يدركه رسل الوليد في الطريق.

فأجاب الحسين (عليه السّلام) بقوّة وعزم: (( لا والله، لا اُفارقه أو أنظر إلى أبيات مكة، [أو] يقضي الله ما هو قاضٍ )).

____________________

(١) سورة القصص / ٢١.

٧٢

والظاهر هنا: إنّ وجود العبّاس في الموكب الحسيني وبقيّة شباب أهل البيت الشجعان حال دون تعرّض رسل الوالي له بسوء أو مكروه عند الخروج أو في الطريق.

نعم، سار الحسين (عليه السّلام) على الطريق الأعظم مع كلّ صحبه من أهل بيته بكلّ إباء وشمم حتّى وصل إلى مكة المكرّمة بسلام وأمان، واستقبل استقبالاً حافلاً من قبل المكيين، ثمّ حطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب.

ولقد كان حال أهل البيت ومشاعرهم وهم سائرون من المدينة إلى مكة في الموكب الحسيني الجليل هو وفق ما جاء على لسان سكينة بنت الحسين (عليه السّلام)، والتي قالت: لم يكن في شرق الأرض وغربها أهل بيت أشدّ خوفاً وهمّاً وغمّاً منّا آل رسول الله.

لقد وصل الحسين وإخوته وأهل بيته (عليهم السّلام) إلى مكة في يوم (٣) شعبان، أي بعد مضي خمسة أيام من مغادرتهم المدينة، وكان (عليه السّلام) يردّد عند دخوله البلد الأمين قوله تعالى:( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) .

وبوصوله (عليه السّلام) إلى مكة المكرّمة بدأت الصفحة (المرحلة) الثانية من مسلسل الكفاح والنضال ضدّ الظلم والجور، بعد أن كانت مغادرته للمدينة وابتعاده عن مسرحية البيعة لطاغية الشام هي الصفحة (المرحلة) الأولى في هذا النضال والكفاح.

ولقد ظل الحسين (عليه السّلام) مقيماً في مكة عدّة شهور، وكان الناس خلالها يختلفون إليه

____________________

(١) سورة القصص / ٢٢.

٧٣

بكرة وعشية، ويجلسون حواليه وهم يسألوه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيهم، وكانوا أيضاً يستمعون كلامه وينتفعون بما يسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه من دون خوف من أزلام وعيون النظام القائم.

كما وقد أطلّت عليه ووافته خلال هذه المدّة كتب أهل العراق، ولاسيما أهل الكوفة والبصرة، وهم يدعونه ويلحّون عليه فيها بالقدوم إليهم، والقيام معه بالأمر والتضحية دونه، لاسيما بعد أن تسنّم يزيد زمام السلطة والحكم، وأنّه قد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وأنّه لا إمام لهم سواه، وأنّهم - كما أضافوا - لم يحضروا الصلاة مع الولاة، وأنّهم أيضاً في مئة ألف، وأنّهم عند عدم الاستجابة لهذا النداء والدعوة سيحاجّونه عند الله تعالى في يوم الحشر والحساب.

وكان مجموع ما بلغ من رسائل أهل الكوفة زهاء (١٢) ألف رسالة، وكلّ رسالة موقّعة من قبل رجلين أو ثلاثة أو أربعة، وصادف أن تسلّم الحسين (عليه السّلام) منهم في يوم واحد فقط ما يقرب من (٦٠٠) رسالة كما تشير إليه إحدى الروايات.

وعن هذه الرسائل قال الحسين (عليه السّلام) لعبد الله بن العبّاس لمّا ألحّ عليه ترك المسيرة إلى العراق، وتغييرها إلى اليمن إن كان ولا بد منها، قال له: (( يابن عمّ، لقد كثرت عليّ كتبهم، وتواترت عليّ رسلهم، ووجبت عليّ إجابتهم )).

كما ونصحه البعض بعدم استصحاب النساء والأطفال معه؛ وذلك خشية أن يصيبه مكروه وهم بجواره، كما جرى للخليفة عثمان في المدينة من قتل ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلاّ أنّه (عليه السّلام) أجابهم بما يقنعهم(١) .

____________________

(١) نشير إلى أنّه ليس من عادة العرب أو غيرهم - في الغالب - استصحاب النساء والأطفال إلى =

٧٤

____________________

= ساحات القتال أو مناطق التوتر والنزال؛ وذلك خشية أن يصيبهم مكروه أو وقوعهم في الأسر كغنائم.

لذا فقد وجّه الإمام علي (عليه السّلام) اللوم الشديد إلى طلحة والزبير على استصحابهم لأمّ المؤمنين عائشة إلى البصرة للمطالبة المزعومة بدم الخليفة عثمان وتركهم لزوجاتهم في بيوتهم؛ لأنّ خروجها من بيتها على الجمل ليس أهون من قتل الخليفة عثمان؛ لأنّه كما لها من الله تعالى ستر وحرمة فهتكت واُبيحت الحرمة بهذا الخروج، وأنّ مَنْ يرى قتالها يرى قتلها.

إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يغفل هذه النقطة أو ينساها عند استصحابه لنسائه إلى العراق، وإنّما كان يرجو من ذلك الجانب الإعلامي لنهضته وثورته بحمل ألسنة ناطقة معه لنشرها في العالم الإسلامي؛ لأنّ كلّ ثورة تخلو من النشاط الإعلامي ستؤول إلى النسيان والضمور بمرور الزمن، ولا تُذكر إلاّ في بطون بعض كتب التاريخ كنبأ بسيط مشوّه عن حقيقتها وواقعها.

إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) لو كانت بغير نساء لذهب دم مفجّرها هدراً، ولما شعر أو أحسّ أحد من المسلمين؛ لأنّ رؤوس الشهداء كانت ستدخل الكوفة أو دمشق على أنّها رؤوس خوارج، ودون أن يعرف أحد أنّها لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّها لا تتكلم ولا تحرّك ساكناً، ودون أن يعرف هؤلاء عظم المأساة التي أنزلها الطاغية يزيد بالحسين وآله وأصحابه في كربلاء.

إنّ نساء الحسين (عليه السّلام) رغم ما أصابهنّ من المتاعب والقلق طيلة الطريق إلاّ أنّ ما قدمنَ للثورة الحسينيّة من إعلام، وكشف للحقائق، ونشر للوعي، وتنبيه للغافلين، وفضح للدعايات المضللة يهون بجواره كلّ تعب وألم أصابهنّ هنا وهناك.

وعن هذه الحالة كتبت الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها (بطلة كربلاء) بالحرف: إنّ موقف السيّدة زينب بعد المذبحة هو الذي جعل من كربلاء مأساة خالدة. وكتب أنطون بارا في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) بالحرف: لو لم تقم زينب بدورها الصعب الذي قامت به، لما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة أيّة معركة تُدار فيها الأيدي والسيوف، وتصهل فيها الخيل.

وزاد كاتب آخر، وهو جمال المشاط في كتابه (دروس من نهضة الحسين) بالقول: ولا غلو في أنّ عطاء زينب المتمثّل بمواقفها الخطابية والإعلامية التي تنمّ عن عميق ما خبرت به من حنكة سياسية، =

٧٥

علماً بأنّ قيام الحسين (عليه السّلام) هذا، وتحديداً للنظام القائم كان لا بد منه، ولو لم يدعه أحد من العراق، ولم تأته كتب أهل الكوفة؛ لأنّ كلّ ما صنعته كتب ووفود الكوفة وسواها هو التعجيل في الخروج من مكة.

ولئن كانت تضحية الإمام علي (عليه السّلام) وجهاده في منع كارثة طوفان الجور والظلم من نزوها، إلاّ أنّ ولده الإمام الحسين (عليه السّلام) قام من بعده بالرحيل إلى العراق، وبتضحية حياته في هذا القطر؛ وذلك ليمنع امتداد هذه الكارثة واستمرارها. فكأنّ دم الأب امتد هنا ليلتقي مع دم الابن؛ ليكوّنا الشلال العرم، والتيّار الجارف الذي ينير للناس - كلّ الناس - الدرب المفضي إلى الكرامة والحرية والمساواة.

وعن هذا الأمر يقول الشاعر المعروف أبو العلاء المعري:

وعلى الدهرِ من دماءِ الشهيدي نِ عليٍّ ونجلهِ شاهدانِ

فهما في أواخرِ الليلِ فجرا ن وفي اُولياتهِ شفقانِ

ولقد آثر الحسين (عليه السّلام) هنا وقبل أن ينطلق موكبه السامي إلى قطر العراق أن يسبقه إلى هناك رسول أو سفير واحد له أو أكثر؛ وذلك ليشعروه عن حقيقة الوضع في الساحة العراقية، وطبيعة الرسائل الواردة إليه؛ وذلك لكي يكون سيره وحركته على أرض صلبه وثابتة، وبعيداً عن العواطف والأهواء والرغبات غير المدروسة

____________________

= وضلاعة في شؤون الاجتماع والإعلام لا يمكن أن يُقارن بما عداه من عطاء اُنثوي في تاريخ هذه الدنيا، فلا نفرتيتي، ولا كاترين، ولا الخنساء، ولا جان دارك، ولا شجرة الدر، ولا كوربسكايا... لا هذه ولا تلك بقادرة على أن تواكب مستوى العطاء في الفكر، وفي براعة إنهاء المواقف، والانتقال بتدوير الكلام من موقف الضعف والمغلوب إلى موقف المنتصر والغالب الذي جاءت به هذه العقيلة الهاشمية، والتي سجّلت بها مجتمعة ملحمتها العظيمة الخالدة.

٧٦

بدقة وعناية، ومخافة أن يلومه لائم فيما بعد على خطوته هذه بأنّه قد خطاها من دونما حذر أو تبصّر.

ولقد كان ابن عمّه مسلم بن عقيل - وكان عمره حينذاك (٣٨) سنة - هو طليعه، وأحد الرسل والسفراء الذين أرسلهم إلى الكوفة.

ولقد رحّب أهل الكوفة بمسلم رسول الحسين (عليه السّلام) خير ترحيب، وفتحوا له قلوبهم قبل أيديهم، وأظهروا له كلّ علائم الطاعة والإخلاص، وقد تلا عليهم رسالة الحسين (عليه السّلام) الموجّهة إليهم فزادتهم هذه تصميماً على الفداء معه، والتضامن من أجل الإطاحة بكلّ الطغاة والظالمين.

ولقد بايعه عند وصوله إلى الكوفة على الموت والشهادة، والكفاح ضد النظام القائم ما يقرب من (١٨) ألف رجل إن لم يكن أكثر من ذلك.

وإثر هذه الوقائع والحوادث كتب مسلم إلى الحسين (عليه السّلام) رسالة ضمّنها تفصيلات الوضع العام في الكوفة، وطالبه فيها التعجيل في المسير إليها ومن دون إبطاء؛ حيث إنّ أهلها هم في انتظاره واستقباله على أحرّ من الجمر.

وهكذا قرّر الحسين (عليه السّلام) التوكّل على الله والاستعداد للحركة إلى العراق استجابة لنداءات وصيحات أهل الكوفة الملحّة والمتواصلة بالقدوم إليهم، والكفاح تحت لوائه لتقويض أركان الظلم، واستئصال شأفته من الجذور، وإقامة حكم ودولة العدل والحرية.

وعلماً بأنّ الحسين (عليه السّلام) في رحيله التاريخي هذا إلى قطر العراق لم يقع ضحية خدعة لم يحسن تدبّرها، أو ضحية أنصار لم يقف على حقيقة نيّاتهم، أو مدى إخلاصهم وولائهم له

٧٧

بل إنّ الأمر كان على العكس تماماً، حيث كان (عليه السّلام) لا يضع قدمه في كلّ خطوة كان يخطوها إلاّ على أرض ثابتة ومتماسكة، وإنّ تصميمه وإرادته في الرحيل إلى العراق كان حكيماً وبليغاً، وإنّه (عليه السّلام) « كان يهتدي إلى مسؤولياته بنور إيمانه، وبصوت ضميره، وليس بتحريض قوّة خارجية »(١) .

ولكن إذا ما كلّفته هذه الخطوة أن يقدّم حياته كثمن لها فليكن ذلك، ولكن ليتمّ أمام واسع الجماهير، وأمام أكثر من قطر وبلاد حتّى يمكن للشهادة من أن تؤتي ثمارها كاملة لكلّ الناس، والفداء صداه لكلّ الأقطار، والتضحية انعكاسها لجميع بلدان العالم؛ ذلك لأنّه (عليه السّلام) من أهل بيت لم يخلقوا لأنفسهم ولا لبلدهم ولا لقطرهم، بل صاغهم الله تعالى ليكونوا لكلّ الناس حيثما حلّوا، ولكلّ الأقطار والبلدان على الأرض هداية ورحمة، وبركة وسعادة وكرامة.

وهذا ولم تستطع (مكة) أن تحول دون خروج الحسين وأهله وأصحابه منها؛ لأنّه (عليه السّلام) كان قد « وعد وعزم وقرّر، فما تستطيع قوّة في الأرض أن تصدّه عن النضال في سبيل الحقّ، وما يستطيع أيّ إنسان أن يغمه بإيثار السلامة والعافية »(٢) .

ولقد كان الجميع في مكة المكرّمة واثقين من أنّ رحيل الحسين (عليه السّلام) إلى العراق - فيما لو حصل - فإنّما يكون هذا بالتأكيد بعد انتهاء فريضة الحجّ وعيد الأضحى المبارك لعام (٦٠هـ)، وليس قبل هذا الوقت مطلقاً.

إلاّ أنّه (عليه السّلام) كان قد فاجأ جماهير الناس يوم الثلاثاء (٨ ذي الحجة) وهو يوم

____________________

(١) أبناء الرسول في كربلاء - خالد محمّد خالد.

(٢) سكينة بنت الحسين - الدكتورة بنت الشاطئ.

٧٨

التروية(١) بذهابه إلى الحرم الشريف، والطواف بالبيت المقدّس، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل من إحرامه وجعلها عمرة منفردة، وترك التمتع بالحجّ، ثمّ قام بتوديع أهالي مكة الذين كانوا في سبيل تركها إلى منى وعرفات لإتمام مراسيم الحجّ لذلك العام، الوداع الذي لا لقاء بعده.

لم يخرج الحسين (عليه السّلام) لوحده بل سار معه حشد كبير من أهل بيته، وعلى رأسهم أخوه العبّاس (عليه السّلام) وإخوته الثلاثة، ومواليه وعدد كبير من أهالي الحجاز، ونفر من أهل الكوفة والبصرة مَنْ قدموا إليه وهم يحملون رسائل الدعوة ومواثيق البيعة، وليبلغوه أيضاً بدعوة أهالي الكوفة للإسراع في القدوم إلى العراق(٢) .

هذا ولولا حبّ مَنْ خرج مع الحسين له، وتعلّقهم به ما تركوا ديارهم الآمنة ليخرجوا معه وهم لا يدرون ما يخبِّئه لهم الغد من أحداث، وما قد ينزل بهم من متاعب وأهوال.

وعند بدء رحيله (عليه السّلام) من مكة أمر بقرطاس وقلم، وكتب لبني هاشم عليه ما يلي:

____________________

(١) سُمّي يوم التروية؛ لأنهم (الحجيج) كانوا يرتون فيه من الماء من منى ويخرجون إلى عرفات. وعندما سُئل الحسين (عليه السّلام) عن أسباب خروجه يوم التروية، قال: (( لو لم أعجل لأخذت أخذاً )).

(٢) نشير هنا إلى وجود « هجرتان في الإسلام أخلدهما التاريخ إلى الأبد، هجرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة أسست الإسلام ووطّدت دعائمه، وهجرة الحسين من المدينة إلى الكوفة أعادت جدّة الإسلام ونشرت كلمته » ذكرى الحسين - محمّد علي آل ياسين.

ويذهب آخرون إلى أنّ « الهجرة الأولى كانت وغايتها البناء، وأنّ الهجرة الثانية كانت وغايتها المحافظة على البناء » الإمام الحسين - عبد الله العلايلي.

فما « أقرب الشبه، وأشدّ التطابق والتقارب بين الهجرتين في العوامل والثمرات، بل وحتى في الحالات النفسية » مأساة الحسين - الشيخ عبد الوهاب الكاشي.

٧٩

(( بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى بني هاشم. أمّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم فقد استشهد، ومَنْ تخلّف لم يدرك الفتح، والسّلام )).

ولقد كان الحسين (عليه السّلام) يردّد عند الرحيل، أو أنّها نظمت على لسان حاله:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى الرجالَ الصالحينَ بنفسه وفارقَ مثبوراً وخالفَ مجرما

فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم كفى بكَ ذُلاً أن تعيشَ وترغما

وفي رحيل الحسين (عليه السّلام) إلى العراق نظم الشاعر يقول:

لمّا رأى الشرعَ الشريفَ مضيّعاً وحبالَ دينِ اللهِ عُدنَ رثاثا

وبني أميّةَ في العبادِ تحكّموا ويزيد أفسدَ في البلادِ وعاثا

أمَّ العراقَ على النجائبِ طالباً حقّاً لهُ من جدّهِ ميراثا

عجباً بني الطلقاءِ أضحت تدّعي سلطانَ آلِ محمدٍ ميراثا

وتُساقُ آلُ محمدٍ ما بينهم سوقَ السبايا لا يجدنَ مغاثا

غادر الحسين (عليه السّلام) مكة المكرّمة باتّجاه الكوفة في قطر العراق بعد أن ودّع الكعبة بيت الله تعالى وهو يحمل روحها بين جنبيه، وشعلتها بكلتا يديه، تواكبه الملائكة وتباركه، وتطيف به كأنّه حذرة عليه؛ لأنّه البقية الباقية من إرث السماء المتواجدة على سطح الأرض.

هذا، ولن نشير هنا إلى تفصيل ما حدث لرسول الحسين (عليه السّلام) في الكوفة وهو مسلم بن عقيل(١) حيث انفضّ عنه أهل الكوفة، وأخذ لوحده في منازلة قوات وعساكر والي الكوفة بشجاعته المعهودة، والتي وصفها أحدهم بقوله:

____________________

(١) لقد تمّ توضيح سيرة مسلم بن عقيل مفصّلة في كتابنا (مسلم بن عقيل - بريق النبوّة في ظلمات الكوفة).

٨٠