العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد0%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمّد علي يوسف الاشيقر
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 42913
تحميل: 7184

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42913 / تحميل: 7184
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّه كان يأخذ الرجل من يده ويرمي به فوق الدار، حتّى اُلقي القبض عليه، وضُرب عنقه من أعلى قصر الإمارة(١) ، ورُمي بجسده الطاهر مع رأسه من هناك إلى الأرض.

فضلاً عن قتل هاني بن عروة رئيس قبيلة مذحج اليمانية، وبالطريقة نفسها التي قُتل بها مسلم من قبل، والتي وصلت إليه (عليه السّلام) هذه الأخبار المفزعة وهو في نقطة (زرود) على طريق العراق.

كما ولن نشير إلى لقاء الحسين (عليه السّلام) في النقطة المذكورة (زرود) مع زهير بن القين البجلي؛ ليصبح هذا العلم بعد أوّل لقاء له مع الحسين (عليه السّلام) من خيرة أنصاره وأعوانه، بل من قادة جيشه وأركان حربه، والعمود الفقري فيه.

ولن نشير أيضاً إلى لقاء الحسين (عليه السّلام) مع الشاعر المعروف الفرزدق في نقطة (الصفاح)، والذي قال للحسين (عليه السّلام) بعد أن استفسر منه عن طبيعة الموقف في العراق بالحرف:

____________________

(١) قصر الإمارة شُيّد في الكوفة عند تمصيرها عام (١٧هـ) في عهد القائد سعد بن أبي وقاص، وكان يُعرف بقصر سعد، وبقصر الإمارة، ثمّ أصبح داراً خاصّاً للعمّال والولاة، وكان سوره يرتفع إلى (٢٠م)، وقد أحكم بناءه حتّى بات من المتعذر اقتحامه والسيطرة عليه بسهولة عند غلق أبوابه.

وعند دخول عبد الملك بن مروان إليه بعد انتصاره على جيش مصعب بن الزبير عام (٧١هـ) وضع رأس مصعب عند يديه، وحينئذ تقدّم أحد الجالسين وهو (عبيد بن عمير) وقال لعبد الملك: أيّها الخليفة، كنت جالساً هنا ورأيت رأس الحسين بين يدي [ عبيد الله بن زياد، ثم دخلت القصر فإذا رأس عبيد الله بين يدي المختار، ثم دخلت القصر فإذا رأس المختار بين يدي ](*) مصعب بن الزبير، وفي هذا اليوم أرى في نفس المكان رأس مصعب أمامك، وأدعو الله أن لا يريني ذلك اليوم الذي أرى فيه رأسك بين يديّ شخص آخر.

فتشائم عبد الملك من هذا الكلام وقام من كرسيه غضباً، وأصدر في الوقت أمراً بتهديم القصر وتسويته بالأرض.

(*) أضفنا هذه الفقرة من تاريخ الإسلام للذهبي ٥ / ٥٢٧ بتصرف؛ وذلك لأن العبارة التي ذكرها المؤلِّف كانت هكذا ( كنتُ جالساً هنا ورأيت رأس الحسين بين يدي مصعب بن الزبير )، وهي واضحة النقص والخطأ. (موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٨١

قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء، وربّنا كلّ يوم هو في شأن.

كما ولم نتطرّق إلى لقاء الحسين (عليه السّلام) مع الطرمّاح بن عدي بن حاتم الطائي في نقطة (العذيب)، والذي أجاب الحسين حين استفسر منه عن الموقف في الكوفة، أجاب بمثل جواب الفرزدق من قبل، ولكن مع شيء من التغيير والإضافة وهو بالحرف: إنّ الأشراف قد استمالهم ابن زياد(١) بالأموال، أمّا سائر الناس فهم معك، وأمّا سيوفهم فهي مشهورة عليك.

وأخيراً - وليس آخراً - لن نتناول تفاصيل وقائع ملاقاة الحرّ بن يزيد الرياحي للحسين (عليه السّلام) في نقطة (ذو حسم) عند أبواب العراق، والذي كان طليعة الجيش الذي حشّده والي الكوفة ابن زياد لمحاربة الحسين، وإيقاف مسيرته التاريخية إلى العراق، وما جرى خلال اللقاء بينه (عليه السّلام) وبين الحرّ من حديث وكلام أوشك أن يفجّر الموقف في ذلك المكان النائي من صحراء العراق الغريبة.

حيث قال الحسين (عليه السّلام) للحرّ في النهاية وبعد أن ضيّق الأخير عليه الخناق، وطلب منه أن يصحبه إلى الوالي في الكوفة، قال (عليه السّلام) له: (( إنّها الحرب إذن ثكلتك اُمّك! )).

____________________

(١) بالنظر والتكرار ورود اسم عبيد الله بن زياد بن أبيه، وعمر بن سعد بن أبي وقاص في هذا البحث لكونهما يعدّان من قادتي البغي والعدوان في ملحمة كربلاء؛ لذا فقد اكتفينا هنا بإيراد اسم (ابن زياد) للأوّل، و (ابن سعد) للآخر، كما ويُطلق على الأوّل اسم (ابن مرجانة)؛ لأنّ اُمّه تدعى مرجانة، وهي جارية مجوسية تزوّجها والده فصار منها، ويُطلق على زياد بن أبيه اسم (ابن سمية)، وعلى أبي سفيان بـ (ابن حمامة)، وعلى معاوية (ابن هند)، وعلى يزيد (ابن ميسون).

٨٢

فأجابه الحرّ جواباً مهذّباً وهو: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه.

وسكن غضب الإمام (عليه السّلام) لهذا الجواب.

نعم، لن نشير إلى كلّ ذلك أو سواه هنا للاختصار الذي آثرناه في هذه الدراسة، رغم أنّ كلّ ذلك هو مسجّل ومدوّن في الكتب والأبحاث التي تولّت كتابة تاريخ واقعة كربلاء، ومنها كتابي السابق الذي يحمل عنوان هو (الحسين (عليه السّلام)... ثورة دائمة).

إلاّ أنّه إذا كان ولا بدّ من أن نشير إلى شيء هنا قبل الانتقال إلى الفصل التالي، فهو أنّ ركب الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وأهل بيته، بما فيهم النسوة والأطفال، قد سار قدماً إلى العراق لا يلوي على شيء، وقد كلّف العبّاس (عليه السّلام) هنا بالمسؤولية الكاملة في خلال هذه الرحلة الصعبة بحماية ورعاية هؤلاء النسوة والأطفال طيلة الطريق؛ من حيث تأمين سلامتهم وراحتهم، واستقرارهم في المحافل، وفي الختام وعند الدخول إليها والخروج منها.

وقد امتدت هذه المسؤولية أيضاً واستمرت حتّى في أرض الطفوف في كربلاء، وظلّت قائمة وفعّالة لحين شهادته (عليه السّلام) ورحيله إلى جوار ربّه عند ضفاف العلقمي في العاشر من المحرّم الحرام.

ويظهر هنا أنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد كلّف أخاه العبّاس بتحمّل هذه المسؤولية؛ لعلمه بشجاعة هذا الفتى المغوار وعزيمته وإبائه ونخوته.

لذا فقد كان الاختيار مصيباً وفي مكانه، ومن ثمّ فإنّ المكان بالمكين - كما يقول

٨٣

المثل العربي الشائع - ولأنّ العبّاس (عليه السّلام) - كما قلنا أكثر من مكان - هو رجل المهمات الصعبة في معسكر كانت كلّ مهمّاته وواجباته شاقّة وصعبة.

وهكذا فقد حلّ ركب الحسين (عليه السّلام) في كربلاء، ولا أحد في هذا الركب يعلم ما يخبّئه لهم المستقبل من اُمور ومفاجئات بعد أن أحاط به جيش العدوان من كلّ جانب إحاطة السوار بالمعصم، ولم يدع له حرّية الحركة والانتقال.

إلاّ أنّه كان هناك شخص واحد في هذا الركب المقدّس كان يعرف كلّ شيء عمّا سيحلّ بركبه من مصائب ونوائب، وهو قائد الركب والمسيرة الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه كان قد استقى وتلقّى تفصيلات كلّ ذلك من أخيه وأبيه وجدّه عن الله تعالى.

إنّها كربلاء التي حلّ في أرضها الحسين (عليه السّلام) وركبه، ولئن كانت هذه البقعة من أرض العراق قد خفيت على سواد الناس، فإنّها كانت ملء كلّ أسماع وأذهان وأفكار سائر الأنبياء والمرسلين، والصفوة من عباد الله المخلصين منذ أن خلق الله الأرض.

وعن النقطة الأخيرة نشير إلى أنّ الإمام علي (عليه السّلام) في مسيره إلى صفّين عام (٣٧هـ) جعل طريقه إليها عبر أرض كربلاء، وعند وصوله إليها صلّى فيها وأخذ تربة من أرضها فمشى، ثمّ قال: (( واهاً لكِ من تربة! ليُقتلنَّ بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب، ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم )).

وقبل الإمام علي (عليه السّلام) مرّ عيسى بن مريم (عليه السّلام) على أرض كربلاء، وتوقّف فوق

٨٤

مطارح الطفّ، ولعن قاتلي الحسين ومهدري دمه الطاهر فوق هذه الثرى(١) .

كما ويصف أحدهم هنا علاقة الحسين بأرض كربلاء بالحرف: كأنّما كانت أرضه تناديه فلبّى نداءها(٢) . نعم، هي كربلاء والتي نظم في حقّها أحد الشعراء، وهو عبد الله العلايلي، قصيدة جاء في بعضها:

فيا كربلا كهفُ الإباءِ مجسّماً ويا كربلا كهفُ البطولةِ والعلا

ويا كربلا قد حزتِ نفساً نبيلةً وصُيّرتِ بعد اليومِ رمزاً إلى السما

ويا كربلا قد صرتِ قلبيَ كلّ ذي نفسٍ تصاغر دون مبدئها الدنا

ويا كربلا قد حزتِ مجداً مؤثّلاً وحزتِ فخاراً ينقضي دونهُ المدى

وقال شاعر ثانٍ عن كربلاء:

هي كربلاء فقف على عرصاتِها ودع الجفونَ تجودُ في عبراتِها

ما بالُها لم تروهم من مائها حتّى تروّت من دمارِ قباتها

الله أكبر يا لها من وقعةٍ ذابت لها الأحشاءُ في حرقاتِها

كما ونظم شاعر ثالث حول الموضوع يقول:

سل كربلا كم حوت منهم بدورَ دجىً كأنها فلكٌ للأنجم الزهرِ

____________________

(١) الحسين في الفكر المسيحي - أنطون بارا.

(٢) الإمام علي بن أبي طالب - عبد الفتاح عبد المقصود.

٨٥

٨٦

٨٧

عند أعتاب كربلاء

وصل ركب الحسين (عليه السّلام) إلى أرض كربلاء، وحطّ رحاله على ثراها في يوم الخميس ٢ محرّم من عام (٦١هـ) بعد أن استغرق سفره من مكة إليها عبر صحراء الحجاز ونجد (٢٤) يوماً، حيث بدأت بوصوله هذا الصفحة (المرحلة) الثالثة من معركة الكفاح والنضال ضدّ الضلال والطغيان والجور، وبوصوله هذا أيضاً تبدأ الفصول الأشدّ حسماً وصعوبة في رحلة الخروج الدامية.

ولقد قام الحسين (عليه السّلام) - بعد يقينه بأنّ نهايته ستكون على هذه الأرض - قام بشراء الأرض التي تحيط بالمنطقة رغم أنّها أرض خالية ومهملة وجرداء، وغير مزروعة، وهي أيضاً من دون مالك حقيقي، وهي بمساحة (٤) أميال في (٤) أميال ودفع ثمنها لمَنْ ادّعى ملكيتها نقداً.

وبلغ ما دفعه إليهم حوالي (٦٠) ألف درهم، وهو غالبية ما كان يحمل من نقود. ولقد تصدّق الحسين (عليه السّلام) بالأرض بجعلها صدقة جارية، ومشيراً إلى أنّ هذه الأرض برمّتها أيضاً هي حلال ومباحة لولده وأنصاره وزوّاره، وهي حرام في نفس الوقت على غيرهم.

ومؤكّداً على مَنْ يقطن في هذه المنطقة بأن يرشدوا الناس إلى مكان قبره المرتقب، فضلاً عن أن يقوموا بضيافة زوّاره القادمين لمدّة (٣) أيام متتالية.

وبعد ذلك وحين استقر بالحسين (عليه السّلام) المقام بهذه الأرض جمع (عليه السّلام) أقرباءه

٨٨

وأصحابه، وخطب فيهم، حيث جاء في بعض ما قال لهم(١) : (( اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا من حرم جدّنا، وتعدّت بنو اُميّة علينا. اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين )).

ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: (( الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )).

____________________

(١) لقد أكّد الحسين (عليه السّلام) في كلّ خطبة ألقاها في عرصة كربلاء على مكانة الاُسرة النبويّة التي ينتسب إليها، والتي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور؛ علّ ذلك يؤثر على أهل الكوفة فينصرفوا عن قتاله. علماً بأنّ خير مَنْ وصف هذه الأسرة وتضحياتها هم كتّاب وأدباء كثيرون، اخترنا منهم ثلاثة: لبناني، وسوري، ومصري.

فالكاتب اللبناني عمر أبو النصر يقول في كتابه (فاطمة بنت محمد) بالحرف: إنّ الاُسرة النبويّة قد كُتب أن تعيش في الدنيا عيش الأشجار العظيمة في الصحاري المحرقة، تظلل الناس بوارف ظلّها وهي تصطلي حرّ الهاجرة وأوارها، ولو أن القدر أنصفهم ووفّاهم أجورهم لما سعد أحد في الحياة سعادتهم، ولا هني فيها هناءهم.

أمّا الكاتب الثاني السوري فهو علي الطنطاوي، حيث يقول في كتابه (قصص من التاريخ) بالحرف: من العجب أن يسع المسلمون بعدلهم الذمي والكافر، ولكن عدلهم ضاق عن آل محمّد! لقد قدّموا الحياة السعيدة للنصراني واليهودي ولكنّهم لم يجدوا لابن بنت النبي إلاّ الموت الأليم.

والثالث هو الكاتب المصري خالد محمّد خالد، حيث كتب في (أبناء الرسول في كربلاء) بالحرف: من العجب - كما يحدّثنا التاريخ - أنّهم خرجوا لجريمتهم بعد أن صلّى بهم قائدهم صلاة الصبح! أصحيح أنّهم صلّوا وقرؤوا في آخر صلاتهم: اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد؟! إذاً ما بالهم ينفلتون من صلاتهم ليحصدوا بسيوفهم آل محمّد؟!

٨٩

ولقد علّق وعقّب بعض أصحابه على كلمته هذه بكلمات وعبارات ثورية ونارية، تدلّ وتنمّ على مدى إخلاص هؤلاء الأصحاب وحبّهم وولائهم للحسين (عليه السّلام)، والقضية التي جاء من أجلها.

فقد قام زهير بن القين، وقال بصراحة: سمعنا يابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.

أمّا برير بن خضير الهمداني فقد صرّح بقوله: يابن رسول الله، مَنّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.

وجاء دور نافع بن هلال البجلي ليقول بكلّ قوة: سر بنا معافىً، شرقاً إن شئت أو مغرباً، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك ونعادي مَنْ عاداك.

ولقد وصف أحد الشعراء، وهو السيد رضا الهندي، هذه الحالة في هذه الأبيات:

وقفوا يدرؤون سمرَ العوالي بفراقِ النفوسِ والأرواحِ

فوقوه بيض الظُّبا بالنحور ال بيض والنبلَ وقفة الأشباحِ

أدركوا بالحسينِ أكبرَ عيدٍ فغدوا في منى الطفوفِ أضاحي

ولقد بعث الحرّ بن يزيد الرياحي من كربلاء مَنْ يخبر رئيسه ابن زياد بنزول الحسين في كربلاء، فما كان من ابن زياد إلاّ أن يجيب على ذلك برسالة مستعجلة موجّهة إلى الحسين (عليه السّلام) نفسه، والتي جاء في بعضها: يا حسين، قد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليّ يزيد أن أُذيقك المنون، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد.

ولمّا فرغ الحسين (عليه السّلام) من قراءة هذه الرسالة الخائبة رماها إلى الأرض وقال:

٩٠

(( لا أصلح الله قوماً اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق )).

ووصل عمر بن سعد بن أبي وقاص(١) إلى مسرح العمليات الحربية في أرض كربلاء في يوم (٣) محرّم الحرام، ومعه (٤) آلاف رجل مرسلاً من سيّده ابن زياد لتسلّم قيادة كلّ الوحدات، والتشكيلات العامّة والمحتشّدة في الجبهة، أو التي ستردّ تباعاً لغرض فرض شروط الذلّ والاستسلام عنوة على الحسين (عليه السّلام)، وعسكر على أرض كربلاء على مقربة من معسكر الحسين (عليه السّلام).

هذا وقد تردد ابن سعد كثيراً قبل قبوله لهذه المهمّة القذرة، حيث تمارض وحاول أن يعتذر عن هذا التكليف، ولكنّه خشي بطش ابن زياد والي الكوفة وجور سيّده التالي في الشام يزيد، فضلاً عمّا كان يأمله من إسناد حكم ولاية الري إليه، فقد مال لعابه لها فوافق على المهمّة صاغراً.

لقد كانت غالبية الناس تكره الخروج إلى حرب الحسين (عليه السّلام)، حيث كان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين (عليه السّلام) في الجمع الكثير فيصلون ولم يبقَ منهم إلاّ القليل.

ومردّ ذلك هو كراهتهم لقتال الحسين (عليه السّلام) ومنازلته، والذي هو ابن بنت رسولهم،

____________________

(١) كان ابن سعد قد عيّن حاكماً على الري - وهو إقليم يقع جنوب بحر قزوين - وكان يستعد لمغادرة الكوفة إلى مقرّ عمله الجديد لولا مجيء الحسين (عليه السّلام) إلى العراق وتكليفه بقيادة الجيش المرسل لمواجهته.

علماً بأنّه لو كان ابن سعد خليقاً بأبيه سعد بن أبي وقاص لطلب ثأر أبيه من يزيد، لا أن يكون خادماً عنده، ولكنّه انخلع وانصاع فكانت الدنيا منذ صغره ميلة وصبوة، والثأر هذا يخصّ السمّ الذي سقى معاوية أباه سعد فقضى عليه.

وقد أصبح سقي السمّ من قبل معاوية لأعدائه شعار معاوية وأشياعه كما يقول عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء).

٩١

ونجل خليفتهم، حيث باتوا على يقين بضلال هذه الحرب، وأنّهم بفعلهم هذا إنّما يحاربون الله ورسوله، ويقاتلون مَنْ أمروا بمودّته وطاعته.

ومن أجل السيطرة على الموقف، والاستعداد للمواجهة أصدر ابن زياد أوامره المشدّدة بالنفير العام، والتجنيد الشامل، والتعبئة العامّة، كما واستعمل في تنفيذ هذا سياسة الترهيب والترغيب.

وبعدها أمر ابن زياد أن ينادي المنادي في أسواق الكوفة وسككها أنّه: قد برئت الذمّة ممّن لم يخرج لمقاتلة الحسين (عليه السّلام). وبذلك فقد تمّ السيطرة على الموقف، كما وأصبح سوق الحدادين في الكوفة في اليوم السادس من المحرّم أو قبله بمدّة قصيرة قائماً على قدم وساق، فكلّ مَنْ تلقاه إمّا أن يشتري سيفاً، أو رمحاً، أو سهماً، أو سناناً، ويحدّها عند الحداد وينقعها بالسمّ؛ تمهيداً للخروج إلى المعركة القادمة في أرض كربلاء.

وهكذا فقد أوعز ابن زياد إلى شمر بن ذي الجوشن المرادي بالخروج إلى كربلاء على رأس (٤) آلاف مقاتل، وإلى الحصين بن نمير التميمي في (٤) آلاف اُخرى، وإلى شبث بن ربعي التميمي في ألف فارس... إلخ.

وبذلك فقد احتشد تحت لواء ابن سعد على صعيد كربلاء يوم (٦) محرّم ما يقرب من (٢٠) ألف مقاتل، ثمّ تبع وأعقب هؤلاء سواهم من المقاتلين والفرسان والمرتزقة ليصبح المجموع قبل يوم عاشوراء بأكثر من (٣٠) ألف مقاتل في أقل تقدير.

وهكذا فقد استطاع واحد من أحطّ خلق الله، وهو عبيد الله بن زياد، أن يجمع لقتال الحسين (عليه السّلام) وهو سيد شباب أهل الجنة هذا العدد من الرجال، وأن يعبّئ العالم

٩٢

الإسلامي كلّه ضدّ أهل البيت (عليهم السّلام) من غير رادع أو معترض.

وعن طبيعة هؤلاء المقاتلين وجنسياتهم فيقال عنهم بالحرف: إنّ أهم ما في حركة الحسين (عليه السّلام)، إنّ كلّ مَنْ حاربه وتولّى قتله كان من أهل الكوفة، ولم يحضره شامي واحد(١) ، أو حجازي، أو بصري، وهم ممّن شايعوه (الحسين) وطاوعوه وعاهدوه وبايعوه.

ولقد أشعر ابن زياد قائد جيشه في ميدان العمليات في كربلاء، وفي رسالة لاحقة أشعره فيها بضرورة أن يشتدّ في قتال الحسين حتّى يضع يده في يد يزيد، ويعلن مبايعته بالخلافة، وأن يستعمل الماء كورقة ضغط بيده للتضييق على الحسين (عليه السّلام) لاستحصاله هذه المبايعة؛ وفقاً لما جرى مع الخليفة عثمان بن عفان من قبل حين منع الماء عنه.

ولقد تناسى هذا الوغد - يكتب رسالته إلى ابن سعد - أنّ الحسين نفسه هو الذي حمل الماء إلى الخليفة عثمان في المدينة عند حصاره، وعانى الأمرّين في سبيل ذلك، ثمّ إذا ما كان الحسين (عليه السّلام) هو المقصود هنا في منع الماء عنه، فما ذنب النسوة والمرضى والأطفال الذين هم في معيّته وضمن ركبه؟!

وفي اليوم السابع من المحرّم اشتدّ الحصار والتضييق على الحسين (عليه السّلام) وعلى مَنْ معه، وكلّ الأطراف والجهات، كما واشتدّ لذلك العطش فيهم أيضاً بعد أن نفذ ما كان لديهم من الماء، حيث كان الصيف شديد الحرارة في ذلك العام، وأنّ بينهم وبين شاطئ الفرات رماح مشرعة، وسيوف مرهفة، ولا يمكن الوصول إليه ونقل الماء إلاّ بإغماد هذه السيوف، وإبعاد هذه الرماح.

____________________

(١) مروج الذهب - المسعودي.

٩٣

ويُقال هنا: إنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد طلب من أخيه العبّاس أن يحفر له بئراً، فحفر العبّاس في ثلاثة مواضع - وقيل أكثر - فلم يعثر على الماء، وأشعر الحسين (عليه السّلام) بذلك.

علماً بأنّه قد حيل بين الحسين والماء لمدّة ثلاثة أيام، وكان هذا الأمر هو أعظم ما عاناه الحسين (عليه السّلام) من المحن والخطوب في كربلاء، حيث كان يسمع صراخ أطفاله وهم ينادون: العطش، حيث ذاب قلب الإمام (عليه السّلام) حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب؛ فقد ذبلت شفاه أطفاله، وذوى عودهم، وجفّ لبن المراضع، ممّا اضطره للطلب من قادة جيش البغي والعدوان سقي الأطفال فقط بالماء، فكان جواب أحدهم على نداء الحسين (عليه السّلام) هذا هو: يا حسين، ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات؟ والله لا تذوق منه جرعة حتّى تذوق الحميم من نار جهنم.

وقال ثانٍ: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء؟ والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشاً. فكان سماع هذا الكلام عند الحسين (عليه السّلام) أشدّ من منعهم إيّاه الماء(١) .

وعن هذه الحالة يقول الشاعر السيّد حيدر الحلّي:

ما خلتُ أنّ الدهرَ من عاداته تروى الكلابُ بهِ ويُضمى الضيغمُ

ويقدّمُ الاُموي وهو مؤخّرٌ ويؤخّرُ العلوي وهو مقدّمُ

وقبل أن يكلّف العبّاس بالذهاب إلى نهر الفرات لجب الماء سمع الحسين (عليه السّلام) وأصحابه صوتاً قبيحاً يقول: يا حسين، يا عباس، والله لن تذوقا من الماء قطرة

____________________

(١) تذكرة الخواصّ - سبط ابن الجوزي.

٩٤

واحدة حتّى تموتا عطشاً.

وأدرك الأخوان أنّ الرجل كان يسترق السمع، وأنّه من أذناب الزنيم ابن سعد، فأجابه الحسين (عليه السّلام): (( اللّهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً )). وبالفعل فقد قُتل هذا الوغد في الكوفة فيما بعد عطشاً، وفقاً لما قال الحسين (عليه السّلام) في كربلاء. وهنا طلب الحسين (عليه السّلام) من أخيه العبّاس (عليه السّلام) أن يتولّى عوضه مهمّة سقي الأطفال والنساء وأصحابه بالماء بعد كلّ الذي سمعه من أعداء الله ورسوله بصدد سقي الماء.

وجاء العبّاس (عليه السّلام) إلى نهر الفرات(١) وهو على رأس (٢٠) راجلاً و (٣٠) فارساً من أصحاب الحسين (عليه السّلام)، وهما ثلثا جيشه تقريباً، وهم يحملون معهم (٢٠) قربة خاصة بالماء.

حيث مضى الجميع إلى ضفاف النهر غير مبالين بكثرة الأعداء، حيث كانت مبادرتهم هذه هي مهمّة انتحارية، ولكن الله سبحانه نصر رجاله، وحقّق

____________________

(١) إنّ نهر الفرات المقصود به هنا هو نهر العلقمي القديم، المتفرّع من الفرات الذي يسقي كربلاء ومنه إلى الكوفة، وأثره الآن ظاهر قرب مرقد العبّاس (عليه السّلام).

والطفّ اسم عام لأراضي تنعسر عنها المياه، وسمّيت حوالي نهر العلقمي البارزة من شواطئه طفّاً لذلك، وسمّيت واقعة الحسين (عليه السّلام) فيه واقعة الطفّ.

وعن هذا النهر نظم الشاعر عبد الباقي العمري الفاروقي الموصلي يقول:

بُعداً لشطكَ يا فراتُ فمرّ لا تحلو نماؤكَ لا هنيّ ولا مري

أيسوغُ لي منكَ الورودُ وعنكَ قد صُدّ الإمامُ سليلُ ساقي الكوثرِ

علماً بأنّ الشاعر المذكور قد توفّي عام (١٢٧٨ هـ - ١٨٦٢م)، ودُفن في الروضة القادرية، وقد أرّخ وفاته بنفسه، فجاء مطابقاً، وهو: بلسان يوحد الله أرخ (ذاق كأس المنون عبد الباقي).

٩٥

مرادهم وهدفهم.

وعند وصولهم إلى الشريعة التي يستقي منها الماء، والتي كانت محروسة بجمع كثيف من الحراس يقدّر تعدادهم بـ (٤) آلاف ذئب، تحت إمرة الزنيم عمرو بن الحجّاج الزبيدي، سألهم بعض هؤلاء الحراس عن غرض القدوم إلى النهر، فأجابوهم: لشرب الماء.

فقالوا: اشربوا هنيئاً ما شئتم، ولكن لا تحملوا منه شيئاً.

وكان جواب كلّ واحد من أنصار الحسين (عليه السّلام): لا والله، لا نشرب منه قطرة واحدة والحسين ومَنْ معه عطاشى.

فقال عمرو بن الحجّاج: لا سبيل إلى سقي اُولئك، وإنّما وضعنا في هذا المكان لنمنعهم من الماء.

ولله درّ مَنْ نظم هذا الشعر الشعبي على لسان العبّاس مجسّداً هذا الموقف:

شلون اشرب واخوي حسين عطشان سكنة والحرم وأطفال رضعان

وأظن گلب العليل التهب نيران يا ريت الماي بعده لا حلة ومر

أو ما قاله الشاعر الشعبي الآخر على لسان العبّاس، أو السجّاد (عليهما السّلام) حول الموضوع:

شلون اشرب لذيذ الماي حاشه وأهلي گضت كلهم عطاشه

وحسين الرمل أمسه فراشه

أو ما قاله شاعر ثالث حول الحالة هذه:

بذلتَ أيا عباسُ نفساً نفيسةً لنصرِ حسينٍ عزّ بالنصرِ من مثلِ

أبيتَ التذاذَ الماءِ قبل التذاذه فحسنُ فعالُ المرءِ فرعٌ من الأصلِ

٩٦

فأنتَ أخو السبطينِ في يومِ مفخر وفي يومِ بذلِ الماءِ أنتَ أبو الفضلِ

وقيل هذا: إنّ العبّاس (عليه السّلام) ارتجز هذه الاُرجوزة عند الطلب منه شرب الماء دون البقية في المخيم:

يا نفسُ من بعدِ الحسين هوني وبعدهُ لا كنتِ أو تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ وتشربينَ باردَ المعينِ

تا اللهِ ما هذا فعالُ ديني ولا فعالُ صادقُ اليقينِ

وإثر ذلك حدثت بعض المناوشات بين الطرفين تمكّن بعدها العبّاس (عليه السّلام) ورفاقه من السيطرة على الموقف بإزاحة قوّات العدو، وشقّ طريقهم إلى ضفاف النهر عنوة، وملء قربهم كلّها بالماء وجلبها إلى داخل مخيّم الحسين (عليه السّلام) من دون أن يخدش أيّ رجل منهم بخدش؛ وذلك لخشية القوم من الدنو منهم لوجود العبّاس (عليه السّلام) معهم، كما ولم يكن أحد يجرأ على التصدّي لهم خوفاً من العبّاس وبطشه.

وعن هذه الحالة نظم أحد الشعراء، وهو السيّد محسن الأمين العاملي، يقول:

لا تنسى للعباسِ حُسنَ بلائهِ بالطفِّ عندَ الغارةِ الشعواءِ

واسى أخاه بها وجادَ بنفسه في سقي أطفالٍ لهُ ونساءِ

ردّ الاُلوفَ على الاُلوفِ معارضاً حدَّ السيوفِ بجبهةٍ غرّاءِ

كما ونظم شاعر ثانٍ، وهو السيد جعفر الحلّي، حول الموضوع، ومشيداً بشجاعة العبّاس:

أوَتشتكي العطشَ الفواطمُ عنده وبصدرِ صعدتهِ الفراتُ المفعمُ

ولو استقى نهرَ المجرّةِ لارتقى وطويلُ ذابلةٍ إليها سُلّمُ

لو سدّ ذو القرنين دونَ ورودِهِ نسفتهُ همّتهُ بما هو أعظمُ

٩٧

في كفّهِ اليسرى السقاءُ يقلّه وبكفهِ اليمنى الحسامُ المخذمُ

مثلُ السحابةِ للفواطمِ صوبه فيصيبُ حاصبهُ العدو فيرجمُ

ونظم شاعر ثالث حول نفس الموضوع يقول:

إنّي لأذكرُ للعباسِ موقفَهُ بكربلاءَ وهامُ القومِ يختطفُ

يحمي الحسينَ ويحميهِ على ظمأٍ ولا يولّي ولا يثني فيختلفُ

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهدِهِ مع الحسينِ عليهِ الفضلُ والشرفُ

أكرم بهِ مشهداً بانت فضيلتُهُ وما أضاعَ لهُ أفعالهُ خلفُ

هذا، وإنّ الكمية المحدودة من الماء التي جاء بها العبّاس (عليه السّلام) إلى مخيّم الحسين (عليه السّلام) والبالغة (٢٠) قربة لم تعدّ تكفي لشرب وإرواء العدد الكبير من آل وأصحاب الحسين (عليهم السّلام)، والذي عددهم جميعاً ما يقرب من (٢٠٠) شخصاً، عدا الخيول والإبل التي جاءت معهم من الحجاز.

كما وإنّها كانت آخر ما تمّ الحصول عليه من الماء في كربلاء حتّى مقتل الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء؛ لذا فقد امتدّ العطش بهؤلاء وشعروا بمرارته وقسوته بدءاً من اليوم الثامن من المحرّم وحتّى العاشر منه، أي لمدة ثلاثة أيام متوالية.

إنّ هذا كان موقف أهل الكوفة(١) بمنع الماء عن الحسين (عليه السّلام) وأنصاره، بينما كان

____________________

(١) لقد تردّد في هذا البحث لفظ (أهل الكوفة)، أو (القوم) لمرّات عديدة باعتبارهم قد كتبوا للحسين (عليه السّلام) للقدوم إليهم للنضال معه، ثمّ انقلبوا عليه ليصطفّوا إلى جانب النظام القائم، وضمن سرايا جيشه، حتّى قال المسعودي في مروجه: وأهم ما في حركة الحسين (عليه السّلام) أنّ كلّ مَنْ حاربه وتولّى قتله كان من أهل الكوفة، لم يحضره شامي واحد.

ولقد تمّ ذمّ وتقريع هؤلاء من قبلنا، أو من غيرنا عبر الزمن على فعلتهم هذه؛ باعتبار أنّهم قد سحقوا =

٩٨

موقف الحسين (عليه السّلام) بالمقابل هو أنّه سقى جيش الحرّ بن يزيد الرياحي في صحراء العراق الغربية، كما وسقى خيلهم عند ما كان يملك الماء.

كما وسقى من قبل ذلك الوقت الإمام علي (عليه السّلام) في صفّين جيش معاوية عند ما استولت فرسانه بالقوّة بقيادة مالك الأشتر على الشاطئ (الشريعة)، بعد ما امتنع ورفض هذا الطاغية وجنوده من سقي جيش الإمام (عليه السّلام) عند ما كان الماء في أيديهم وتحت هيمنتهم وسلطتهم.

____________________

= مبادئهم وانضموا إلى جانب معسكر الظلم والظالمين، حتّى انتشر لدينا مثل عنهم يقول: الكوفي لا يوفي، وأغدر من الكوفي، لا أمان لأهل الكوفة.

ولفرض حصر معنى أهل الكوفة الذي نعنيهم هنا، نقول: إنّ الذين نقصدهم هم شرار أهل الكوفة، وهم الذين عاشوا فيها قرب منتصف القرن الأوّل الهجري، وبين وقت اتخاذها من قبل الإمام علي (عليه السّلام) عاصمة له، وإلى ما بعد وقت استشهاد الحسين (عليه السّلام) بقليل، وليس الذين يقطنونها الآن أو بعد الوقت الوارد آنفاً.

ذلك لانّ أهل الكوفة الآن كلّهم جميعاً لا يقلّون حبّاً وولاءً وإخلاصاً للحسين (عليه السّلام) وأهل بيته من أيّ محبّ وموالٍ آخر في أي بقعة من العالم، ولا نجد بين صفوفهم مَنْ كان يقصدهم الإمام علي (عليه السّلام) حين طلب مصارفة عشرة منهم بواحد من أهل الشام، والذي قال فيهم: (( أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق، المُقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه )).

كما وقال عنهم أيضاً: (( لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سدماً. قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان )).

كما إنّ الكوفة كانت على مرّ التاريخ إحدى المدن المحسوبة في الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، إلاّ في فترات وظروف استثنائية، ولقد أنجبت الكوفة - على مرّ الزمن - شخصيات علوية جاهرت بالولاء لعلي وأولاده (عليهم السّلام) وأفكارهم، وقاومت طغيان الاُمويِّين وعسفهم بحدّ السيف، وقدّمت رقابها رخيصة في الدفاع والذود عن هذا الحبّ والولاء.

٩٩

حيث أصرّ أصحاب علي هنا على معاملة القوم بالمثل، إلاّ أنّ جواب الإمام (عليه السّلام) لهم كان: (( لا نفعل ما فعل الجاهلون )).

فهذه هي أخلاق وخصال أبناء هاشم وعبد المطلب، وتلك هي أعمال وأفعال أبناء حرب وأميّة، وبين هذه وتلك ما بين السماء والأرض؛ لأن الإناء ينضح دائماً بما فيه.

هؤلاء يسقون خصومهم وأعدائهم بل ولإبلهم وخيولهم، وهم في قلب الصحراء حيث لا ماء ولا حياة، وأولئك يردّون جميلهم هذا بمنع الماء عن مناوئيهم بل وعن نسائهم وأطفالهم ومرضاهم، وهم بجنب وجوار النهر المتدفّق ماؤه، وتشرب منه الحيوانات والبهائم حينما تريد وقدر ما تريد.

والعجيب هنا أنّ سياسة منع الماء قد مارسها كلّ من الجدّ والأب والحفيد من بني اُميّة بحقّ الجدّ والأب والحفيد من بني هاشم! وهكذا ينضح كلّ إناء بما فيه كما تقدّم بيانه؛ ذلك لأنّها مسيرة واحدة من عائلة تمثّل كلّ الجور والظلم والطغيان في مواجهة عائلة تمثّل كلّ العدل والإنصاف.

وبمقدار ما كانت العائلة الأولى تمثّل الصفحة السوداء والقائمة من التاريخ، فإنّ العائلة الاُخرى (الثانية) كانت تمثّل الصفحة البيضاء والناصعة منه.

وفي سقي العبّاس للماء في كربلاء نظم الشيخ محسن أبو الحبّ الكبير يقول:

إذا كان ساقي الحوض في الحشرِ حيدرٌ فساقي عطاشى كربلاء أبو الفضلِ

على أنّه ساقي الناس في الحشرِ قلبه! مريعٌ وهذا بالظما قلبهُ يغلي

أخي كنتَ لي درعاً ونصلاً كلاهما فقدتُ فلا درعي لديّ ولا نصلي

١٠٠