موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ12%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59734 / تحميل: 7718
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

موسوعة

الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

في الكتاب والسُنّة والتاريخ

محمد الريشهري

بمساعدة

محمد كاظم الطباطبائي - محمود الطباطبائي

المجلّد الأوّل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

الإهداء

يا بقيّة الله.. يا سليل رسول الله.. ويا حبيب فاطمة الزهراء وعليّ المرتضى.

سيّدي.. يا مَن ذِكرَك يجعل القلب يفيض بحبّ الجمال، ويشدو صوب المكرَمات، ويتطلّع إلى العدل والخير.

إيهٍ (يا شمس المغرب) ، ويا مَن التفكير بغاياتك الشاهقة النبيلة، مطالعَ نورٍ تتفجّر براكينَ حماسة وإيمان.

إيهٍ (يا مَن يملأ الأرض عدلاً)، ويا مَن ظهورك تتويجٌ لغايات النبيّين، وحضورك تأسيسٌ لـ (يوم الخلاص) الموعود.

يا آخِرَ أملٍ أنتَ، ويا أغلى هِبات السماء، يا مَن اسمك يملأ النفوس أمَلاً، وَذِكرك ينثر على العاشقين عِطراً روحيّاً فوّاحاً، يجذبهم صَوب الشمس.

بعد سنوات طويلة من الجُهد المثابر الخاضع الدؤوب، وحيث تمّت صفحات هذا الكتاب، وهي تتضوّع في كلّ جزءٍ جزء باسم علي بن أبي طالب رمْز العدالة الشاهق، ومثال الحقّ والإيمان النابض، ها أنا أرفع

٥

  بضاعتي المُزجاة، وأتطلّع إليك - يا أيّها العزيز - بكفٍّ ممدودة مِلؤها الرجاء.

أهتفُ وأقول، بخشوعٍ آسر ودمعٍ هَطول:

سيّدي.. أيّها اللواء المنشور

والعلَم المركوز

يا مَظهر الرحمة الفيّاضة، والحنان الكبير

يا مَلاذ أهل الضُرّ والبلوى، وصريخ المكروبين

يا سَطْعة نورٍ متفجّر في وهْدةِ الدَيجور

ويا شمساً طالعة في أُفقِ الوجود.

تقبّل - سيّدي - هذه الهديّة المتواضعة، وحفّها منك بنظرة رعايةٍ كريمة، واجعلنا من المشمولين بضراعاتك، وحقّق لنا أمل الوصال، وأذِقنا طعْم اللقاء.

٦

المدخل

٧

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، وصلّى الله على سيّد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمّد، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجْس وطهّرهم تطهيراً.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله): (علي آيةُ الحقّ، وراية الهدي).

ماذا أقول في عليّ (عليه السلام) والحديث عنه صعبٌ شاقّ؟! ثمّ هو أصعب إذا ما رامَت الكلمات أنْ تتسلّق صَوب ذُراه الشاهقة، وتطمع أنْ تكون خليقة بتلك الشخصيّة المتألّقة.

النظر إلى شخصيّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) محنةٌ للفِكر، وتملّي أبعاد هذا الرجُل الشاهق يتطلّب طاقة لا تحتمِلَها إلاّ الجبال الرواسي، أمّا الحديث عن بعض عظمته الباهرة، وما تحظى به هذه الشخصيّة المتوهِّجة في التاريخ الإنساني من جلالٍ وجمال، فهو خليقٌ بكلامٍ آخَر، ويحتاج

٩

إلى لغةٍ أُخرى؛ لُغة تتناهى في امتدادها حتى تبلغ (الوجود) سعةً، عساها - عندئذٍ - أنْ تُدرك شيئاً ضئيلاً من كلّ هذه الفضيلة التي تُحيط تلك الشخصيّة (العملاقة)، وما يحظى به من سمُوّ ومناقب لا نظير لها، ثمّ عساها أنْ تؤلّف كلاماً يرتقي إلى مدى هذا الإنسان الإلهي، ويكون جديراً به.

أمّا أُولئك الذين سلّحتهم بصيرتهم بفكرٍ نافذ عن الإمام، وأدركوا - إلى حدٍّ ما - أبعاده الوجوديّة، فما لبِثوا أنْ اضطرموا بمحنة العجْز وقد لاذوا بالصمت، ثمّ ما برحوا يجهرون أنّ هذا الصمت لم يكن إباءً عن إظهار فضائل الإمام بقدَر ما كان ينمّ عمّا اعتوَرهم من عجْز، وهو إلى ذلك يُنبئ عن حَيرةٍ استحوَذَت عليهم وهم لا يدرون كيف يصبّون كلّ هذه الفضائل العَليّة في حدود الكلمات، وكيف يعبّرون عن معانيها البليغة من خلال الألفاظ!.

أجَل، لم يكن قلّة أُولئك الذين أُشربوا في أعماق نفوسهم هذا المعنى الرفيع للمتنبّي، وهو يصدع:

وتركتُ مدْحي للوصيّ تعمُّداً

إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا

وإذا استطال الشيء قام بنفسهِ

وصفاتُ ضوء الشمس تذهبُ باطلا

مَنْ يريد أنْ يتحدّث عن جلال عليّ وفضائله يستبدّ به العجز، وتطوّقه الحَيرة؛ فلا يدري ما يقول!.

هي محنةٌ كبيرة لا تستثني أحداً، أنْ ينطق الإنسان بكلامٍ يرتفع إلى مستوى هذه (الظاهرة الوجوديّة المذهلة)، وهو عجْزٌ كبير مدهش يعتري

١٠

الجميع مهما كانت القابليّة وبلَغ الاستعداد.

ولا ريب أنّ أبا إسحاق النظّام كان قد لبَث يفكِّر طويلاً، وطوى نفسه على تأمّل عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصيّة ومكوّناتها، قبل أنْ يقول: (عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) محنة على المتكلِّم؛ إن وفّاه حقّه غَلا، وإنْ بخَسَه حقّه أساء!).

عليٌّ (عليه السلام) في سُوح القتال اللاحِبة هو الأكثر جهاداً، والأمضى عَزماً، والأشدّ توثّباً. وهو في مضمار الحياة الوجهُ المفعم بالأُلفة؛ حيث لا يرتقي إليه إنسان بالخلُق الرفيع. وفي جوف الليل الأوّاب المتبتِّل، أعبَد المتبتِّلين، وأكثر القلوب ولَهَاً بربّه، وبإزاء خلْق الله هو أرفَق إنسان على هذه البسيطة بالإنسان، يفيض بالعطوفة واللِين. وهو الأصلب في ميدان إحقاق الحقّ في غير مداجاة، المنافح عنه في غير هروب.

أمّا في البلاغة والتوفّر علي بدائع الخطابة وضُروب الحِكمة وفنون الكلام، فليس له نظير، وهو فارس هذا الميدان، والأمكَن فيه من كلّ أحد. ولله دَرّ الشاعر العلَوي، وهو يقول في ذلك:

كم له شمسُ حِكمة تتمنّى

غرّةُ الشمس أنْ تكون سماها

تُري، هل يمكن لإنسان أنْ يُشرِف على منعرجات التاريخ، ولا تشدّه تلك القمّة الشاهقة في مضمار الكرامة والحريّة والإنسانيّة، وهي تسمو على كلّ ما سِواها!.

وهل يسوغ لإنسان أنْ يمدّ بَصَره إلى صحراء الحياة، ثمّ لا يرفرف

١١

قلْبُه صوب هذا المظهر المتألِّق بالحبّ والعبادة، المملوء بالجهاد والمروءة، أو لا يُبصر هذا المثال المترَع بالصدق والإيثار، وبالإيمان والجلال!.

ثمّ هل يمكن لكاتب أنْ يخطّ صفحات بقلَمه، ولا يهوي فؤاده أنْ يُعطّر بضاعته بعبيرٍ يتضوّع بذِكر عليّ، ويخلط كلماته بشَذىً يفوح بنسائم حياته التي يغمرها التوثّب، ويحيط بها الإقدام من كلّ حَدَب، ويجلّلها الجهاد والإيثار من كلّ صَوب؟!.

في ظنّي أنّ جميع أُولئك الذين فكّروا وتأمّلوا، ثمّ استذاقوا طعْم هذه الظاهرة الوجوديّة المذهلة، إنّما يخامرهم اعتقاد يفيد: وأنّى للقطرة الوحيدة التائهة أنْ تُثني على البحر! وأنّى للذرّة العالقة أنْ تنشد المديح بالشمس!.

وأمّا كاتب هذه السطور:

فلم يكن يدُر بخلَدِه قطّ أنْ يخطّ يوماً كلاماً جديراً في وصف تلك الشمس الساطعة، كما لم يخطر بِبالِه أبداً أنْ يكون له حظّ في حمْل قبضة من قبَس كتلة الحقّ المتوهِّجة تلك، أو أنْ يكون له نصيب في بثّ شيء من أَريج بحر فضائلها الزخّار، وأنْ يُسهِم في نشر أثارة من مناقبها المتضوّعة بعبيرٍ فوّاح.

هكذا دالت الحال ومرّت الأيّام بانتظار موعد في ضمير الغيب مرتقب!.

فقد قُدِّر لي وأنا أشتغل بتدوين (ميزان الحكمة) أنْ أُلْقي نظرةً من بعيد

١٢

على هذا البحر الزخّار، بحُكم ضرورة أمْلَتها هيكليّة الكتاب، وساقت منهجيّاً إلى مدخل بعنوان: (الإمامة).

أجل، لم يسمح (المدخل) بأكثر من نظرةٍ من بعيد إلى البحر اللُجّي، أطلّت على شخصيّة الإمام الأخّاذة عِبر الكلام الإلهي والنبَوي، قد سمحت بتثبيت ومْضات من سيرة ذلك العظيم على أساس ما تحكيه روايات المعصومين (عليهم السلام).

مرّة أُخرى شاء التقدير الإلهي أنْ تتّسع موسوعة (ميزان الحِكمة) (التي تجدَّد طبْعها - بفضْل الله - مرّات، وراحت تتخطّى الحدود وتصل إلى أقصى النقاط، وهي تستجيب بقدَرها لتطلّعات الباحثين عن المعرفة الدينيّة) وتمتدّ فصولها وتزداد.

بعد تأمّل طويل انطلقَت بكاتب هذه السطور همّتُه، وتبدّل العزْم إلى قرار بالعمل يقضي بإضافة هذا الجزء.

كانت الرحلة بعيدة المدى، وبدا الطريق طويلاً وأنا حديث العهد به، لولا أنْ تداركتني رعاية خاصّة من الإمام، ولا غَروَ وهو كهف السائرين على الحقّ ومَلاذهم، ثمّ اكتنفَتْني هِمَمٌ كبيرة برَزت من فُضلاءَ كرام.

وبين هذا وذاك أينَع ذلك الجهد وأثمَر بعد سنوات حصيلةً تحمِلُ عنوان: (موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب في الكتاب والسُنّة والتاريخ) هي ذي التي بين أيديكم.

ثمّ شاءت المقادير مرّة أُخرى أنْ يقترن طبع الموسوعة في السنة التي

١٣

توشّحت باسم مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث راحت هذه المناسبة تستقطب إليها أُلوف الجهود والهِمَم (١) .

وها أنا ذا أتوجّه إلى الله سُبحانه شاكراً أنعُمَه من أعماق وجودي وقد حالَفني توفيقه في المُضيّ قُدُماً لإنجاز هذا المشروع المهمّ؛ حيث هوّن العقَبات، وذلّل الصِعاب، ويسَّر العسير.

إنّ (موسوعة الإمام) لهي إلى هذا العاشق الولِه بذِكر عليّ (عليه السلام) أعذب شيء في حياته وأحلاه، وأدعى حصيلة تبعث على الفخر في سِنيّ عُمره، حيث بلغت نهايتها بفضل الله سبحانه، ومعونة خالصة أسداها عدد من الفضلاء.

أجل، إنّ (موسوعة الإمام علي بن أبي طالب) تجسِّد من الأُمنيات في حياتي ما هو أرفعها وأسماها، وتستجيب من تطلّعاتي إلى ما هو أبعدها مدىً.

وما كان ذلك يتحقّق لولا فضل الله وتوفيقه، فله حمْدي، وعليه ثنائي أُزجيه خاشعاً بكلّ وجودي.

وما كان ليتمّ لولا رعاية خاصّة كنفَني بها المولى أمير المؤمنين، فله شكري، وعليه سلامي، فلولا ما فاء به من رعاية وتسديد، ولولا مدَده

____________________

(١) أطلق قائد الثورة الإسلاميّة آية الله السيّد الخامنئي - حفظه الله تعالى - على العام الإيراني الحالي (١٣٧٩ هـ. ش) (عام الإمام علي (عليه السلام)) و (عام الولاية)؛ وذلك لحلول عيد الغدير فيه مرّتين؛ فبداية العام الحالي في ١٣ ذي الحجّة ١٤٢١ هـ. ق، ونهايته في ٢٤ ذي الحجّة ١٤٢٢ هـ. ق، فيكون يوم الغدير (١٨ ذي الحجّة) قد حلّ في الشهرين الأوّل والأخير من هذا العام.

١٤

الذي أسداه في تذليل العقبات الكؤود وتيسيرها؛ لَما رسَت (الموسوعة) على هذا الشكل.

وحسبُ هذه الكلمات أنّها رسالة اعتذار تومئ إلى تقصير صاحبها، ثمّ حسْبها ما تُبديه من ثَناء عاطر مقرون بالخشوع والجلال لكلّ هذه الرعاية الحافلة من أجل بلوغ المقصد.

إنّ (موسوعة الإمام) هي إطلالة على حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما هي نافذة تُشرف على السيرة العلَويّة، وتتطلّع إلى تاريخ حياة أكمل إنسان، وأعظم المؤمنين وأبرز شخصيّة في تاريخ الإسلام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتهدف (موسوعة الإمام) أنْ تترسّم السبيل إلى أعظم تعاليم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأبلغها عِظة وتذكيراً. كما توفّرت على بيان أجزاء من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته البيضاء الوضّاءة.

وتسعى (موسوعة الإمام) من خلال استجلاء المعالم الملكوتيّة لإمام الإنسانيّة، وتتطلّع عِبر تدوين الخصائص العلميّة والأخلاقيّة والعمليّة لحياته التي تفيض بالتوثّب والإيمان، وتصبو عِبر تبيين ما بذَله (صوت العدالة الإنسانيّة) من جهود مذهلة؛ لبَسْط العدل وإرساء حاكميّة الحقّ، إلى الجواب عمليّاً على السؤال التالي: لماذا جَعَل الكتابُ الإلهي عليّ بن أبي طالب شاهداً إلى جوار الله على الرسالة؟.

لقد انطلقت (الموسوعة) من خلال الاستناد إلى عرضٍ جديد، وهيكليّة مبتكرة، ومنهج مستحدَث فاعل، لتقسيم السيرة العلويّة إلى ستّةَ

١٥

عشَر قِسماً، تضعها بين يدي الباحثين والمتطلِّعين إلى المعارف العلويّة، وتُقدّمها إلى الولِهين بحبّ عليّ (عليه السلام)، وإلى طلاّب الحقّ والحقيقة.

وفيما يلي نقدِّم استعراضاً عامّاً لمحتويات هذه الأقسام:

القسم الأوّل: أُسرة الإمام عليّ

توفّر هذا القسم على بيان منحدر الإمام عليّ (عليه السلام) وأُسرته، كما تناول المحيط الذي ترعرع به وحياته الخاصّة، ودار الحديث فيه أيضاً عن شخصيّة والدَيه، وعن أسماء الإمام وكُناه وألقابه وشمائله وأوصافه وزواجه وزوجاته وأولاده.

لقد اتّضح من هذا القسم أنّ الإمام نشأ في أُسرة كريمة، وترعرع في محيط طاهر زكي؛ فأسلافه الكرام من الآباء والأجداد موحِّدون بأجمعهم، طاهرون لم تخالطهم أدناس الجاهليّة، مضَوا وكلُّهُم ثبات في سبيل الله.

كما كشف هذا القسم عن أُصول كريمة تكتنف هذا الموحِّد العظيم في تاريخ الإسلام، فلم يلوِّث الشِرك أحداً من أسلافه قطّ، ولم يكن لمواضعات البيئة وتلوّثاتها الفكريّة والعقيديّة نصيب في حياتهم. فهذا هو الإمام، وقد انبثق من حضن والدٍ مؤمن جَلِدٍ قويّ الشكيمة منافح عن الحقّ، ووالدة كريمةِ المَحتَد صافية الفطرة مؤمنة بالمعاد.

ثمّ مضت حياته مع زوجةٍ هي أتقى وأطهر امرأة في نساء عصره، وهي سيّدة نساء العالَمين، وقد كان زواجاً بدأ بأمر الله سُبحانه وحفّته هالة من

١٦

القداسة والخشوع، فانشقّ عن ذرّيّةٍ كريمة كان لها اليد الطولى في صُنع التاريخ، وهي إلى ذلك المصداق الأسمى لـ (الكوثر).

أمّا كُناه وألقابه فقد اختارها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) غالباً، وهي جميعاً تومئ إلى فضائله الرفيعة التي تتألّق عظمة، وإلى موضعه المنيف الشاهق في الإسلام والتاريخ.

حياة لم تهبط عن مستوى العظمة لحظة، ولم تتعثّر بصاحبها قطّ.

القِسم الثاني: الإمام عليّ مع النبيّ

يوم قَرع صوت السماء فؤاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهبط إليه أمْر الرسالة، ثمّ أعلن دعوته التاريخيّة، كانت الجزيرة العربيّة تغطّ في ظلام دامس، ويحيطها الجهل من كلّ حدَبٍ وصَوب.

لقد واجه القوم بِعثة نبيّ الحرّيّة والكرامة بالرفْض والتكذيب، ثمّ اشتدّت عليه سفاهات القوم وتكالب الطُغاة.

وها هو ذا عليّ اختار موقفه إلى جوار النبيّ منذ الأيّام الأُولى لهذه النهضة الربّانيّة. وقد صَحِب أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم ينفصل عنه لحظة، بل راح ينافح ويتفانى في الدفاع عنه دون تعب أو كلَل.

وما توفّر عليه هذا القِسم هو بيان الموقع الرفيع الذي تبوّأه الإمام في إرساء النهضة الإسلاميّة، والدَور البنّاء الذي اضطلع به في دوام هذه الحركة الربّانيّة على عصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

١٧

يكشف هذا القسم أنّ عليّاً (عليه السلام) كان إلى جوار النبيّ لم يفارقه منذ البِعثة حتى الوفاة، باذلاً نفسه وأقصى ما يستطيع في سبيل تحقيق حاكميّة الإسلام في المجتمع، فهو مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) في المشاهد جميعاً وعند المنعطفات الخطرة، وهو السبّاق الذي يثِب مبادراً في المواطن الصعبة كلّها وعند العقبات الكؤود التي تعتري حركة الإسلام.

يُسفر هذا القِسم عن أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يوفِّر من جهده الدؤوب لحظة، ولم يدّخر من تفانيه المخلص شيئاً، إلاّ وقد بذَله دفاعاً عن هذا الدين، وذَوداً عن نبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله )، وصَوناً لهذه الدعوة الربّانيّة الفتيّة؛ من أجْل أنْ يمتدّ الإسلام وتبلغ هذه الحركة الإلهيّة مَداها.

القِسم الثالث: جهود النبيّ لقيادة الإمام عليّ

الإسلام خاتم الأديان، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) خاتم النبيّين، والقرآن الحلقة الأخيرة في الكتُب السماويّة.

والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) مبلِّغ لدينٍ اكتسى لون الأبديّة، ولنْ يقوى الزمان على طيّ سِجلِّ حياته، فماذا فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لتأمين مستقبل هذا الدين، وضمان مستقبل أُمّته؟ وما هو التدبير الإلهي في هذا المضمار؟.

أوضحَ هذا القسم الرؤية المستقبليّة التي انطوى عليها الدين الإلهي، وموقع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في المخطّط الربّاني الذي حملَته السماء في هذا المجال.

بكلامٍ آخر، ما عنيَ به هذا الفصل هو الولاية العلَويّة، وإمامة عليّ بن

١٨

أبي طالب (عليه السلام)، التي جاءت في إطار جهود رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في رسم مستقبل الأُمّة.

وفي هذا الاتّجاه استفاض هذا القسم في حَشْد مجموعة الأدلّة العقليّة والنقليّة؛ لإثبات أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يدَع الأُمّة بعده هُملاً دون راع، ولم يعلّق مستقبلها على فراغ من دون برنامج محدّد للقيادة من بعده، بل حدّد مسار المستقبل بدقّة وجلاء من خلال جهدٍ مثابر بذَله طوال ثلاث وعشرين سنة، وعِبر تهيئة الأجواء المناسبة لتعاليم مكثّفة أدْلى بها على نحوِ الإشارة مَرّة، وعلى نحوٍ صريح أغلب المرّات.

كما بيَّن هذا القسم صراحة أنّ (الغدير) لم يكن إلاّ نقطة الذرْوَة على خطّ هذا الجهد المتواصل الطويل، ثمّ عاد يؤكِّد بوضوح أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لم يتوانَ بعد ذلك عن هذا الأمر الخطير، بل دأَب على العناية به والتركيز عليه حتى آخِر لحظات عُمره المبارك.

ومع أنّ الحلقات الأخيرة في التدبير النبويّ؛ كمَيلِه (صلّى الله عليه وآله) إلى تدوين ما كان قد ركّز على ذِكره مرّات خلال السنوات الطويلة الماضية في إطار وصيّةٍ مكتوبة، لم يأتِ بالنتيجة المطلوبة إثْر الفضاء المخرّب الذي أُثير من حوله.

وكذلك انتهت إلى المآل نفسه حلَقةٌ أُخرى على هذا الخطّ تمثّلت بإنفاذ بَعْث أُسامة. إلاّ أنّ ما يُلحَظ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يُهمِل هاتين الواقعتين، بل راح يُدلي بكلمات وإشارات ومواضع تُزيل السِتار عن سِرّ هذه الحقيقة ورمْزها.

وهذا أيضاً ممّا اضطلع به هذا القِسم مشيراً إلى نتائج مهمّة استندت إلى

١٩

وثائق ثابتة عند الفريقين.

القِسم الرابع: الإمام عليّ بعد النبيّ

أسَفاً أنْ لا يكون قد تحقّق ما ارتجاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما اختطّه لمستقبل الأمّة، وقد ارتدى سرابيل الخلافة آخَر هو غير مَن اختُصّ به الأمر الإلهي.

أمّا وقد أسفَر المشهد عن هذا، فها هو ذا عليّ يواجه واقعاً كاذباً مريراً مدمِّراً قَلَبَ الحقيقة، وها هو مباشرة أمام لوازم الدين الجديد ومصالحه، وبإزاء أُناس حديثي عهد بالإسلام، فماذا ينبغي له أنْ يفعل؟ وما هو تكليفه الإلهي؟ ما الذي يقتضيه واقع ذلك العصر بما يكتنفه مِن أوضاع خاصّة على المستوَيَين الداخلي والخارجي؟.

لقد نهض هذا القسم بالجواب على هذه الأسئلة وغيرها، ممّا حفَّ السيرة العلَويّة في الفترة التي امتدّت بين وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى تسنّم الإمام لأزِمَّة الحُكم. كما سَلّط أضواءً كاشفة على عوامل إهمال تعاليم النبيّ حيال مستقبل الأمّة، وأسباب الإغضاء عن توجيهاته (صلّى الله عليه وآله) حول قيادة عليّ (عليه السلام).

وفي إطار متابعة الحوادث التي عصفَت بالحياة الإسلاميّة بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتى خلافة عثمان وقيام الناس ضدّه، تكفّل هذا القِسم أيضاً ببيان الأجواء التي أحاطت بالمواقف الحكيمة لإمام الحكماء، وتفصيل ملابَسات ذلك.

٢٠

القِسم الخامس: سياسة الإمام عليّ

خمسة وعشرون عاماً مضت على خلافة الخلفاء، وقد اتّسعت الانحرافات، وتفشّى الاعوجاج الذي كان قد بدأ بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى بلغَت الأوضاع في مَداها حدّاً أملى على الإمام عليّ (عليه السلام) أنْ يصِف ما جرى بأنّه (بليّة) (1) ، كتلك التي كانت قبل الإسلام، وذلك في خطاب حماسي خطير ألقاه بِدء الخلافة.

في هذه البُرهة العصيبة ثار الناس ضدَّ الخليفة وضدّ سلوكه ونهْجه في الحُكم، حتى إذا ما قُتِل انثالوا على الإمام بشكلٍ مذهل، وهم يطالبونه باستلام الحُكم.

لقد كان الإمام يُدرِك تماماً أنّ ما ذهب لنْ يعود؛ إذ قلّما عاد شيءٌ أدبَر. وعلى ضوء تقديره للأوضاع التي تناهَت في صعوبتها امتنع في بادئ الأمر عن الاستجابة لهم، بيدَ أنّه لم يجد محيصاً عن إجابتهم بعد أنْ تعاظم إصرار المسلمين، وكَثُر التفافهم حَوله.

كان أوّل ما طالَعهم به في أوّل خطبةٍ له: حديثُه عن التغييرات الواسعة التي يزمَع القيام بها في المجتمع، كما أوضح في الحديث ذاته أُصول منهجه ومرتكزاته.

هذا القِسم يبدأ رِحلته مع الإمام، فيسجِّل في البدْء الأجواء التي لابَسَت وصوله إلى السلطة وتسنّمه للحُكم، ثمّ يُتابع تفصيليّاً انطلاق

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 17، الكافي: 8 / 67 / 23

٢١

حركته الإصلاحيّة، متوفّراً على رصْد أُصول نهْج الإمام ومرتكزات سياسته في التغييرات الواسعة التي قادها، والحركة الإصلاحيّة التي تزعّمها، وما أثارت من أصداء في المجتمع، وما خلّفته من تبِعات عليه.

من بين البحوث الأساسيّة الأُخرى في هذا القِسم رصْد أبرز الأُصول التي اعتمدها الإمام في الإصلاح، على مختلف الصُعُد الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة والأمنيّة. كما سعى هذا القِسم من الكتاب إلى متابعة رؤى الإمام (عليه السلام) في مجال السياسة، وعوامل استقرار الدوَل، وعوامل انحطاطها وزوالها، وطبيعة تعاون الدوَل بعضها مع بعض وغير ذلك ممّا له صِلة بهذه الدائرة.

القِسم السادس: حروب الإمام عليّ

يوم أنْ مَسَك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زِمام الحُكم بيده، وراح يطبّق ما كان قد تحدّث عنه ووعَد الناس به، برز أمامه تدريجيّاً ما كان قد توقّعه؛ فالوضْع لم يحتمل بسْط العدل، ولم يُطِق حركة الإصلاح والمساواة وإلغاء الامتيازات الوهميّة، فأخذت الفِتَن تطلّ برأسها، وبدأت أزَمَات الحُكم.

ما يبعث على الدهشة أنّ أوّل من استجاش الفتنة وأرباها هُم أُولئك النفَر الذين كان لهم الدَور الأكبر في إسقاط الحُكم السابق، وإرساء قواعد الحكم الجديد!.

ميزة هذا القِسم من الموسوعة أنّه تناول بالبحث والتحليل مناشئ هذه الفِتن وجذورها، وتابع مساراتها وما ترتّب عليها من تَبِعات. كما رصد

٢٢

بالتفصيل فِتن (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين)، التي تُعَدّ في حقيقتها انعكاساً لحركة الإمام الإصلاحيّة، ورَدّ فِعل على مواضعه المبدئيّة الصُلبة بإزاء الحقوق الإلهيّة، ودفاعه عن قِيَم الناس وحقوقها.

من النقاط المبدِعة اللامعة في هذا القسم تسليط الضوء على بعض الزوايا الفكريّة والنفسيّة والمواقف السياسيّة لمثيري الفتنة، ومتابعة تجلّيات ذلك بعُمق ودقّة في حركة خوارج النهروان.

إنّ هذا البحث - في الصيغة التي اكتسبتْها هذه الدراسة من خلال معرفة الوثائق التاريخيّة، وتحرّي التوجيهات الروائيّة التي احتوَت هذه الخصائص - لهو حديثٌ مبتكر وتحليلٌ بِكرٌ بديع.

على أنّ هذا القسم برمّته هو أكثر أقسام الكتاب عِظَة، وأعظمها درساً.

القسم السابع: أيّام التّخاذل

اتّسمت السنوات الأُولى لحكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هكذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. على صعيدٍ آخَر دأب أرباب الفتنة - خاصّة مركزها الأساس في الشام - على إيجاد الأزَمَات على الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرْع العقَبات أمام الحكومة المركزيّة.

ويجيء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلك العهد. فهذه كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تفيض من ألَم الوحدة وحُرقتها، وتبثّ شكواها من

٢٣

مصائب الزمان ودواهيه.

في تلك البُرهة الحالكة من الزمان سقَطت مِصر، فغاب عن الإمام مالك الأشتر، أطهَر الرجال، وأكفأ القادة، وأشجع الخِلاّن، وأَوفاهم بعد أنْ ارتوى بشَهَد الشهادة. فانكمش قلْب الإمام، وأُصيبت روحه الطَهور، والألَم يعتصره من كلّ جانب.

هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظُلامةِ عليّ، كما هو انعكاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.

وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخَر ليس له شِبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام، فالناس لم تَعُد على استعدادها الأوّل لحضور الجبَهات، كما لم تَعُد تستجيب لنداءات الإمام وهُتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما كان يبثّه الإمام مِراراً من شكوى، يرى فيه خصائص لأهل ذلك العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترْنوا إلى الدنيا، وتصْبوا إليها.

في أوضاع كالحة كهذه، استَعَرت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسُهُ الطَهور، فملأت نفسه ألَماً وغضاضةً وهو ينظر إلى جُندِ معاوية تُغير على المدُن المَرّة تِلْو الأُخرى، تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسَلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.

٢٤

راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جُنده واستهتارهم وضحكاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعَت نفسه وفاضت لها غُصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولكن لا من مجيب!.

وهكذا مضى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتمنّى الموت مرّات ومرّات!.

بَيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلى الواقع المرير، بل مضى قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلَّ عن المقاومة حتى آخر لحظة من عُمره.

أجل، هذا أمير المؤمنين يثِبُ كالمنار المضيء آخِر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلى صِفّين مجدّداً، وقد استنفر بكلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلى هذه المهمّة. فما أنْ انتهى من خطبته - وكانت الأخيرة - إلاّ وعقد للحسين بن عليّ (عليه السلام) ولقيس بن سعد وأبي أيّوب الأنصاري لكلّ واحد في عشرة آلاف مقاتل.

لكن وا أسَفاً! فقد أودَت واقعة استشهاد الإمام (عليه السلام) واغتياله من قِبل شقيٍّ (متنسّك)، بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثَتْ أنْ تداعَت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.

لقد توفّر هذا القِسم على تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها

٢٥

ومساراتها، وما كان قد اكتنفها من أسباب وعوامل.

القِسم الثامن: استشهاد الإمام عليّ

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أخبر باستشهاد الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام). أمّا الإمام نفسه فقد كان وجوده ينمّ عن صبغة وتكوين خاصّ يشدّه إلى السماء أكثر ممّا يجرّه إلى الأرض ويربطه بها. كان دائماً يتطلّع صَوب الملَكوت، تهفو روحه إلى هناك بانتظار اللحظة التي يعرج بها إلى السماء.

كم كانت عظيمة هذه الرحلة صَوب الملكوت وهي تحمل عليّاً مضرَّجاً بدم الجراح، ومضمَّخاً بالنقيع الأحمر.

ما كان أعظم شَوقه للمنِيّة! فها هو ذا عليّ والسيف الغادر المسموم يرقُد على مِفْرقِه ويشقّ رأسه، يتطلّع إلى الملأ الأعلى، ويهتف في وصف رحلته ويقول: (كطالبٍ وجَد، وغاربٍ ورَد).

القسم الثامن هذا اختصّ بمتابعة ما كان ذَكره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن استشهاد عليٍّ (عليه السلام)، وما كان يحكيه عليّ عن شهادته. كما تابع بقيّة مكوّنات المشهد؛ إذ وقف في البدء مع واقعة الاغتيال يصفها عن قُرب، ثمّ انتقل مع الإمام المسجّى مع جراحه راصداً جميع ما نطق به من تعاليم ووصايا وحِكَم مُذ هوى على رأسه سيف الغدر حتى لحظة استشهاده، ثمّ انتقل إلى الجانب الآخر متقصّياً ردّ فِعل ألَدّ أعداء عليّ (عليه السلام)، وما نطَق به عندما بلَغه خبر شهادة الإمام.

٢٦

كما لم يهمل واقعة تجهيز أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفْنه وإخفاء قَبْره.

واختُتم هذا القسم بذِكر زيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبركات ذلك وما يتّصل بروضته الشريفة.

القِسم التاسع: الآراء حول شخصيّة الإمام

تؤلّف تجلّيات شخصيّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على لسان الرجال وفي كلمات الرموز الكبيرة، بل وحتى على لسان أعدائه، أحد أهمّ فصول معرفة أبعاد شخصيّته.

ربّما لا نبالغ إذا قلنا: إنّ ما حفَّ شخصيّة عليّ بن أبي طالب، وما قيل فيه وعنه من كلام وأحكام وتجليل وتكريم وخُطَب وقصائد ومدائح، وما أحاط به من ذهول وحَيرة وهُتاف وصمت، فاق الجميع بحيث لا يمكن مقارنته بأيِّ شخصيّةٍ أُخرى في تاريخ الإسلام.

في هذا القسم يطلّ القارئ على شخصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من خلال ما نطق به القرآن، وما جاء على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام عليّ نفسه، وسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وصحابة النبيّ، وأهل البيت (عليهم السلام)، وزوجات النبيّ، كما يتطلّع إلى أُفُقها العريض عِبر ما خطّه عدد كبير من الرموز العلميّة والثقافيّة والسياسيّة البارزة، وما جادت به قرائح الشعراء والأُدباء والخطباء، حتى أعداؤه.

ويمضي القارئ في هذا القِسم مع رجال قالوا في عليّ (عليه السلام) كلمات مسفرة كضوء الفجْر، انطلقت من قلوب مفعمة بالشوق والحبّ.

٢٧

وقد ترك بعضهم شهادة صريحة للتاريخ في أنّ فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومناقبه تعظم على الإحصاء، ولا تقوى الصحُف المكتوبة بأجمعها على استيفائها.

وقالوا: إنّ الصمت أقوى من كلّ حديث عن عليّ (عليه السلام)، وأمضى من كلّ الكلمات.

فهذه كلماتهم تخطّ لعليّ أنّه الأعلم، وهو الأعرف من الجميع بكتاب الله، وعليّ الأشجع في سوح الوغى، وهو أكثر الناس إخلاصاً وتبتّلاً وطاعة.

عليٌّ الهيّن الليّن أكرم الناس خلُقاً، وقلْبه الشاخص إلى ربّه أبداً.

عليّ في مضمار البلاغة بحرٌ لا يُنزَف، وهو سيّد البُلَغاء، وأفصَح الخُطباء.

عليّ المجاهد الذي تَثِبُ به بصيرته، وهو الصلب الذي لا تلين له عريكة، ولا تُوهِنه الصِعاب، مِلؤه إقدام ومَضاء.

وعليّ أعرف الأمّة بالحقّ، وأنفذ الرجال بصيرة.

هذه بعض كلماتهم في عليّ. ولعليّ بعد ذلك كلّ فضيلةٍ وكمالٍ، فله وحده ما كان للصالحين جميعاً.

كان عليٌّ وِتراً التقَت فيه جميع خصال الجمال، وتألّقت في ذُراه الفضائل بأكملها، وحطّت عنده المكارم. وهو في الفتوّة وِتْرٌ لا ندّ له ولا نظير.

٢٨

هذه الحقيقة نلحظها تتوهّج بين ثنايا هذا القِسم عِبر شهادة وأقوال عشرات المفكّرين، تتوزّعهم مختلف الاتّجاهات والرؤى، بل نرى بعضها متضادّاً أحياناً!.

ولا ريبَ أنّ قراءة كلّ هذه الشهادات والأقوال، والاطّلاع على هذه القطوف الدانية من كلمات المدح والإطراء، لهو أمرٌ خليق أنْ يشدّ إليه القارئ ويجذبه إلى دائرة نفوذه.

القسم العاشر: خصائص الإمام عليّ

  عليّ بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو اللوحة الفريدة الوحيدة التي تتجلّى بها خصائص الإنسان الكامل. وهذه الحقيقة الناصعة الكريمة كانت قد أفصَحت عن نفسها خلال القِسم السابق عِبر ما جاء عن المعصومين (عليهم السلام)، وما نطق به الصحابة والعلماء والفلاسفة والمتكلّمون والباحثون.

ما ينهض به القسم العاشر هو إبانة خصائص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسليط أضواء مكثّفة على ما تحظى به شخصيّته الفذّة من أبعاد ومكوّنات؛ انطلاقاً من هذا طاف القِسم مع الإمام في خصائصه العقيديّة والأخلاقيّة والعلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، التي تتلاقى فيما بينها لتؤلّف صَرْح هذا الرجُل التاريخي الشامخ والمنار المضيء الذي لا نظير له.

يا لروعته وتفرّده! فلم يكفر بالله طرْفة عَين، وهو في ثبات إيمانه، ورسوخ يقينه أمضى من الجبال الرواسي، لا يرقى إلى قمّته أحدٌ قطّ.

٢٩

يعمُر الخُلُق الكريم جنَبات وجوده، وتفوح حياته بالإخلاص والإيثار، وتمتلئ أرجاؤها بالمكرمات.

في محراب العبادة هو الأوّاه المتبتّل أعبَد العابدين، وقلبه المجذوب إلى ربّه أبداً، وهو في الصلاة أخشع المصلّين.

ومَن يُمعن في ميدان السياسة يجده الأصلب، شاهقاً يفوق الجميع، ذكيّاً لا تضارعه الرجال، أدرى الناس بملابسات الزمان.

للمظلومين نصيراً لا يكِلّ عن الانتصاف لهم ولا يملّ، وهو على الظالمين كنارٍ اشتدّت في يومٍ عاصف.

عِلمه الأكمل، وبصيرته الأنفذ، ورؤيته إلى الله وإلى عالَم الوجود والخليقة شفيفة رائقة، سليمة نقيّة، لا تضارعها نظرة ولا يضاهيها نقاء.

أجل، حسْبُ عليّ أنّه كان عليّاً وحسْب، خالصاً لله من دون شَوب، شاهداً على الرسالة، مجسّداً لِقَيمِها الرفيعة ومُثُلها العليا.

وهذا القسم يقدّم هذا جميعاً إلى طلابّ الحقّ والنفوس الظمأى للحقيقة، ويحمله إلى العقول المتلهّفة لمعرفة عليّ، عِبر مرآة متألّقة بنور الآيات الكريمة، ومن خلال النصوص والوقائع التاريخيّة.

القسم الحادي عشر: علوم الإمام عليّ

عليّ (عليه السلام) أعظم تلميذ بزَغ في مدرسة محمّد (صلّى الله عليه وآله). أبصَر فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الجدارة والاستعداد ما يفوق به كلّ إنسان، ومن القدرة على التعلّم ما

٣٠

لا مدى له، ففاض على روحه علماً غزيراً لا ينضَب، وأراه الحقائق الكبرى الناصعة، وبتعبير النصوص الروائيّة والتاريخيّة لقّنه (ألف باب)، و(ألف حرف)، و(ألف كلمة)، و(ألف حديث) (1)في مضمار معرفة الحقائق وتحرّي العلوم.

عليّ (عليه السلام) باب حكمة النبيّ، ومدخل علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو خزانة علمه، ووارث علوم جميع النبيّين.

عليّ المؤتمَن على حكمة النبيّ الحافظ لعِلمه، ومن ثَمَّ هو أعلم الأُمّة.

أمير المؤمنين (عليه السلام) أُذُنٌ واعية؛ لذا فهو لا ينسى ما يقرع فؤاده من العلم، وبذلك راحت الحكمة تتفجّر من بين جوانحه، وتفيض نفسه الطهور بحقائق المعرفة.

لكن أسَفاً وما أعظمها لوعة أنْ تكون مقادير الحياة قد غيَّبت أُولئك الرجال، الذين يهيب بهم استعدادهم الوجودي لتلقّي المعرفة العلَويّة الناصعة. ولو كانوا هناك؛ لفاض عليهم الإمام بقبضةٍ من شعاع عِلمه الباهر، ولأشرَق الوجود بقبَسٍ من نور معرفته.

كان عليّ (عليه السلام) يحظى من (عِلم الكتاب) بعِلمه الكامل كلّه. في حين لم يكن لآصف بن برخيا من (علم الكتاب) إلاّ بعضه، فأَهّله أنْ يأتي إلى

____________________

(1) جاءت هذه الألفاظ في نصوص مختلفة، ويمكن أنْ يكون المقصود فيها واحداً.

٣١

سليمان (عليه السلام) بعرش بلقيس في طرفة عين أو أقلّ (1) .

لم يعرف علم عليّ (عليه السلام) مدىً، ولم يوقفه حَدّ، بل امتدّ سعةً حتى تخطّى كلّ العلوم. فهو في الذروة القصوى في علوم القرآن، وفي معارف الشريعة، وعلوم الدين، وعلم البلايا والمنايا، وهو السَنام الأعلى في كلّ معرفة.

هل تجد لعليٍّ نظيراً في معرفة الله، وهو ذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما عرف الله إلاّ أنا وأنت)؟.

أجل؛ هو ذا كما يقول النبيّ الأقدس، فهذا كلامه في التوحيد ومراتبه، وفي إثبات الصانع وطُرُق الاستدلال عليه، وفي معرفة الله وصفاته يقف في الذروة العليا، وله في نظر الفلاسفة والمتكلِّمين مرتبة سامقة لا تُضاهى.

إنّ ما نطق به الإمام عليّ (عليه السلام) حول الوجود، وما ذكره عن المخلوقات، وما توفّر على إظهاره من نقاط بديعة حيال الخليقة، لهُوَ ينمّ عن إحاطة علميّة بضُروب المعرفة البشريّة.

فكلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بدء الخليقة، وخلْق الملائكة والسماوات والأرَضين والحيوان، وما فاض به عن المجتمع والنفس وحركة التاريخ، وما أدلى به من إشارات عن الرياضيّات والفيزياء وعلم

____________________

(1) قوله سُبحانه: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) (النمل: 40).

٣٢

الأرض (الجيولوجيا) وغير ذلك ممّا يُعَدّ في حقيقته تنبّؤات علميّة، ويدخل في المعجزات العلميّة للإمام، لهُوَ قَمِين بالإعجاب، وخليق أنْ يملأ النفس خضوعاً ودهشة.

لم يعرف التاريخ على امتداده رجُلاً، عالماً كان أمْ فيلسوفاً أمْ مفكِّراً، ينهض بعلوّ قامته، ويقول بثبات: (سلوني ما تشاؤون). ثمّ لم يعجزه الجواب أبداً، ولم يلبث حتى لحظة واحدة كي يتأمّل بما يجيب.

وهذا القِسم ليس أكثر من إيماءة إلى علوم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو إشارة على استحياء إلى بحْره الزخّار، ونظرة عابرة تومِض من بعيد إلى أُفُق المعرفة العلَويّة.

القسم الثاني عشر: قضايا الإمام عليّ

القضاء صعب، وأصعب منه القضاء الراسخ الذي يستند إلى الصواب والحقّ.

يستند القضاء من جهة إلى علمٍ راسخ، ويتطلّب من جهة أُخرى روحاً كبيرة وشخصيّة ثابتة لا تخشى التهديد ولا تميل إلى التطميع، ولا تطوح بها العلائق والأهواء عن جادّة الحقّ والصواب.

وأقضية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هي منارات مضيئة في الحياة، وأكاليل رفيعة في رحاب الحياة السياسيّة، وأحرى بها أنْ تكون من أعاجيب التاريخ القضائي.

لقد تناول هذا القسم أقضية الإمام في أربعة فصول، توفّر كلّ واحد منها

٣٣

على بُعد. فقد مرَّ في البدء على الموقع القضائي الذي يحظى به الإمام، وأنّه (أقضى الأُمّة) بمقتضى صريح كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ انعطف إلى بيان أمثلة لأقضية عليّ (عليه السلام) على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، متابعاً لها وهي تتوالى في عهد خلافته الراشدة؛ لتكشف بأجمعها عن عِلمٍ واسع عميق، وصلابة ماضية في السلوك، وثبات راسخ، وإيثار الحقّ على ما سِواه، والدفاع عن الحقيقة في خِضَمّ الحياة.

القسم الثالث عشر: آيات الإمام عليّ

الإنسان خليفة الله في الأرض. والأبعاد المعنويّة هي أسمى مظهر باهر يتألّق في شخصيّة الإنسان، وإذا ما ارتقى الإنسان على هذا الخطّ وصار قريباً إلى الله عِبر السلوك المعنوي، فسيكون كلّ ما يصدر عنه مُذهلاً عجيباً، وتصير حياته وتعاطيه مع الوجود (تجلّيات) للقدرة الإلهيّة.

حين تُبصر عليّاً (عليه السلام) في هذا المجال تجده (ممسوساً في ذات الله) على حدّ ما نصّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصفه، وهو أدرى الناس به، وعليّ ثمرة لتربية الرسول. ومن ثَمَّ كان حرِيّاً بحياته أنْ تكون - ولا تزال - مشرقة بأكثر تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني) نوراً ووضاءة.

لقد توفّرت فصول هذا القسم على الإيماء إلى أمثلة للقدرة المعنويّة الباهرة، والولاية التكوينيّة التي يحظى بها الإمام، ومرّت على بعض تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني)، وما يشعّ به وجوده من مظاهر القدرة والعظَمة الإلهيّة.

٣٤

كان من بين المحطّات التي لبثَتْ عندها فصول هذا القسم: أمثلة لإجابة الدعوات، وإخبار الإمام بالمغيّبات، وبعض ما له من كرامات مثل (ردّ الشمس) التي تعدّ منقبة تختصّ به وحده، وفضيلة تبعث على الدهشة، وتدعو إلى العجَب.

هذا القسم في حقيقة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رحلة تطوف معه؛ لتُبرز بُعده المعنوي في التعامل مع أُفق الوجود، وتؤشّر إلى موقعه المُنيف في معارج الصعود، وما يحظى به هذا الإنسان الربّاني من مكانة عظيمة على مهاد الأرض، كما تكشف عن دَوره كـ (خليفة إلهي).

القسم الرابع عشر: حبّ الإمام عليّ

الجمال حبيب إلى الإنسان، والإنسان يهفو إلى الجمال، ولن تجد إنساناً يصدّ عن الجمال أو تنكفِئ نفسه عن المكرَمات والفضائل السامقة، أو يُشيح عن المُثل العليا.

هو ذا عليٌّ (عليه السلام) مصدر جميع ضروب الجمال، يتفجّر وجوده بالكمال، وتحتشد فيه جميع الفضائل والمكارم والقِيَم، فأيُّ إنسانٍ يُبصر كلّ هذا التألّق ولا يشدو قلبه إلى عليٍّ حبّاً وإيماناً؟ وأيُّ إنسانٍ له عين بصيرة ويعمى عن ضوء الشمس؟.

دَعْ عنك أُولئك النفر الذين ادلهمّت نفوسهم بظلمةٍ حالكة، فعميت أبصارهم عن رؤية هذا الجمال الباهر الممتد، ولم يُبصروا مظاهره الخلاّبة.

٣٥

وإلاّ لو خُلّيَ الإنسان وإنسانيّته لأُلفي باحثاً عن الجمال أبداً متطلّعاً إليه على الدوام.

كذلك هو عليّ أحبُّ الخلْق إلى الله خالق الجمال وواهب العظمة. كما هو الأحبّ عند الملائكة وعند رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وهل يكون هذا إلاّ لجوهر الذات العلَويّة، وللمكانة المكينة التي يحظى بها هذا الإنسان الملكوتي الذي تتقرّب الملائكة - أيضاً - إلى الله بمحبّته؟.

إنّ لحبّ عليّ في ثقافتنا الدينيّة شأناً عظيماً يُبهِر العقول، ويبعث على التأمّل.

وما نهض به هذا القِسم أنّه وثَّقَ لهذه الحقيقة نصوصَها. وقد جاءت النصوص تُفصح دون مواربة ولَبْس أنّ حبّ عليّ حبٌّ لله ولرسوله، وتسجِّل بنصاعة وضّاءة أنّ حبّ عليّ (نعمة) و(فريضة) و(عبادة)، وهو (العروة الوثقى) و(أفضل العمل) و(عنوان صحيفة المؤمن).

فحبُّه إذاً من دين الله بالصميم.

ومع أنّ هذا القِسم لا يدّعي أنّه قد استقصى كلّ النصوص الروائيّة التي لها مَساس بعليّ (عليه السلام) في هذا المجال، إلاّ أنّ ما توفّر على ذِكره أسفَر بوضوح: أنّ حبّ عليّ هو السبيل إلى بلوغ حقائق المعرفة الدينيّة، وهو الذي يشيع السكينة في أرجاء الحياة، وبحبّ عليّ يكتمل الإيمان والعمل، وبه تُرفع أعمالنا مقبولة إلى الله سبحانه، وبحبّ عليّ يستجاب الدعاء وتُغفر الذنوب.

٣٦

وبحبّ عليّ (عليه السلام) تنتشر نسائم السرور على الإنسان عند الموت، وحبّ عليّ لُقيا يُبصِر بها المحتضر وجه المولى عند الممات، وحبّ عليّ جواز لعبور الصراط وللثبات عليه، وهو الجُنّة التي تقي نار جهنّم.

ومِسك الختام: أنّ حبّ عليّ هو الحياة الطيّبة في جنّة الخُلد.

إنّ كلّ ذلك لا يكون إلاّ بحبّ عليّ، وفي ظلال حبّ عليّ (عليه السلام).

لم تتردّد النصوص الروائيّة لحظة وهي تسجّل بثبات راسخ أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) هو دليل طهارة المولد، وعلامة على الإيمان والتقوى، وهو عنوان شهرة الإنسان ومعروفيّته في السماوات وعند المَلأ الأعلى، وهو رمْز السعادة.

وبعدُ، فإنّ كلّ هذا الحشد مِن التأكيد على الحبّ العلَوي، ووصْله برباطٍ وثيق مع الحبّ الإلهي، وبحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لهُوَ دليل شاخص على أنّ الحبّ المحمّدي الصحيح لنْ يكون ممكناً من دون الحبّ العلَوي. وما ادّعاء حبّه (صلّى الله عليه وآله) من دون حبّ عليّ (عليه السلام) إلاّ عبَث جزاف ودعوة باطلة.

على أنّ هذا القِسم يعود ليكشف في جوانب أخرى على أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) ما كان شعاراً يُرفع وحديثاً يُفترى، بل هو أُسوة يقتدي فيها المحبّ بحياة عليّ، يلتمس هدْيَه في خُطاه، يعيش كما يعيش، ويفكّر كما يفكّر، ويمارس معايير عليّ في الحبّ والولاء، وفي البُغض والبراءة، ويَحثو خُطاه صَوب قِيَمه دائماً وأبداً، وإلاّ كيف يجتمع حبّ عليّ مع حياة سفيانيّة ونهجٍ أُمَويّ؟.

٣٧

آخِر ما يشدّ إليه الانتباه في مادّة هذا القِسم هو التحذير من الغلُوّ؛ فمع كلّ هذا التركيز المكثّف العريض على حبّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإلى جوار هذه الإشادة بالآثار العظيمة التي يُغدقُها هذا الحبّ على الحياة الماديّة والمعنويّة، جاءت التعاليم النبويّة والعلَويّة والدينيّة تشدّد النكير، وتُعلِن التحذير الكبير من الغلُوِّ بهذا الحبّ. فها هيَ ذي النصوص الحديثيّة تنهى عن الإفراط وتذمّه، وتعدّه انحرافاً يُهيّئ الأجواء إلى انحرافات أكبر.

القِسم الخامس عشر: بُغْض الإمام عليّ

على قدَر ما تكون شخصيّة عليّ الطالعة المهيبة بالغة الروعة والجمال لذوي النفوس الزكيّة، موحِية أخّاذة لذوي الأفكار الرفيعة، محبوبة خلاّبة لذوي الفِطَر النقيّة والطِباع الكريمة، فهي تثير الغيظ في النفوس المدلهمّة المظلمة، وتستجيش عداوة الوصوليّين النفعيّين، وبغضاء ذوي الأغراض الدنيئة الهابطة، والنوازع المنحطّة.

إنّ التاريخ يجهر أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب كانوا من حيث التكوين الروحي سُقَماء غير أسْوياء نفسيّاً، ومن حيث التكوين الفكري كانوا منحرفين بعيدين عن الصواب. أمّا من حيث مكوّنات الشخصيّة فقد كانوا أُناساً تستحوذ عليهم الأنانيّة والإثْرة، يُنبئ باطنهم عن الفساد والأغراض الهابطة.

هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يستشرف مستقبل الإسلام عِبر مرآة الزمان، يعلم بالفِتن ويعرف مثيريها وأصحابها. وهو ذا يؤكّد في كلّ موقعٍ موقع من

٣٨

أشواط حياته المملوءة عزماً وتوثّباً والتزاماً على حبّ عليّ بن أبي طالب، ويحذّر الناس من بُغضه، وينهاهم عن عداوته وشنآنه.

يسجّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصراحة لا يشوبها لَبْسٌ، أنّ بُغض عليّ بن أبي طالب كُفر، وأنّ مَن آذى عليّاً فقد آذاه.

ليس هذا وحده، بل مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرسم ثغور الجبهة الاجتماعيّة ويحدّد اصطفافاتها العامّة، بما يُظهر أنّ مَن هو مع عليّ وعلى حبّ عليّ، فهو مع النبيّ نفسه، ومَن يناهض عليّاً ويُعاديه فموقعه في الجبهة التي تعادي النبي وتُناهض رسالته.

لقد أفصحت النصوص المعتبرة عند الفريقين ممّا تقصّاها هذا القِسم، على أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب بعيدون عن رحمة الله سُبحانه، وأنّ خسرانهم وسوء منقلبهم أمرٌ قطعيّ لا ريب فيه. فمَن يمُت على بُغض عليّ (عليه السلام) يمُت ميتةً جاهليّة، وبُغْض عليّ علامة تُجهر بنفاق صاحبها وفِسقه وشقائه.

وإذا كان بُغْض عليّ (عليه السلام) يستتبع ميتة جاهليّة؛ فإنّ إنساناً كهذا لنْ ينتفع شيئاً من تظاهره بالإسلام، وهو يُحشَر في القيامة أعمى، ليس من مصير يؤول إليه سوى نارُ جهنّم.

يضع هذا القسم بين يدَي القارئ نصوصاً حديثيّة وروائيّة كثيرة، فيها دلالة على ما سلفت الإشارة إليه. وهو - علاوة على ذلك - يعرّف بعدد من ألدّ أعداء الإمام وأعنف المُبغضين له، كما يمرّ على جماعة من

٣٩

المنحرفين عنه، وعلى القبائل التي كانت تكنُّ له البغضاء، ولا غرابة فقد قيل: (تُعرف الأشياء بأضدادها).

هذا عليٌّ، ولا يلحَق به لاحِق، واسمه الآن يصدح عِبر أُفُق المكان والزمان، ويعلو شاهقاً على ذُرى التاريخ، وهذه تعاليمه وكلماته مسفرة كضوء الفجْر متألّقة على مدار الزمان.

أمّا والأمر كذلك؛ فقد كان حريّاً بهذا القِسم أنْ يلبَث عند تلك الجهود المحمومة كاللهب، وعند تلك الصدور الموبوءة بالحقد، وقد نفثت أحقادها علّها تُطفئ الشعلة المتوقّدة، أو عساها تنال مِن وهَجها شيئاً؛ حتى تستيقن النفوس بوَعد الله الذي وعَده، وكي لا يستريب أحدٌ بقوله سبحانه: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) . وهكذا كان.

القسم السادس عشر: أصحاب الإمام عليّ وعمّاله

مع هذا القسم يُختَتم الكتاب ويبلُغ نهايته. بعد أنْ لبَث القارئ مع خمسة عشَر قسماً من الموسوعة، وصار على معرفة واسعة ممتدّة بمختلف أبعاد حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المملوءة بالتعاليم الواعية البنّاءة، التي تُنير الحياة وتفتح المغاليق، بعد هذا كلّه آنَ له أنْ يرحل في هذا القسم مع جولة تطوف به على عِدّة من أصحاب عليّ (عليه السلام) وعمّاله، يتعرّف عليهم وينظر إليهم عن كثَب.

____________________

(1) الصفّ: 8.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311