موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ18%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59993 / تحميل: 7773
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل الأوّل

  المؤازرة على الدعوة

بدأت الدعوة سرّية، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوَت إليها أفئدة ثُلّة من الناس؛ إقبالاً منها على تلك الرسالة الحقّة. وكان عليّ (عليه السلام) أوّل من آمَن بها من الرجال، وشهد بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) (١)، ثمّ تبِعَه آخَرون....

وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) ؛ إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين.

فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) بإعداد الطعام وإقامة مأدَبة خاصّة؛ ليجتمع آل عبد المطّلب، فيبلّغهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) برسالته، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك؛ بسبب ضجيج أبي لهب ولَغَطِه، ثمّ أعاده عليهم في غدِ ذلك اليوم، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمد الله تعالى، وقال:

____________________

(١) راجع: القسم العاشر / الخصائص العقائديّة / أوّل مَن أسلم.

(٢) الشعراء: ٢١٤

١٤١

(إنّ الرائد لا يكذب أهله و...)

وانتهى كلامه، ولم ينهض مُعلناً عن متابعته ومرافقته (صلّى الله عليه وآله) والإيمان برسالته الإلهيّة إلاّ عليّ (عليه السلام)؛ حيث قام وصدَح بذلك، فأجلَسه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتكرّر هذا الموقف للمرّة الثانية والثالثة، فقال (صلّى الله عليه وآله):

(اجلس؛ فأنت أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي من بعدي)،

وخاطب الحاضرين بقوله:

(إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي عليكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه).

إلاّ أنّ ذوي الضمائر السود، والقلوب العليلة، والأبصار العُمي، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ، ولجّوا وكابَروا وعتَوا عن الكلام النبويّ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً. لكنّ الحقّ عَلا، وطار كلامه (صلّى الله عليه وآله) في الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عُظمى إلى جانب فضائله (عليه السلام)، وتبلور سنَد متين؛ لإثبات ولايته إلى جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة، وأعلن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهْر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده، وأودع ذلك ذمّة التاريخ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبويّ.

وقال (صلّى الله عليه وآله) كلمته: (فاسمعوا له وأطيعوه) في وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تُعِرْه آذاناً صاغية، فمن البيِّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته (صلّى الله عليه وآله)، ويعتقد بحُجّية كلامه.

١٠٩ - الإمام عليّ (عليه السلام) :(لمّا نزلت هذه الآية علي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا عليّ، إنّ الله أمَرني أنْ أُنذِر عشيرتي

١٤٢

الأقربين، فضُقتُ بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّك إنْ لا تفعلْ ما تؤمَر به يعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً مِن طعام، واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عُسّاً (١) من لبَن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأبلّغهم ما أُمِرت به.

ففعلتَ ما أمَرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حِذْيةً (٢) مِن اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصَّحْفة (٣) .

ثمّ قال: خُذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفْسُ عليٍّ بيده، وإنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم.

ثمّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يكلّمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدّ (٤) ما سحرَكُم صاحبكم! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: الغدُ يا عليّ، إنّ هذا الرجل سبقَني إلى ما قد سمعت مِن القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فعُدْ لنا من الطعام بمِثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إليّ.

____________________

(١) العُسّ: القدح الكبير (النهاية: ٣ / ٢٣٦).

(٢) الحِذْية: أي قطعة. قيل: هي - بالكسر - ما قُطع من اللحم طولاً (النهاية: ١ / ٣٥٧).

(٣) الصَّحْفَة: إناء كالقَصْعة المبسوطة ونحوها (النهاية: ٣ / ١٣).

(٤) لَهَدّ: كلمة يُتعجّب بها (النهاية: ٥ / ٢٥٠).

١٤٣

قال: ففعلتُ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمْس، فأكلوا حتى ما لهم بشيءٍ حاجة.

ثمّ قال: اسقِهم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به؛ إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحْجَم القوم عنها جميعاً، وقلت:... أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقَبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع) (١) .

١١٠ - عنه (عليه السلام): (لمّا نزلت: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) . .. دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب وهُم إذ ذاك أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فقال: أيّكم يكون أخي ووصيّي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرَض عليهم ذلك رجلاً رجلاً، كلّهم يأبى ذلك، حتى أتى علَيَّ، فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطّلب! هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٣١٩-٣٢١، تاريخ دمشق: ٤٢/٤٨/٨٣٨١، تفسير الطبري: ١١/الجزء١٩/١٢١، شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢١٠، شواهد التنزيل: ١ / ٤٨٦ / ٥١٤ كلّها عن عبد الله بن عبّاس وص ٥٤٣ / ٥٨٠ عن البراء من دون إسناد إلى المعصوم نحوه، الكامل في التاريخ: ١ / ٤٨٧، كنز العمّال: ١٣ / ١٣١ / ٣٦٤١٩ وص ١١٤ / ٣٦٣٧١، الأمالي للطوسي: ٥٨٢ / ١٢٠٦ عن عبد الله بن عبّاس وفيه (ووزيري) بعد (وصيّي)، تفسير فرات: ٣٠١ / ٣٠٦ وص ٢٩٩ / ٤٠٤ عن جعفر بن محمّد بن أحمد بن يوسف، مجمع البيان: ٧ / ٣٢٢ عن البراء بن عازب وكلاهما نحوه، بحار الأنوار: ٣٨ / ٢٢٣ / ٢٤، وراجع السيرة الحلبيّة: ١ / ٢٨٥، وتفسير القمّيّ: ٢ / ١٢٤، والإرشاد: ١ / ٤٨.

١٤٤

وخليفتي فيكم بعدي) (١) .

١١١ - شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسكافي: قد روي في الخبر الصحيح أنّه (صلّى الله عليه وآله) كلّفه (عليه السلام) في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكّة أنْ يصنع له طعاماً، وأنْ يدعو له بني عبد المطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم يُنذرهم (صلّى الله عليه وآله)؛ لكلمة قالها عمّه أبو لهب، فكلّفه في اليوم الثاني أنْ يصنع مثل ذلك الطعام، وأنْ يدعوهم ثانية، فصنعه، ودعاهم فأكلوا.

ثمّ كلّمهم (صلّى الله عليه وآله) فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم؛ لأنّه من بني عبد المطّلب، ثمّ ضمن لمَن يؤازره منهم وينصره على قوله أنْ يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده، وقال: (أنا أنصرك على ما جئت به، وأوازرك وأُبايعك)، فقال لهم - لمّا رأى منهم الخذلان، ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعايَن منهم الإباء ومنه الإجابة: (هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي)، فقاموا يسخرون ويضحكون، ويقولون لأبي طالب: أطِع ابنك؛ فقد أمّره عليك (٢) .

١١٢ - الإرشاد: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جمع خاصّة أهله وعشيرته في ابتداء الدعوة إلى الإسلام، فعرَض عليهم الإيمان، واستنصرهم على أهل الكُفر والعدوان، وضمِن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا، والشرف وثواب الجنان، فلم يُجِبه أحد منهم إلاّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فنحَلَه بذلك تحقيق الأخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة، وأوجب له به الجنّة.

____________________

(١) علل الشرائع: ١٧٠ / ٢ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وراجع كنز العمّال: ١٣ / ١١٤ / ٣٦٣٧١.

(٢) شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢٤٤.

١٤٥

وذلك في حديث الدار، الذى أجمع على صحّته نُقّاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلاً، يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أنْ يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذْعة (١) في مقام واحد، ويشرب الفَرَق (٢) من الشراب في ذلك المقام، وأراد (عليه السلام) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبْعهم وريّهم ممّا كان لا يُشبِع الواحد منهم ولا يرويه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتى تملّئوا منه، فلم يَبِن ما أكلوه منه وشربوه فيه؛ فبهرَهم بذلك، وبيّن لهم آية نبوّته، وعلامة صِدْقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثمّ قال لهم بعد أنْ شبعوا من الطعام ورُووا من الشراب: (يا بني عبد المطّلب! إنّ الله بعثَني إلى الخلْق كافّة، وبعثني إليكم خاصّة، فقال عزّ وجلّ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأُمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون بهما من النار: شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله، فمن يجِبْني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يُجِب أحد منهم).

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فقمتُ بين يديه من بينهم... فقلت: أنا - يا رسول الله - أُؤازرك على هذا الأمر، فقال: اجلس، ثمّ أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا،

____________________

(١) الجَذَع: من أسنان الدوابّ؛ وهو ما كان شابّاً فتيّاً (النهاية: ١ / ٢٥٠).

(٢) الفَرَق: مكيال يسع ستة عشر رِطلاً؛ وهي اثنا عشر مُدّاً (النهاية: ٣ / ٤٣٧).

١٤٦

وقمتُ فقلت مثل مقالَتي الأُولى، فقال: اجلس. ثمّ أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أُؤازرك - يا رسول الله - على هذا الأمر، فقال: اجلس؛ فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي).

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب! لِيَهْنِك اليوم إنْ دخلْتَ في دين ابن أخيك؛ فقد جعل ابنك أميراً عليك (١) .

نكتة:

جاء في بعض النصوص التاريخيّة والحديثيّة: أنّ نزاعاً وقع بين الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والعبّاس بن عبد المطّلب بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على إرثه، فزعَم العبّاس أنّ أموال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) له؛ فتحاكما إلى أبي بكر، فخاطب أبو بكر العبّاس مشيراً إلى يوم الدار، وقال:

(أُنشدك الله، هل تعلم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جمع بني عبد المطّلب وأولادهم وأنت فيهم، وجمعكم دون قريش فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّه لم يبعث الله نبيّاً إلاّ جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً في أهله، فمَن يقوم منكم يبايعنى على أنْ يكون أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في أهلي؟... فقام عليّ من بينكم فبايعه على ما شرط له ودعاه إليه. أتعلم هذا له من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ قال: نعم) (٢) .

____________________

(١) الإرشاد: ١ / ٤٨، كشف اليقين: ٤٧ / ٢٥، إعلام الورى: ١ / ٣٢٢، السيرة الحلبيّة: ١ / ٢٨٦.

(٢) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٥٠ / ٨٣٨٢، شواهد التنزيل: ١ / ٥٤٥، نهج الإيمان: ٢٤٠، شرح الأخبار: ١ / ١٢٢ / ٥٠، الاحتجاج: ١ / ٢٣٠ / ٤٣، الدرجات الرفيعة: ٩١، بشارة المصطفى: ٢٢٠.

١٤٧

حيث يُستشفّ من هذا الخبر أنّ أبا بكر كان يعرف قضيّة (إنذار العشيرة)، ويعلم ويعترف بها ويراها حجّةً. وأصل هذه الحادثة وطرح الدعوى بالشكل المذكور يثير التساؤل، فالنقطة التي لم يُلْتَفَتْ إليها هي: لماذا رجع الإمام (عليه السلام) وعمّه العبّاس إلى الخليفة؟ وهل هذا الخلاف صحيح من أساسه؟ فقد كان للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند وفاته بنت، وزوجات أيضاً، فلا نصيب للعمّ وابن العمّ حتى يدّعيا الإرث... ومن الواضح أنّ أمواله (صلّى الله عليه وآله) تؤول إلى بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبعد استشهادها تنتقل إلى أولادها، فأصل ادّعاء العبّاس بن عبد المطّلب لا يصحّ، فلِمَ ادّعى ذلك إذن، وتحاكم إلى الخليفة؟!.

نُقل عن أبي رافع أنّ العبّاس قال لأبي بكر بعد كلامه المذكور:

(فما أقعدك مجلسك هذا؟ تقدّمته وتأمّرت عليه! فقال أبو بكر: أغدراً يا بني عبد المطّلب!) (١) .

نفهم من هذا النصّ أنّ العبّاس قد افتعل بذكاء هذا الموضوع؛ ليُذكِّر أبا بكر بمَن هو أهل للخلافة، وينبزه بابتزازها. ومثل هذه التصرّفات كانت تنتشر وتشتهر بسرعة؛ لمكانة العبّاس ومنزلته. وهكذا أيضاً كان حوار عبد الله بن عبّاس وعُمَر بن الخطّاب، فقد ذَكَّر ابنُ عبّاس عُمَر بأهليّة الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) للخلافة، فغضب عمَر، وقال:

(إليك يا بن عبّاس! أتريد أنْ تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ مع أبي بكر يوم دخَلا عليه؟) (٢) .

____________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب: ٣ / ٤٩، المسترشد: ٥٧٧ / ٢٤٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٤٩.

١٤٨

تحريف التاريخ في قضيّة المؤازرة

إنّ ما أوردناه هو عين ما نقله المؤرّخون، والمحدّثون، والمفسّرون بطُرُق مختلفة وأسانيد متنوّعة، وسيأتي في الصفحات القادمة (١)، وهو ما ذكره الطبري أيضاً في تاريخه مفصّلاً، بَيد أنّه في تفسيره بعد أنْ نقل الرواية بنفس السند الوارد في تاريخه، غيّر فيها فقال: (على أنْ يكون أخي وكذا وكذا (بدل) على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم)، وأباح لنفسه تحريف الكلام النبوي وهو يواصل كلامه، فقال: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوه (مكان) إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه)! (٢).

____________________

(١) ذكَر العلاّمة الأمين رضوان الله عليه الصوَر المختلفة لنقل الحادثة في موسوعته الثمينة النفيسة (الغدير)، وناقش أسنادها وما دلّ عليها. والأخبار في ذلك ثابتة راسخة لا تقبل الترديد، انظر الغدير: ٢ / ٢٧٨ - ٢٨٩، ويعود ذلك حتماً إلى أنّ أعداء الحقّ تطاوَلوا على تحريفها، أو أنّهم أكرهوا المؤرّخين على ذلك.

(٢) تفسير الطبري: ١١ / الجزء ١٩ / ١٢٢.

١٤٩

ومن الطبيعي أنْ يكون نقل الطبري مثاراً للتساؤل ومدعاة للتأسّف! والتأمّل فيه يدلّ على أنّه كان مُكرَهاً متحكَّماً فيه، وإلاّ فماذا يعني قوله: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له...)؟! عِلماً أنّ قوله: (فاسمعوا له وأطيعوه) ينطوي على مكنون سِرّ يُشعِر بحذف لروح الكلام ولُبابه!.

وقد حذا ابن كثير حذْو الطبري أيضاً، فنقل ذلك في تفسيره، وتاريخه، وسيرته النبويّة بالنحو الذي أورده الطبري في تفسيره، أي بشكلِه المقطّع، وهذا ما يُثير الدهشة والعجب؛ إذ إنّ (تاريخ الطبري) أهمّ مصدر ومرجع اعتمد عليه ابن كثير في (البداية والنهاية) (١) .

وذكر الكاتب المصري محمّد حسين هيكل تلك الحادثة في الطبعة الأُولى من كتابه (حياة محمّد)، مع حذف لمواضع منها، لكنّه حذَف الخبر كلّه في الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات! (٢).

وحاول ابن تيميّة أيضاً أنْ يطعن في السنَد، وأحياناً في المتن، وامترى في أصل الحادثة، وقد رُدَّ عليه بأجوبة مفصّلة (٣).

____________________

(١) البداية والنهاية: ٣ / ٤٠، تفسير ابن كثير: ٦ / ١٨٠، السيرة النبويّة لابن كثير: ١ / ٤٥٩.

(٢) حياة محمّد الطبعة الأُولى: ١٠٤ وقارنه مع الطبعة الثانية: ١٤٢.

(٣) تناول العلاّمة المظفّر، والأستاذ السيّد جعفر مرتضى العاملي هذا الموضوع مفصّلاً. انظر دلائل الصدق: ٢ / ٢٣٤ فما بعدها، والصحيح من سيرة النبيّ: ٣ / ٦٥.

١٥٠

الفصل الثاني

  الصعود على منكِبَيّ النبيّ لكَسْر الأصنام

كانت الكعبة رمز التوحيد على طول التاريخ. وعندما بُعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهداية الأمّة، كان الجاهليّون قد ملئوا بيت التوحيد هذا بأصنام وأوثان شتّى من وحيِ جهْلهِم وزَيغهم الفكري، فلوّثوه بالشِرك عِبر هذا العمل السفيه؛ ولذا اهتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بإزالة كلّ هذا القُبح والشذوذ، وأخذ عليّاً (عليه السلام) معه لتطهير مركز التوحيد من مظاهر الشِرك.

فصعد (عليه السلام) على منكِبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وألقى صنم قريش الكبير - وقيل: هو صنم خزاعة - من على سطح الكعبة إلى الأرض. وهذه الفضيلة العظيمة المتمثّلة بتحطيم الأصنام صعوداً على منكبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تفرّد بها عليّ (عليه السلام) دون غيره على امتداد التاريخ.

وهي فضيلة لا نظير لها، وموهبة لا يشاركه فيها أحد.

١١٣ - الإمام عليّ (عليه السلام):(لمّا كان الليلة التي أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ أبيت على فراشه وخرج من مكّة مهاجراً، انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الأصنام فقال:

١٥١

اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة، ثمّ صعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على منكبَي ثمّ قال: انهض، فنهضت به فلمّا رأى ضعفي تحته قال: اجلس، فجلست فأنزلته عنّي وجلس لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ قال لي: يا عليّ، اصعد على منكِبَي فصعدت على منكبَيه، ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخُيّل إليّ أنّي لو شئت نِلتُ السماء، وصعدت إلى الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فألقَيتُ صنمهم الأكبر، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالجْه فعالجت فما زلت أُعالجه ويقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إيهٍ إيه، فلم أزَل أُعالجه حتى استمكنتُ منه فقال: دقّه، فدققته فكسّرته ونزلت) (١) .

١١٤ - المستدرك على الصحيحين عن أبي مريم عن الإمام عليّ (عليه السلام): (انطلَق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى أتى بي الكعبة، فقال لي: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة فصعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بمنكِبَي، ثمّ قال لي: انهض، فنهضت، فلمّا رأى ضعفي تحته قال لي: اجلس، فنزلت وجلست، ثمّ قال لي: يا عليّ اصعد على منكبَي، فصعدت على منكبَيه ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا نهض بي خُيّل إليّ لو شئت نِلت أُفق السماء، فصعدت فوق الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: ألقِ صنمهم الأكبر - صنم قريش - وكان من نحاس موتداً بأوتادٍ من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالِجْه ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لي: إيهٍ إيه ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) (٢) فلم أزل أُعالجه حتى استمكنت منه، فقال: اقذفه، فقذفته فتكسّر، وتردّيت من فوق الكعبة، فانطلقت أنا

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٦ / ٤٢٦٥، تاريخ بغداد: ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢ كلاهما عن أبي مريم وفيه من (انطلَق بي...).

(٢) الإسراء: ٨١.

١٥٢

والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) نسعى وخشينا أنْ يرانا أحد من قريش وغيرهم. قال عليّ: فما صعد به حتى الساعة) (١) .

١١٥ - الإمام عليّ (عليه السلام) - لأبي بكر: (أُنشدك بالله، أنت الذي حمَلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على كتفَيه في طرح صنم الكعبة وكسْره حتى لو شاء أنْ ينال أُفُق السماء لنالها أمْ أنا؟) قال: بل أنت (٢) .

تحقيقٌ و تمحيص

إنّ الأخبار المنقولة حول هذه الحادثة بالغة الكثرة، فقد نقلها أئمّة الحديث، والتاريخ، والحُفّاظ - على حدّ تعبير العلاّمة الجليل الشيخ الأميني (٣) - بدون أنْ يطعنوا في أسانيدها ويشكّوا في نقلها. وما يتطلّب قليلاً من البحث، ويحتاج إلى التحقيق والتمحيص والتوضيح هو زمن الحادثة، فإنّ تبويب الأخبار الكثيرة المنقولة في هذا المجال يدلّ على أنّها تنقسم إلى أربعة أقسام:

١ - بعض الأخبار - وهي كثيرة جدّاً - لم تصرّح بزمن وقوع الحادثة، وجاء في آخرها أنّ الإمام قال: (... فقذفت به [أحد الأصنام] فتكسّر كما تتكسّر

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧، مسند ابن حنبل: ١ / ١٨٣ / ٦٤٤، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ٢٢٥ / ١٢٢، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): ٢٣٧ / ٣٢ و ح ٣٣، مسند أبي يعلي: ١ / ١٨٠ / ٢٨٧ وزاد في آخرهما (فلم يرفع عليها بعد)، المناقب للخوارزمي: ١٢٣ / ١٣٩، المناقب لابن المغازلي: ٤٢٩ / ٥، المناقب للكوفي: ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥.

(٢) الخصال: ٥٥٢ / ٣٠ عن أبي سعيد الورّاق، الاحتجاج: ١ / ٣١١ / ٥٣ كلاهما عن الإمام الصادق عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام).

(٣) الغدير: ٧ / ١٠.

١٥٣

القوارير، ثمّ نزلتُ، فانطلقت أنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) نستبق حتى توارَينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس) (١).

٢ - أخبار أخرى تُشير إلى أنّها كانت في ليلة خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة (٢) .

٣ - أخبار أخرى تنصّ على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج مع الإمام (عليه السلام) من بيت خديجة، ثمّ عادا إلى البيت بعد كسْر الأصنام (٣) .

٤ - خبر آخر نصّ على أنّها تزامنت مع فتح مكّة (٤) .

وتدلّ الطوائف الثلاثة الأُولى من هذه الأخبار على أنّ الحادثة كانت قبل الهجرة، وفي ذروة الإرهاب الذي مارسه المشركون ضدّ المسلمين، والظنّ القويّ يدعم هذا الرأي، مع أنّه لا يستبعد وقوعها مرّتين، أي قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهذه الحركة العظيمة المضادّة للشِرك ومعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في ذلك الجوّ الإرهابي الخانق المظلم قبل الهجرة. ومن الجليّ أنّ المشركين الذين كانت مكّة والمسجد الحرام والكعبة تحت تصرّفهم، قد أعادوا الأصنام إلى مكانها، ودنّسوا بها الكعبة، ثمّ وبعد فتح مكّة تكرّرت تلك الحركة التطهيرية العظيمة للمرّة الأخيرة.

____________________

(١) مسند ابن حنبل: ١ / ١٨٣ / ٦٤٤، المستدرك على الصحيحين: ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ٢٢٥ / ١٢٢، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): ٢٣٧ / ٣٢ و٣٣، مسند أبى يعلي: ١ / ١٨٠ / ٢٨٧، المناقب لابن المغازلي: ٤٢٩ / ٥، المناقب للخوارزمي: ١٢٣/١٣٩، المناقب للكوفي: ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥، وراجع تاريخ بغداد: ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢، ومجمع الزوائد: ٦ / ٢١ / ٩٨٣٦، والخصال: ٥٥٢ / ٣٠، والاحتجاج: ١ / ٣١١ / ٥٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٦ / ٤٢٦٥.

(٣) الفضائل لابن شاذان: ٨٣، بحار الأنوار: ٣٨ / ٨٤ / ٤.

(٤) المناقب لابن المغازلي: ٢٠٢ / ٢٤٠٠، العمدة: ٣٦٤ / ٧١٠.

١٥٤

واحتمل بعض المحدّثين والعلماء هذا التعدّد: فالعلاّمة المجلسي الذي تحدّث في موضع من كتابه (بحار الأنوار) عن فتح مكّة، أشار في موضع آخر إلى أخبار أخرى، وقال:

(أمّا كون كسر الأصنام في فتح مكّة فلا يظهر من هذا الخبر، ولا من أكثر الأخبار الواردة فيه، بل صريح بعض الأخبار وظاهر بعضها كون ذلك قبل الهجرة، فيمكن الجمع بينهما بالقول بتعدّد وقوع ذلك) (١) .

ونقل أحمد بن محمّد بن عليّ بن أحمد العاصمي (م ٣٧٨) أحد أُدباء القرن الرابع وعُلمائه بخراسان أيضاً هذا الاحتمال (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٥٩ / ١٣٨.

(٢) زين الفتى: ١ / ١٥٩.

١٥٥

١٥٦

الفصل الثالث

  الإيثار الرائع ليلة المبيت

قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (١) .

انتشر دين الله في شبه الجزيرة العربيّة شيئاً فشيئاً، وعَلا الأذان المحمّدي، وانعكس صداه في أرجاء منها، وكانت (يثرب) من المدن التي سمعت نداء الحقّ، وقد التقى عدد من أهلها برسول الله (صلّى الله عليه وآله) في موسم الحجّ، وعاهدوه سِرّاً (٢) .

ومن جهة أخرى زاد المشركون ظلمهم وجَورهم، وبلغوا ما بلغوا في تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس، واشتدّ أذاهم للمسلمين، فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالهجرة إلى يثرب.

____________________

(١) البقرة: ٢٠٧.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ٢ / ٣٠١، الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢١، دلائل النبوّة للبيهقي: ٢ / ٤٣٠ - ٤٣٣.

١٥٧

من هنا، هاجر المسلمون إلى يثرب تخلّصاً من جَور المشركين واضطهادهم، وقد بذل المشركون قُصارى جهدهم للحؤول دون الهجرة، بَيد أنّ رجالاً كثيراً تركوا ما عندهم في مكّة وغادروها على عجَل، ففزع المشركون لذلك؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلْق غفير من أهل يثرب، وحصل المسلمون على دعمٍ من بعضهم، وخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة والتحق بهم، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمْنهم وخاصة قوافلهم التجاريّة؛ ولذا عزموا على تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لا يزال بمكّة.

فاجتمعوا وتشاوروا، فتصافقوا على قتْله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ لم يكن إخراجه أو حبْسه مُجدياً. واطّلع (صلّى الله عليه وآله) على مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحي، فكُلِّف بالخروج من مكّة (١) ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) .

وقد قام المشركون بتطويق داره (صلّى الله عليه وآله)، بعد تداولهم في خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهي أمره إلى الأبد.

فاقترح (صلّى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام) أنْ يبيت في فراشه تلك الليلة، فسأله: (أوَ تسلم يا رسول الله؟) قال: (نعم).

فرحّب الإمام (عليه السلام) بهذا الاقتراح موطّناً نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً (٣) ، وسجد سجدة الشُكر على هذه الموهبة العظيمة (٤) .

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٧، الأمالي للطوسي : ٤٦٥ / ١٠٣١.

(٢) الأنفال: ٣٠.

(٣) الأمالي للطوسي : ٤٤٧ / ٩٩٨ و ح ٩٩٩، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٩، وراجع المناقب للكوفي: ١ / ١٢٤ / ٦٩، والمستدرك على الصحيحين: ٣ / ٥ / ٤٢٦٤.

(٤) الأمالي للطوسي : ٤٦٥ / ١٠٣١، المناقب لابن شهر آشوب: ١ / ١٨٣.

١٥٨

والتحف بالبُرد اليماني الأخضر الذي كان يلتحف به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند نومه، ونام مطمئنّاً في فراشه (صلّى الله عليه وآله) (١) .

لقد عبّر الإمام (عليه السلام) بهذا الموقف عن غاية شجاعته، وجسّدها وصدع بها عمليّاً؛ إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره.

وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلى الاستحسان والإعجاب به.

وباهى الله سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات (٢) ، فأنزل الآية الكريمة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ... ) ؛ لتخليد هذه المنقبة، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة في أروقة التاريخ.

وبعد تلك الليلة كان (عليه السلام) يذهب إلى غار (ثور)؛ ليُوصِل ما يحتاج إليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورفيقه (٣) . فأوصاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بردّ الأمانات، واللحاق به في المدينة (٤) .

____________________

(١) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٧ و٦٨، المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٥ / ٤٢٦٣، الطبقات الكبرى: ٢٢٨١؛ الأمالي للطوسي : ٤٤٥ / ٩٩٥.

(٢) مجمع البيان: ٢ / ٥٣٥، تأويل الآيات الظاهرة: ١ / ٨٩ / ٧٦، الفضائل لابن شاذان: ٨١، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٩، المناقب لابن شهر آشوب: ٢ / ٦٥، العمدة: ٢٤٠ / ٣٦٧، تنبيه الخواطر: ١ / ١٧٣، إرشاد القلوب: ٢٢٤.

(٣) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٨، المناقب للكوفي: ١ / ٣٦٤ / ٢٩٢.

(٤) السنن الكبرى: ٦ / ٤٧٢ / ١٢٦٩٧، الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٢، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٨، أُسد الغابة: ٤ / ٩٢ / ٣٧٨٩، أنساب الأشراف: ١ / ٣٠٩، تاريخ الطبري: ٢ / ٣٨٢، السيرة النبويّة لابن هشام: ٢ / ١٢٩، الأمالي للطوسي : ٤٦٧ / ١٠٣١.

١٥٩

وبعد مدّة ترك (عليه السلام) مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم، أُمُّه فاطمة بنت أسد، والسيّدة فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب. فعلمت قريش بذلك، وعزمت على منعه فبعثت ببعض فرسانها خَلْفه، بَيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجريء ورجعوا خائبين (١) . وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ينتظره في (قِبا)، حتى إذا لحق به، توجّهوا نحو يثرب (٢) .

١١٦ - الأمالي للطوسي عن أنَس: لمّا توجّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) أنْ ينام على فراشه ويتوشّح ببُردته، فبات عليّ (عليه السلام) موطّناً نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يُريدون قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا أرادوا أنْ يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتْل ويرى السيوف تأخذه، فلمّا أيقظوه ورأوه عليّاً (عليه السلام) تركوه وتفرّقوا في طلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأنزل الله عزّ وجلّ: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٣) .

١١٧ - تاريخ اليعقوبي: أجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أنْ يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نَهْدٍ (٤) ، فيجتمعوا عليه، فيضربوه بأسيافهم ضربةَ رجُلٍ واحد، فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش.

____________________

(١) الأمالي للطوسي : ٤٧٠ / ١٠٣١.

(٢) الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٢، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٩.

(٣) الأمالي للطوسي : ٤٤٧ / ٩٩٨. راجع: القسم التاسع / عليٌّ عن لسان القرآن / الذي يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله.

(٤) أي شابّ قويّ ضخم (النهاية: ٥ / ١٣٥).

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311