موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ0%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد الريشهري
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56794
تحميل: 7138


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56794 / تحميل: 7138
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الأوّل

  المؤازرة على الدعوة

بدأت الدعوة سرّية، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوَت إليها أفئدة ثُلّة من الناس؛ إقبالاً منها على تلك الرسالة الحقّة. وكان عليّ (عليه السلام) أوّل من آمَن بها من الرجال، وشهد بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) (1)، ثمّ تبِعَه آخَرون....

وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (2) ؛ إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين.

فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) بإعداد الطعام وإقامة مأدَبة خاصّة؛ ليجتمع آل عبد المطّلب، فيبلّغهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) برسالته، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك؛ بسبب ضجيج أبي لهب ولَغَطِه، ثمّ أعاده عليهم في غدِ ذلك اليوم، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمد الله تعالى، وقال:

____________________

(1) راجع: القسم العاشر / الخصائص العقائديّة / أوّل مَن أسلم.

(2) الشعراء: 214

١٤١

(إنّ الرائد لا يكذب أهله و...)

وانتهى كلامه، ولم ينهض مُعلناً عن متابعته ومرافقته (صلّى الله عليه وآله) والإيمان برسالته الإلهيّة إلاّ عليّ (عليه السلام)؛ حيث قام وصدَح بذلك، فأجلَسه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتكرّر هذا الموقف للمرّة الثانية والثالثة، فقال (صلّى الله عليه وآله):

(اجلس؛ فأنت أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي من بعدي)،

وخاطب الحاضرين بقوله:

(إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي عليكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه).

إلاّ أنّ ذوي الضمائر السود، والقلوب العليلة، والأبصار العُمي، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ، ولجّوا وكابَروا وعتَوا عن الكلام النبويّ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً. لكنّ الحقّ عَلا، وطار كلامه (صلّى الله عليه وآله) في الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عُظمى إلى جانب فضائله (عليه السلام)، وتبلور سنَد متين؛ لإثبات ولايته إلى جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة، وأعلن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهْر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده، وأودع ذلك ذمّة التاريخ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبويّ.

وقال (صلّى الله عليه وآله) كلمته: (فاسمعوا له وأطيعوه) في وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تُعِرْه آذاناً صاغية، فمن البيِّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته (صلّى الله عليه وآله)، ويعتقد بحُجّية كلامه.

109 - الإمام عليّ (عليه السلام) :(لمّا نزلت هذه الآية علي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا عليّ، إنّ الله أمَرني أنْ أُنذِر عشيرتي

١٤٢

الأقربين، فضُقتُ بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّك إنْ لا تفعلْ ما تؤمَر به يعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً مِن طعام، واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عُسّاً (1) من لبَن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأبلّغهم ما أُمِرت به.

ففعلتَ ما أمَرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حِذْيةً (2) مِن اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصَّحْفة (3) .

ثمّ قال: خُذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفْسُ عليٍّ بيده، وإنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم.

ثمّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يكلّمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدّ (4) ما سحرَكُم صاحبكم! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: الغدُ يا عليّ، إنّ هذا الرجل سبقَني إلى ما قد سمعت مِن القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فعُدْ لنا من الطعام بمِثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إليّ.

____________________

(1) العُسّ: القدح الكبير (النهاية: 3 / 236).

(2) الحِذْية: أي قطعة. قيل: هي - بالكسر - ما قُطع من اللحم طولاً (النهاية: 1 / 357).

(3) الصَّحْفَة: إناء كالقَصْعة المبسوطة ونحوها (النهاية: 3 / 13).

(4) لَهَدّ: كلمة يُتعجّب بها (النهاية: 5 / 250).

١٤٣

قال: ففعلتُ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمْس، فأكلوا حتى ما لهم بشيءٍ حاجة.

ثمّ قال: اسقِهم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به؛ إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحْجَم القوم عنها جميعاً، وقلت:... أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقَبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع) (1) .

110 - عنه (عليه السلام): (لمّا نزلت: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) . .. دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب وهُم إذ ذاك أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فقال: أيّكم يكون أخي ووصيّي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرَض عليهم ذلك رجلاً رجلاً، كلّهم يأبى ذلك، حتى أتى علَيَّ، فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطّلب! هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/319-321، تاريخ دمشق: 42/48/8381، تفسير الطبري: 11/الجزء19/121، شرح نهج البلاغة: 13 / 210، شواهد التنزيل: 1 / 486 / 514 كلّها عن عبد الله بن عبّاس وص 543 / 580 عن البراء من دون إسناد إلى المعصوم نحوه، الكامل في التاريخ: 1 / 487، كنز العمّال: 13 / 131 / 36419 وص 114 / 36371، الأمالي للطوسي: 582 / 1206 عن عبد الله بن عبّاس وفيه (ووزيري) بعد (وصيّي)، تفسير فرات: 301 / 306 وص 299 / 404 عن جعفر بن محمّد بن أحمد بن يوسف، مجمع البيان: 7 / 322 عن البراء بن عازب وكلاهما نحوه، بحار الأنوار: 38 / 223 / 24، وراجع السيرة الحلبيّة: 1 / 285، وتفسير القمّيّ: 2 / 124، والإرشاد: 1 / 48.

١٤٤

وخليفتي فيكم بعدي) (1) .

111 - شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسكافي: قد روي في الخبر الصحيح أنّه (صلّى الله عليه وآله) كلّفه (عليه السلام) في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكّة أنْ يصنع له طعاماً، وأنْ يدعو له بني عبد المطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم يُنذرهم (صلّى الله عليه وآله)؛ لكلمة قالها عمّه أبو لهب، فكلّفه في اليوم الثاني أنْ يصنع مثل ذلك الطعام، وأنْ يدعوهم ثانية، فصنعه، ودعاهم فأكلوا.

ثمّ كلّمهم (صلّى الله عليه وآله) فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم؛ لأنّه من بني عبد المطّلب، ثمّ ضمن لمَن يؤازره منهم وينصره على قوله أنْ يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده، وقال: (أنا أنصرك على ما جئت به، وأوازرك وأُبايعك)، فقال لهم - لمّا رأى منهم الخذلان، ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعايَن منهم الإباء ومنه الإجابة: (هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي)، فقاموا يسخرون ويضحكون، ويقولون لأبي طالب: أطِع ابنك؛ فقد أمّره عليك (2) .

112 - الإرشاد: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جمع خاصّة أهله وعشيرته في ابتداء الدعوة إلى الإسلام، فعرَض عليهم الإيمان، واستنصرهم على أهل الكُفر والعدوان، وضمِن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا، والشرف وثواب الجنان، فلم يُجِبه أحد منهم إلاّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فنحَلَه بذلك تحقيق الأخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة، وأوجب له به الجنّة.

____________________

(1) علل الشرائع: 170 / 2 عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وراجع كنز العمّال: 13 / 114 / 36371.

(2) شرح نهج البلاغة: 13 / 244.

١٤٥

وذلك في حديث الدار، الذى أجمع على صحّته نُقّاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلاً، يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أنْ يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذْعة (1) في مقام واحد، ويشرب الفَرَق (2) من الشراب في ذلك المقام، وأراد (عليه السلام) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبْعهم وريّهم ممّا كان لا يُشبِع الواحد منهم ولا يرويه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتى تملّئوا منه، فلم يَبِن ما أكلوه منه وشربوه فيه؛ فبهرَهم بذلك، وبيّن لهم آية نبوّته، وعلامة صِدْقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثمّ قال لهم بعد أنْ شبعوا من الطعام ورُووا من الشراب: (يا بني عبد المطّلب! إنّ الله بعثَني إلى الخلْق كافّة، وبعثني إليكم خاصّة، فقال عزّ وجلّ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأُمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون بهما من النار: شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله، فمن يجِبْني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يُجِب أحد منهم).

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فقمتُ بين يديه من بينهم... فقلت: أنا - يا رسول الله - أُؤازرك على هذا الأمر، فقال: اجلس، ثمّ أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا،

____________________

(1) الجَذَع: من أسنان الدوابّ؛ وهو ما كان شابّاً فتيّاً (النهاية: 1 / 250).

(2) الفَرَق: مكيال يسع ستة عشر رِطلاً؛ وهي اثنا عشر مُدّاً (النهاية: 3 / 437).

١٤٦

وقمتُ فقلت مثل مقالَتي الأُولى، فقال: اجلس. ثمّ أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أُؤازرك - يا رسول الله - على هذا الأمر، فقال: اجلس؛ فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي).

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب! لِيَهْنِك اليوم إنْ دخلْتَ في دين ابن أخيك؛ فقد جعل ابنك أميراً عليك (1) .

نكتة:

جاء في بعض النصوص التاريخيّة والحديثيّة: أنّ نزاعاً وقع بين الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والعبّاس بن عبد المطّلب بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على إرثه، فزعَم العبّاس أنّ أموال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) له؛ فتحاكما إلى أبي بكر، فخاطب أبو بكر العبّاس مشيراً إلى يوم الدار، وقال:

(أُنشدك الله، هل تعلم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جمع بني عبد المطّلب وأولادهم وأنت فيهم، وجمعكم دون قريش فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّه لم يبعث الله نبيّاً إلاّ جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً في أهله، فمَن يقوم منكم يبايعنى على أنْ يكون أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في أهلي؟... فقام عليّ من بينكم فبايعه على ما شرط له ودعاه إليه. أتعلم هذا له من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ قال: نعم) (2) .

____________________

(1) الإرشاد: 1 / 48، كشف اليقين: 47 / 25، إعلام الورى: 1 / 322، السيرة الحلبيّة: 1 / 286.

(2) تاريخ دمشق: 42 / 50 / 8382، شواهد التنزيل: 1 / 545، نهج الإيمان: 240، شرح الأخبار: 1 / 122 / 50، الاحتجاج: 1 / 230 / 43، الدرجات الرفيعة: 91، بشارة المصطفى: 220.

١٤٧

حيث يُستشفّ من هذا الخبر أنّ أبا بكر كان يعرف قضيّة (إنذار العشيرة)، ويعلم ويعترف بها ويراها حجّةً. وأصل هذه الحادثة وطرح الدعوى بالشكل المذكور يثير التساؤل، فالنقطة التي لم يُلْتَفَتْ إليها هي: لماذا رجع الإمام (عليه السلام) وعمّه العبّاس إلى الخليفة؟ وهل هذا الخلاف صحيح من أساسه؟ فقد كان للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند وفاته بنت، وزوجات أيضاً، فلا نصيب للعمّ وابن العمّ حتى يدّعيا الإرث... ومن الواضح أنّ أمواله (صلّى الله عليه وآله) تؤول إلى بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبعد استشهادها تنتقل إلى أولادها، فأصل ادّعاء العبّاس بن عبد المطّلب لا يصحّ، فلِمَ ادّعى ذلك إذن، وتحاكم إلى الخليفة؟!.

نُقل عن أبي رافع أنّ العبّاس قال لأبي بكر بعد كلامه المذكور:

(فما أقعدك مجلسك هذا؟ تقدّمته وتأمّرت عليه! فقال أبو بكر: أغدراً يا بني عبد المطّلب!) (1) .

نفهم من هذا النصّ أنّ العبّاس قد افتعل بذكاء هذا الموضوع؛ ليُذكِّر أبا بكر بمَن هو أهل للخلافة، وينبزه بابتزازها. ومثل هذه التصرّفات كانت تنتشر وتشتهر بسرعة؛ لمكانة العبّاس ومنزلته. وهكذا أيضاً كان حوار عبد الله بن عبّاس وعُمَر بن الخطّاب، فقد ذَكَّر ابنُ عبّاس عُمَر بأهليّة الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) للخلافة، فغضب عمَر، وقال:

(إليك يا بن عبّاس! أتريد أنْ تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ مع أبي بكر يوم دخَلا عليه؟) (2) .

____________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 49، المسترشد: 577 / 249.

(2) تاريخ اليعقوبي: 2 / 149.

١٤٨

تحريف التاريخ في قضيّة المؤازرة

إنّ ما أوردناه هو عين ما نقله المؤرّخون، والمحدّثون، والمفسّرون بطُرُق مختلفة وأسانيد متنوّعة، وسيأتي في الصفحات القادمة (1)، وهو ما ذكره الطبري أيضاً في تاريخه مفصّلاً، بَيد أنّه في تفسيره بعد أنْ نقل الرواية بنفس السند الوارد في تاريخه، غيّر فيها فقال: (على أنْ يكون أخي وكذا وكذا (بدل) على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم)، وأباح لنفسه تحريف الكلام النبوي وهو يواصل كلامه، فقال: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوه (مكان) إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه)! (2).

____________________

(1) ذكَر العلاّمة الأمين رضوان الله عليه الصوَر المختلفة لنقل الحادثة في موسوعته الثمينة النفيسة (الغدير)، وناقش أسنادها وما دلّ عليها. والأخبار في ذلك ثابتة راسخة لا تقبل الترديد، انظر الغدير: 2 / 278 - 289، ويعود ذلك حتماً إلى أنّ أعداء الحقّ تطاوَلوا على تحريفها، أو أنّهم أكرهوا المؤرّخين على ذلك.

(2) تفسير الطبري: 11 / الجزء 19 / 122.

١٤٩

ومن الطبيعي أنْ يكون نقل الطبري مثاراً للتساؤل ومدعاة للتأسّف! والتأمّل فيه يدلّ على أنّه كان مُكرَهاً متحكَّماً فيه، وإلاّ فماذا يعني قوله: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له...)؟! عِلماً أنّ قوله: (فاسمعوا له وأطيعوه) ينطوي على مكنون سِرّ يُشعِر بحذف لروح الكلام ولُبابه!.

وقد حذا ابن كثير حذْو الطبري أيضاً، فنقل ذلك في تفسيره، وتاريخه، وسيرته النبويّة بالنحو الذي أورده الطبري في تفسيره، أي بشكلِه المقطّع، وهذا ما يُثير الدهشة والعجب؛ إذ إنّ (تاريخ الطبري) أهمّ مصدر ومرجع اعتمد عليه ابن كثير في (البداية والنهاية) (1) .

وذكر الكاتب المصري محمّد حسين هيكل تلك الحادثة في الطبعة الأُولى من كتابه (حياة محمّد)، مع حذف لمواضع منها، لكنّه حذَف الخبر كلّه في الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات! (2).

وحاول ابن تيميّة أيضاً أنْ يطعن في السنَد، وأحياناً في المتن، وامترى في أصل الحادثة، وقد رُدَّ عليه بأجوبة مفصّلة (3).

____________________

(1) البداية والنهاية: 3 / 40، تفسير ابن كثير: 6 / 180، السيرة النبويّة لابن كثير: 1 / 459.

(2) حياة محمّد الطبعة الأُولى: 104 وقارنه مع الطبعة الثانية: 142.

(3) تناول العلاّمة المظفّر، والأستاذ السيّد جعفر مرتضى العاملي هذا الموضوع مفصّلاً. انظر دلائل الصدق: 2 / 234 فما بعدها، والصحيح من سيرة النبيّ: 3 / 65.

١٥٠

الفصل الثاني

  الصعود على منكِبَيّ النبيّ لكَسْر الأصنام

كانت الكعبة رمز التوحيد على طول التاريخ. وعندما بُعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهداية الأمّة، كان الجاهليّون قد ملئوا بيت التوحيد هذا بأصنام وأوثان شتّى من وحيِ جهْلهِم وزَيغهم الفكري، فلوّثوه بالشِرك عِبر هذا العمل السفيه؛ ولذا اهتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بإزالة كلّ هذا القُبح والشذوذ، وأخذ عليّاً (عليه السلام) معه لتطهير مركز التوحيد من مظاهر الشِرك.

فصعد (عليه السلام) على منكِبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وألقى صنم قريش الكبير - وقيل: هو صنم خزاعة - من على سطح الكعبة إلى الأرض. وهذه الفضيلة العظيمة المتمثّلة بتحطيم الأصنام صعوداً على منكبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تفرّد بها عليّ (عليه السلام) دون غيره على امتداد التاريخ.

وهي فضيلة لا نظير لها، وموهبة لا يشاركه فيها أحد.

113 - الإمام عليّ (عليه السلام):(لمّا كان الليلة التي أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ أبيت على فراشه وخرج من مكّة مهاجراً، انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الأصنام فقال:

١٥١

اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة، ثمّ صعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على منكبَي ثمّ قال: انهض، فنهضت به فلمّا رأى ضعفي تحته قال: اجلس، فجلست فأنزلته عنّي وجلس لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ قال لي: يا عليّ، اصعد على منكِبَي فصعدت على منكبَيه، ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخُيّل إليّ أنّي لو شئت نِلتُ السماء، وصعدت إلى الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فألقَيتُ صنمهم الأكبر، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالجْه فعالجت فما زلت أُعالجه ويقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إيهٍ إيه، فلم أزَل أُعالجه حتى استمكنتُ منه فقال: دقّه، فدققته فكسّرته ونزلت) (1) .

114 - المستدرك على الصحيحين عن أبي مريم عن الإمام عليّ (عليه السلام): (انطلَق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى أتى بي الكعبة، فقال لي: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة فصعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بمنكِبَي، ثمّ قال لي: انهض، فنهضت، فلمّا رأى ضعفي تحته قال لي: اجلس، فنزلت وجلست، ثمّ قال لي: يا عليّ اصعد على منكبَي، فصعدت على منكبَيه ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا نهض بي خُيّل إليّ لو شئت نِلت أُفق السماء، فصعدت فوق الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: ألقِ صنمهم الأكبر - صنم قريش - وكان من نحاس موتداً بأوتادٍ من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالِجْه ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لي: إيهٍ إيه ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) (2) فلم أزل أُعالجه حتى استمكنت منه، فقال: اقذفه، فقذفته فتكسّر، وتردّيت من فوق الكعبة، فانطلقت أنا

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين: 3 / 6 / 4265، تاريخ بغداد: 13 / 302 / 7282 كلاهما عن أبي مريم وفيه من (انطلَق بي...).

(2) الإسراء: 81.

١٥٢

والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) نسعى وخشينا أنْ يرانا أحد من قريش وغيرهم. قال عليّ: فما صعد به حتى الساعة) (1) .

115 - الإمام عليّ (عليه السلام) - لأبي بكر: (أُنشدك بالله، أنت الذي حمَلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على كتفَيه في طرح صنم الكعبة وكسْره حتى لو شاء أنْ ينال أُفُق السماء لنالها أمْ أنا؟) قال: بل أنت (2) .

تحقيقٌ و تمحيص

إنّ الأخبار المنقولة حول هذه الحادثة بالغة الكثرة، فقد نقلها أئمّة الحديث، والتاريخ، والحُفّاظ - على حدّ تعبير العلاّمة الجليل الشيخ الأميني (3) - بدون أنْ يطعنوا في أسانيدها ويشكّوا في نقلها. وما يتطلّب قليلاً من البحث، ويحتاج إلى التحقيق والتمحيص والتوضيح هو زمن الحادثة، فإنّ تبويب الأخبار الكثيرة المنقولة في هذا المجال يدلّ على أنّها تنقسم إلى أربعة أقسام:

1 - بعض الأخبار - وهي كثيرة جدّاً - لم تصرّح بزمن وقوع الحادثة، وجاء في آخرها أنّ الإمام قال: (... فقذفت به [أحد الأصنام] فتكسّر كما تتكسّر

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين: 2 / 398 / 3387، مسند ابن حنبل: 1 / 183 / 644، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 225 / 122، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): 237 / 32 و ح 33، مسند أبي يعلي: 1 / 180 / 287 وزاد في آخرهما (فلم يرفع عليها بعد)، المناقب للخوارزمي: 123 / 139، المناقب لابن المغازلي: 429 / 5، المناقب للكوفي: 2 / 606 / 1105.

(2) الخصال: 552 / 30 عن أبي سعيد الورّاق، الاحتجاج: 1 / 311 / 53 كلاهما عن الإمام الصادق عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام).

(3) الغدير: 7 / 10.

١٥٣

القوارير، ثمّ نزلتُ، فانطلقت أنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) نستبق حتى توارَينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس) (1).

2 - أخبار أخرى تُشير إلى أنّها كانت في ليلة خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة (2) .

3 - أخبار أخرى تنصّ على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج مع الإمام (عليه السلام) من بيت خديجة، ثمّ عادا إلى البيت بعد كسْر الأصنام (3) .

4 - خبر آخر نصّ على أنّها تزامنت مع فتح مكّة (4) .

وتدلّ الطوائف الثلاثة الأُولى من هذه الأخبار على أنّ الحادثة كانت قبل الهجرة، وفي ذروة الإرهاب الذي مارسه المشركون ضدّ المسلمين، والظنّ القويّ يدعم هذا الرأي، مع أنّه لا يستبعد وقوعها مرّتين، أي قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهذه الحركة العظيمة المضادّة للشِرك ومعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في ذلك الجوّ الإرهابي الخانق المظلم قبل الهجرة. ومن الجليّ أنّ المشركين الذين كانت مكّة والمسجد الحرام والكعبة تحت تصرّفهم، قد أعادوا الأصنام إلى مكانها، ودنّسوا بها الكعبة، ثمّ وبعد فتح مكّة تكرّرت تلك الحركة التطهيرية العظيمة للمرّة الأخيرة.

____________________

(1) مسند ابن حنبل: 1 / 183 / 644، المستدرك على الصحيحين: 2 / 398 / 3387، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 225 / 122، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): 237 / 32 و33، مسند أبى يعلي: 1 / 180 / 287، المناقب لابن المغازلي: 429 / 5، المناقب للخوارزمي: 123/139، المناقب للكوفي: 2 / 606 / 1105، وراجع تاريخ بغداد: 13 / 302 / 7282، ومجمع الزوائد: 6 / 21 / 9836، والخصال: 552 / 30، والاحتجاج: 1 / 311 / 53.

(2) المستدرك على الصحيحين: 3 / 6 / 4265.

(3) الفضائل لابن شاذان: 83، بحار الأنوار: 38 / 84 / 4.

(4) المناقب لابن المغازلي: 202 / 2400، العمدة: 364 / 710.

١٥٤

واحتمل بعض المحدّثين والعلماء هذا التعدّد: فالعلاّمة المجلسي الذي تحدّث في موضع من كتابه (بحار الأنوار) عن فتح مكّة، أشار في موضع آخر إلى أخبار أخرى، وقال:

(أمّا كون كسر الأصنام في فتح مكّة فلا يظهر من هذا الخبر، ولا من أكثر الأخبار الواردة فيه، بل صريح بعض الأخبار وظاهر بعضها كون ذلك قبل الهجرة، فيمكن الجمع بينهما بالقول بتعدّد وقوع ذلك) (1) .

ونقل أحمد بن محمّد بن عليّ بن أحمد العاصمي (م 378) أحد أُدباء القرن الرابع وعُلمائه بخراسان أيضاً هذا الاحتمال (2) .

____________________

(1) بحار الأنوار: 59 / 138.

(2) زين الفتى: 1 / 159.

١٥٥

١٥٦

الفصل الثالث

  الإيثار الرائع ليلة المبيت

قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (1) .

انتشر دين الله في شبه الجزيرة العربيّة شيئاً فشيئاً، وعَلا الأذان المحمّدي، وانعكس صداه في أرجاء منها، وكانت (يثرب) من المدن التي سمعت نداء الحقّ، وقد التقى عدد من أهلها برسول الله (صلّى الله عليه وآله) في موسم الحجّ، وعاهدوه سِرّاً (2) .

ومن جهة أخرى زاد المشركون ظلمهم وجَورهم، وبلغوا ما بلغوا في تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس، واشتدّ أذاهم للمسلمين، فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالهجرة إلى يثرب.

____________________

(1) البقرة: 207.

(2) السيرة النبويّة لابن هشام: 2 / 301، الطبقات الكبرى: 1 / 221، دلائل النبوّة للبيهقي: 2 / 430 - 433.

١٥٧

من هنا، هاجر المسلمون إلى يثرب تخلّصاً من جَور المشركين واضطهادهم، وقد بذل المشركون قُصارى جهدهم للحؤول دون الهجرة، بَيد أنّ رجالاً كثيراً تركوا ما عندهم في مكّة وغادروها على عجَل، ففزع المشركون لذلك؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلْق غفير من أهل يثرب، وحصل المسلمون على دعمٍ من بعضهم، وخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة والتحق بهم، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمْنهم وخاصة قوافلهم التجاريّة؛ ولذا عزموا على تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لا يزال بمكّة.

فاجتمعوا وتشاوروا، فتصافقوا على قتْله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ لم يكن إخراجه أو حبْسه مُجدياً. واطّلع (صلّى الله عليه وآله) على مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحي، فكُلِّف بالخروج من مكّة (1) ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (2) .

وقد قام المشركون بتطويق داره (صلّى الله عليه وآله)، بعد تداولهم في خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهي أمره إلى الأبد.

فاقترح (صلّى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام) أنْ يبيت في فراشه تلك الليلة، فسأله: (أوَ تسلم يا رسول الله؟) قال: (نعم).

فرحّب الإمام (عليه السلام) بهذا الاقتراح موطّناً نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً (3) ، وسجد سجدة الشُكر على هذه الموهبة العظيمة (4) .

____________________

(1) الطبقات الكبرى: 1 / 227، الأمالي للطوسي : 465 / 1031.

(2) الأنفال: 30.

(3) الأمالي للطوسي : 447 / 998 و ح 999، تاريخ اليعقوبي: 2 / 39، وراجع المناقب للكوفي: 1 / 124 / 69، والمستدرك على الصحيحين: 3 / 5 / 4264.

(4) الأمالي للطوسي : 465 / 1031، المناقب لابن شهر آشوب: 1 / 183.

١٥٨

والتحف بالبُرد اليماني الأخضر الذي كان يلتحف به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند نومه، ونام مطمئنّاً في فراشه (صلّى الله عليه وآله) (1) .

لقد عبّر الإمام (عليه السلام) بهذا الموقف عن غاية شجاعته، وجسّدها وصدع بها عمليّاً؛ إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره.

وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلى الاستحسان والإعجاب به.

وباهى الله سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات (2) ، فأنزل الآية الكريمة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ... ) ؛ لتخليد هذه المنقبة، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة في أروقة التاريخ.

وبعد تلك الليلة كان (عليه السلام) يذهب إلى غار (ثور)؛ ليُوصِل ما يحتاج إليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورفيقه (3) . فأوصاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بردّ الأمانات، واللحاق به في المدينة (4) .

____________________

(1) تاريخ دمشق: 42 / 67 و68، المستدرك على الصحيحين: 3 / 5 / 4263، الطبقات الكبرى: 2281؛ الأمالي للطوسي : 445 / 995.

(2) مجمع البيان: 2 / 535، تأويل الآيات الظاهرة: 1 / 89 / 76، الفضائل لابن شاذان: 81، تاريخ اليعقوبي: 2 / 39، المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 65، العمدة: 240 / 367، تنبيه الخواطر: 1 / 173، إرشاد القلوب: 224.

(3) تاريخ دمشق: 42 / 68، المناقب للكوفي: 1 / 364 / 292.

(4) السنن الكبرى: 6 / 472 / 12697، الطبقات الكبرى: 3 / 22، تاريخ دمشق: 42 / 68، أُسد الغابة: 4 / 92 / 3789، أنساب الأشراف: 1 / 309، تاريخ الطبري: 2 / 382، السيرة النبويّة لابن هشام: 2 / 129، الأمالي للطوسي : 467 / 1031.

١٥٩

وبعد مدّة ترك (عليه السلام) مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم، أُمُّه فاطمة بنت أسد، والسيّدة فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب. فعلمت قريش بذلك، وعزمت على منعه فبعثت ببعض فرسانها خَلْفه، بَيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجريء ورجعوا خائبين (1) . وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ينتظره في (قِبا)، حتى إذا لحق به، توجّهوا نحو يثرب (2) .

116 - الأمالي للطوسي عن أنَس: لمّا توجّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) أنْ ينام على فراشه ويتوشّح ببُردته، فبات عليّ (عليه السلام) موطّناً نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يُريدون قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا أرادوا أنْ يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتْل ويرى السيوف تأخذه، فلمّا أيقظوه ورأوه عليّاً (عليه السلام) تركوه وتفرّقوا في طلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأنزل الله عزّ وجلّ: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (3) .

117 - تاريخ اليعقوبي: أجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أنْ يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نَهْدٍ (4) ، فيجتمعوا عليه، فيضربوه بأسيافهم ضربةَ رجُلٍ واحد، فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش.

____________________

(1) الأمالي للطوسي : 470 / 1031.

(2) الطبقات الكبرى: 3 / 22، تاريخ دمشق: 42 / 69.

(3) الأمالي للطوسي : 447 / 998. راجع: القسم التاسع / عليٌّ عن لسان القرآن / الذي يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله.

(4) أي شابّ قويّ ضخم (النهاية: 5 / 135).

١٦٠