موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ25%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59744 / تحميل: 7727
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل الأوّل

  المؤازرة على الدعوة

بدأت الدعوة سرّية، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوَت إليها أفئدة ثُلّة من الناس؛ إقبالاً منها على تلك الرسالة الحقّة. وكان عليّ (عليه السلام) أوّل من آمَن بها من الرجال، وشهد بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) (١)، ثمّ تبِعَه آخَرون....

وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) ؛ إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين.

فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) بإعداد الطعام وإقامة مأدَبة خاصّة؛ ليجتمع آل عبد المطّلب، فيبلّغهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) برسالته، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك؛ بسبب ضجيج أبي لهب ولَغَطِه، ثمّ أعاده عليهم في غدِ ذلك اليوم، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمد الله تعالى، وقال:

____________________

(١) راجع: القسم العاشر / الخصائص العقائديّة / أوّل مَن أسلم.

(٢) الشعراء: ٢١٤

١٤١

(إنّ الرائد لا يكذب أهله و...)

وانتهى كلامه، ولم ينهض مُعلناً عن متابعته ومرافقته (صلّى الله عليه وآله) والإيمان برسالته الإلهيّة إلاّ عليّ (عليه السلام)؛ حيث قام وصدَح بذلك، فأجلَسه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتكرّر هذا الموقف للمرّة الثانية والثالثة، فقال (صلّى الله عليه وآله):

(اجلس؛ فأنت أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي من بعدي)،

وخاطب الحاضرين بقوله:

(إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي عليكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه).

إلاّ أنّ ذوي الضمائر السود، والقلوب العليلة، والأبصار العُمي، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ، ولجّوا وكابَروا وعتَوا عن الكلام النبويّ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً. لكنّ الحقّ عَلا، وطار كلامه (صلّى الله عليه وآله) في الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عُظمى إلى جانب فضائله (عليه السلام)، وتبلور سنَد متين؛ لإثبات ولايته إلى جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة، وأعلن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهْر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده، وأودع ذلك ذمّة التاريخ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبويّ.

وقال (صلّى الله عليه وآله) كلمته: (فاسمعوا له وأطيعوه) في وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تُعِرْه آذاناً صاغية، فمن البيِّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته (صلّى الله عليه وآله)، ويعتقد بحُجّية كلامه.

١٠٩ - الإمام عليّ (عليه السلام) :(لمّا نزلت هذه الآية علي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا عليّ، إنّ الله أمَرني أنْ أُنذِر عشيرتي

١٤٢

الأقربين، فضُقتُ بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّك إنْ لا تفعلْ ما تؤمَر به يعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً مِن طعام، واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عُسّاً (١) من لبَن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأبلّغهم ما أُمِرت به.

ففعلتَ ما أمَرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حِذْيةً (٢) مِن اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصَّحْفة (٣) .

ثمّ قال: خُذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفْسُ عليٍّ بيده، وإنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم.

ثمّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يكلّمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدّ (٤) ما سحرَكُم صاحبكم! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: الغدُ يا عليّ، إنّ هذا الرجل سبقَني إلى ما قد سمعت مِن القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فعُدْ لنا من الطعام بمِثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إليّ.

____________________

(١) العُسّ: القدح الكبير (النهاية: ٣ / ٢٣٦).

(٢) الحِذْية: أي قطعة. قيل: هي - بالكسر - ما قُطع من اللحم طولاً (النهاية: ١ / ٣٥٧).

(٣) الصَّحْفَة: إناء كالقَصْعة المبسوطة ونحوها (النهاية: ٣ / ١٣).

(٤) لَهَدّ: كلمة يُتعجّب بها (النهاية: ٥ / ٢٥٠).

١٤٣

قال: ففعلتُ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمْس، فأكلوا حتى ما لهم بشيءٍ حاجة.

ثمّ قال: اسقِهم، فجئتهم بذلك العُسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به؛ إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحْجَم القوم عنها جميعاً، وقلت:... أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقَبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع) (١) .

١١٠ - عنه (عليه السلام): (لمّا نزلت: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) . .. دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب وهُم إذ ذاك أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فقال: أيّكم يكون أخي ووصيّي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرَض عليهم ذلك رجلاً رجلاً، كلّهم يأبى ذلك، حتى أتى علَيَّ، فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطّلب! هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٣١٩-٣٢١، تاريخ دمشق: ٤٢/٤٨/٨٣٨١، تفسير الطبري: ١١/الجزء١٩/١٢١، شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢١٠، شواهد التنزيل: ١ / ٤٨٦ / ٥١٤ كلّها عن عبد الله بن عبّاس وص ٥٤٣ / ٥٨٠ عن البراء من دون إسناد إلى المعصوم نحوه، الكامل في التاريخ: ١ / ٤٨٧، كنز العمّال: ١٣ / ١٣١ / ٣٦٤١٩ وص ١١٤ / ٣٦٣٧١، الأمالي للطوسي: ٥٨٢ / ١٢٠٦ عن عبد الله بن عبّاس وفيه (ووزيري) بعد (وصيّي)، تفسير فرات: ٣٠١ / ٣٠٦ وص ٢٩٩ / ٤٠٤ عن جعفر بن محمّد بن أحمد بن يوسف، مجمع البيان: ٧ / ٣٢٢ عن البراء بن عازب وكلاهما نحوه، بحار الأنوار: ٣٨ / ٢٢٣ / ٢٤، وراجع السيرة الحلبيّة: ١ / ٢٨٥، وتفسير القمّيّ: ٢ / ١٢٤، والإرشاد: ١ / ٤٨.

١٤٤

وخليفتي فيكم بعدي) (١) .

١١١ - شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسكافي: قد روي في الخبر الصحيح أنّه (صلّى الله عليه وآله) كلّفه (عليه السلام) في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكّة أنْ يصنع له طعاماً، وأنْ يدعو له بني عبد المطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم يُنذرهم (صلّى الله عليه وآله)؛ لكلمة قالها عمّه أبو لهب، فكلّفه في اليوم الثاني أنْ يصنع مثل ذلك الطعام، وأنْ يدعوهم ثانية، فصنعه، ودعاهم فأكلوا.

ثمّ كلّمهم (صلّى الله عليه وآله) فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم؛ لأنّه من بني عبد المطّلب، ثمّ ضمن لمَن يؤازره منهم وينصره على قوله أنْ يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده، وقال: (أنا أنصرك على ما جئت به، وأوازرك وأُبايعك)، فقال لهم - لمّا رأى منهم الخذلان، ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعايَن منهم الإباء ومنه الإجابة: (هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي)، فقاموا يسخرون ويضحكون، ويقولون لأبي طالب: أطِع ابنك؛ فقد أمّره عليك (٢) .

١١٢ - الإرشاد: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جمع خاصّة أهله وعشيرته في ابتداء الدعوة إلى الإسلام، فعرَض عليهم الإيمان، واستنصرهم على أهل الكُفر والعدوان، وضمِن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا، والشرف وثواب الجنان، فلم يُجِبه أحد منهم إلاّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فنحَلَه بذلك تحقيق الأخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة، وأوجب له به الجنّة.

____________________

(١) علل الشرائع: ١٧٠ / ٢ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وراجع كنز العمّال: ١٣ / ١١٤ / ٣٦٣٧١.

(٢) شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢٤٤.

١٤٥

وذلك في حديث الدار، الذى أجمع على صحّته نُقّاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني عبد المطّلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلاً، يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أنْ يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذْعة (١) في مقام واحد، ويشرب الفَرَق (٢) من الشراب في ذلك المقام، وأراد (عليه السلام) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبْعهم وريّهم ممّا كان لا يُشبِع الواحد منهم ولا يرويه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتى تملّئوا منه، فلم يَبِن ما أكلوه منه وشربوه فيه؛ فبهرَهم بذلك، وبيّن لهم آية نبوّته، وعلامة صِدْقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثمّ قال لهم بعد أنْ شبعوا من الطعام ورُووا من الشراب: (يا بني عبد المطّلب! إنّ الله بعثَني إلى الخلْق كافّة، وبعثني إليكم خاصّة، فقال عزّ وجلّ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأُمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون بهما من النار: شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله، فمن يجِبْني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يُجِب أحد منهم).

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فقمتُ بين يديه من بينهم... فقلت: أنا - يا رسول الله - أُؤازرك على هذا الأمر، فقال: اجلس، ثمّ أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا،

____________________

(١) الجَذَع: من أسنان الدوابّ؛ وهو ما كان شابّاً فتيّاً (النهاية: ١ / ٢٥٠).

(٢) الفَرَق: مكيال يسع ستة عشر رِطلاً؛ وهي اثنا عشر مُدّاً (النهاية: ٣ / ٤٣٧).

١٤٦

وقمتُ فقلت مثل مقالَتي الأُولى، فقال: اجلس. ثمّ أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أُؤازرك - يا رسول الله - على هذا الأمر، فقال: اجلس؛ فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي).

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب! لِيَهْنِك اليوم إنْ دخلْتَ في دين ابن أخيك؛ فقد جعل ابنك أميراً عليك (١) .

نكتة:

جاء في بعض النصوص التاريخيّة والحديثيّة: أنّ نزاعاً وقع بين الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والعبّاس بن عبد المطّلب بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على إرثه، فزعَم العبّاس أنّ أموال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) له؛ فتحاكما إلى أبي بكر، فخاطب أبو بكر العبّاس مشيراً إلى يوم الدار، وقال:

(أُنشدك الله، هل تعلم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جمع بني عبد المطّلب وأولادهم وأنت فيهم، وجمعكم دون قريش فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّه لم يبعث الله نبيّاً إلاّ جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً في أهله، فمَن يقوم منكم يبايعنى على أنْ يكون أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في أهلي؟... فقام عليّ من بينكم فبايعه على ما شرط له ودعاه إليه. أتعلم هذا له من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ قال: نعم) (٢) .

____________________

(١) الإرشاد: ١ / ٤٨، كشف اليقين: ٤٧ / ٢٥، إعلام الورى: ١ / ٣٢٢، السيرة الحلبيّة: ١ / ٢٨٦.

(٢) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٥٠ / ٨٣٨٢، شواهد التنزيل: ١ / ٥٤٥، نهج الإيمان: ٢٤٠، شرح الأخبار: ١ / ١٢٢ / ٥٠، الاحتجاج: ١ / ٢٣٠ / ٤٣، الدرجات الرفيعة: ٩١، بشارة المصطفى: ٢٢٠.

١٤٧

حيث يُستشفّ من هذا الخبر أنّ أبا بكر كان يعرف قضيّة (إنذار العشيرة)، ويعلم ويعترف بها ويراها حجّةً. وأصل هذه الحادثة وطرح الدعوى بالشكل المذكور يثير التساؤل، فالنقطة التي لم يُلْتَفَتْ إليها هي: لماذا رجع الإمام (عليه السلام) وعمّه العبّاس إلى الخليفة؟ وهل هذا الخلاف صحيح من أساسه؟ فقد كان للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند وفاته بنت، وزوجات أيضاً، فلا نصيب للعمّ وابن العمّ حتى يدّعيا الإرث... ومن الواضح أنّ أمواله (صلّى الله عليه وآله) تؤول إلى بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبعد استشهادها تنتقل إلى أولادها، فأصل ادّعاء العبّاس بن عبد المطّلب لا يصحّ، فلِمَ ادّعى ذلك إذن، وتحاكم إلى الخليفة؟!.

نُقل عن أبي رافع أنّ العبّاس قال لأبي بكر بعد كلامه المذكور:

(فما أقعدك مجلسك هذا؟ تقدّمته وتأمّرت عليه! فقال أبو بكر: أغدراً يا بني عبد المطّلب!) (١) .

نفهم من هذا النصّ أنّ العبّاس قد افتعل بذكاء هذا الموضوع؛ ليُذكِّر أبا بكر بمَن هو أهل للخلافة، وينبزه بابتزازها. ومثل هذه التصرّفات كانت تنتشر وتشتهر بسرعة؛ لمكانة العبّاس ومنزلته. وهكذا أيضاً كان حوار عبد الله بن عبّاس وعُمَر بن الخطّاب، فقد ذَكَّر ابنُ عبّاس عُمَر بأهليّة الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) للخلافة، فغضب عمَر، وقال:

(إليك يا بن عبّاس! أتريد أنْ تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ مع أبي بكر يوم دخَلا عليه؟) (٢) .

____________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب: ٣ / ٤٩، المسترشد: ٥٧٧ / ٢٤٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٤٩.

١٤٨

تحريف التاريخ في قضيّة المؤازرة

إنّ ما أوردناه هو عين ما نقله المؤرّخون، والمحدّثون، والمفسّرون بطُرُق مختلفة وأسانيد متنوّعة، وسيأتي في الصفحات القادمة (١)، وهو ما ذكره الطبري أيضاً في تاريخه مفصّلاً، بَيد أنّه في تفسيره بعد أنْ نقل الرواية بنفس السند الوارد في تاريخه، غيّر فيها فقال: (على أنْ يكون أخي وكذا وكذا (بدل) على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم)، وأباح لنفسه تحريف الكلام النبوي وهو يواصل كلامه، فقال: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوه (مكان) إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه)! (٢).

____________________

(١) ذكَر العلاّمة الأمين رضوان الله عليه الصوَر المختلفة لنقل الحادثة في موسوعته الثمينة النفيسة (الغدير)، وناقش أسنادها وما دلّ عليها. والأخبار في ذلك ثابتة راسخة لا تقبل الترديد، انظر الغدير: ٢ / ٢٧٨ - ٢٨٩، ويعود ذلك حتماً إلى أنّ أعداء الحقّ تطاوَلوا على تحريفها، أو أنّهم أكرهوا المؤرّخين على ذلك.

(٢) تفسير الطبري: ١١ / الجزء ١٩ / ١٢٢.

١٤٩

ومن الطبيعي أنْ يكون نقل الطبري مثاراً للتساؤل ومدعاة للتأسّف! والتأمّل فيه يدلّ على أنّه كان مُكرَهاً متحكَّماً فيه، وإلاّ فماذا يعني قوله: (إنّ هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له...)؟! عِلماً أنّ قوله: (فاسمعوا له وأطيعوه) ينطوي على مكنون سِرّ يُشعِر بحذف لروح الكلام ولُبابه!.

وقد حذا ابن كثير حذْو الطبري أيضاً، فنقل ذلك في تفسيره، وتاريخه، وسيرته النبويّة بالنحو الذي أورده الطبري في تفسيره، أي بشكلِه المقطّع، وهذا ما يُثير الدهشة والعجب؛ إذ إنّ (تاريخ الطبري) أهمّ مصدر ومرجع اعتمد عليه ابن كثير في (البداية والنهاية) (١) .

وذكر الكاتب المصري محمّد حسين هيكل تلك الحادثة في الطبعة الأُولى من كتابه (حياة محمّد)، مع حذف لمواضع منها، لكنّه حذَف الخبر كلّه في الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات! (٢).

وحاول ابن تيميّة أيضاً أنْ يطعن في السنَد، وأحياناً في المتن، وامترى في أصل الحادثة، وقد رُدَّ عليه بأجوبة مفصّلة (٣).

____________________

(١) البداية والنهاية: ٣ / ٤٠، تفسير ابن كثير: ٦ / ١٨٠، السيرة النبويّة لابن كثير: ١ / ٤٥٩.

(٢) حياة محمّد الطبعة الأُولى: ١٠٤ وقارنه مع الطبعة الثانية: ١٤٢.

(٣) تناول العلاّمة المظفّر، والأستاذ السيّد جعفر مرتضى العاملي هذا الموضوع مفصّلاً. انظر دلائل الصدق: ٢ / ٢٣٤ فما بعدها، والصحيح من سيرة النبيّ: ٣ / ٦٥.

١٥٠

الفصل الثاني

  الصعود على منكِبَيّ النبيّ لكَسْر الأصنام

كانت الكعبة رمز التوحيد على طول التاريخ. وعندما بُعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهداية الأمّة، كان الجاهليّون قد ملئوا بيت التوحيد هذا بأصنام وأوثان شتّى من وحيِ جهْلهِم وزَيغهم الفكري، فلوّثوه بالشِرك عِبر هذا العمل السفيه؛ ولذا اهتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بإزالة كلّ هذا القُبح والشذوذ، وأخذ عليّاً (عليه السلام) معه لتطهير مركز التوحيد من مظاهر الشِرك.

فصعد (عليه السلام) على منكِبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وألقى صنم قريش الكبير - وقيل: هو صنم خزاعة - من على سطح الكعبة إلى الأرض. وهذه الفضيلة العظيمة المتمثّلة بتحطيم الأصنام صعوداً على منكبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تفرّد بها عليّ (عليه السلام) دون غيره على امتداد التاريخ.

وهي فضيلة لا نظير لها، وموهبة لا يشاركه فيها أحد.

١١٣ - الإمام عليّ (عليه السلام):(لمّا كان الليلة التي أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ أبيت على فراشه وخرج من مكّة مهاجراً، انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الأصنام فقال:

١٥١

اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة، ثمّ صعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على منكبَي ثمّ قال: انهض، فنهضت به فلمّا رأى ضعفي تحته قال: اجلس، فجلست فأنزلته عنّي وجلس لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ قال لي: يا عليّ، اصعد على منكِبَي فصعدت على منكبَيه، ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخُيّل إليّ أنّي لو شئت نِلتُ السماء، وصعدت إلى الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فألقَيتُ صنمهم الأكبر، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالجْه فعالجت فما زلت أُعالجه ويقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إيهٍ إيه، فلم أزَل أُعالجه حتى استمكنتُ منه فقال: دقّه، فدققته فكسّرته ونزلت) (١) .

١١٤ - المستدرك على الصحيحين عن أبي مريم عن الإمام عليّ (عليه السلام): (انطلَق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى أتى بي الكعبة، فقال لي: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة فصعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بمنكِبَي، ثمّ قال لي: انهض، فنهضت، فلمّا رأى ضعفي تحته قال لي: اجلس، فنزلت وجلست، ثمّ قال لي: يا عليّ اصعد على منكبَي، فصعدت على منكبَيه ثمّ نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا نهض بي خُيّل إليّ لو شئت نِلت أُفق السماء، فصعدت فوق الكعبة وتنحّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: ألقِ صنمهم الأكبر - صنم قريش - وكان من نحاس موتداً بأوتادٍ من حديد إلى الأرض، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عالِجْه ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لي: إيهٍ إيه ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) (٢) فلم أزل أُعالجه حتى استمكنت منه، فقال: اقذفه، فقذفته فتكسّر، وتردّيت من فوق الكعبة، فانطلقت أنا

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٦ / ٤٢٦٥، تاريخ بغداد: ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢ كلاهما عن أبي مريم وفيه من (انطلَق بي...).

(٢) الإسراء: ٨١.

١٥٢

والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) نسعى وخشينا أنْ يرانا أحد من قريش وغيرهم. قال عليّ: فما صعد به حتى الساعة) (١) .

١١٥ - الإمام عليّ (عليه السلام) - لأبي بكر: (أُنشدك بالله، أنت الذي حمَلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على كتفَيه في طرح صنم الكعبة وكسْره حتى لو شاء أنْ ينال أُفُق السماء لنالها أمْ أنا؟) قال: بل أنت (٢) .

تحقيقٌ و تمحيص

إنّ الأخبار المنقولة حول هذه الحادثة بالغة الكثرة، فقد نقلها أئمّة الحديث، والتاريخ، والحُفّاظ - على حدّ تعبير العلاّمة الجليل الشيخ الأميني (٣) - بدون أنْ يطعنوا في أسانيدها ويشكّوا في نقلها. وما يتطلّب قليلاً من البحث، ويحتاج إلى التحقيق والتمحيص والتوضيح هو زمن الحادثة، فإنّ تبويب الأخبار الكثيرة المنقولة في هذا المجال يدلّ على أنّها تنقسم إلى أربعة أقسام:

١ - بعض الأخبار - وهي كثيرة جدّاً - لم تصرّح بزمن وقوع الحادثة، وجاء في آخرها أنّ الإمام قال: (... فقذفت به [أحد الأصنام] فتكسّر كما تتكسّر

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧، مسند ابن حنبل: ١ / ١٨٣ / ٦٤٤، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ٢٢٥ / ١٢٢، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): ٢٣٧ / ٣٢ و ح ٣٣، مسند أبي يعلي: ١ / ١٨٠ / ٢٨٧ وزاد في آخرهما (فلم يرفع عليها بعد)، المناقب للخوارزمي: ١٢٣ / ١٣٩، المناقب لابن المغازلي: ٤٢٩ / ٥، المناقب للكوفي: ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥.

(٢) الخصال: ٥٥٢ / ٣٠ عن أبي سعيد الورّاق، الاحتجاج: ١ / ٣١١ / ٥٣ كلاهما عن الإمام الصادق عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام).

(٣) الغدير: ٧ / ١٠.

١٥٣

القوارير، ثمّ نزلتُ، فانطلقت أنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) نستبق حتى توارَينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس) (١).

٢ - أخبار أخرى تُشير إلى أنّها كانت في ليلة خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة (٢) .

٣ - أخبار أخرى تنصّ على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج مع الإمام (عليه السلام) من بيت خديجة، ثمّ عادا إلى البيت بعد كسْر الأصنام (٣) .

٤ - خبر آخر نصّ على أنّها تزامنت مع فتح مكّة (٤) .

وتدلّ الطوائف الثلاثة الأُولى من هذه الأخبار على أنّ الحادثة كانت قبل الهجرة، وفي ذروة الإرهاب الذي مارسه المشركون ضدّ المسلمين، والظنّ القويّ يدعم هذا الرأي، مع أنّه لا يستبعد وقوعها مرّتين، أي قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهذه الحركة العظيمة المضادّة للشِرك ومعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في ذلك الجوّ الإرهابي الخانق المظلم قبل الهجرة. ومن الجليّ أنّ المشركين الذين كانت مكّة والمسجد الحرام والكعبة تحت تصرّفهم، قد أعادوا الأصنام إلى مكانها، ودنّسوا بها الكعبة، ثمّ وبعد فتح مكّة تكرّرت تلك الحركة التطهيرية العظيمة للمرّة الأخيرة.

____________________

(١) مسند ابن حنبل: ١ / ١٨٣ / ٦٤٤، المستدرك على الصحيحين: ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ٢٢٥ / ١٢٢، تهذيب الآثار (مسند عليّ بن أبي طالب): ٢٣٧ / ٣٢ و٣٣، مسند أبى يعلي: ١ / ١٨٠ / ٢٨٧، المناقب لابن المغازلي: ٤٢٩ / ٥، المناقب للخوارزمي: ١٢٣/١٣٩، المناقب للكوفي: ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥، وراجع تاريخ بغداد: ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢، ومجمع الزوائد: ٦ / ٢١ / ٩٨٣٦، والخصال: ٥٥٢ / ٣٠، والاحتجاج: ١ / ٣١١ / ٥٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٦ / ٤٢٦٥.

(٣) الفضائل لابن شاذان: ٨٣، بحار الأنوار: ٣٨ / ٨٤ / ٤.

(٤) المناقب لابن المغازلي: ٢٠٢ / ٢٤٠٠، العمدة: ٣٦٤ / ٧١٠.

١٥٤

واحتمل بعض المحدّثين والعلماء هذا التعدّد: فالعلاّمة المجلسي الذي تحدّث في موضع من كتابه (بحار الأنوار) عن فتح مكّة، أشار في موضع آخر إلى أخبار أخرى، وقال:

(أمّا كون كسر الأصنام في فتح مكّة فلا يظهر من هذا الخبر، ولا من أكثر الأخبار الواردة فيه، بل صريح بعض الأخبار وظاهر بعضها كون ذلك قبل الهجرة، فيمكن الجمع بينهما بالقول بتعدّد وقوع ذلك) (١) .

ونقل أحمد بن محمّد بن عليّ بن أحمد العاصمي (م ٣٧٨) أحد أُدباء القرن الرابع وعُلمائه بخراسان أيضاً هذا الاحتمال (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٥٩ / ١٣٨.

(٢) زين الفتى: ١ / ١٥٩.

١٥٥

١٥٦

الفصل الثالث

  الإيثار الرائع ليلة المبيت

قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (١) .

انتشر دين الله في شبه الجزيرة العربيّة شيئاً فشيئاً، وعَلا الأذان المحمّدي، وانعكس صداه في أرجاء منها، وكانت (يثرب) من المدن التي سمعت نداء الحقّ، وقد التقى عدد من أهلها برسول الله (صلّى الله عليه وآله) في موسم الحجّ، وعاهدوه سِرّاً (٢) .

ومن جهة أخرى زاد المشركون ظلمهم وجَورهم، وبلغوا ما بلغوا في تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس، واشتدّ أذاهم للمسلمين، فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالهجرة إلى يثرب.

____________________

(١) البقرة: ٢٠٧.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ٢ / ٣٠١، الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢١، دلائل النبوّة للبيهقي: ٢ / ٤٣٠ - ٤٣٣.

١٥٧

من هنا، هاجر المسلمون إلى يثرب تخلّصاً من جَور المشركين واضطهادهم، وقد بذل المشركون قُصارى جهدهم للحؤول دون الهجرة، بَيد أنّ رجالاً كثيراً تركوا ما عندهم في مكّة وغادروها على عجَل، ففزع المشركون لذلك؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلْق غفير من أهل يثرب، وحصل المسلمون على دعمٍ من بعضهم، وخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة والتحق بهم، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمْنهم وخاصة قوافلهم التجاريّة؛ ولذا عزموا على تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لا يزال بمكّة.

فاجتمعوا وتشاوروا، فتصافقوا على قتْله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ لم يكن إخراجه أو حبْسه مُجدياً. واطّلع (صلّى الله عليه وآله) على مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحي، فكُلِّف بالخروج من مكّة (١) ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) .

وقد قام المشركون بتطويق داره (صلّى الله عليه وآله)، بعد تداولهم في خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهي أمره إلى الأبد.

فاقترح (صلّى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام) أنْ يبيت في فراشه تلك الليلة، فسأله: (أوَ تسلم يا رسول الله؟) قال: (نعم).

فرحّب الإمام (عليه السلام) بهذا الاقتراح موطّناً نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً (٣) ، وسجد سجدة الشُكر على هذه الموهبة العظيمة (٤) .

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٧، الأمالي للطوسي : ٤٦٥ / ١٠٣١.

(٢) الأنفال: ٣٠.

(٣) الأمالي للطوسي : ٤٤٧ / ٩٩٨ و ح ٩٩٩، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٩، وراجع المناقب للكوفي: ١ / ١٢٤ / ٦٩، والمستدرك على الصحيحين: ٣ / ٥ / ٤٢٦٤.

(٤) الأمالي للطوسي : ٤٦٥ / ١٠٣١، المناقب لابن شهر آشوب: ١ / ١٨٣.

١٥٨

والتحف بالبُرد اليماني الأخضر الذي كان يلتحف به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند نومه، ونام مطمئنّاً في فراشه (صلّى الله عليه وآله) (١) .

لقد عبّر الإمام (عليه السلام) بهذا الموقف عن غاية شجاعته، وجسّدها وصدع بها عمليّاً؛ إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره.

وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلى الاستحسان والإعجاب به.

وباهى الله سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات (٢) ، فأنزل الآية الكريمة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ... ) ؛ لتخليد هذه المنقبة، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة في أروقة التاريخ.

وبعد تلك الليلة كان (عليه السلام) يذهب إلى غار (ثور)؛ ليُوصِل ما يحتاج إليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورفيقه (٣) . فأوصاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بردّ الأمانات، واللحاق به في المدينة (٤) .

____________________

(١) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٧ و٦٨، المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٥ / ٤٢٦٣، الطبقات الكبرى: ٢٢٨١؛ الأمالي للطوسي : ٤٤٥ / ٩٩٥.

(٢) مجمع البيان: ٢ / ٥٣٥، تأويل الآيات الظاهرة: ١ / ٨٩ / ٧٦، الفضائل لابن شاذان: ٨١، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٩، المناقب لابن شهر آشوب: ٢ / ٦٥، العمدة: ٢٤٠ / ٣٦٧، تنبيه الخواطر: ١ / ١٧٣، إرشاد القلوب: ٢٢٤.

(٣) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٨، المناقب للكوفي: ١ / ٣٦٤ / ٢٩٢.

(٤) السنن الكبرى: ٦ / ٤٧٢ / ١٢٦٩٧، الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٢، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٨، أُسد الغابة: ٤ / ٩٢ / ٣٧٨٩، أنساب الأشراف: ١ / ٣٠٩، تاريخ الطبري: ٢ / ٣٨٢، السيرة النبويّة لابن هشام: ٢ / ١٢٩، الأمالي للطوسي : ٤٦٧ / ١٠٣١.

١٥٩

وبعد مدّة ترك (عليه السلام) مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم، أُمُّه فاطمة بنت أسد، والسيّدة فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب. فعلمت قريش بذلك، وعزمت على منعه فبعثت ببعض فرسانها خَلْفه، بَيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجريء ورجعوا خائبين (١) . وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ينتظره في (قِبا)، حتى إذا لحق به، توجّهوا نحو يثرب (٢) .

١١٦ - الأمالي للطوسي عن أنَس: لمّا توجّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) أنْ ينام على فراشه ويتوشّح ببُردته، فبات عليّ (عليه السلام) موطّناً نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يُريدون قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا أرادوا أنْ يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتْل ويرى السيوف تأخذه، فلمّا أيقظوه ورأوه عليّاً (عليه السلام) تركوه وتفرّقوا في طلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأنزل الله عزّ وجلّ: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٣) .

١١٧ - تاريخ اليعقوبي: أجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أنْ يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نَهْدٍ (٤) ، فيجتمعوا عليه، فيضربوه بأسيافهم ضربةَ رجُلٍ واحد، فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش.

____________________

(١) الأمالي للطوسي : ٤٧٠ / ١٠٣١.

(٢) الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٢، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٦٩.

(٣) الأمالي للطوسي : ٤٤٧ / ٩٩٨. راجع: القسم التاسع / عليٌّ عن لسان القرآن / الذي يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله.

(٤) أي شابّ قويّ ضخم (النهاية: ٥ / ١٣٥).

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311