موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ18%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59992 / تحميل: 7773
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القِسم الخامس: سياسة الإمام عليّ

خمسة وعشرون عاماً مضت على خلافة الخلفاء، وقد اتّسعت الانحرافات، وتفشّى الاعوجاج الذي كان قد بدأ بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى بلغَت الأوضاع في مَداها حدّاً أملى على الإمام عليّ (عليه السلام) أنْ يصِف ما جرى بأنّه (بليّة) (١) ، كتلك التي كانت قبل الإسلام، وذلك في خطاب حماسي خطير ألقاه بِدء الخلافة.

في هذه البُرهة العصيبة ثار الناس ضدَّ الخليفة وضدّ سلوكه ونهْجه في الحُكم، حتى إذا ما قُتِل انثالوا على الإمام بشكلٍ مذهل، وهم يطالبونه باستلام الحُكم.

لقد كان الإمام يُدرِك تماماً أنّ ما ذهب لنْ يعود؛ إذ قلّما عاد شيءٌ أدبَر. وعلى ضوء تقديره للأوضاع التي تناهَت في صعوبتها امتنع في بادئ الأمر عن الاستجابة لهم، بيدَ أنّه لم يجد محيصاً عن إجابتهم بعد أنْ تعاظم إصرار المسلمين، وكَثُر التفافهم حَوله.

كان أوّل ما طالَعهم به في أوّل خطبةٍ له: حديثُه عن التغييرات الواسعة التي يزمَع القيام بها في المجتمع، كما أوضح في الحديث ذاته أُصول منهجه ومرتكزاته.

هذا القِسم يبدأ رِحلته مع الإمام، فيسجِّل في البدْء الأجواء التي لابَسَت وصوله إلى السلطة وتسنّمه للحُكم، ثمّ يُتابع تفصيليّاً انطلاق

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، الكافي: ٨ / ٦٧ / ٢٣

٢١

حركته الإصلاحيّة، متوفّراً على رصْد أُصول نهْج الإمام ومرتكزات سياسته في التغييرات الواسعة التي قادها، والحركة الإصلاحيّة التي تزعّمها، وما أثارت من أصداء في المجتمع، وما خلّفته من تبِعات عليه.

من بين البحوث الأساسيّة الأُخرى في هذا القِسم رصْد أبرز الأُصول التي اعتمدها الإمام في الإصلاح، على مختلف الصُعُد الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة والأمنيّة. كما سعى هذا القِسم من الكتاب إلى متابعة رؤى الإمام (عليه السلام) في مجال السياسة، وعوامل استقرار الدوَل، وعوامل انحطاطها وزوالها، وطبيعة تعاون الدوَل بعضها مع بعض وغير ذلك ممّا له صِلة بهذه الدائرة.

القِسم السادس: حروب الإمام عليّ

يوم أنْ مَسَك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زِمام الحُكم بيده، وراح يطبّق ما كان قد تحدّث عنه ووعَد الناس به، برز أمامه تدريجيّاً ما كان قد توقّعه؛ فالوضْع لم يحتمل بسْط العدل، ولم يُطِق حركة الإصلاح والمساواة وإلغاء الامتيازات الوهميّة، فأخذت الفِتَن تطلّ برأسها، وبدأت أزَمَات الحُكم.

ما يبعث على الدهشة أنّ أوّل من استجاش الفتنة وأرباها هُم أُولئك النفَر الذين كان لهم الدَور الأكبر في إسقاط الحُكم السابق، وإرساء قواعد الحكم الجديد!.

ميزة هذا القِسم من الموسوعة أنّه تناول بالبحث والتحليل مناشئ هذه الفِتن وجذورها، وتابع مساراتها وما ترتّب عليها من تَبِعات. كما رصد

٢٢

بالتفصيل فِتن (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين)، التي تُعَدّ في حقيقتها انعكاساً لحركة الإمام الإصلاحيّة، ورَدّ فِعل على مواضعه المبدئيّة الصُلبة بإزاء الحقوق الإلهيّة، ودفاعه عن قِيَم الناس وحقوقها.

من النقاط المبدِعة اللامعة في هذا القسم تسليط الضوء على بعض الزوايا الفكريّة والنفسيّة والمواقف السياسيّة لمثيري الفتنة، ومتابعة تجلّيات ذلك بعُمق ودقّة في حركة خوارج النهروان.

إنّ هذا البحث - في الصيغة التي اكتسبتْها هذه الدراسة من خلال معرفة الوثائق التاريخيّة، وتحرّي التوجيهات الروائيّة التي احتوَت هذه الخصائص - لهو حديثٌ مبتكر وتحليلٌ بِكرٌ بديع.

على أنّ هذا القسم برمّته هو أكثر أقسام الكتاب عِظَة، وأعظمها درساً.

القسم السابع: أيّام التّخاذل

اتّسمت السنوات الأُولى لحكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هكذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. على صعيدٍ آخَر دأب أرباب الفتنة - خاصّة مركزها الأساس في الشام - على إيجاد الأزَمَات على الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرْع العقَبات أمام الحكومة المركزيّة.

ويجيء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلك العهد. فهذه كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تفيض من ألَم الوحدة وحُرقتها، وتبثّ شكواها من

٢٣

مصائب الزمان ودواهيه.

في تلك البُرهة الحالكة من الزمان سقَطت مِصر، فغاب عن الإمام مالك الأشتر، أطهَر الرجال، وأكفأ القادة، وأشجع الخِلاّن، وأَوفاهم بعد أنْ ارتوى بشَهَد الشهادة. فانكمش قلْب الإمام، وأُصيبت روحه الطَهور، والألَم يعتصره من كلّ جانب.

هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظُلامةِ عليّ، كما هو انعكاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.

وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخَر ليس له شِبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام، فالناس لم تَعُد على استعدادها الأوّل لحضور الجبَهات، كما لم تَعُد تستجيب لنداءات الإمام وهُتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما كان يبثّه الإمام مِراراً من شكوى، يرى فيه خصائص لأهل ذلك العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترْنوا إلى الدنيا، وتصْبوا إليها.

في أوضاع كالحة كهذه، استَعَرت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسُهُ الطَهور، فملأت نفسه ألَماً وغضاضةً وهو ينظر إلى جُندِ معاوية تُغير على المدُن المَرّة تِلْو الأُخرى، تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسَلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.

٢٤

راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جُنده واستهتارهم وضحكاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعَت نفسه وفاضت لها غُصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولكن لا من مجيب!.

وهكذا مضى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتمنّى الموت مرّات ومرّات!.

بَيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلى الواقع المرير، بل مضى قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلَّ عن المقاومة حتى آخر لحظة من عُمره.

أجل، هذا أمير المؤمنين يثِبُ كالمنار المضيء آخِر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلى صِفّين مجدّداً، وقد استنفر بكلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلى هذه المهمّة. فما أنْ انتهى من خطبته - وكانت الأخيرة - إلاّ وعقد للحسين بن عليّ (عليه السلام) ولقيس بن سعد وأبي أيّوب الأنصاري لكلّ واحد في عشرة آلاف مقاتل.

لكن وا أسَفاً! فقد أودَت واقعة استشهاد الإمام (عليه السلام) واغتياله من قِبل شقيٍّ (متنسّك)، بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثَتْ أنْ تداعَت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.

لقد توفّر هذا القِسم على تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها

٢٥

ومساراتها، وما كان قد اكتنفها من أسباب وعوامل.

القِسم الثامن: استشهاد الإمام عليّ

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أخبر باستشهاد الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام). أمّا الإمام نفسه فقد كان وجوده ينمّ عن صبغة وتكوين خاصّ يشدّه إلى السماء أكثر ممّا يجرّه إلى الأرض ويربطه بها. كان دائماً يتطلّع صَوب الملَكوت، تهفو روحه إلى هناك بانتظار اللحظة التي يعرج بها إلى السماء.

كم كانت عظيمة هذه الرحلة صَوب الملكوت وهي تحمل عليّاً مضرَّجاً بدم الجراح، ومضمَّخاً بالنقيع الأحمر.

ما كان أعظم شَوقه للمنِيّة! فها هو ذا عليّ والسيف الغادر المسموم يرقُد على مِفْرقِه ويشقّ رأسه، يتطلّع إلى الملأ الأعلى، ويهتف في وصف رحلته ويقول: (كطالبٍ وجَد، وغاربٍ ورَد).

القسم الثامن هذا اختصّ بمتابعة ما كان ذَكره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن استشهاد عليٍّ (عليه السلام)، وما كان يحكيه عليّ عن شهادته. كما تابع بقيّة مكوّنات المشهد؛ إذ وقف في البدء مع واقعة الاغتيال يصفها عن قُرب، ثمّ انتقل مع الإمام المسجّى مع جراحه راصداً جميع ما نطق به من تعاليم ووصايا وحِكَم مُذ هوى على رأسه سيف الغدر حتى لحظة استشهاده، ثمّ انتقل إلى الجانب الآخر متقصّياً ردّ فِعل ألَدّ أعداء عليّ (عليه السلام)، وما نطَق به عندما بلَغه خبر شهادة الإمام.

٢٦

كما لم يهمل واقعة تجهيز أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفْنه وإخفاء قَبْره.

واختُتم هذا القسم بذِكر زيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبركات ذلك وما يتّصل بروضته الشريفة.

القِسم التاسع: الآراء حول شخصيّة الإمام

تؤلّف تجلّيات شخصيّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على لسان الرجال وفي كلمات الرموز الكبيرة، بل وحتى على لسان أعدائه، أحد أهمّ فصول معرفة أبعاد شخصيّته.

ربّما لا نبالغ إذا قلنا: إنّ ما حفَّ شخصيّة عليّ بن أبي طالب، وما قيل فيه وعنه من كلام وأحكام وتجليل وتكريم وخُطَب وقصائد ومدائح، وما أحاط به من ذهول وحَيرة وهُتاف وصمت، فاق الجميع بحيث لا يمكن مقارنته بأيِّ شخصيّةٍ أُخرى في تاريخ الإسلام.

في هذا القسم يطلّ القارئ على شخصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من خلال ما نطق به القرآن، وما جاء على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام عليّ نفسه، وسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وصحابة النبيّ، وأهل البيت (عليهم السلام)، وزوجات النبيّ، كما يتطلّع إلى أُفُقها العريض عِبر ما خطّه عدد كبير من الرموز العلميّة والثقافيّة والسياسيّة البارزة، وما جادت به قرائح الشعراء والأُدباء والخطباء، حتى أعداؤه.

ويمضي القارئ في هذا القِسم مع رجال قالوا في عليّ (عليه السلام) كلمات مسفرة كضوء الفجْر، انطلقت من قلوب مفعمة بالشوق والحبّ.

٢٧

وقد ترك بعضهم شهادة صريحة للتاريخ في أنّ فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومناقبه تعظم على الإحصاء، ولا تقوى الصحُف المكتوبة بأجمعها على استيفائها.

وقالوا: إنّ الصمت أقوى من كلّ حديث عن عليّ (عليه السلام)، وأمضى من كلّ الكلمات.

فهذه كلماتهم تخطّ لعليّ أنّه الأعلم، وهو الأعرف من الجميع بكتاب الله، وعليّ الأشجع في سوح الوغى، وهو أكثر الناس إخلاصاً وتبتّلاً وطاعة.

عليٌّ الهيّن الليّن أكرم الناس خلُقاً، وقلْبه الشاخص إلى ربّه أبداً.

عليّ في مضمار البلاغة بحرٌ لا يُنزَف، وهو سيّد البُلَغاء، وأفصَح الخُطباء.

عليّ المجاهد الذي تَثِبُ به بصيرته، وهو الصلب الذي لا تلين له عريكة، ولا تُوهِنه الصِعاب، مِلؤه إقدام ومَضاء.

وعليّ أعرف الأمّة بالحقّ، وأنفذ الرجال بصيرة.

هذه بعض كلماتهم في عليّ. ولعليّ بعد ذلك كلّ فضيلةٍ وكمالٍ، فله وحده ما كان للصالحين جميعاً.

كان عليٌّ وِتراً التقَت فيه جميع خصال الجمال، وتألّقت في ذُراه الفضائل بأكملها، وحطّت عنده المكارم. وهو في الفتوّة وِتْرٌ لا ندّ له ولا نظير.

٢٨

هذه الحقيقة نلحظها تتوهّج بين ثنايا هذا القِسم عِبر شهادة وأقوال عشرات المفكّرين، تتوزّعهم مختلف الاتّجاهات والرؤى، بل نرى بعضها متضادّاً أحياناً!.

ولا ريبَ أنّ قراءة كلّ هذه الشهادات والأقوال، والاطّلاع على هذه القطوف الدانية من كلمات المدح والإطراء، لهو أمرٌ خليق أنْ يشدّ إليه القارئ ويجذبه إلى دائرة نفوذه.

القسم العاشر: خصائص الإمام عليّ

  عليّ بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو اللوحة الفريدة الوحيدة التي تتجلّى بها خصائص الإنسان الكامل. وهذه الحقيقة الناصعة الكريمة كانت قد أفصَحت عن نفسها خلال القِسم السابق عِبر ما جاء عن المعصومين (عليهم السلام)، وما نطق به الصحابة والعلماء والفلاسفة والمتكلّمون والباحثون.

ما ينهض به القسم العاشر هو إبانة خصائص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسليط أضواء مكثّفة على ما تحظى به شخصيّته الفذّة من أبعاد ومكوّنات؛ انطلاقاً من هذا طاف القِسم مع الإمام في خصائصه العقيديّة والأخلاقيّة والعلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، التي تتلاقى فيما بينها لتؤلّف صَرْح هذا الرجُل التاريخي الشامخ والمنار المضيء الذي لا نظير له.

يا لروعته وتفرّده! فلم يكفر بالله طرْفة عَين، وهو في ثبات إيمانه، ورسوخ يقينه أمضى من الجبال الرواسي، لا يرقى إلى قمّته أحدٌ قطّ.

٢٩

يعمُر الخُلُق الكريم جنَبات وجوده، وتفوح حياته بالإخلاص والإيثار، وتمتلئ أرجاؤها بالمكرمات.

في محراب العبادة هو الأوّاه المتبتّل أعبَد العابدين، وقلبه المجذوب إلى ربّه أبداً، وهو في الصلاة أخشع المصلّين.

ومَن يُمعن في ميدان السياسة يجده الأصلب، شاهقاً يفوق الجميع، ذكيّاً لا تضارعه الرجال، أدرى الناس بملابسات الزمان.

للمظلومين نصيراً لا يكِلّ عن الانتصاف لهم ولا يملّ، وهو على الظالمين كنارٍ اشتدّت في يومٍ عاصف.

عِلمه الأكمل، وبصيرته الأنفذ، ورؤيته إلى الله وإلى عالَم الوجود والخليقة شفيفة رائقة، سليمة نقيّة، لا تضارعها نظرة ولا يضاهيها نقاء.

أجل، حسْبُ عليّ أنّه كان عليّاً وحسْب، خالصاً لله من دون شَوب، شاهداً على الرسالة، مجسّداً لِقَيمِها الرفيعة ومُثُلها العليا.

وهذا القسم يقدّم هذا جميعاً إلى طلابّ الحقّ والنفوس الظمأى للحقيقة، ويحمله إلى العقول المتلهّفة لمعرفة عليّ، عِبر مرآة متألّقة بنور الآيات الكريمة، ومن خلال النصوص والوقائع التاريخيّة.

القسم الحادي عشر: علوم الإمام عليّ

عليّ (عليه السلام) أعظم تلميذ بزَغ في مدرسة محمّد (صلّى الله عليه وآله). أبصَر فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الجدارة والاستعداد ما يفوق به كلّ إنسان، ومن القدرة على التعلّم ما

٣٠

لا مدى له، ففاض على روحه علماً غزيراً لا ينضَب، وأراه الحقائق الكبرى الناصعة، وبتعبير النصوص الروائيّة والتاريخيّة لقّنه (ألف باب)، و(ألف حرف)، و(ألف كلمة)، و(ألف حديث) (١)في مضمار معرفة الحقائق وتحرّي العلوم.

عليّ (عليه السلام) باب حكمة النبيّ، ومدخل علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو خزانة علمه، ووارث علوم جميع النبيّين.

عليّ المؤتمَن على حكمة النبيّ الحافظ لعِلمه، ومن ثَمَّ هو أعلم الأُمّة.

أمير المؤمنين (عليه السلام) أُذُنٌ واعية؛ لذا فهو لا ينسى ما يقرع فؤاده من العلم، وبذلك راحت الحكمة تتفجّر من بين جوانحه، وتفيض نفسه الطهور بحقائق المعرفة.

لكن أسَفاً وما أعظمها لوعة أنْ تكون مقادير الحياة قد غيَّبت أُولئك الرجال، الذين يهيب بهم استعدادهم الوجودي لتلقّي المعرفة العلَويّة الناصعة. ولو كانوا هناك؛ لفاض عليهم الإمام بقبضةٍ من شعاع عِلمه الباهر، ولأشرَق الوجود بقبَسٍ من نور معرفته.

كان عليّ (عليه السلام) يحظى من (عِلم الكتاب) بعِلمه الكامل كلّه. في حين لم يكن لآصف بن برخيا من (علم الكتاب) إلاّ بعضه، فأَهّله أنْ يأتي إلى

____________________

(١) جاءت هذه الألفاظ في نصوص مختلفة، ويمكن أنْ يكون المقصود فيها واحداً.

٣١

سليمان (عليه السلام) بعرش بلقيس في طرفة عين أو أقلّ (١) .

لم يعرف علم عليّ (عليه السلام) مدىً، ولم يوقفه حَدّ، بل امتدّ سعةً حتى تخطّى كلّ العلوم. فهو في الذروة القصوى في علوم القرآن، وفي معارف الشريعة، وعلوم الدين، وعلم البلايا والمنايا، وهو السَنام الأعلى في كلّ معرفة.

هل تجد لعليٍّ نظيراً في معرفة الله، وهو ذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما عرف الله إلاّ أنا وأنت)؟.

أجل؛ هو ذا كما يقول النبيّ الأقدس، فهذا كلامه في التوحيد ومراتبه، وفي إثبات الصانع وطُرُق الاستدلال عليه، وفي معرفة الله وصفاته يقف في الذروة العليا، وله في نظر الفلاسفة والمتكلِّمين مرتبة سامقة لا تُضاهى.

إنّ ما نطق به الإمام عليّ (عليه السلام) حول الوجود، وما ذكره عن المخلوقات، وما توفّر على إظهاره من نقاط بديعة حيال الخليقة، لهُوَ ينمّ عن إحاطة علميّة بضُروب المعرفة البشريّة.

فكلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بدء الخليقة، وخلْق الملائكة والسماوات والأرَضين والحيوان، وما فاض به عن المجتمع والنفس وحركة التاريخ، وما أدلى به من إشارات عن الرياضيّات والفيزياء وعلم

____________________

(١) قوله سُبحانه: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) (النمل: ٤٠).

٣٢

الأرض (الجيولوجيا) وغير ذلك ممّا يُعَدّ في حقيقته تنبّؤات علميّة، ويدخل في المعجزات العلميّة للإمام، لهُوَ قَمِين بالإعجاب، وخليق أنْ يملأ النفس خضوعاً ودهشة.

لم يعرف التاريخ على امتداده رجُلاً، عالماً كان أمْ فيلسوفاً أمْ مفكِّراً، ينهض بعلوّ قامته، ويقول بثبات: (سلوني ما تشاؤون). ثمّ لم يعجزه الجواب أبداً، ولم يلبث حتى لحظة واحدة كي يتأمّل بما يجيب.

وهذا القِسم ليس أكثر من إيماءة إلى علوم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو إشارة على استحياء إلى بحْره الزخّار، ونظرة عابرة تومِض من بعيد إلى أُفُق المعرفة العلَويّة.

القسم الثاني عشر: قضايا الإمام عليّ

القضاء صعب، وأصعب منه القضاء الراسخ الذي يستند إلى الصواب والحقّ.

يستند القضاء من جهة إلى علمٍ راسخ، ويتطلّب من جهة أُخرى روحاً كبيرة وشخصيّة ثابتة لا تخشى التهديد ولا تميل إلى التطميع، ولا تطوح بها العلائق والأهواء عن جادّة الحقّ والصواب.

وأقضية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هي منارات مضيئة في الحياة، وأكاليل رفيعة في رحاب الحياة السياسيّة، وأحرى بها أنْ تكون من أعاجيب التاريخ القضائي.

لقد تناول هذا القسم أقضية الإمام في أربعة فصول، توفّر كلّ واحد منها

٣٣

على بُعد. فقد مرَّ في البدء على الموقع القضائي الذي يحظى به الإمام، وأنّه (أقضى الأُمّة) بمقتضى صريح كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ انعطف إلى بيان أمثلة لأقضية عليّ (عليه السلام) على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، متابعاً لها وهي تتوالى في عهد خلافته الراشدة؛ لتكشف بأجمعها عن عِلمٍ واسع عميق، وصلابة ماضية في السلوك، وثبات راسخ، وإيثار الحقّ على ما سِواه، والدفاع عن الحقيقة في خِضَمّ الحياة.

القسم الثالث عشر: آيات الإمام عليّ

الإنسان خليفة الله في الأرض. والأبعاد المعنويّة هي أسمى مظهر باهر يتألّق في شخصيّة الإنسان، وإذا ما ارتقى الإنسان على هذا الخطّ وصار قريباً إلى الله عِبر السلوك المعنوي، فسيكون كلّ ما يصدر عنه مُذهلاً عجيباً، وتصير حياته وتعاطيه مع الوجود (تجلّيات) للقدرة الإلهيّة.

حين تُبصر عليّاً (عليه السلام) في هذا المجال تجده (ممسوساً في ذات الله) على حدّ ما نصّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصفه، وهو أدرى الناس به، وعليّ ثمرة لتربية الرسول. ومن ثَمَّ كان حرِيّاً بحياته أنْ تكون - ولا تزال - مشرقة بأكثر تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني) نوراً ووضاءة.

لقد توفّرت فصول هذا القسم على الإيماء إلى أمثلة للقدرة المعنويّة الباهرة، والولاية التكوينيّة التي يحظى بها الإمام، ومرّت على بعض تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني)، وما يشعّ به وجوده من مظاهر القدرة والعظَمة الإلهيّة.

٣٤

كان من بين المحطّات التي لبثَتْ عندها فصول هذا القسم: أمثلة لإجابة الدعوات، وإخبار الإمام بالمغيّبات، وبعض ما له من كرامات مثل (ردّ الشمس) التي تعدّ منقبة تختصّ به وحده، وفضيلة تبعث على الدهشة، وتدعو إلى العجَب.

هذا القسم في حقيقة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رحلة تطوف معه؛ لتُبرز بُعده المعنوي في التعامل مع أُفق الوجود، وتؤشّر إلى موقعه المُنيف في معارج الصعود، وما يحظى به هذا الإنسان الربّاني من مكانة عظيمة على مهاد الأرض، كما تكشف عن دَوره كـ (خليفة إلهي).

القسم الرابع عشر: حبّ الإمام عليّ

الجمال حبيب إلى الإنسان، والإنسان يهفو إلى الجمال، ولن تجد إنساناً يصدّ عن الجمال أو تنكفِئ نفسه عن المكرَمات والفضائل السامقة، أو يُشيح عن المُثل العليا.

هو ذا عليٌّ (عليه السلام) مصدر جميع ضروب الجمال، يتفجّر وجوده بالكمال، وتحتشد فيه جميع الفضائل والمكارم والقِيَم، فأيُّ إنسانٍ يُبصر كلّ هذا التألّق ولا يشدو قلبه إلى عليٍّ حبّاً وإيماناً؟ وأيُّ إنسانٍ له عين بصيرة ويعمى عن ضوء الشمس؟.

دَعْ عنك أُولئك النفر الذين ادلهمّت نفوسهم بظلمةٍ حالكة، فعميت أبصارهم عن رؤية هذا الجمال الباهر الممتد، ولم يُبصروا مظاهره الخلاّبة.

٣٥

وإلاّ لو خُلّيَ الإنسان وإنسانيّته لأُلفي باحثاً عن الجمال أبداً متطلّعاً إليه على الدوام.

كذلك هو عليّ أحبُّ الخلْق إلى الله خالق الجمال وواهب العظمة. كما هو الأحبّ عند الملائكة وعند رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وهل يكون هذا إلاّ لجوهر الذات العلَويّة، وللمكانة المكينة التي يحظى بها هذا الإنسان الملكوتي الذي تتقرّب الملائكة - أيضاً - إلى الله بمحبّته؟.

إنّ لحبّ عليّ في ثقافتنا الدينيّة شأناً عظيماً يُبهِر العقول، ويبعث على التأمّل.

وما نهض به هذا القِسم أنّه وثَّقَ لهذه الحقيقة نصوصَها. وقد جاءت النصوص تُفصح دون مواربة ولَبْس أنّ حبّ عليّ حبٌّ لله ولرسوله، وتسجِّل بنصاعة وضّاءة أنّ حبّ عليّ (نعمة) و(فريضة) و(عبادة)، وهو (العروة الوثقى) و(أفضل العمل) و(عنوان صحيفة المؤمن).

فحبُّه إذاً من دين الله بالصميم.

ومع أنّ هذا القِسم لا يدّعي أنّه قد استقصى كلّ النصوص الروائيّة التي لها مَساس بعليّ (عليه السلام) في هذا المجال، إلاّ أنّ ما توفّر على ذِكره أسفَر بوضوح: أنّ حبّ عليّ هو السبيل إلى بلوغ حقائق المعرفة الدينيّة، وهو الذي يشيع السكينة في أرجاء الحياة، وبحبّ عليّ يكتمل الإيمان والعمل، وبه تُرفع أعمالنا مقبولة إلى الله سبحانه، وبحبّ عليّ يستجاب الدعاء وتُغفر الذنوب.

٣٦

وبحبّ عليّ (عليه السلام) تنتشر نسائم السرور على الإنسان عند الموت، وحبّ عليّ لُقيا يُبصِر بها المحتضر وجه المولى عند الممات، وحبّ عليّ جواز لعبور الصراط وللثبات عليه، وهو الجُنّة التي تقي نار جهنّم.

ومِسك الختام: أنّ حبّ عليّ هو الحياة الطيّبة في جنّة الخُلد.

إنّ كلّ ذلك لا يكون إلاّ بحبّ عليّ، وفي ظلال حبّ عليّ (عليه السلام).

لم تتردّد النصوص الروائيّة لحظة وهي تسجّل بثبات راسخ أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) هو دليل طهارة المولد، وعلامة على الإيمان والتقوى، وهو عنوان شهرة الإنسان ومعروفيّته في السماوات وعند المَلأ الأعلى، وهو رمْز السعادة.

وبعدُ، فإنّ كلّ هذا الحشد مِن التأكيد على الحبّ العلَوي، ووصْله برباطٍ وثيق مع الحبّ الإلهي، وبحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لهُوَ دليل شاخص على أنّ الحبّ المحمّدي الصحيح لنْ يكون ممكناً من دون الحبّ العلَوي. وما ادّعاء حبّه (صلّى الله عليه وآله) من دون حبّ عليّ (عليه السلام) إلاّ عبَث جزاف ودعوة باطلة.

على أنّ هذا القِسم يعود ليكشف في جوانب أخرى على أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) ما كان شعاراً يُرفع وحديثاً يُفترى، بل هو أُسوة يقتدي فيها المحبّ بحياة عليّ، يلتمس هدْيَه في خُطاه، يعيش كما يعيش، ويفكّر كما يفكّر، ويمارس معايير عليّ في الحبّ والولاء، وفي البُغض والبراءة، ويَحثو خُطاه صَوب قِيَمه دائماً وأبداً، وإلاّ كيف يجتمع حبّ عليّ مع حياة سفيانيّة ونهجٍ أُمَويّ؟.

٣٧

آخِر ما يشدّ إليه الانتباه في مادّة هذا القِسم هو التحذير من الغلُوّ؛ فمع كلّ هذا التركيز المكثّف العريض على حبّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإلى جوار هذه الإشادة بالآثار العظيمة التي يُغدقُها هذا الحبّ على الحياة الماديّة والمعنويّة، جاءت التعاليم النبويّة والعلَويّة والدينيّة تشدّد النكير، وتُعلِن التحذير الكبير من الغلُوِّ بهذا الحبّ. فها هيَ ذي النصوص الحديثيّة تنهى عن الإفراط وتذمّه، وتعدّه انحرافاً يُهيّئ الأجواء إلى انحرافات أكبر.

القِسم الخامس عشر: بُغْض الإمام عليّ

على قدَر ما تكون شخصيّة عليّ الطالعة المهيبة بالغة الروعة والجمال لذوي النفوس الزكيّة، موحِية أخّاذة لذوي الأفكار الرفيعة، محبوبة خلاّبة لذوي الفِطَر النقيّة والطِباع الكريمة، فهي تثير الغيظ في النفوس المدلهمّة المظلمة، وتستجيش عداوة الوصوليّين النفعيّين، وبغضاء ذوي الأغراض الدنيئة الهابطة، والنوازع المنحطّة.

إنّ التاريخ يجهر أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب كانوا من حيث التكوين الروحي سُقَماء غير أسْوياء نفسيّاً، ومن حيث التكوين الفكري كانوا منحرفين بعيدين عن الصواب. أمّا من حيث مكوّنات الشخصيّة فقد كانوا أُناساً تستحوذ عليهم الأنانيّة والإثْرة، يُنبئ باطنهم عن الفساد والأغراض الهابطة.

هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يستشرف مستقبل الإسلام عِبر مرآة الزمان، يعلم بالفِتن ويعرف مثيريها وأصحابها. وهو ذا يؤكّد في كلّ موقعٍ موقع من

٣٨

أشواط حياته المملوءة عزماً وتوثّباً والتزاماً على حبّ عليّ بن أبي طالب، ويحذّر الناس من بُغضه، وينهاهم عن عداوته وشنآنه.

يسجّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصراحة لا يشوبها لَبْسٌ، أنّ بُغض عليّ بن أبي طالب كُفر، وأنّ مَن آذى عليّاً فقد آذاه.

ليس هذا وحده، بل مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرسم ثغور الجبهة الاجتماعيّة ويحدّد اصطفافاتها العامّة، بما يُظهر أنّ مَن هو مع عليّ وعلى حبّ عليّ، فهو مع النبيّ نفسه، ومَن يناهض عليّاً ويُعاديه فموقعه في الجبهة التي تعادي النبي وتُناهض رسالته.

لقد أفصحت النصوص المعتبرة عند الفريقين ممّا تقصّاها هذا القِسم، على أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب بعيدون عن رحمة الله سُبحانه، وأنّ خسرانهم وسوء منقلبهم أمرٌ قطعيّ لا ريب فيه. فمَن يمُت على بُغض عليّ (عليه السلام) يمُت ميتةً جاهليّة، وبُغْض عليّ علامة تُجهر بنفاق صاحبها وفِسقه وشقائه.

وإذا كان بُغْض عليّ (عليه السلام) يستتبع ميتة جاهليّة؛ فإنّ إنساناً كهذا لنْ ينتفع شيئاً من تظاهره بالإسلام، وهو يُحشَر في القيامة أعمى، ليس من مصير يؤول إليه سوى نارُ جهنّم.

يضع هذا القسم بين يدَي القارئ نصوصاً حديثيّة وروائيّة كثيرة، فيها دلالة على ما سلفت الإشارة إليه. وهو - علاوة على ذلك - يعرّف بعدد من ألدّ أعداء الإمام وأعنف المُبغضين له، كما يمرّ على جماعة من

٣٩

المنحرفين عنه، وعلى القبائل التي كانت تكنُّ له البغضاء، ولا غرابة فقد قيل: (تُعرف الأشياء بأضدادها).

هذا عليٌّ، ولا يلحَق به لاحِق، واسمه الآن يصدح عِبر أُفُق المكان والزمان، ويعلو شاهقاً على ذُرى التاريخ، وهذه تعاليمه وكلماته مسفرة كضوء الفجْر متألّقة على مدار الزمان.

أمّا والأمر كذلك؛ فقد كان حريّاً بهذا القِسم أنْ يلبَث عند تلك الجهود المحمومة كاللهب، وعند تلك الصدور الموبوءة بالحقد، وقد نفثت أحقادها علّها تُطفئ الشعلة المتوقّدة، أو عساها تنال مِن وهَجها شيئاً؛ حتى تستيقن النفوس بوَعد الله الذي وعَده، وكي لا يستريب أحدٌ بقوله سبحانه: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) . وهكذا كان.

القسم السادس عشر: أصحاب الإمام عليّ وعمّاله

مع هذا القسم يُختَتم الكتاب ويبلُغ نهايته. بعد أنْ لبَث القارئ مع خمسة عشَر قسماً من الموسوعة، وصار على معرفة واسعة ممتدّة بمختلف أبعاد حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المملوءة بالتعاليم الواعية البنّاءة، التي تُنير الحياة وتفتح المغاليق، بعد هذا كلّه آنَ له أنْ يرحل في هذا القسم مع جولة تطوف به على عِدّة من أصحاب عليّ (عليه السلام) وعمّاله، يتعرّف عليهم وينظر إليهم عن كثَب.

____________________

(١) الصفّ: ٨.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311