موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ18%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60002 / تحميل: 7777
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

كذلك) (١) .

٢٣٨ - تاريخ الطبري عن ابن إسحاق - في خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى غزوة تبوك: خلّف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة أخا بني غفّار، فأرجَف المنافقون بعليّ بن أبي طالب، وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له، وتخفّفاً منه.

فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ عليّ سلاحه، ثمّ خرج حتى أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو بالجُرف، فقال: (يا نبيّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخفّفت منّي!) فقال: (كذبوا، ولكنّي إنّما خلّفتك لما ورائي، فارجع فاخلُفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليّ، أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟!)، فرجع عليّ إلى المدينة، ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على سفره (٢) .

٢٣٩ - الإرشاد - في غزوة تبوك: أوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله) أنْ يسير إليها بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا يُمنى بقتال عدوّ، وأنّ الأمور تنقاد له بغير سيف، وتَعبَّدَه بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم؛ ليتميّزوا بذلك وتظهَر سرائرهم.

فاستنفرهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، وأشتدّ القيظ عليهم، فأبطأ أكثرهم عن طاعته؛ رغبةً في العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدّة القيظ، وبُعد المسافة، ولقاء العدوّ. ثمّ نهض بعضهم على استثقال

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٤، أنساب الأشراف: ٢ / ٣٤٩، المعجم الكبير: ٥ / ٢٠٣ / ٥٠٩٤ نحوه، وراجع خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ١٠٦ / ٤٥.

(٢) تاريخ الطبري: ٣ / ١٠٣، السيرة النبويّة لابن هشام: ٤ / ١٦٣، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٦٣١، الكامل في التاريخ: ١ / ٦٣٦.

٢٦١

للنهوض، وتخلّف آخرون.

ولمّا أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الخروج استخلف أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهله ووُلده وأزواجه ومهاجره، وقال له: (يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك)؛ وذلك أنّه (عليه السلام) علِم من خبث نيّات الأعراب، وكثير من أهل مكّة ومَن حولها ممّن غزاهم وسفَك دماءهم، فأشفق أنْ يطلبوا المدينة عند نأيِه عنها وحصوله ببلاد الروم أو نحوها، فمتى لم يكن فيها مَن يقوم مقامه، لم يؤمَن من مَعَرَّتهم (١) ، وإيقاع الفساد في دار هجرته، والتخطّي إلى ما يشين أهله ومخلّفيه.

وعلم (عليه السلام) أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ وحراسة دار الهجرة وحياطة مَن فيها إلاّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً.

وذلك فيما تظاهرت به الرواية، أنّ أهل النفاق لمّا علِموا باستخلاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) على المدينة حسدوه لذلك، وعظُم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنّها تنحرس به، ولا يكون للعدوّ فيها مطمع، فساءهم ذلك، وكانوا يؤثِرون خروجه معه؛ لِما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن المدينة، وخلوّها من مرهوبٍ مخوفٍ يحرسها. وغبطوه (عليه السلام) على الرفاهيّة والدِعة بمقامه في أهله، وتكلُّف مَن خرج منهم المشاقّ بالسفر والخطر.

فأرجَفوا به (عليه السلام) ، وقالوا: لم يستخلفْه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إكراماً له وإجلالاً ومودّة، وإنّما خلّفه استثقالاً له. فبهَتوه بهذا الإرجاف كَبَهْت قريش للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالجِنّة تارة،

____________________

(١) المَعَرَّة: الجناية، والأذى (لسان العرب: ٤ / ٥٥٦).

٢٦٢

وبالشِعر أخرى، وبالسحر مرّة، وبالكهانة أخرى، وهم يعلمون ضدّ ذلك ونقيضه، كما علِم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به على أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافه، وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان أخصّ الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان هو أحبّ الناس إليه، وأسعدهم عنده، وأفضلهم لديه.

فلمّا بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحِق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقال: (يا رسول الله، إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلّفتني استثقالاً ومقتاً!)، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي!!) (١).

____________________

(١) الإرشاد: ١ / ١٥٤.

٢٦٣

٢٦٤

الفصل الثاني عشر

  عِدّة بِعثات هامّة

١٢ / ١

البعْث لكسْر الأصنام

٢٤٠ - الإرشاد- في ذِكر وقايع بعد غزوة حُنين - ثمّ سار - يعني النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بنفسه - إلى الطائف فحاصرهم أيّاماً، وأنفذ أمير المؤمنين (عليه السلام) في خَيل، وأمره أنْ يطأ ما وجَد، ويكسر كلّ صنم وجده. فخرج حتى لقِيَتْه خيل خثعم في جمعٍ كثير، فبرز له رجُل من القوم يقال له: شهاب، في غَبش الصبح، فقال: هل من مبارز؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (مَن له؟) فلم يقُم أحد، فقام إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: تُكفاه أيّها الأمير. فقال: لا، ولكن إنْ قُتلتُ فأنت على الناس، فبرز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول:

إنّ على كلّ رئيسٍ حقّا

أنْ يروي الصَّعدَة (١) أو تُدقّا

____________________

(١) الصَعدَة: القناة (لسان العرب: ٣ / ٢٥٥).

٢٦٥

ثمّ ضربه فقتَله. ومضى في تلك الخيل حتى كسَر الأصنام، وعاد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو محاصر لأهل الطائف، فلمّا رآه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كبّر للفتْح، وأخذ بيده فخلا به، وناجاه طويلا ً(١) .

١٢ / ٢

البعْث لتأدية خسارات بني جذيمة

وجّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد فتح مكّة خالد بن الوليد على رأس كتيبة لدعوة قبيلة جذيمة بن عامر. وكان خالد يُكِنّ حقْداً قديماً لهذه القبيلة، فقتل نفراً منهم ظلماً وعدواناً، ومنوا بخسائر. فتبرّأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من هذه الجريمة الشنعاء، وأمر عليّاً (عليه السلام) أنْ يذهب إليهم، ويعوّضهم عمّا تكبّدوه من خسائر، ويَدِيهم بنحوٍ دقيق. فأدّى (عليه السلام) المهمّة مراعياً غاية الدقّة في تنفيذها، وحين رجع أثنى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على عمله، وأكّد، بكلمات ثمينة رفيعة، منزلته العليّة ودَوره الكبير في هداية الأمّة وتوجيه المسلمين في المستقبل (٢) .

٢٤١ - الإمام الباقر (عليه السلام): بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خالد بن الوليد - حين افتتح مكّة - داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب: سليم بن حصور، ومدلج بن مرّة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فإنّ الناس قد أسلموا... فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكُتّفوا، ثمّ عرضهم على السيف، فقتل مَن قتل

____________________

(١) الإرشاد: ١ / ١٥٢، إعلام الورى: ١ / ٢٣٤، المناقب لابن شهر آشوب: ٣ / ١٤٤ نحوه.

(٢) الأمالي للصدوق: ٢٣٧ / ٢٥٢، الخصال: ٥٦٢، بحار الأنوار: ٢١ / ١٤٢ / ٥، تاريخ الطبري: ٣ / ٦٧، السيرة النبويّة لابن هشام: ٤ / ٧١.

٢٦٦

منهم.

فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رفع يديه إلى السماء، ثمّ قال: اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد....

ثمّ دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فقال: (يا عليّ، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهليّة تحت قدميك). فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فوَدَى (١) لهم الدماء وما أُصيب لهم من الأموال، حتى إنّه ليَدي لهم مِيلَغة (٢) الكلب، حتى إذا لم يبقَ شيء من دمٍ ولا مال إلاّ وَدَاه بقيت معه بقيّة من المال.

فقال لهم عليّ - رضوان الله عليه - حين فرغ منهم: (هل بقيَ لكم بقيّة من دمٍ أو مال لم يُودَ لكم؟) قالوا: لا. قال: (فإنّي أُعطيكم هذه البقيّة من هذا المال؛ احتياطاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ممّا لا يعلم ولا تعلمون)، ففعل، ثمّ رجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأخبره الخبر، فقال: (أصبتَ وأحسنت).

ثمّ قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاستقبل القِبلة قائماً شاهراً يدَيه حتى إنّه ليُرى ما تحت مَنْكِبيه، يقول: (اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد) ثلاث مرّات (٣) .

____________________

(١) وَدَيتُ القتيل: أعطيت دِيَّته (لسان العرب: ١٥ / ٣٨٣).

(٢) هي الإناء الذي يَلغ فيه الكلب، يعني أعطاهم قيمة كلّ ما ذهب لهم حتى قيمة المِيلغة (لسان العرب: ٨ / ٤٦٠).

(٣) السيرة النبويّة لابن هشام: ٤ / ٧١، تاريخ الطبري: ٣ / ٦٦، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٥٦٨ كلّها عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنَيف، الكامل في التاريخ: ١ / ٦٢٠ كلاهما نحوه، وراجع الطبقات الكبرى: ٢ / ١٤٧، والمغازي: ٣ / ٨٧٥ - ٨٨٢.

٢٦٧

١٢ / ٣

البعْث إلى فَلْس (١)

٢٤٢ - الطبقات الكبرى: بعَث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب في خمسين ومِئة رجُل من الأنصار، على مِئة بعير وخمسين فرَساً، ومعه رايةٌ سوداء ولواءٌ أبيض إلى الفَلْس ليهدمه، فشنّوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفَلْس وخرّبوه، وملؤوا أيديهم من السبْيِ والنَعَم والشاة. وفي السبْيِ أُخت عدِيّ بن حاتم، وهرب عديّ إلى الشام (٢) .

١٢ / ٤

البعْث لإعلان البراءة من المشركين

إنّ آيات البراءة، وإعلان الاستياء من الشِرك والصنميّة، ولزوم تطهير أرض الوحي من معالم الشِرك، كلّ ذلك يُعدّ من أعظم الفصول في التاريخ الإسلامي. فقد نزلت سورة (براءة) في موسم الحجّ سنة (٩ هـ)، وكُلِّف أبو بكر بقراءتها على الحجّاج، مع بيان يتألّف من أربع موادّ، وتوجّه أبو بكر إلى مكّة، لكن لم يمضِ على تحرّكه إلاّ وقتٌ قصير حتى هبط الوحي مبلّغاً النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ:

(لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك).

فدعا عليّاً (عليه السلام) وأخبره بالأمر، وأعطاه راحلته، وأمره أنْ يعجّل في ترْك المدينة، ويأخذ السورة من أبي بكر، ويقرأها على الناس في حَشْدهم الغفير يوم العاشر من ذي الحجّة. وهكذا كان. فأُضيفت بذلك منقبة أخرى إلى مناقبه

____________________

(١) فَلْس أو فُلُس: اسم صنم كان بنَجْد تعبده طيء (معجم البلدان: ٤ / ٢٧٣).

(٢) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٦٤، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٦٢٤ نحوه، وراجع المغازي: ٣ / ٩٨٤.

٢٦٨

العظيمة، وثبت للأجيال والأعصار المختلفة سلَفاً أنّه من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه نفْسه (١) .

٢٤٣ - الإمام عليّ (عليه السلام): (لمّا نزلت عشْر آيات من براءة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكّة، ثمّ دعاني النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لحِقْته فخُذ الكتاب منه، فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم. فلحِقْته بالجُحفة، فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، نزل فيَّ شيء؟! قال: لا، ولكنّ جبريل جاءني فقال: لنْ يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك) (٢) .

٢٤٤ - مسند ابن حنبل عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة - قال: - ثمّ دعاه فبعث بها عليّاً، قال: (لا يبلّغها إلاّ رجلٌ من أهلي) (٣) .

٢٤٥ - فضائل الصحابة عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة، فلمّا بلغ ذا الحُلَيفة بعث إليه فردّه، وقال: (لا يذهب بها إلاّ

____________________

(١) راجع الغدير: ٦ / ٣٣٨ - ٣٥٠ فقد جمع المؤلّف الطُرُق المختلفة لهذا الحديث، وذهب إلى تواترها المعنوي.

(٢) مسند ابن حنبل: ١ / ٣١٨ / ١٢٩٦، فضائل الصحابة لابن حنبل: ٢ / ٧٠٣ / ١٢٠٣، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٣٤٨ / ٨٩٢٩ كلّها عن حنش، الطبقات الكبرى: ٢ / ١٦٨، تاريخ الطبري: ٣ / ١٢٢ وص ١٢٣، الكامل في التاريخ: ١ / ٦٤٤، المغازي: ٣ / ١٠٧٧، السيرة النبويّة لابن هشام: ٤ / ١٩٠ والخمسة الأخيرة نحوه، وراجع الأمالي للمفيد: ٥٦ / ٢، وشرح الأخبار: ١ / ٣٠٤ / ٢٨٤، والمناقب للكوفي: ١ / ٤٧٣ / ٣٧٦.

(٣) مسند ابن حنبل: ٤ / ٥٦٤ / ١٤٠٢١، المصنّف لابن أبي شيبة: ٧ / ٥٠٦ / ٧٢ وفيه (أهل بيتي) بدل (أهلي)، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٣٤٤ / ٨٩١٧ و ح ٨٩١٨.

٢٦٩

رجُلٌ من أهل بيتي)؛ فبعث عليّاً (١) .

٢٤٦ - خصائص أمير المؤمنين عن زيد بن يثيع عن الإمام عليّ (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث ببراءة إلى أهل مكّة مع أبي بكر، ثمّ أتبعه بعليّ، فقال له: خُذ الكتاب فامضِ به إلى أهل مكّة. قال: (فلحِقْته وأخذت الكتاب منه، فانصرف أبو بكر وهو كئيب، فقال: يا رسول الله، أنَزَل فيَّ شيء؟! قال: لا، إلاّ أنّي أُمرت أنْ أُبلّغه أنا أو رجلٌ من أهل بيتي) (٢) .

٢٤٧ - مسند ابن حنبل عن زيد بن يثيع عن أبي بكر: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بعثه ببراءة لأهل مكّة: لا يحجّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُريانٌ، ولا يدخل الجنّة إلاّ نفسٌ مسلمةٌ، مَن كان بينه وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مدّة فأجَلُه إلى مدّته، والله بريءٌ من المشركين ورسوله. قال: فسار بها ثلاثاً، ثمّ قال لعليّ (رضي الله عنه): (الحقْه فرُدّ عليَّ أبا بكر وبلّغها أنت). قال: ففعل، قال: فلمّا قدم على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أبو بكر بكى، قال: يا رسول الله، حدث فيَّ شيءٌ؟! قال: (ما حدَث فيك إلاّ خير، ولكن أُمرت أنْ لا يبلّغه إلاّ أنا أو رجلٌ منّي) (٣) .

٢٤٨ - المستدرك على الصحيحين عن جميع بن عمير الليثي: أتيت عبد الله بن عُمَر فسألته عن عليّ (رضي الله عنه) فانتهرَني، ثمّ قال: ألا أُحدّثك عن عليّ؟ هذا بيت

____________________

(١) فضائل الصحابة لابن حنبل: ٢ / ٥٦٢ / ٩٤٦، مسند ابن حنبل: ٤ / ٤٢٣ / ١٣٢١٣ نحوه، وراجع السيرة النبويّة لابن هشام: ٤ / ١٩٠.

(٢) خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ١٤٧ / ٧٦، أنساب الأشراف: ٢ / ٣٨٤ عن يزيد بن يثيع، تفسير الطبري: ٦ / الجزء ١٠ / ٦٤، تفسير ابن كثير: ٤ / ٤٩ كلاهما عن زيد بن يشيع وكلّها نحوه من دون إسناد إليه (عليه السلام)، وراجع تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٧٦.

(٣) مسند ابن حنبل: ١ / ١٨ / ٤، تاريخ دمشق: ٤٢ / ٣٤٧ / ٨٩٢٨.

٢٧٠

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المسجد، وهذا بيت عليّ (رضي الله عنه). إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث أبا بكر وعُمَر ببراءة إلى أهل مكّة، فانطلقا، فإذا هما براكب، فقالا: مَن هذا؟ قال: (أنا عليّ، يا أبا بكر هاتِ الكتاب الذي معك). قال: وما لي!! قال: (والله ما علمت إلاّ خيراً)، فأخذ عليّ الكتاب فذهب به، ورجع أبو بكر وعُمَر إلى المدينة، فقالا: ما لنا يا رسول الله؟! قال: ( ما لكما إلاّ خير، ولكن قيل لي: إنّه لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك) (١) .

٢٤٩ - الإرشاد: جاء في قصّة البراءة وقد دفعها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى أبي بكر؛ لينبُذَ بها عهد المشركين، فلمّا سار غير بعيد نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال له: (إنّ الله يُقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك). فاستدعى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) وقال له: (اركب ناقتي العضباء والحَق أبا بكر، فخُذ براءة من يده وامضِ بها إلى مكّة، فانبذ عهد المشركين إليهم، وخيّر أبا بكر بين أنْ يسير مع ركابك أو يرجع إليّ).

فركب أمير المؤمنين (عليه السلام) ناقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) العضباء، وسار حتى لحِقَ أبا بكر، فلمّا رآه فزع من لحوقه به، واستقبله وقال: فيمَ جئت يا أبا الحسن، أسائر معي أنت أمْ لغير ذلك؟! فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمرني أنْ ألحقك فأقبِض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني أنْ أُخيّرك بين أنْ تسير معي أو ترجع إليه). فقال: بل أرجع إليه.

وعاد إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا دخل عليه قال: يا رسول الله، إنّك أهّلتَني لأمرٍ طالت الأعناق فيه إليّ، فلمّا توجّهت له ردَدتني عنه، ما لي، أنزل فيَّ قرآن؟! فقال

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ٣ / ٥٣ / ٤٣٧٤.

٢٧١

النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (لا، ولكنّ الأمين هبط إليّ عن الله جلّ جلاله بأنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك، وعليٌّ منّي، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ) (١) .

٢٥٠ - تاريخ دمشق عن ابن عبّاس: بينا أنا مع عُمَر بن الخطّاب في بعض طُرُق المدينة - يده في يدي - إذ قال لي: يا بن عبّاس، ما أحسَب صاحبك إلاّ مظلوماً! فقلت: فرُدّ إليه ظُلامته يا أمير المؤمنين!! قال: فانتزَعَ يده من يدي، ونفَر منّي يهَمْهم، ثمّ وقف حتى لحِقْته، فقال لي: يا بن عبّاس، ما أحسب القوم إلاّ استصغروا صاحبك. قلت: والله ما استصغره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أرسله وأمَرَه أنْ يأخذ براءة من أبي بكر فيقرأها على الناس!! فسَكَت (٢) .

راجع: القسم التاسع / علىٌّ عن لسان أصحاب النبيّ / عُمَر بن الخطّاب

كتاب (تاريخ دمشق): ٤٢ / ٣٤٤ - ٣٤٩

____________________

(١) الإرشاد: ١ / ٦٥، المناقب لابن شهر آشوب: ٢ / ١٢٦ عن ابن عبّاس نحوه، وراجع الخصال: ١٥٧٨، وتفسير القمّي: ١ / ٢٨٢، وتفسير العيّاشي: ٢ / ٧٣ / ٤، والمناقب للكوفي: ١ / ٤٦٩ / ٣٧١.

(٢) تاريخ دمشق: ٤٢ / ٣٤٩، شرح نهج البلاغة: ٦ / ٤٥ وفيه (ما استصغره الله) وج ١٢ / ٤٦ وفيه (ما استصغره الله ورسوله)، كنز العمّال: ١٣ / ١٠٩ / ٣٦٣٥٧، الدرجات الرفيعة: ١٠٥ كلّها نحوه، وراجع فرائد السمطين: ١ / ٣٣٤ / ٢٥٨.

٢٧٢

تحقيقٌ وتحليل

قال العلاّمة الطباطبائي: قد عرفت أنّ الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصّة بعْث عليّ وعزْل أبي بكر - من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) - هو قوله: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك). وكذا ما ذكره النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حين أجاب أبا بكر - لمّا سأله عن سبب عزْله - إنّما هو مَتْن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - وهو في معناه -: (لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّى). وكيفما كان فهو كلامٌ مطلق؛ يشمل تأدية براءة وكلّ حُكم إلهيّ احتاج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى أنْ يؤدّيه عنه مؤدٍّ غيره، ولا دليل - لا مِن متون الروايات ولا غيرها - يدلّ على اختصاص ذلك ببراءة.

وقد اتّضح أنّ المنْع عن طواف البيت عُرياناً، والمنْع عن حجّ المشركين بعد ذلك العام [الفتح]، وكذا تأجيل مَن له عهد إلى مدّة أو من غير مدّة، كلّ ذلك أحكام إلهيّة نزل بها القرآن، فما معنى إرجاع أمرها إلى أبي بكر، أو نداء أبي هريرة بها وحده، أو نداؤه ببراءة وسائر الأحكام المذكورة في الجمْع إذا بُحَّ عليّ (عليه السلام)، حتى يصْحَل صوته من كثرة النداء؟! ولو جاز لأبي هريرة أنْ يقوم بها والحال هذه فلِم لم يجُز لأبي بكر ذلك؟!.

٢٧٣

نعم أبدَع بعض المفسّرين - كابن كثير وأترابه - هنا وجهاً وجّهوا به ما تتضمّنه هذه الروايات؛ انتصاراً لها، وهو أنّ قوله: (لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجُل منّي) مخصوص بتأدِيَة براءة فقط، من غير أنْ يشمل سائر الأحكام التي كان ينادي بها عليّ (عليه السلام)، وأنّ تعيينه (صلّى الله عليه وآله) عليّاً بتبليغ آيات براءة أهلَ الجمْع؛ إنّما هو لِما كان من عادة العرب أنْ لا ينقُض العهد إلاّ عاقِده أو رجلٌ من أهل بيته، ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعَت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ يأخذ براءة - وفيها نقْض ما للمشركين من عهد - من أبي بكر ويسلّمها إلى عليّ؛ ليستحفظ بذلك السُنّة العربيّة فيؤدّيها عنه بعض أهل بيته.

قالوا: وهذا معنى قوله (صلّى الله عليه وآله) لمّا سأله أبو بكر قائلاً: يا رسول الله، هل نزل فيَّ شيء؟! قال: (لا ولكن لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّي)، ومعناه أنّي إنّما عزلتُك ونصّبتُ عليّاً لذلك؛ لئلاّ أنقض هذه السُنّة العربيّة الجارية....

فليت شِعري من أين تسلّموا أنّ هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: (إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك)، مقيّدة بنقْض العهد لا يدلّ على أزيد من ذلك، ولا دليل عليه من نقلٍ أو عقل!! فالجملة ظاهرة أتمّ ظهور في أنّ ما كان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يؤدّيه لا يجوز أنْ يؤدّيه إلاّ هو أو رجلٌ منه، سَواء (١) كان نقْض عهد من جانب الله - كما في مورد براءة - أمْ حُكماً آخر إلهيّاً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يؤدّيه ويبلّغه.

وهذا غير ما كان من أقسام الرسالة منه (صلّى الله عليه وآله) ممّا ليس عليه أنْ يؤدّيه بنفسه الشريفة، كالكتُب التي أرسَل بها إلى الملوك والأُمم والأقوام في الدعوة إلى الإسلام، وكذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالاً من المؤمنين إلى الناس

____________________

(١) في المصدر (سواه) وهو تصحيف.

٢٧٤

في أُمور ترجع إلى دينهم والإمارات والولايات ونحو ذلك.

ففرْقٌ جليٌّ بين هذه الأمور وبين براءة ونظائرها، فإنّ ما تتضمّنه آيات براءة وأمثال النهي عن الطواف عُرياناً، والنهي عن حجّ المشركين بعد العام، أحكامٌ إلهيّة ابتدائيّة لم تبلّغ بعدُ ولم تؤدَّ إلى مَن يجب أنْ تبْلَغه، وهم المشركون بمكّة والحُجّاج منهم، ولا رسالة من الله في ذلك إلاّ لرسوله.

وأمّا سائر الموارد التي كان يكتفي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ببعْث الرسُل للتبليغ فقد كانت ممّا فرغ (صلّى الله عليه وآله) فيها من أصل التبليغ، والتأدِية بتبليغه من وُسعه تبليغُه ممّن حضر، كالدعوة إلى الإسلام وسائر شرائع الدين، وكان يقول: (ليُبلِّغ الشاهد منكم الغائب).

ثمّ إذا مسّت الحاجة إلى تبليغه بعضَ مَن لا وثوق عادة ببلوغ الحُكم إليه، أو لا أثر لمجرّد البلوغ إلاّ أنْ يعتني لشأنه بكتاب أو رسول (١) ، توسّل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب، كما في دعوة الملوك.

وليتأمّل الباحث المنصف قوله: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك)، فقد قيل: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت) ولم يُقَل: (لا يؤدّي إلاّ أنت أو رجُل منك) حتى يفيد اشتراك الرسالة، ولم يُقَل: (لا يؤدّي منك إلاّ رجُل منك) حتى يشمل سائر الرسالات التي كان (صلّى الله عليه وآله) يقلّدها كلّ مَن كان من صالحي المؤمنين. فإنّما مفاد قوله: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك) : أنّ الأمور الرساليّة التي يجب عليك نفسك أنْ تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوِضاً منك، إلاّ رجُل منك، أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائيّة إلاّ رجُل منك.

ثمّ ليت شِعري ما الذي دعاهم إلى أنْ أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله

____________________

(١) في المصدر (أو توسّل) وهو تصحيف.

٢٧٥

نزل به جبرئيل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك)، وذكروا مكانها أنّه (كانت السنّة الجارية عند العرب أنْ لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجلٌ من أهل بيته)!! تلك السنّة العربيّة التي لا خبَر عنها - في أيّامهم ومغازيهم - ولا أثر، إلاّ ما ذكره ابن كثير ونسَبَه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة.

ثمّ لو كانت سنّة عربيّة جاهليّة على هذا النعْت، فما وزنها في الإسلام!! وما هي قيمتها عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقد كان ينسَخ كلّ يوم سنّة جاهليّة، وينقض كلّ حين عادة قوميّة، ولم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السُنن والعادات النافعة، بل سليقة قبائليّة تشبه سلائق الأشراف!! وقد قال (صلّى الله عليه وآله) يوم فتح مكّة عند الكعبة - على ما رواه أصحاب السيَر: (ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين، إلاّ سدانة البيت، وسقاية الحاج).

ثمّ لو كانت سنّة عربيّة غير مذمومة، فهل كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذهَل عنها ونسِيَها حين أسلم الآيات إلى أبي بكر وأرسله، وخرج هو إلى مكّة حتى إذا كان في بعض الطريق ذَكر (صلّى الله عليه وآله) ما نسيَه، أو ذكّره بعض مَن عنده بما أهمله وذهل عنه من أمرٍ كان من الواجب مراعاته، وهو (صلّى الله عليه وآله) المثل الأعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب أنْ يُعتبر من الحزْم وحُسن التدبير؟! وكيف جاز لهؤلاء المذكّرين أنْ يغفلوا عن ذلك وليس من الأمور التي يُغفَل عنها وتخفى عادة؟! فإنّما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه.

وهل كان ذلك بوحيٍ من الله إليه، أنّه يجب له أنْ لا يلغي هذه السنّة العربيّة الكريمة، وأنّ ذلك أحد الأحكام الشرعيّة في الباب، وأنّه يحرم على وليّ أمر المسلمين أنْ ينقض عهداً إلاّ بنفسه أو بيد أحدٍ من أهل بيته؟ وما معنى هذا الحكم؟ أو أنّه حكمٌ أخلاقي اضطرّ إلى اعتباره؛ لِما أنّ المشركين ما كانوا يقبلون

٢٧٦

هذا النقض إلاّ بأنْ يسمعوه من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نفسه، أو من أحد من أهل بيته؟! وقد كانت السيطرة يومئذ له (صلّى الله عليه وآله) عليهم، والزمام بيده دونه، والإبلاغ إبلاغ.

أو أنّ المؤمنين المخاطبين بقوله: (عَاهَدتُّم) (١) ، وقوله: ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ) (٢) ، وقوله: ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (٣) ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضاً دون أنْ يسمعوه منه (صلّى الله عليه وآله)، أو من واحد من أهل بيته، وإنْ علموا بالنقْض إذا سمعوا الآيات من أبي بكر؟....

ليس التوغّل في مسألة الإمارة ممّا يهمّنا في تفهّم معنى قوله: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجُل منك)، فإمارة الحاجّ سواء صحّت لأبي بكر أمْ لعليّ؛ دلّت على فضْل أو لم تدلّ، إنّما هي من شُعَب الولاية الإسلاميّة العامّة التي شأنها التصرّف في أمور المجتمع الإسلامي الحيويّة، وإجراء الأحكام والشرائع الدينيّة، ولا حكومة لها على المعارف الإلهيّة، ومواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.

إنّما هي ولاية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ينصب يوماً أبا بكر أو عليّاً لإمارة الحاجّ، ويؤمّر يوماً أُسامة على أبي بكر وعامّة الصحابة في جيشه، ويولّي يوماً ابن أُمّ مكتوم على المدينة وفيها مَن هو أفضل منه، ويولّي هذا مكّة بعد فتحها، وذاك اليمن، وذلك أمْر الصدقات. وقد استعمل (صلّى الله عليه وآله) أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري - على ما في سيرة ابن هشام - على المدينة عام حجّة الوداع، وفيها أبو بكر لم يخرج إلى الحجّ على ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي

____________________

(١) التوبة: ١.

(٢) التوبة: ٣.

(٣) التوبة: ٥.

٢٧٧

وغيرهم، وإنّما تدلّ على إذعانه (صلّى الله عليه وآله) بصلاحيّة مَن نصّبه لأمرٍ لتصدّيه وإدارة رحاه.

وأمّا الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) ولا لِمَن دونه صنعٌ فيه، ولا تأثير فيه ممّا له من الولاية العامّة على أُمور المجتمع الإسلامي بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسْخ أو غير ذلك، ولا تحكم عليه سنّة قوميّة أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها، أو قيام العُصبة مقام الإنسان فيما يهمّه من أمر.

والخلْط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهيّة من أوج علوّها وكرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعيّة، التي لا حكومة فيها إلاّ للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسّر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامّيّة، ويستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظّمه الله، ويستصغر ما استصغره الناس، حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحي: إنّه عادة عربيّة محترمة! (١).

١٢ / ٥

البعْث إلى اليمن

لمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة، وانتصر على القبائل المستقرّة حولها في غزوة حُنين، أراد توسيع نطاق دعوته؛ فأرسل إلى اليمن معاذ بن جبل، وهناك استعصَت مسائل على معاذ فرجع، وبعث بعده خالد بن الوليد، فلم يحقّق نجاحاً، وأخفَق في مهمّته بعد ستّة أشهر من المكوث في اليمن. فانتدب عليّاً (عليه السلام)، فوجّهه إليها مع كتاب. ولمّا وصل قرأه على أهلها ببيانٍ بليغ وكلامٍ مؤثِّر، ودعاهم إلى التوحيد، فأسلمت قبيلة (همْدان). وأخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك؛ فسرَّ

____________________

(١) الميزان في تفسير القرآن: ٩ / ١٦٨ - ١٧٤.

٢٧٨

ودعا لهم (١) .

ونقلت أخبار أخرى أنّ الإمام (عليه السلام) اصطدم بقبيلة (مذحج) وهزَمهم، ثمّ دعاهم إلى الإسلام بعد هزيمتهم الأُولى، وجمع غنائم الحرب، وسار بها وبصدقات نجران فالتحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) في موسم الحجّ (٢) .

ثمّ فوِّض إليه (عليه السلام) القضاء في اليمن، ودعا له النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالثَبات في قضائه (٣) . ونقلت كتُب التاريخ نماذج من قضائه في اليمن. والآن يمكن أنْ يُثار السؤال الآتي: هل حدثت كلّ هذه الوقائع لعليّ (عليه السلام) في سفرة واحدة أو في عدّة أسفار؟!.

ينصّ ابن سعد على سفرتَين له (عليه السلام) (٤) . يُضاف إلى هذا أنّ الأخبار المرتبطة باشتباكه مع قبيلة (مذحج) تدلّ على استقلال تلك (السريّة). وفي النصوص المتعلّقة بذهاب الإمام (عليه السلام) إلى اليمن، وكيفيّة تنفيذ هذه المهمّة الكبرى مناقب وفضائل مسجَّلة له (عليه السلام) تجدها هنا.

٢٥١ - تاريخ الطبري عن أبي إسحاق عن البرّاء بن عازب: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن؛ يدعوهم إلى الإسلام. فكنت فيمن سار معه، فأقام عليه ستّة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب، وأمره أنْ يقفل خالداً ومَن معه، فإنْ أراد أحد ممّن كان مع خالد بن الوليد أنْ يعقّب معه ترَكَه.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣ / ١٣١، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٦٩٠، الكامل في التاريخ: ١ / ٦٥١.

(٢) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٦٩.

(٣) مسند ابن حنبل: ١ / ١٩٠ / ٦٦٦، المستدرك على الصحيحين: ٣ / ١٤٦ / ٤٦٥٨، الطبقات الكبرى: ٢ / ٣٣٧، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٦٩١.

(٤) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٦٩.

٢٧٩

قال البرّاء: فكنت فيمن عقّب معه، فلمّا انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلّى بنا عليٌّ الفجر، فلمّا فرغ صفّنا صفّاً واحداً، ثمّ تقدّم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأسلمَت هَمْدان كلّها في يومٍ واحد. وكتب بذلك إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا قرأ كتابه خَرَّ ساجداً، ثمّ جلس فقال: (السلام على هَمْدان، السلام على هَمْدان!)، ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام (١) .

٢٥٢ - الطبقات الكبرى: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً إلى اليمن، وعقد له لواءً، وعمّمه بيده، وقال: امضِ ولا تلتفت، فإذا نزلتَ بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك. فخرج في ثلاثمِئة فارس، وكانت أوّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهي بلاد مذحج. ففرّق أصحابه، فأتوا بنهبٍ وغنائم ونِساء وأطفال ونَعَم وشاءٍ وغير ذلك. وجعل عليٌّ على الغنائم بريدةَ بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا.

ثمّ لقيَ جمْعهم فدعاهم إلى الإسلام، فأبَوا ورموا بالنبل والحجارة، فصفّ أصحابه ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمي، ثمّ حمل عليهم عليّ بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرّقوا وانهزموا، فكفّ عن طلَبهم. ثمّ دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفَر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا: نحن على مَن وراءنا مِن قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله.

وجمع عليّ الغنائم فجزّأها على خمسة أجزاء، فكتب في سهمٍ منها لله، وأقرع عليها، فخرج أوّل السهام سهم الخُمس. وقسّم عليٌّ على أصحابه بقيّة

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣ / ١٣١، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢ / ٦٩٠ نحوه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311