موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ18%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59949 / تحميل: 7772
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القِسم الخامس: سياسة الإمام عليّ

خمسة وعشرون عاماً مضت على خلافة الخلفاء، وقد اتّسعت الانحرافات، وتفشّى الاعوجاج الذي كان قد بدأ بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى بلغَت الأوضاع في مَداها حدّاً أملى على الإمام عليّ (عليه السلام) أنْ يصِف ما جرى بأنّه (بليّة) (١) ، كتلك التي كانت قبل الإسلام، وذلك في خطاب حماسي خطير ألقاه بِدء الخلافة.

في هذه البُرهة العصيبة ثار الناس ضدَّ الخليفة وضدّ سلوكه ونهْجه في الحُكم، حتى إذا ما قُتِل انثالوا على الإمام بشكلٍ مذهل، وهم يطالبونه باستلام الحُكم.

لقد كان الإمام يُدرِك تماماً أنّ ما ذهب لنْ يعود؛ إذ قلّما عاد شيءٌ أدبَر. وعلى ضوء تقديره للأوضاع التي تناهَت في صعوبتها امتنع في بادئ الأمر عن الاستجابة لهم، بيدَ أنّه لم يجد محيصاً عن إجابتهم بعد أنْ تعاظم إصرار المسلمين، وكَثُر التفافهم حَوله.

كان أوّل ما طالَعهم به في أوّل خطبةٍ له: حديثُه عن التغييرات الواسعة التي يزمَع القيام بها في المجتمع، كما أوضح في الحديث ذاته أُصول منهجه ومرتكزاته.

هذا القِسم يبدأ رِحلته مع الإمام، فيسجِّل في البدْء الأجواء التي لابَسَت وصوله إلى السلطة وتسنّمه للحُكم، ثمّ يُتابع تفصيليّاً انطلاق

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، الكافي: ٨ / ٦٧ / ٢٣

٢١

حركته الإصلاحيّة، متوفّراً على رصْد أُصول نهْج الإمام ومرتكزات سياسته في التغييرات الواسعة التي قادها، والحركة الإصلاحيّة التي تزعّمها، وما أثارت من أصداء في المجتمع، وما خلّفته من تبِعات عليه.

من بين البحوث الأساسيّة الأُخرى في هذا القِسم رصْد أبرز الأُصول التي اعتمدها الإمام في الإصلاح، على مختلف الصُعُد الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة والأمنيّة. كما سعى هذا القِسم من الكتاب إلى متابعة رؤى الإمام (عليه السلام) في مجال السياسة، وعوامل استقرار الدوَل، وعوامل انحطاطها وزوالها، وطبيعة تعاون الدوَل بعضها مع بعض وغير ذلك ممّا له صِلة بهذه الدائرة.

القِسم السادس: حروب الإمام عليّ

يوم أنْ مَسَك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زِمام الحُكم بيده، وراح يطبّق ما كان قد تحدّث عنه ووعَد الناس به، برز أمامه تدريجيّاً ما كان قد توقّعه؛ فالوضْع لم يحتمل بسْط العدل، ولم يُطِق حركة الإصلاح والمساواة وإلغاء الامتيازات الوهميّة، فأخذت الفِتَن تطلّ برأسها، وبدأت أزَمَات الحُكم.

ما يبعث على الدهشة أنّ أوّل من استجاش الفتنة وأرباها هُم أُولئك النفَر الذين كان لهم الدَور الأكبر في إسقاط الحُكم السابق، وإرساء قواعد الحكم الجديد!.

ميزة هذا القِسم من الموسوعة أنّه تناول بالبحث والتحليل مناشئ هذه الفِتن وجذورها، وتابع مساراتها وما ترتّب عليها من تَبِعات. كما رصد

٢٢

بالتفصيل فِتن (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين)، التي تُعَدّ في حقيقتها انعكاساً لحركة الإمام الإصلاحيّة، ورَدّ فِعل على مواضعه المبدئيّة الصُلبة بإزاء الحقوق الإلهيّة، ودفاعه عن قِيَم الناس وحقوقها.

من النقاط المبدِعة اللامعة في هذا القسم تسليط الضوء على بعض الزوايا الفكريّة والنفسيّة والمواقف السياسيّة لمثيري الفتنة، ومتابعة تجلّيات ذلك بعُمق ودقّة في حركة خوارج النهروان.

إنّ هذا البحث - في الصيغة التي اكتسبتْها هذه الدراسة من خلال معرفة الوثائق التاريخيّة، وتحرّي التوجيهات الروائيّة التي احتوَت هذه الخصائص - لهو حديثٌ مبتكر وتحليلٌ بِكرٌ بديع.

على أنّ هذا القسم برمّته هو أكثر أقسام الكتاب عِظَة، وأعظمها درساً.

القسم السابع: أيّام التّخاذل

اتّسمت السنوات الأُولى لحكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هكذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. على صعيدٍ آخَر دأب أرباب الفتنة - خاصّة مركزها الأساس في الشام - على إيجاد الأزَمَات على الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرْع العقَبات أمام الحكومة المركزيّة.

ويجيء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلك العهد. فهذه كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تفيض من ألَم الوحدة وحُرقتها، وتبثّ شكواها من

٢٣

مصائب الزمان ودواهيه.

في تلك البُرهة الحالكة من الزمان سقَطت مِصر، فغاب عن الإمام مالك الأشتر، أطهَر الرجال، وأكفأ القادة، وأشجع الخِلاّن، وأَوفاهم بعد أنْ ارتوى بشَهَد الشهادة. فانكمش قلْب الإمام، وأُصيبت روحه الطَهور، والألَم يعتصره من كلّ جانب.

هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظُلامةِ عليّ، كما هو انعكاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.

وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخَر ليس له شِبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام، فالناس لم تَعُد على استعدادها الأوّل لحضور الجبَهات، كما لم تَعُد تستجيب لنداءات الإمام وهُتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما كان يبثّه الإمام مِراراً من شكوى، يرى فيه خصائص لأهل ذلك العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترْنوا إلى الدنيا، وتصْبوا إليها.

في أوضاع كالحة كهذه، استَعَرت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسُهُ الطَهور، فملأت نفسه ألَماً وغضاضةً وهو ينظر إلى جُندِ معاوية تُغير على المدُن المَرّة تِلْو الأُخرى، تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسَلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.

٢٤

راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جُنده واستهتارهم وضحكاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعَت نفسه وفاضت لها غُصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولكن لا من مجيب!.

وهكذا مضى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتمنّى الموت مرّات ومرّات!.

بَيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلى الواقع المرير، بل مضى قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلَّ عن المقاومة حتى آخر لحظة من عُمره.

أجل، هذا أمير المؤمنين يثِبُ كالمنار المضيء آخِر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلى صِفّين مجدّداً، وقد استنفر بكلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلى هذه المهمّة. فما أنْ انتهى من خطبته - وكانت الأخيرة - إلاّ وعقد للحسين بن عليّ (عليه السلام) ولقيس بن سعد وأبي أيّوب الأنصاري لكلّ واحد في عشرة آلاف مقاتل.

لكن وا أسَفاً! فقد أودَت واقعة استشهاد الإمام (عليه السلام) واغتياله من قِبل شقيٍّ (متنسّك)، بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثَتْ أنْ تداعَت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.

لقد توفّر هذا القِسم على تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها

٢٥

ومساراتها، وما كان قد اكتنفها من أسباب وعوامل.

القِسم الثامن: استشهاد الإمام عليّ

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أخبر باستشهاد الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام). أمّا الإمام نفسه فقد كان وجوده ينمّ عن صبغة وتكوين خاصّ يشدّه إلى السماء أكثر ممّا يجرّه إلى الأرض ويربطه بها. كان دائماً يتطلّع صَوب الملَكوت، تهفو روحه إلى هناك بانتظار اللحظة التي يعرج بها إلى السماء.

كم كانت عظيمة هذه الرحلة صَوب الملكوت وهي تحمل عليّاً مضرَّجاً بدم الجراح، ومضمَّخاً بالنقيع الأحمر.

ما كان أعظم شَوقه للمنِيّة! فها هو ذا عليّ والسيف الغادر المسموم يرقُد على مِفْرقِه ويشقّ رأسه، يتطلّع إلى الملأ الأعلى، ويهتف في وصف رحلته ويقول: (كطالبٍ وجَد، وغاربٍ ورَد).

القسم الثامن هذا اختصّ بمتابعة ما كان ذَكره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن استشهاد عليٍّ (عليه السلام)، وما كان يحكيه عليّ عن شهادته. كما تابع بقيّة مكوّنات المشهد؛ إذ وقف في البدء مع واقعة الاغتيال يصفها عن قُرب، ثمّ انتقل مع الإمام المسجّى مع جراحه راصداً جميع ما نطق به من تعاليم ووصايا وحِكَم مُذ هوى على رأسه سيف الغدر حتى لحظة استشهاده، ثمّ انتقل إلى الجانب الآخر متقصّياً ردّ فِعل ألَدّ أعداء عليّ (عليه السلام)، وما نطَق به عندما بلَغه خبر شهادة الإمام.

٢٦

كما لم يهمل واقعة تجهيز أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفْنه وإخفاء قَبْره.

واختُتم هذا القسم بذِكر زيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبركات ذلك وما يتّصل بروضته الشريفة.

القِسم التاسع: الآراء حول شخصيّة الإمام

تؤلّف تجلّيات شخصيّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على لسان الرجال وفي كلمات الرموز الكبيرة، بل وحتى على لسان أعدائه، أحد أهمّ فصول معرفة أبعاد شخصيّته.

ربّما لا نبالغ إذا قلنا: إنّ ما حفَّ شخصيّة عليّ بن أبي طالب، وما قيل فيه وعنه من كلام وأحكام وتجليل وتكريم وخُطَب وقصائد ومدائح، وما أحاط به من ذهول وحَيرة وهُتاف وصمت، فاق الجميع بحيث لا يمكن مقارنته بأيِّ شخصيّةٍ أُخرى في تاريخ الإسلام.

في هذا القسم يطلّ القارئ على شخصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من خلال ما نطق به القرآن، وما جاء على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام عليّ نفسه، وسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وصحابة النبيّ، وأهل البيت (عليهم السلام)، وزوجات النبيّ، كما يتطلّع إلى أُفُقها العريض عِبر ما خطّه عدد كبير من الرموز العلميّة والثقافيّة والسياسيّة البارزة، وما جادت به قرائح الشعراء والأُدباء والخطباء، حتى أعداؤه.

ويمضي القارئ في هذا القِسم مع رجال قالوا في عليّ (عليه السلام) كلمات مسفرة كضوء الفجْر، انطلقت من قلوب مفعمة بالشوق والحبّ.

٢٧

وقد ترك بعضهم شهادة صريحة للتاريخ في أنّ فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومناقبه تعظم على الإحصاء، ولا تقوى الصحُف المكتوبة بأجمعها على استيفائها.

وقالوا: إنّ الصمت أقوى من كلّ حديث عن عليّ (عليه السلام)، وأمضى من كلّ الكلمات.

فهذه كلماتهم تخطّ لعليّ أنّه الأعلم، وهو الأعرف من الجميع بكتاب الله، وعليّ الأشجع في سوح الوغى، وهو أكثر الناس إخلاصاً وتبتّلاً وطاعة.

عليٌّ الهيّن الليّن أكرم الناس خلُقاً، وقلْبه الشاخص إلى ربّه أبداً.

عليّ في مضمار البلاغة بحرٌ لا يُنزَف، وهو سيّد البُلَغاء، وأفصَح الخُطباء.

عليّ المجاهد الذي تَثِبُ به بصيرته، وهو الصلب الذي لا تلين له عريكة، ولا تُوهِنه الصِعاب، مِلؤه إقدام ومَضاء.

وعليّ أعرف الأمّة بالحقّ، وأنفذ الرجال بصيرة.

هذه بعض كلماتهم في عليّ. ولعليّ بعد ذلك كلّ فضيلةٍ وكمالٍ، فله وحده ما كان للصالحين جميعاً.

كان عليٌّ وِتراً التقَت فيه جميع خصال الجمال، وتألّقت في ذُراه الفضائل بأكملها، وحطّت عنده المكارم. وهو في الفتوّة وِتْرٌ لا ندّ له ولا نظير.

٢٨

هذه الحقيقة نلحظها تتوهّج بين ثنايا هذا القِسم عِبر شهادة وأقوال عشرات المفكّرين، تتوزّعهم مختلف الاتّجاهات والرؤى، بل نرى بعضها متضادّاً أحياناً!.

ولا ريبَ أنّ قراءة كلّ هذه الشهادات والأقوال، والاطّلاع على هذه القطوف الدانية من كلمات المدح والإطراء، لهو أمرٌ خليق أنْ يشدّ إليه القارئ ويجذبه إلى دائرة نفوذه.

القسم العاشر: خصائص الإمام عليّ

  عليّ بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو اللوحة الفريدة الوحيدة التي تتجلّى بها خصائص الإنسان الكامل. وهذه الحقيقة الناصعة الكريمة كانت قد أفصَحت عن نفسها خلال القِسم السابق عِبر ما جاء عن المعصومين (عليهم السلام)، وما نطق به الصحابة والعلماء والفلاسفة والمتكلّمون والباحثون.

ما ينهض به القسم العاشر هو إبانة خصائص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسليط أضواء مكثّفة على ما تحظى به شخصيّته الفذّة من أبعاد ومكوّنات؛ انطلاقاً من هذا طاف القِسم مع الإمام في خصائصه العقيديّة والأخلاقيّة والعلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، التي تتلاقى فيما بينها لتؤلّف صَرْح هذا الرجُل التاريخي الشامخ والمنار المضيء الذي لا نظير له.

يا لروعته وتفرّده! فلم يكفر بالله طرْفة عَين، وهو في ثبات إيمانه، ورسوخ يقينه أمضى من الجبال الرواسي، لا يرقى إلى قمّته أحدٌ قطّ.

٢٩

يعمُر الخُلُق الكريم جنَبات وجوده، وتفوح حياته بالإخلاص والإيثار، وتمتلئ أرجاؤها بالمكرمات.

في محراب العبادة هو الأوّاه المتبتّل أعبَد العابدين، وقلبه المجذوب إلى ربّه أبداً، وهو في الصلاة أخشع المصلّين.

ومَن يُمعن في ميدان السياسة يجده الأصلب، شاهقاً يفوق الجميع، ذكيّاً لا تضارعه الرجال، أدرى الناس بملابسات الزمان.

للمظلومين نصيراً لا يكِلّ عن الانتصاف لهم ولا يملّ، وهو على الظالمين كنارٍ اشتدّت في يومٍ عاصف.

عِلمه الأكمل، وبصيرته الأنفذ، ورؤيته إلى الله وإلى عالَم الوجود والخليقة شفيفة رائقة، سليمة نقيّة، لا تضارعها نظرة ولا يضاهيها نقاء.

أجل، حسْبُ عليّ أنّه كان عليّاً وحسْب، خالصاً لله من دون شَوب، شاهداً على الرسالة، مجسّداً لِقَيمِها الرفيعة ومُثُلها العليا.

وهذا القسم يقدّم هذا جميعاً إلى طلابّ الحقّ والنفوس الظمأى للحقيقة، ويحمله إلى العقول المتلهّفة لمعرفة عليّ، عِبر مرآة متألّقة بنور الآيات الكريمة، ومن خلال النصوص والوقائع التاريخيّة.

القسم الحادي عشر: علوم الإمام عليّ

عليّ (عليه السلام) أعظم تلميذ بزَغ في مدرسة محمّد (صلّى الله عليه وآله). أبصَر فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الجدارة والاستعداد ما يفوق به كلّ إنسان، ومن القدرة على التعلّم ما

٣٠

لا مدى له، ففاض على روحه علماً غزيراً لا ينضَب، وأراه الحقائق الكبرى الناصعة، وبتعبير النصوص الروائيّة والتاريخيّة لقّنه (ألف باب)، و(ألف حرف)، و(ألف كلمة)، و(ألف حديث) (١)في مضمار معرفة الحقائق وتحرّي العلوم.

عليّ (عليه السلام) باب حكمة النبيّ، ومدخل علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو خزانة علمه، ووارث علوم جميع النبيّين.

عليّ المؤتمَن على حكمة النبيّ الحافظ لعِلمه، ومن ثَمَّ هو أعلم الأُمّة.

أمير المؤمنين (عليه السلام) أُذُنٌ واعية؛ لذا فهو لا ينسى ما يقرع فؤاده من العلم، وبذلك راحت الحكمة تتفجّر من بين جوانحه، وتفيض نفسه الطهور بحقائق المعرفة.

لكن أسَفاً وما أعظمها لوعة أنْ تكون مقادير الحياة قد غيَّبت أُولئك الرجال، الذين يهيب بهم استعدادهم الوجودي لتلقّي المعرفة العلَويّة الناصعة. ولو كانوا هناك؛ لفاض عليهم الإمام بقبضةٍ من شعاع عِلمه الباهر، ولأشرَق الوجود بقبَسٍ من نور معرفته.

كان عليّ (عليه السلام) يحظى من (عِلم الكتاب) بعِلمه الكامل كلّه. في حين لم يكن لآصف بن برخيا من (علم الكتاب) إلاّ بعضه، فأَهّله أنْ يأتي إلى

____________________

(١) جاءت هذه الألفاظ في نصوص مختلفة، ويمكن أنْ يكون المقصود فيها واحداً.

٣١

سليمان (عليه السلام) بعرش بلقيس في طرفة عين أو أقلّ (١) .

لم يعرف علم عليّ (عليه السلام) مدىً، ولم يوقفه حَدّ، بل امتدّ سعةً حتى تخطّى كلّ العلوم. فهو في الذروة القصوى في علوم القرآن، وفي معارف الشريعة، وعلوم الدين، وعلم البلايا والمنايا، وهو السَنام الأعلى في كلّ معرفة.

هل تجد لعليٍّ نظيراً في معرفة الله، وهو ذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما عرف الله إلاّ أنا وأنت)؟.

أجل؛ هو ذا كما يقول النبيّ الأقدس، فهذا كلامه في التوحيد ومراتبه، وفي إثبات الصانع وطُرُق الاستدلال عليه، وفي معرفة الله وصفاته يقف في الذروة العليا، وله في نظر الفلاسفة والمتكلِّمين مرتبة سامقة لا تُضاهى.

إنّ ما نطق به الإمام عليّ (عليه السلام) حول الوجود، وما ذكره عن المخلوقات، وما توفّر على إظهاره من نقاط بديعة حيال الخليقة، لهُوَ ينمّ عن إحاطة علميّة بضُروب المعرفة البشريّة.

فكلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بدء الخليقة، وخلْق الملائكة والسماوات والأرَضين والحيوان، وما فاض به عن المجتمع والنفس وحركة التاريخ، وما أدلى به من إشارات عن الرياضيّات والفيزياء وعلم

____________________

(١) قوله سُبحانه: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) (النمل: ٤٠).

٣٢

الأرض (الجيولوجيا) وغير ذلك ممّا يُعَدّ في حقيقته تنبّؤات علميّة، ويدخل في المعجزات العلميّة للإمام، لهُوَ قَمِين بالإعجاب، وخليق أنْ يملأ النفس خضوعاً ودهشة.

لم يعرف التاريخ على امتداده رجُلاً، عالماً كان أمْ فيلسوفاً أمْ مفكِّراً، ينهض بعلوّ قامته، ويقول بثبات: (سلوني ما تشاؤون). ثمّ لم يعجزه الجواب أبداً، ولم يلبث حتى لحظة واحدة كي يتأمّل بما يجيب.

وهذا القِسم ليس أكثر من إيماءة إلى علوم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو إشارة على استحياء إلى بحْره الزخّار، ونظرة عابرة تومِض من بعيد إلى أُفُق المعرفة العلَويّة.

القسم الثاني عشر: قضايا الإمام عليّ

القضاء صعب، وأصعب منه القضاء الراسخ الذي يستند إلى الصواب والحقّ.

يستند القضاء من جهة إلى علمٍ راسخ، ويتطلّب من جهة أُخرى روحاً كبيرة وشخصيّة ثابتة لا تخشى التهديد ولا تميل إلى التطميع، ولا تطوح بها العلائق والأهواء عن جادّة الحقّ والصواب.

وأقضية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هي منارات مضيئة في الحياة، وأكاليل رفيعة في رحاب الحياة السياسيّة، وأحرى بها أنْ تكون من أعاجيب التاريخ القضائي.

لقد تناول هذا القسم أقضية الإمام في أربعة فصول، توفّر كلّ واحد منها

٣٣

على بُعد. فقد مرَّ في البدء على الموقع القضائي الذي يحظى به الإمام، وأنّه (أقضى الأُمّة) بمقتضى صريح كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ انعطف إلى بيان أمثلة لأقضية عليّ (عليه السلام) على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، متابعاً لها وهي تتوالى في عهد خلافته الراشدة؛ لتكشف بأجمعها عن عِلمٍ واسع عميق، وصلابة ماضية في السلوك، وثبات راسخ، وإيثار الحقّ على ما سِواه، والدفاع عن الحقيقة في خِضَمّ الحياة.

القسم الثالث عشر: آيات الإمام عليّ

الإنسان خليفة الله في الأرض. والأبعاد المعنويّة هي أسمى مظهر باهر يتألّق في شخصيّة الإنسان، وإذا ما ارتقى الإنسان على هذا الخطّ وصار قريباً إلى الله عِبر السلوك المعنوي، فسيكون كلّ ما يصدر عنه مُذهلاً عجيباً، وتصير حياته وتعاطيه مع الوجود (تجلّيات) للقدرة الإلهيّة.

حين تُبصر عليّاً (عليه السلام) في هذا المجال تجده (ممسوساً في ذات الله) على حدّ ما نصّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصفه، وهو أدرى الناس به، وعليّ ثمرة لتربية الرسول. ومن ثَمَّ كان حرِيّاً بحياته أنْ تكون - ولا تزال - مشرقة بأكثر تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني) نوراً ووضاءة.

لقد توفّرت فصول هذا القسم على الإيماء إلى أمثلة للقدرة المعنويّة الباهرة، والولاية التكوينيّة التي يحظى بها الإمام، ومرّت على بعض تجلّيات هذا (الخليفة الربّاني)، وما يشعّ به وجوده من مظاهر القدرة والعظَمة الإلهيّة.

٣٤

كان من بين المحطّات التي لبثَتْ عندها فصول هذا القسم: أمثلة لإجابة الدعوات، وإخبار الإمام بالمغيّبات، وبعض ما له من كرامات مثل (ردّ الشمس) التي تعدّ منقبة تختصّ به وحده، وفضيلة تبعث على الدهشة، وتدعو إلى العجَب.

هذا القسم في حقيقة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رحلة تطوف معه؛ لتُبرز بُعده المعنوي في التعامل مع أُفق الوجود، وتؤشّر إلى موقعه المُنيف في معارج الصعود، وما يحظى به هذا الإنسان الربّاني من مكانة عظيمة على مهاد الأرض، كما تكشف عن دَوره كـ (خليفة إلهي).

القسم الرابع عشر: حبّ الإمام عليّ

الجمال حبيب إلى الإنسان، والإنسان يهفو إلى الجمال، ولن تجد إنساناً يصدّ عن الجمال أو تنكفِئ نفسه عن المكرَمات والفضائل السامقة، أو يُشيح عن المُثل العليا.

هو ذا عليٌّ (عليه السلام) مصدر جميع ضروب الجمال، يتفجّر وجوده بالكمال، وتحتشد فيه جميع الفضائل والمكارم والقِيَم، فأيُّ إنسانٍ يُبصر كلّ هذا التألّق ولا يشدو قلبه إلى عليٍّ حبّاً وإيماناً؟ وأيُّ إنسانٍ له عين بصيرة ويعمى عن ضوء الشمس؟.

دَعْ عنك أُولئك النفر الذين ادلهمّت نفوسهم بظلمةٍ حالكة، فعميت أبصارهم عن رؤية هذا الجمال الباهر الممتد، ولم يُبصروا مظاهره الخلاّبة.

٣٥

وإلاّ لو خُلّيَ الإنسان وإنسانيّته لأُلفي باحثاً عن الجمال أبداً متطلّعاً إليه على الدوام.

كذلك هو عليّ أحبُّ الخلْق إلى الله خالق الجمال وواهب العظمة. كما هو الأحبّ عند الملائكة وعند رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وهل يكون هذا إلاّ لجوهر الذات العلَويّة، وللمكانة المكينة التي يحظى بها هذا الإنسان الملكوتي الذي تتقرّب الملائكة - أيضاً - إلى الله بمحبّته؟.

إنّ لحبّ عليّ في ثقافتنا الدينيّة شأناً عظيماً يُبهِر العقول، ويبعث على التأمّل.

وما نهض به هذا القِسم أنّه وثَّقَ لهذه الحقيقة نصوصَها. وقد جاءت النصوص تُفصح دون مواربة ولَبْس أنّ حبّ عليّ حبٌّ لله ولرسوله، وتسجِّل بنصاعة وضّاءة أنّ حبّ عليّ (نعمة) و(فريضة) و(عبادة)، وهو (العروة الوثقى) و(أفضل العمل) و(عنوان صحيفة المؤمن).

فحبُّه إذاً من دين الله بالصميم.

ومع أنّ هذا القِسم لا يدّعي أنّه قد استقصى كلّ النصوص الروائيّة التي لها مَساس بعليّ (عليه السلام) في هذا المجال، إلاّ أنّ ما توفّر على ذِكره أسفَر بوضوح: أنّ حبّ عليّ هو السبيل إلى بلوغ حقائق المعرفة الدينيّة، وهو الذي يشيع السكينة في أرجاء الحياة، وبحبّ عليّ يكتمل الإيمان والعمل، وبه تُرفع أعمالنا مقبولة إلى الله سبحانه، وبحبّ عليّ يستجاب الدعاء وتُغفر الذنوب.

٣٦

وبحبّ عليّ (عليه السلام) تنتشر نسائم السرور على الإنسان عند الموت، وحبّ عليّ لُقيا يُبصِر بها المحتضر وجه المولى عند الممات، وحبّ عليّ جواز لعبور الصراط وللثبات عليه، وهو الجُنّة التي تقي نار جهنّم.

ومِسك الختام: أنّ حبّ عليّ هو الحياة الطيّبة في جنّة الخُلد.

إنّ كلّ ذلك لا يكون إلاّ بحبّ عليّ، وفي ظلال حبّ عليّ (عليه السلام).

لم تتردّد النصوص الروائيّة لحظة وهي تسجّل بثبات راسخ أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) هو دليل طهارة المولد، وعلامة على الإيمان والتقوى، وهو عنوان شهرة الإنسان ومعروفيّته في السماوات وعند المَلأ الأعلى، وهو رمْز السعادة.

وبعدُ، فإنّ كلّ هذا الحشد مِن التأكيد على الحبّ العلَوي، ووصْله برباطٍ وثيق مع الحبّ الإلهي، وبحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لهُوَ دليل شاخص على أنّ الحبّ المحمّدي الصحيح لنْ يكون ممكناً من دون الحبّ العلَوي. وما ادّعاء حبّه (صلّى الله عليه وآله) من دون حبّ عليّ (عليه السلام) إلاّ عبَث جزاف ودعوة باطلة.

على أنّ هذا القِسم يعود ليكشف في جوانب أخرى على أنّ حبّ عليّ (عليه السلام) ما كان شعاراً يُرفع وحديثاً يُفترى، بل هو أُسوة يقتدي فيها المحبّ بحياة عليّ، يلتمس هدْيَه في خُطاه، يعيش كما يعيش، ويفكّر كما يفكّر، ويمارس معايير عليّ في الحبّ والولاء، وفي البُغض والبراءة، ويَحثو خُطاه صَوب قِيَمه دائماً وأبداً، وإلاّ كيف يجتمع حبّ عليّ مع حياة سفيانيّة ونهجٍ أُمَويّ؟.

٣٧

آخِر ما يشدّ إليه الانتباه في مادّة هذا القِسم هو التحذير من الغلُوّ؛ فمع كلّ هذا التركيز المكثّف العريض على حبّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإلى جوار هذه الإشادة بالآثار العظيمة التي يُغدقُها هذا الحبّ على الحياة الماديّة والمعنويّة، جاءت التعاليم النبويّة والعلَويّة والدينيّة تشدّد النكير، وتُعلِن التحذير الكبير من الغلُوِّ بهذا الحبّ. فها هيَ ذي النصوص الحديثيّة تنهى عن الإفراط وتذمّه، وتعدّه انحرافاً يُهيّئ الأجواء إلى انحرافات أكبر.

القِسم الخامس عشر: بُغْض الإمام عليّ

على قدَر ما تكون شخصيّة عليّ الطالعة المهيبة بالغة الروعة والجمال لذوي النفوس الزكيّة، موحِية أخّاذة لذوي الأفكار الرفيعة، محبوبة خلاّبة لذوي الفِطَر النقيّة والطِباع الكريمة، فهي تثير الغيظ في النفوس المدلهمّة المظلمة، وتستجيش عداوة الوصوليّين النفعيّين، وبغضاء ذوي الأغراض الدنيئة الهابطة، والنوازع المنحطّة.

إنّ التاريخ يجهر أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب كانوا من حيث التكوين الروحي سُقَماء غير أسْوياء نفسيّاً، ومن حيث التكوين الفكري كانوا منحرفين بعيدين عن الصواب. أمّا من حيث مكوّنات الشخصيّة فقد كانوا أُناساً تستحوذ عليهم الأنانيّة والإثْرة، يُنبئ باطنهم عن الفساد والأغراض الهابطة.

هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يستشرف مستقبل الإسلام عِبر مرآة الزمان، يعلم بالفِتن ويعرف مثيريها وأصحابها. وهو ذا يؤكّد في كلّ موقعٍ موقع من

٣٨

أشواط حياته المملوءة عزماً وتوثّباً والتزاماً على حبّ عليّ بن أبي طالب، ويحذّر الناس من بُغضه، وينهاهم عن عداوته وشنآنه.

يسجّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصراحة لا يشوبها لَبْسٌ، أنّ بُغض عليّ بن أبي طالب كُفر، وأنّ مَن آذى عليّاً فقد آذاه.

ليس هذا وحده، بل مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرسم ثغور الجبهة الاجتماعيّة ويحدّد اصطفافاتها العامّة، بما يُظهر أنّ مَن هو مع عليّ وعلى حبّ عليّ، فهو مع النبيّ نفسه، ومَن يناهض عليّاً ويُعاديه فموقعه في الجبهة التي تعادي النبي وتُناهض رسالته.

لقد أفصحت النصوص المعتبرة عند الفريقين ممّا تقصّاها هذا القِسم، على أنّ أعداء عليّ بن أبي طالب بعيدون عن رحمة الله سُبحانه، وأنّ خسرانهم وسوء منقلبهم أمرٌ قطعيّ لا ريب فيه. فمَن يمُت على بُغض عليّ (عليه السلام) يمُت ميتةً جاهليّة، وبُغْض عليّ علامة تُجهر بنفاق صاحبها وفِسقه وشقائه.

وإذا كان بُغْض عليّ (عليه السلام) يستتبع ميتة جاهليّة؛ فإنّ إنساناً كهذا لنْ ينتفع شيئاً من تظاهره بالإسلام، وهو يُحشَر في القيامة أعمى، ليس من مصير يؤول إليه سوى نارُ جهنّم.

يضع هذا القسم بين يدَي القارئ نصوصاً حديثيّة وروائيّة كثيرة، فيها دلالة على ما سلفت الإشارة إليه. وهو - علاوة على ذلك - يعرّف بعدد من ألدّ أعداء الإمام وأعنف المُبغضين له، كما يمرّ على جماعة من

٣٩

المنحرفين عنه، وعلى القبائل التي كانت تكنُّ له البغضاء، ولا غرابة فقد قيل: (تُعرف الأشياء بأضدادها).

هذا عليٌّ، ولا يلحَق به لاحِق، واسمه الآن يصدح عِبر أُفُق المكان والزمان، ويعلو شاهقاً على ذُرى التاريخ، وهذه تعاليمه وكلماته مسفرة كضوء الفجْر متألّقة على مدار الزمان.

أمّا والأمر كذلك؛ فقد كان حريّاً بهذا القِسم أنْ يلبَث عند تلك الجهود المحمومة كاللهب، وعند تلك الصدور الموبوءة بالحقد، وقد نفثت أحقادها علّها تُطفئ الشعلة المتوقّدة، أو عساها تنال مِن وهَجها شيئاً؛ حتى تستيقن النفوس بوَعد الله الذي وعَده، وكي لا يستريب أحدٌ بقوله سبحانه: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) . وهكذا كان.

القسم السادس عشر: أصحاب الإمام عليّ وعمّاله

مع هذا القسم يُختَتم الكتاب ويبلُغ نهايته. بعد أنْ لبَث القارئ مع خمسة عشَر قسماً من الموسوعة، وصار على معرفة واسعة ممتدّة بمختلف أبعاد حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المملوءة بالتعاليم الواعية البنّاءة، التي تُنير الحياة وتفتح المغاليق، بعد هذا كلّه آنَ له أنْ يرحل في هذا القسم مع جولة تطوف به على عِدّة من أصحاب عليّ (عليه السلام) وعمّاله، يتعرّف عليهم وينظر إليهم عن كثَب.

____________________

(١) الصفّ: ٨.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماويّة خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأنّ الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقّبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعيّ إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفّار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحقّ و تميط الباطل - لأنزلهم بالحقّ الفاصل المميّز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصّل ما ذكره بعضهم.

و قيل: المراد بالحقّ في الآية الموت و المعنى ما نزّل الملائكة على الناس إلّا مصاحبا للحقّ الّذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) الآية.

و قيل: المراد بالحقّ الرسالة أي ما نزّل الملائكة إلّا بالوحي و الرسالة و كأنّه مأخوذ من نحو قوله:( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحقّ ) النساء: ١٧٠( و قولهفَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جاءَهُمْ ) الأنعام: ٥.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعاً لا تخلو من شي‏ء و هو أنّ شيئاً منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ ) فنزول الملائكة لا يختصّ بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختصّ بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحقّ يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقرّرة آنفاً.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية باستمداد من التدبّر في آيات اُخر أنّ ظرف الحياة المادّيّة أعني هذه النشأة الدنيويّة ظرف يختلط فيه الحقّ و الباطل من غير أن يتمحّض الحقّ في الظهور بجميع خواصّه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَ الْباطِلَ ) الرعد: ١٧، و قد تقدّم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شي‏ء من الحقّ إلّا و هو يحتمل شيئاً من اللبس و الشكّ كما يصدّقه

١٠١

استقراء الموارد الّتي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلّا مع إمكان التباس الحقّ بالباطل و اختلاط الخير و الشرّ بنحو حتّى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدلّ على الخير و الشرّ بآثارهما و أماراتهما ثمّ يختار ما يستحقّه من السعادة و الشقاوة.

و أمّا عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنّما هو عالم الحقّ غير مشوب بشي‏ء من الباطل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

فمقتضى الآيات و ما في معناها أنّهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانيّة منزّهة عن النّقص و الشين لا تحتمل الشرّ و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادّيّ المبنيّ على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعاً، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

و سيأتي أيضاً أنّ الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحقّ ما دام متوغّلاً في هذا العالم المادّيّ متورّطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلّا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحقّ و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و هذا هو العالم الّذي يسمّى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبيّن أنّ ظهور عالم الملائكة للناس المتوغّلين في عالم المادّة متوقّف على تبدّل الظرف و الانتقال من الدّنيا إلى الآخرة و هو الموت اللّهمّ إلّا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهّرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهليّة مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياءعليهم‌السلام .

و لعلّ ما قدّمناه هو المراد بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا

١٠٢

إِذاً مُنْظَرِينَ ) ، فإنّهم إنّما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصليّة حتّى يصدّقوا و هذا الحال لا تتمهّد لهم إلّا بالموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ إلى أن قال يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣.

و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدّقة للنبوّة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلّدنا الملك النبوّة و الرّسالة كان لازمه أن نصوّره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفاً يحتمل اللبس فإنّ الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهيّ و لا امتحان إلّا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصّل إلى الرسالة بما يضطرّ العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كلّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.

و المعنى - على هذا و الله أعلم - أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتّى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، و ليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إيّاه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيّناً لحقائق معارفه.

١٠٣

فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيّ خالد.

و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللّام في الذكر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربّما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً لأنّ كلّا منهما ذكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الّذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ و دوران الحكم مداره.

و سنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن رفاعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فيومئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثمّ قال:( ذرهم يأكلوا و يتمتّعوا و يلههم الأمل) أي شغلهم( فسوف يعلمون) .

أقول: و روى العيّاشيّ، عن عبدالله بن عطاء المكّيّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن

١٠٤

جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ناسا من اُمّتي يعذّبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثمّ يعيّرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحّد إلّا أخرجه الله تعالى من النار. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي موسى الأشعريّ و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنّة عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أصحاب الكبائر من موحّدي الاُمم كلّها الّذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنّم لا تزرق أعينهم، و لا تسودّ وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلّون بالسلاسل، و لا يجرّعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرّم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهراً ثمّ يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثمّ يخرج منها، و أطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشي‏ء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنّة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثمّ يدخلون الجنّة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنّميّون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنّة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكاً فيمحوه ثمّ

١٠٥

يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمّرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنّة بنعيمهم و لذّاتهم، و ذلك قوله:( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس عوداً بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإنّ هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.

( كلام في أنّ القرآن مصون عن التحريف في فصول)

( الفصل ١- الاستدال علي نفي التحريف بالقرآن)

من ضروريّات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً - تقريباً - و ادّعى النبوّة و انتهض للدّعوة و آمن به اُمّة من العرب و غيرهم، و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه متضمّن لجمل المعارف و كلّيّات الشريعة الّتي كان يدعو إليها، و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته، و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الّذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في

١٠٦

الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه اُمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.

و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية(١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أمّا جلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يضع و لم يفقد.

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شي‏ء منها أو يفوته و يفقد.

فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود و القلوب.

و نجده يتحدّى بقوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا و يرفعه آية اُخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.

و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة كما في قوله:

__________________________________________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام أن قوله تعالى: ( إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إنّ النبيّ مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٧

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء: ٨٨ و قوله:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الّذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخلقيّة من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الّذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.

و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اُممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.

و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملّة الّتي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.

و من أجمع الأوصاف الّتي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذكر لله فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤل إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار.

١٠٨

ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الّذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر.

و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات الّتي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاً و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.

و كقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه.

و من سخيف القول إرجاع ضمير( لَهُ ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مدفوع بالسياق و إنّما كان المشركون يستهزؤن بالنبيّ لأجل القرآن الّذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) و قد مرّ تفسير الآية.

فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما اُنزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.

و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة لو كان تغيّر في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الّذي بأيدينا واجداً

١٠٩

لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته فالّذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النوريّة و الذكريّة و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.

( الفصل ٢- الاستدلال عليه بالحديث)

و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.

و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به.

و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.

على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحقّ من الباطل و من المعلوم أنّ الدسّ و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الاُمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.

١١٠

و كذا الأخبار الّتي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتّى في الموارد الّتي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.

و كذا الروايات الواردة عن أميرالمؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عندالله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّعليه‌السلام من المصحف و لم يشركوهعليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب‏ قولهمعليهم‌السلام لشيعتهم:( اقرؤا كما قرأ النّاس) .

و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألّفه عليّعليه‌السلام في شي‏ء فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات الّتي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً و لا في الأوصاف الّتي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الّذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.

( الفصل ٣- كلام مثبتي التحريف و جوابه)

ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل السنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.

١١١

أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الّذي اُلّف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الّذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ و مسلم و سنن أبي داود و النسائيّ و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.

و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبدالله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف اُبيّ بن كعب المصحف العثمانيّ و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة الّتي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الّذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.(١)

و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجي‏ء روايته.

و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبدالله بن مسعود و اُبيّ ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة و غير الاختلافات القرائيّة الشاذّة الّتي رويت عن الصحابة و التابعين فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة: أنّ عليّاعليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة

__________________________________________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١١٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يرتد إلّا للصّلاة حتّى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن‏ الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كانعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتّفق عليه: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الاُمّة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة، بالقذّة و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الاُمّة فيحرّفوا كتاب ربّهم و هو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاريّ، عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و اُمّهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟

و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ - كما مرّ - و أبي هريرة و عبدالله بن عمر، و ابن عبّاس و حذيفة و عبدالله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شدّاد بن أوس و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير القمّيّ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة لا تخطؤن طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.

و الجواب عن استدلالهم بإجماع الاُمّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة

١١٣

بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.

بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أنّ الّذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات الّتي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الّذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون.

و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الّذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول، و أمّا المنقول منه الّذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.

فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على خطإ أو ضلال) و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقّفة على صحّة النبوّة و ذلك ظاهر، و صحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشي‏ء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.

١١٤

و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.

و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اُريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.

و الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اُقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الّذي تمسّك فيه بالأخبار:

أما أوّلاً فبأنّ التمسّك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الّذي تقدّم آنفاً.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تاريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإنّ انسراب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجّيّة في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.

و مع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة:

أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأوّل: في قول الله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ - فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب -وَ قُلْ لَهُمْ

١١٥

فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) .

و ما في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا - عمّا اُمرتم به -فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات الّتي تذكر هذه الآية هكذا:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ - في عليّ -) و الآية نازلة في حقّهعليه‌السلام ، و ما روي: أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ - بنو تميم -أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظنّ أنّ في الآية سقطا.

و يلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمّد حقّهم -) و ما ورد من قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ - في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده -فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) و هي كثيرة جدّاً.

و يلحق بها أيضاً ما اُتبع فيه القراءة بشي‏ء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال:( قلت‏ ظ) كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالّتي وردت في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أنّ الآية هكذا:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء) و في بعضها:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل) .

و هذا الاختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيّده ما ورد في بعضها من قولهعليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنّهم

١١٦

أذلّة و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على‏ ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة و هي في بعضها: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة. و في بعضها: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذّة» و في بعضها آخرها:( نكالا من الله و الله عليم حكيم) و في بعضها:( نَكالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

و كآية الكرسيّ على التنزيل الّتي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:( اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً( مَنْ ذَا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ - إلى قوله -وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و الحمد لله ربّ العالمين.

و في بعضها - إلى قوله -( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) و الحمد لله ربّ العالمين، و في بعضها هكذا:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ - و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم -) إلخ. و في بعضها:( عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام ربّ العرش العظيم) و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم.

و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتّفاقها في أصل التحريف. مردود بأنّ ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.

و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الاُمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الّذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الّذي يأوي إليه و يتحصّن به المعارف

١١٧

الدينيّة و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن لفسد بذلك أمر النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.

و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إنّ رجلا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أنّ القرآن الّذي جاء به كان معجزاً دالّاً على نبوّته، و الإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجيّته أو لأنّه يكشف مثلاً عن قول أئمّة أهل بيته؟.

و بالجملة احتمال الدسّ - و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن - يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتّى ما كان منها صحيح الأسناد فإنّ صحّة السند و عدالّة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اُصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.

و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشي‏ء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللّتين رويتا بعدّة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك و سورة الحفد هي:( بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق) .

و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاُسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها

١١٨

حتّى تشاهد صدق ما ادّعيناه و تقضي أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.

و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قوله:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتّى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الّذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الاُولى الّتي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ و القرآن الّذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اُصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الّذي وصفه الله بها.

و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك و هي قائمة كما قدّمنا، و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ فلا.

و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعهعليه‌السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شي‏ء من الحقّائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شي‏ء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتّى و لم ينقل عنهعليه‌السلام فيما

١١٩

روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.

و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرّزاً عن شقّ العصا فإنّما كان يتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.

و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات الّتي يرون سقوطها و ربّما ادّعوا أنّها تبلغ الاُلوف كانت جميعاً في الولاية أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلّمه و بلوغ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نصّ على ذلك القرآن قال تعالى:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ و قال:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله:( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) و قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أنّ هذه الآيات - و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدّة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتّى أبطلها الله بإمحاء

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311