النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165800 / تحميل: 7981
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النص والاجتهاد

العلامة السيد شرف الدين

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣: -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين باري الخلائق أجمعين الذي سن لهم أحكاما وتشريعات تعود عليهم بالنفع في عاجل الدنيا وآجل الآخرة وجعلها طبقا لمصالح وعلل لا يعلمها الا هو ومن ارتضاه من رسله وعباده المخلصين.

والصلاة والسلام على منقذ البشرية من الظلمات إلى النور، الذي حلاله حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى، وعلى آله الغر الميامين أمناء الله على دينه ومهبط وحيه ومعدن رحمته وخزان علمه. والذين هم منتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخيار وساسة العباد وأركان البلاد وأبواب الإيمان، حجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى المظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

٣

[ الحرية: ]

الحرية هو شعار، كثيرا ما دفعته أديان ومذاهب وأحزاب وقوميات و شخصيات في العصر الحديث وفي العصر القديم وجعل هذا الشعار هدفا و مقصدا للإنسان يسعى لتحقيقه ويتغنى به، وإذا أراد الإنسان أن يبحث عن المبدأ أو الفئة التي أعطت للإنسان حريته وسعادته المنشودة لم يجد لها عين ولا أثر على وجه البسيطة حتى المذاهب التي اتخذت الحرية شعارا أساسا لها كالرأسمالية الغربية أو الاشتراكية الشرقية والذي يوجد عندها انما هو لفظ الحرية ومصداق العبودية بمعنى الكلمة وبما يحمل اللفظ من معنى لهذا رجع الإنسان من هذين المذهبين بل والمذاهب الأخرى الوضعية بخفي حنين الا العبودية الذليلة.

الإنسان لا يجد حريته وسعادته الا في الإسلام وهو الدين والمبدأ الوحيد الذي ضمن للإنسان سعادته وحريته الحقيقية في جميع المجالات: المبدأية والاقتصادية والأخلاقية الفردية والاجتماعية، وهذه هي الحرية التي تعلو به إلى ما يتناسب مع إنسانيته وكرامته بل وتعلو به إلى أعلى عليين حتى تقربه من مولاه.

[ حرية الفكر في الإسلام: ]

من جملة الحريات التي منحها الإسلام للإنسان هي حرية الفكر ودعاه وحثه على التفكر في جميع المجالات بما فيها الكون والحياة والآخرة وما سوف يؤول إليه وأشار إلى حقيقة قد تخفى على الإنسان وهي ان الذي يستفيد من الكون والحياة ويكون على سبيل نجاة هو الذي يفكر فيما حوله( إِنَّ

٤

فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. ) (١) .

وان الذي يأخذ عبرة من ذلك هو الإنسان المفكر قال تعالى:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢) .

وفي الحث على الفكر وحريته فضله على كثير من العبادات فقد روي عن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: " فكرة ساعة أفضل من عبادة سنة "(٣) .

وأرجحية التفكر على العبادة ليس الا لان في التفكر ميزة خاصة لا توجد في كثير من العبادات الجوفاء عن المعرفة والهداية. تلك الميزة هي الوصول إلى الحقيقة فكم إنسان قد اهتدى إلى الإسلام أو من الفسق والعصيان إلى الإيمان وخرج من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة. لانه استعمل فكره وعقله لفترة من الزمن وقد لا تتجاوز الساعات أو الدقائق فيرتبط مصيره بهذه اللحظات القيمة.

والشواهد على ذلك كثيرة جدا فالنقتبس من باب مدينة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعضها قالعليه‌السلام : " فكرك يهديك إلى الرشاد، ويحدوك على إصلاح المعاد "(٤) .

وقال أيضا: " لكل شئ دليل ودليل العاقل التفكر "(٥) .

وقالعليه‌السلام : مشيرا إلى انه كل ما كان تفكير الإنسان أكثر وأعمق كان صوابه

____________________

(١) سورة آل عمران: ١٩٠ - ١٩١.

(٢) الجاثية: ١٣.

(٣) البحار ٧١ / ٣٢٦.

(٤) غرر الحكم ص ٢٢٧.

(٥) تحف العقول ص ٢٨٥ (*).

٥

وقربه إلى الحق أكثر وكل ما قل تفكيره كثر خطائه وقرب نحو الباطل " طول الفكر يحمد العواقب، ويستدرك فساد الأمور "(١) .

وقالعليه‌السلام : " تفكرك يفيدك الاستبصار ويكسبك الاعتبار "(٢) .

وقالعليه‌السلام : " من فكر قبل العمل كثر صوابه "(٣) .

[ المبدأ الأول وحرية الفكر: ]

والإسلام حينما دعى إلى حرية الفكر وحث عليه لم يكن ذلك من باب التسلية والشعار الفارغ وانما رتب على ذلك الأثر كبقية الحقائق التي يدعو إليها. فأهم شئ في وجهة نظر الإسلام بل في الوجود ككل هو معرفة المبدأ الأول المنشئ لهذا الكون بما فيه وهذه الحياة التي يعيشها الإنسان على هذا الكوكب.

فالإسلام ابتدأ مع الإنسان من هذه المهمة التي هي أول ما يحتاجه الإنسان ولا يمكن أن يستقل عنها أو ينفصل عن فيضها ولو لحظة واحدة، فنبه الإسلام الإنسان على أنه لابد له من الاعتراف بوجود الله سبحانه وعدالته من طريق العقل الحر والتفكير العميق ولا يكفي التقليد فيه وكذلك بقية أصول الدين كالنبوة والإمامة والمعاد يلزم أن يعترف بها من طريق فكره وأدلتها متوفرة لجميع الناس مهما اختلفت مستوياتهم ويكتفي من كل بحسب حاله، والآيات والروايات التي تتحدث كأدلة ليست الا محض ارشاد والا لحصلت المصادرة.

وهذا لا يمنع من ان الإسلام اتخذ موقفا آخر بالنسبة إلى فروع الدين فقد فسح المجال للتقليد فيها لمن ليس أهلا للنظر والفحص وذلك لكثرتها وتشعب

____________________

(١) غرر الحكم ص ٢٠٨.

(٢) غرر الحكم ص ١٥٧.

(٣) غرر الحكم ص ٢٧٧ (*).

٦

أدلتها خصوصا مع البعد الزمني عن عصر الرسالة وتوقف النظام الاجتماعي لو اشتغل الكل بتحصيل كل ما يحتاجه من مسائل الفقه.

[ حرية اختيار الإسلام: ]

بعد أن عرفنا ان معرفة المبدأ الأول لابد أن يكون من طريق العقل وحريته التامة. نعرف ان كل شئ مهما سما فهو دون المولى سبحانه حتى الإسلام فاختياره يكون بتفكر الإنسان وبحثه وتدقيقاته( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وعندما يستعمل عقله فالنتيجة هي الاعتراف بالإسلام ومباديه لهذا نرى ان الإسلام يعطي الإنسان حرية التفكير في بحثه وهو مطمأن ان النتيجة هو الوصول إلى الحقيقة والواقع وتراه يضع للإنسان الداعية الطرق الحكيمة والخلقية عندما يدعو الإنسان غيره ولا يحتاج لان يستعمل الأساليب الملتوية من الكذب والغش والبهتان والشتم والتعصب الأعمى( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) .

واننا على علم ويقين تأمين ان الإنسان مهما كان إذا استعمل فكره ولم يتعصب إلى فكرة معينة أو تقليد أعمى لأبويه أو لبيئته التي يعيش فيها أو لحزب ينتمي إليه أو لمذهب ينتسب إليه وصار موضوعيا في فكره وبحثه وأخلص النية لله تعالى للحق في هدفه فانه سوف يصل إلى الحقيقة وتنكشف له كما سوف يتعرف على الباطل وموارد الاشتباه والالتباس عليه وذلك بعون الله وحسن لطفه وعنايته.

____________________

(١) النحل: ١٢٥.

(٢) العنكبوت: ٤٦ (*).

٧

[ منزلة العقل في الإسلام: ]

فإذا عرفنا هذه الأهمية الكبرى للفكر في الإسلام نعرف أهمية العقل في حياة الإنسان وسعادته ووصوله إلى الواقع. فان العقل أداة الفكر الذي يفكر بها الإنسان وقد وردت النصوص الكثيرة في مدح العقل وجعله حجة على الناس كما ان الرسل حجة عليهم.

قال الإمام الكاظمعليه‌السلام : " يا هشام ان لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، وأما الباطنة فالعقول "(١) .

بل جعل التمييز بين الخير والشر والنزوع عن الشر انما هو بالعقل. فقد روي عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : " انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له "(٢) .

وهكذا يتتابع المدح والثناء على العقل وما يلازمه من العلم والتفقه( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : " تفقهوا في دين الله فان الفقه مفتاح البصيرة "(٤) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : " أيها الناس لا خير في دين لا تفقه فيه "(٥) .

____________________

(١) الكافي ج ١ / ١٦.

(٢) تحف العقول ص ٤٤.

(٣) فاطر: ٢٨.

(٤) تحف العقول ص ٣٠٢.

(٥) البحار ج ٧٠ / ٣٠٧ (*).

٨

[ الموضوعية عند أهل البيت: ]

لا نعجب لما نرى أئمة الهدى من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان هدفهم هو الوصول إلى الحق مهما كان طريقه مرا وشائكا وكأودا واننا بملاحظة تعاليمهمعليهم‌السلام وتربيتهم لأمة جدهم نرى أروع الأمثلة في الموضوعية والتجرد عن التقليد الأعمى والتعصب الجاهلي فمثلا نقرأ قول الإمام الهاديعليه‌السلام في مناجاته لربه وتضرعه إليه: " اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي إليك. ".

فالميزان ليس الحسب أو النسب أو العشيرة أو تقليد الآباء مهما بلغوا في عظمتهم وشهرتهم بل المقصد هو الوصول إلى الحق سبحانه والقرب إليه من أي طريق وبأي ثمن وانما يجب التمسك بالمبدأ المعين إذا كان موصلا إلى الله تعالى ومقربا نحوه والا لا قيمة له، فالإمام الهاديعليه‌السلام يفترض - وفرض المحال ليس بمحال - انه لو وجد شخص أقرب إلى الله من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لوجب التمسك به، وهذا غاية الموضوعية والإخلاص إلى الله سبحانه.

* * *

وان الموضوعية في الأبحاث مهما كانت قد تبدو حساسة وشائكة وصعبة الا انها سوف تكون عاملا مساعدا للوحدة ولم شعث الأمة الإسلامية ورص صفوفها في قبال الكفر العالمي، وأما السكوت عن القضايا المذهبية والخلافية أو إثارتها بالشتم والكذب والبهتان والتعصب فانه لن يجدي نفعا للأمة الإسلامية ووحدتها وعزها وكرامتها، بل يجب أن تتوحد الصفوف وتنصهر وتحابب القلوب مهما كان بينها من خلاف أو تعدد في المذاهب والأفكار وتكون كالجسد

٩

الواحد يتألم بعضه لبعض لتعود خير أمة أخرجت للناس.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا من جملة الكتب التي تعرض القضايا العلمية والتاريخية والفقهية والكلامية ويبحثها بحثا موضوعيا بعيدا عن التعصب المذهبي أو الطائفي بل أعطى للفكر مجاله في مناقشات الأبحاث التي تعرض لها.

وأول ما يلفت انتباهنا هو عنوان الكتاب (النص والاجتهاد) فماذا يراد بهذين اللفظين وما هو مقدار الصلة والتقابل بينهما.

لمتبعة الموضوع اضغط على الصفحة التالية أدناه

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٠: -

وأول ما يلفت انتباهنا هو عنوان الكتاب (النص والاجتهاد) فماذا يراد بهذين اللفظين وما هو مقدار الصلة والتقابل بينهما.

[ النص: ]

أصل النص في اللغة: أقصى الشئ وغايته ثم سمي به ضرب من السير السريع. ونصصت الحديث إلى فلان: رفعته إليه(١) .

[ وللنص معنيان ]

١ - ان يكون في مقابل المجمل أو الغير الظاهر فيكون النص: " ما دل على معنى غير محتمل للنقيض بحسب الفهم "(٢) . وقال صاحب المعارج: " هو الكلام الذي يظهر افادته لمعناه ولا يتناول أكثر مما هو مقول فيه "(٣) . وهذا المعنى لم يكن محط لنظر المصنف.

٢ - النص: المراد به الكتاب الكريم والسنة الشريفة بأقسامها الثلاثة: أ - قول المعصوم. ب - وفعله. ج - وتقريره.

____________________

(١) راجع: الصحاح ولسان العرب.

(٢) مجمع البحرين ج ٤ / ١٨٦.

(٣) معارج الأصول ص ١٠٥ (*).

١٠

فقد أطلق على كل ذلك النص فإذا قيل عنده نص أي أحد هذه الأمور وإذا قيل لم يكن عنده نص أي هذه الأمور منتفية فيرجع معنى النص إلى انه: " الدليل الدال على الحكم الشرعي والثابت عن الشارع من طريق القطع أو الظن المعتبر سواء كان كتابا أو سنة ". وهذا هو مراد المصنف كما هو واضح من ثنايا أبحاث الكتاب.

[ الاجتهاد: ]

والاجتهاد في اللغة مأخوذ من " الجهد " بالضم بمعنى الطاقة وبالفتح بمعنى المشقة فهو بذل الوسع والطاقة والقيام بعمل ما مع المشقة. وبهذا المعنى استعمل في القرن الأول الإسلامي فالنصوص التي قد وردت وتحدثت عن الاجتهاد بناءا على صحة تلك النصوص فالمراد هو الاجتهاد اللغوي ولم يكن لهم اصطلاح خاص غير المعنى اللغوي.

[ في الاصطلاح: ]

والاجتهاد في اصطلاح علماء الأصول قد تعدد تعريفه عندهم: فقد عرفوه: " انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قرة قريبة " كما عرفه البهائي بذلك. وعرفه الغزالي بأنه: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ". وعرفه ثالث: من انه " الملكة التي يقتدر بها على ضم الصغريات لكبرياتها لانتاج حكم شرعي أو وظيفة عملية شرعية أو عقلية "(٢) .

____________________

(١) راجع كتب اللغة الصحاح ولسان العرب.

(٢) الاجتهاد لبحر العلوم والأصول العامة للحكيم، ومقدمة الكتاب للحكيم أيضا. (*)

١١

وغيرها من عشرات التعاريف التي لا تتعدى انها شرح للاسم وليست تعاريف لحقيقة الاجتهاد خصوصا بعد تطوره واختلافه من زمن إلى آخر.

[ التأويل: ]

عرفنا فيما سبق انه القرن الأول الإسلامي لم يستعمل الاجتهاد كمصطلح خاص يغاير المعنى اللغوي بل يستعملونه في المعنى اللغوي فقط. وهم يستعملون مكانه كمصطلح خاص لفظ " التأويل " فالشخص الذي يرتكب مخالفة للكتاب أو السنة ويراد أن يعتذر عنه أو يصحح عمله يقال له تأول.

وأمثلة ذلك كثيرة في الصدر الأول :

منها: ان خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة عامل رسول الله على صدقات قومه اعتذر خالد عن فعله وقال للخليفة أبي بكر: " يا خليفة رسول الله إني تأولت وأصبت وأخطأت "(١) .

ومنها: قول أبي بكر جوابا لعمر حين قال: " ان خالدا زنى فارجمه ": " ما كنت أرجمه فانه تأول فأخطأ " أو " هبه يا عمر، تأول فأخطأ. "(٢) .

وهكذا كانوا يعتذرون لجملة من الصحابة في أعمالهم كاتمام الصلاة في حال السفر لعائشة وعثمان والحروب التي دارت بين الصحابة(٣) .

وتطور الاعتذار إلى حد صار إلى كل جريمة ترتكب والمرتكب في نظرهم مسكوت عنه.

____________________

(١) راجع ما يأتي ص ١٢٥.

(٢) مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٦٧، وما يأتي من الكتاب ص ١٢٤.

(٣) صحيح مسلم باب صلاة المسافر وقصرها، وما يأتي من الكتاب ص ٤٠٥ و ٤١٢ (*).

١٢

فقد اعتذر ابن حزم: عن أبي الغادية قاتل عمار (رض) من انه متأول مجتهد فحطي له أجر واحد(١) . مع ما تواتر من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في عمار انه " تقتله الفئة الباغية "(٢) .

بل تمادوا في الاعتذار عن أشقى الأولين والآخرين ابن ملجم في الجريمة التي هزت السموات والأرض وهى قتله لسيد الوصيينعليه‌السلام . اعتذروا لابن ملجم كما اعتذروا ليزيد بن معاوية في قتله لسيد شباب أهل الجنة ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرة عين الزهراء البتول الإمام الحسين سبط الرسولعليه‌السلام (٣) .

اعتذروا لهم انهم تأولوا فأخطأوا فلهم أجر واحد. وإذا رجعنا إلى كتب اللغة في معنى التأويل لرأيناهم يذكرون ان: التأويل هو بمعنى التفسير. وتفسير ما يأول إليه الشئ(٤) .

ولكن المعتذرين استعملوه في غير معناه اللغوي بل في الأفعال التي ارتكبت مخالفة للنصوص الصريحة(٥) .

____________________

(١) الفصل لابن حزم، والإصابة ج ٤ / ١٥١.

(٢) راجع مصادر هذا الحديث في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات.

(٣) المحلى لابن حزم ج ١٠ / ٤٨٤ والجوهر النقي لابن التركمان بذيل سنن البيهقي ج ٨ / ٥٨ وتاريخ ابن كثير ج ٨ / ٢٢٣.

(٤) راجع كتب اللغة الصحاح ولسان العرب.

(٥) راجع ما يأتي من أبحاث في الكتاب، ومقدمة مرآة العقول. (*)

١٣

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٤: -

[ مدرسة الرأي: ]

وفي القرن الثاني تطورت أسباب الاعتذار والتبرير من " التأويل " إلى الرأي وكانت مدارس الرأي كثيرة ادعى بعضهم وجودها في زمن الصحابة في الصدر الأول من الإسلام ولكن مدرسة الإمام أبي حنيفة المتوفى ١٥٠ ه‍ والمتواجدة في العراق فاقت بقية مدارس الرأي فقد بالغ بالأخذ به كمصدر أساسي للأحكام الشرعية ودليل قاطع فقد روى الخطيب البغدادي في ترجمة أبي حنيفة من تاريخ بغداد عن يوسف بن أسباط قال قال أبو حنيفة: " لو أدركني رسول الله وأدركته لأخذ بكثير من قولي وهل الدين الا الرأي الحسن "(١) .

ولهذا تشدد في أخذ النصوص من السنة النبوية إلى حد كان يرفض جملة كبيرة منها، فقد روى الخطيب أيضا عن علي بن عاصم انه قال: حدثنا أبا حنيفة عن النبي فقال: لا آخذ به فقال: فقلت: عن النبي فقال: لا آخذ به وروي أيضا عن أبي إسحاق الفزاري قال: كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشئ من أمر الغزو فسألته عن مسألة فأجاب فيها فقلت له: انه يروى فيه عن النبي كذا وكذا قال: دعنا عن هذا. وقال أيضا: كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيخالفه إلى غيره(٢) .

وعلى هذا المبنى فقد أفتى بجملة من الأحكام الشرعية التي توجد كثير من الروايات على خلافها(٣) .

والحاصل: ان الرأي في مدرسة أبي حنيفة بل وفي غيرها يساوي الاجتهاد

____________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣٨٧ - ٣٩٠.

(٢) راجع هذه النصوص وغيرها في تاريخ بغداد للخطيب ج ١٣ / ٣٨٧ - ٣٩٠ وكتاب المجروحين لبستى ج ٣ / ٦٥ كما في مقدمة مرآة العقول ج ٢.

(٣) راجع ذلك في كتاب المحلى لابن حزم ج ٧ / ٨١ و ١١١ وج ٨ / ٣٥١ وج ١٠ / ٣٦٠ وبداية المجتهد ومقدمة مرآة العقول ج ٢ / ٤٠ - ٤٦ (*).

١٤

وهما بمعنى واحد يقول مصطفى عبد الرزاق: " فالرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية وهو مرادنا بالاجتهاد "(١) .

وهذا الاجتهاد عندهم على الأقل عدل للكتاب والسنة فكما انهما مدركان للأحكام الشرعية كذلك الرأي يقول الدواليبي في تقسيم الاجتهاد إلى ثلاثة :

أولا: البيان والتفسير لنصوص الكتاب والسنة.

ثانيا: القياس على الأشباه في الكتاب والسنة.

ثالثا: الرأي الذي لا يعتمد على نص خاص وانما على روح الشريعة. "(٢) .

ولعل الفقر العلمي الذي حصل لديهم وذلك من ان التلقي للأحاديث ومن مصدرها قد انقطع بوفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهذا مست الحاجة إلى مثل هذه الأمور بعكسه لمدرسة أهل البيت مثلا التي ترى ان الأئمةعليهم‌السلام هم استمرار لحركة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم قد حفظوا جميع آثاره وهم لسانه الناطق فبوجودهمعليهم‌السلام لا تحتاج شيعتهم إلى الرأي والقياس وما شاكلهما.

[ مدرسة الحديث ]

ولما انتشرت مدرسة الرأي خرجت في قبالها مدرسة الحديث وقد أخذت هذه موقفا عكسيا لمدارس الرأي فقد اعتمدت هذه على ظواهر الحديث وشجبت جميع القضايا العقلية كالقياس والاستحسان والرأي وتعبدت بظواهر النصوص وكان من المؤيدين إلى هذه المدرسة الإمام مالك بن أنس ثم تم تشييدها على يد داود بن علي الظاهري المتوفى سنة ٢٧٠ ه‍ وسمي بالظاهري

____________________

(١) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١٣٨.

(٢) المدخل إلى علم أصول الفقه ص ٥٥ (*)

١٥

لأنه كان يعتمد على ظواهر الكتاب والسنة ولم يعتمد على الإجماع الا إذا اتفق جميع العلماء على الحكم.

وهذه المدرسة لم تتمكن من مصارعة مدرسة الرأي بالرغم من وجود علماء وأنصار لها كابن حزم الأندلسي فقد انقرضت هذه المدرسة في القرن الثامن الهجري.

[ مدرسة أهل البيت: ]

ان مدرسة أهل البيت في تلقي الأحكام الإلهية ونشرها لها مميزاتها ومباديها الخاصة ولها الاستقلالية التامة عن جميع المدارس الأخرى التي حدثت وتعتقد ان الأحكام الشرعية يجب أن تكون من مصدر الهي ومن منبع الرسالة المحمدية لا غير وان علومهم علوم جدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولهذا كثيرا ما يكررون ويؤكدون ان حديثهم هو حديث جدهم سواء أسندوها إليه أم لا، وانهم لا يقولون بآرائهم بل علمهم موروث من جدهم إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ثم إلى الحسن ثم الحسين ثم الأئمة من بعده واحدا بعد واحد فمثلا علوم سيد العترة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام مأخوذة من علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: " ان الله علم رسول الله الحلال والحرام والتأويل وعلم رسول الله علمه كله عليا "(١) .

و (سأل رجل أبا عبداللهعليه‌السلام - الإمام الصادق - عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت ان كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ فقال له: مه ما أجبتك من شئ فهو عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا من أرأيت في شئ "(٢) .

____________________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٩٠ وسائل الشيعة، وراجع ما يأتي في الكتاب من الأحاديث التي قد وردت عن طريق مدرسة الخلفاء بهذا الصدد ص ٥٦٨ وغيرها.

(٢) الكافي ج ١ / ٥٨ (*).

١٦

وفي حديث آخر للإمام الصادقعليه‌السلام : " مهما أجبتك فيه بشئ فهو عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا نقول برأينا من شئ "(١) .

وغيرهما من عشرات الأحاديث في هذا الموضوع التي تؤكد ان مصدرهم هو جدهم الأعظم.

[ موقف مدرسة أهل البيت من الرأي: ]

ان مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام وقفت من القياس والرأي والاستحسان موقفا سلبيا بل ومن الاجتهاد الذي يساوي الرأي وأنكرته أشد الإنكار.

فقد ورد عنهم " ان دين الله لا يصاب بالمقائيس " و " ان دين الله لا يصاب بالقياس " وقالوا " ان السنة لا تقاس ألا ترى ان امرأة تقضى صومها ولا تقضى صلاتها يا أبان ان السنة إذا قيست محق الدين "(٢) .

وكان موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من مدرسة الرأي واضحا فقد أنكر على رائديها وخصوصا أبي حنيفة وقد وصلت عدة مناقشات بين الإمام الصادق وأبي حنيفة حصلت الغلبة فيها للصادقعليه‌السلام (٣) .

وكذلك علماء مدرسة أهل البيت أنكروا العمل بالرأي والاجتهاد الذي يساويه. وقد ألفوا الكتب في الرد على من عمل بالرأي أو القياس قبل الغيبة الصغرى

____________________

(١) بصائر الدرجات ص ٣٠١.

(٢) راجع هذه الأحاديث في الكافي ج ١ / ٥٦ و ٥٧.

(٣) حلية الأولياء ج ٣ / ١٩٦ وابطال القياس لابن حزم ص ٧١ وسائل الشيعة ج ١٩ / ٤٦٨ باب ٤٤ من أبواب الديات. (*)

١٧

وبعدها، فقد صنف عبدالله بن عبدالرحمن الزبيري كتابا أسماه: " الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس " وصنف هلال بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم: " الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول "(١) .

وكان الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى ينكرون الاجتهاد والرأي والقياس والاستحسان وان هذه الامور ليست من مذهب الإمامية(٢) .

ولهذا أنكروا على ابن أبي الجنيد عمله بالقياس إلى حد رفضوا فتاويه مع ان الشيخ المفيد والسيد المرتضى من كبار المجتهدين. فيعرف من هذا ان الاجتهاد له مفهومان: مفهوم خاص ومفهوم عام

اما المفهوم الخاص: للاجتهاد فهو المفهوم الذي يساوي الرأي أو القياس أو الاستحسان يقول الشافعي. " في القياس ؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان قلت: هما اسمان بمعنى واحد "(٣) وهذا الاجتهاد هو الذي كانت تأخذ به مدارس الرأي والتي تجعله مصدرا ودليلا للأحكام الشرعية كالكتاب والسنة، وهذا بعينه الاجتهاد المرفوض لدى مدرسة أهل البيت وعلمائها رفضا باتا سواء كان في قباله نص صريح أم لا ولعل بعض الأبحاث التي دار الحديث عنها في داخل الكتاب يكون من مصاديقه.

____________________

(١) رجال النجاشي، المعالم الجديدة للأصول ص ٢٤.

(٢) المعالم الجديدة ص ٢٥، الذريعة للسيد المرتضى ج ٢ / ٣٠٨، الجواهر ج ٤٠ / ٨٩.

(٣) الرسالة للشافعي ص ٤٧٧ (*).

١٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٩: -

[ المفهوم العام للاجتهاد: ]

وهو قريب من المعنى اللغوي ان لم يكن هو فان هذا الاجتهاد هو ان يقوم الفقيه بعملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها كالكتاب والسنة فبينما أصبح الاجتهاد بالمعنى الخاص دليلا يعتمد عليه الشخص حينما يسأل ويقول اجتهادي كان الاجتهاد بالمعنى العام هو بذل الجهد والطاقة في فهم الحكم الشرعي من الكتاب أو السنة الشريفة وان كان قد اختلف العناء والمشقة في استخراج الحكم من ظاهر الآية أو الرواية فبينما كان في السابق لا يوجد فيها أي عناء فلا يقال له اجتهاد بينما الآن أصبح العناء فيها شديدا جدا لما يبذله الفقيه من جهد علمي لتحديد الحكم الشرعي فيصدق عليه انه مجتهد. ومع البعد الزمني أصبحت عملية الاستنباط ليست جائزة فحسب بل واجبة وذلك لتوقف فهم الحكم الشرعي عليها وتحديد الوظيفة العملية للمكلف بها. وبهذا يفسر موقف جملة من علمائنا الأخيار حيث شجبوا الاجتهاد.

واستدلوا على حرمته بالروايات السابقة وغيرها، فانه قد حصل اللبس والخلط بين المعنى الأول التي ترفضه مدرسة أهل البيت والمعنى الثاني التي توجبه على نحو الكفاية.

[ الاجتهاد في قبال النص: ]

نعم مدرسة أهل البيت لا تجيز الاجتهاد مطلقا في ما إذا وجد نص على خلافه بل تلزم بالبحث عن النص قبل الحكم خصوصا مع احتمال وجوده وعلى هذا بنى المصنف كتابه هذا فانما هذه الموارد المذكورة يوجد على خلافها

١٩

النصوص الصريحة الواضحة والتي كانت منتشرة في البلاد وبين أيديهم الكثير منهم يعرفونها.

وعلى فرض عدم معرفتها لابد من الفحص ليتأكد عدم وجود الدليل، ومن الواضح جدا ان الرسول الأعظم حينما يحدث بحديث قد يكون عنده شخص أو شخصان أو أكثر لان أكثرية الصحابة مشغولون بأمورهم وترتيب نظام اجتماعهم فيلزم بقية الصحابة الذين لم يحضروا وقت الحديث ان يفحصوا عنه وإلا فلا يحق لهم الحكم بدون ذلك.

* * *

وهذا الكتاب لأهميته في الأوساط العلمية وفائدته الجليلة ولأنه يعالج بعض القضايا بالرغم من كونها صعبة الا انها سوف تعود على الأمة الإسلامية بالنفع الكثيرة وخدمتها وتوحيد كلمتها ولم شعثها خصوصا وان مؤلفه الإمام شرف الدين لم يألوا جهدا في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وكتاباته في مراجعاته وفي فصوله المهمة تدل على ذلك لأجل ذلك وغيره طلب مني بعض الفضلاء والسادة الاجلة منذ زمن بعيد وتكرر الطلب على ان أحققه واعلق عليه وبعد مد وجزر قمت بذلك وتم والحمد لله فأرجو من الله العلي القدير ان يجعله خالصا لوجهه الكريم وان ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629