النص والاجتهاد

النص والاجتهاد12%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165825 / تحميل: 7981
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والأخبار متواترة في منعه الناس عن تدوين العلم، وردعه إياهم عن جمع السنن والآثار، وربما حظر عليهم الحديث عن رسول الله مطلقا، وحبس أعلامهم في المدينة الطيبة لكيلا يذيعوا الأحاديث في الآفاق(١٩٢) .

ولا يخفى ما قد ترتب على هذا من المفاسد التي لا تتلافى أبدا، فليت الخليفتين

____________________

=> المجلد الثالث من شرح النهج. وقد كان الواجب هنا من حق هذه الكتب وحق الأمة أن يأمر الخليفة بتمحيصها فيخص بالتمزيق مالا فائدة به أما ذو الفائدة كعلم الطب والعلوم الرياضية وعلم طبقات الأرض - الجلوجيا - والجغرافيا والعلم بأخبار الماضين من الأمم الماضية والقرون الخالية وما أشبه ذلك مما يبيحه الإسلام فلا وجه لتمزيقه. وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من المشركين. (الحديث). وقال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو من أيدى الشرط. روى هذين القولين عن علىعليه‌السلام أبو عمر ابن عبد البر في باب الحال التي تنال به العلم من كتابه - جامع بيان العلم وفضله - فراجع ص ٥١ من مختصره (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٢٩٧ - ٢٩٨، كنز العمال ج ١٠ / ٢٩٢ ح ٢٩٤٧٩، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ١٠١ ط أبو الفضل.

(١٩٢) فمنهم عبد الرحمن بن عوف. قال: والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبى الدرداء وأبى ذر وعقبة بن عامر فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآفاق، قالوا: تنهانا ! قال: لا. أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت. (الحديث)، أخرجه ابن إسحاق وهو الحديث ٤٨٦٥ ص ٢٣٩ من الجزء الخامس من الكنز (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٢٩٤ - ٢٩٧، سنن الدرامي ج ١ /، سنن ابن ماجة ج ١، مستدرك الحاكم ج ١ / ١٠٢ و ١١٠، جامع بيان العلم ج ٢ / ١٤٧ وما بعدها تذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ / ٤ و ٧، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦١، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٩، تاريخ ابن كثير ج ٨ / ١٠٧، تذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ / ٣، تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ج ١ / ٧ و ١٢٣، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١٦١، أضواء على السنة المحمدية ص ٥٣ (*).

١٦١

صبرا نفسيهما مع علي بن أبي طالب(١٩٣) وسائر الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله والخيرة من أصحابه فيحبساهم على جمع السنن والآثار النبوية وتدوينها في كتاب خاص يرثه عنهم من جاء بعدهم من التابعين فتابعيهم في كل خلف من هذه الأمة، شأن الذكر الحكيم والفرقان العظيم، فان في السنة ما يوضح متشابه القرآن، ويبين مجمله، ويخصص عامه ويقيد مطلقه، ويوقف أولي الألباب على كهنه، فيحفظها حفظه، وبضياعها ضياع لكثير من أحكامه، فما كان أولاها بعناية الخليفتين واستفراغ وسعهما في ضبطها وتدوينها، ولو فعلا ذلك لعصما الأمة والسنة من معرة الكاذبين بما افتأتوه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لو كانت السنن مدونة من ذلك العصر في كتاب تقدسه الأمة لارتج على الكذابين باب الوضع، وحيث فاتهما ذلك كثرت الكذابة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولعبت في الحديث أيدي السياسة، وعاثت به السنة الدعاية الكاذبة، ولاسيما على عهد معاوية وفئته الباغية، حيث سادت فوضى الدجاجيل، وراج سوق الأباطيل(١٩٤) .

____________________

(١٩٣) تقدم أمير المؤمنين على بن أبى طالبعليه‌السلام وشيعته في تدوين علوم الإسلام راجع: كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للسيد حسن الصدر ط في العراق، الشيعة وفنون الإسلام للصدر أيضا، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٤ / ٥٤٦ - ٥٥٥، المراجعات ص ٣٣٥، سبيل النجاة في تتمة المراجعات تحت رقم (٩٧٠ و ٩٧٣ إلى ١٠٢٨) طبع ملحقا بالمراجعات، جامع أحاديث الشيعة ج ١ / ٧ - ١١.

(١٩٤) وضع الأحاديث كذبا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : راجع: الغدير للأميني ج ٥ / ٢٩٧ - ٣٧٥ وج ٧ / ٨٧ - ١١٤ و ٢٣٧ - ٣٢٩ وج ٨ / ٣٠ - ٩٦ وج ٩ / ٢١٨ - ٣٩٦ وج ١٠ / ٦٧ - ١٣٧ وج ١١ / ٧٤ - ١٩٥، كتاب أبو هريرة للسيد شرف الدين، شيخ المضيرة أبو هريرة للشيخ أبى رية، أضواء =>

١٦٢

وقد كان في وسع الخليفتين وأوليائهما أن يكفوا الأمة شر هؤلاء بتدوين السنن على نحو ما ذكرناه، وما كان ليخفى عليهم رجحان ذلك، ولعلك تعلم أنهم كانوا أعرف منا بلزومه، لكن مطامعهم التي تأهبوا وأعدوا وتعبأوا لها، لا تتفق مع كثير من النصوص الصريحة المتوافرة التي لابد من تدوينها لو أبيح التدوين لكونها مما لا يجحد صدوره ولا يكابر في معناه(١٩٥) ومن هاهنا أتينا فانا لله وإنا إليه راجعون.

أما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد استودع كلا من الكتاب والسنة ومواريث الأنبياء وصيه ووليه علي بن أبي طالب، وبذلك أحصاها في إمام مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعهد إليه أن يحصيها فيمن بعدة من الأئمة(١٩٦) وهكذا يكون إحصاؤها في أئمة العترة إماما بعد إمام ثقل رسول الله واعدال كتاب الله لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله. وقد صحح عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: " علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(١٩٧) .

____________________

=> على السنة المحمدية لابي رية، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٤ / ٦٣ و ٦٤ و ٦٧ و ٦٩ و ٧٣ وج ١١ / ٤٤ وج ١٣ / ٢١٩ و ٢٢٣ ط أبو الفضل، سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٣ تحت رقم (٦١٤ و ٧٠١) ط بيروت.

(١٩٥) مثل حديث الغدير المتواتر وغيره من الأحاديث راجع: كتاب المراجعات لشرف الدين، سبيل النجاة في تتمة المراجعات طبع مع المراجعات في بغداد وبيروت عبقات الأنوار ط الهند وإيران وبيروت، دلائل الصدق للمظفر، الغدير للأميني.

(١٩٦) جامع أحاديث الشيعة ج ١ / ١٢٦ - ٣١٩، وراجع ما تقدم من حديث الثقلين تحت رقم (١٥) وحديث السفينة وغيره تحت رقم (١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩).

(١٩٧) أخرجه الحاكم بالإسناد الصحيح إلى أم سلمة عن رسول الله في باب مع القرآن على من كتاب معرفة الصحابة ص ١٢٤ من الجزء الثالث من المستدرك ثم قال: = (*)

١٦٣

..

____________________

=> هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه قلت: وأورده الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته ومما يجدر بنا أن نلفت القراء هنا إلى هذه المعية المقدسة المتبادلة بين القرآن وعلى سبيل الدوام والاستمرار في كل لحظة حتى يردا على الحوض.

والى نفى الافتراق بينهما بلن دون لا وغيرها من أدوات النفي، والى موت على قبل وروده مع القرآن على الحوض بمئات من السنين فكيف والحال هذه يتحقق عدم افتراقهما.( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (منه قدس).

راجع مصادر الحديث أيضا في: تلخيص المستدرك للذهبي ج ٣ / ١٢٤ بذيل المستدرك وصححه، المناقب للخوارزمي ص ١١٠، المعجم الصغير للطبراني ج ١ / ٥٥، كفاية الطالب ص ٣٩٩ ط الحيدرية وص ٢٥٤ ط الغرى، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٣٤، الصواعق ص ١٢٢ و ١٢٤ ط المحمدية وص ٧٤ و ٧٥ ط الميمنية، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٧٣، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٥٧ ط السعيدية و ١٤٣ ط العثمانية، نور الأبصار ص ٧٣، الغدير للأميني ج ٣ / ١٨٠، ينابيع المودة للقندوزى ص ٤٠ و ٩٠ و ١٨٥ و ٢٣٧ و ٢٨٣ و ٢٨٥ ط اسلامبول وص ٤٤ و ١٠٣ و ٢١٩ و ٢٨١ و ٣٣٩ و ٣٤٢ ط الحيدرية وج ١ / ٣٨ و ٨٨ وج ٢ / ١٠ و ٦١ و ١٠٨ و ١١٠ ط صيدا، غاية المرام ص ٥٤٠ (باب) ٤٥ ط إيران، فيض القدير للشوكاني ج ٤ / ٣٥٨، الجامع الصغير للسيوطي ج ٢ / ٥٦، إحقاق الحق ج ٥ / ٦٤٠، فرائد السمطين ج ١ / ١٧٧ ح ١٤٠، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ١٢٣ بالهامش، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ٢٤٢، أسنى المطالب للحوت ص ٢٠١ ح ٨٩٨، المناقب لابن مردويه كما في الطرائف لابن طاوس ج ١ / ١٠٣، ولأجل المزيد من المصادر لهذا الحديث راجع: سبيل النجاة في تتمة المراجعات تحت رقم (٧١٦) طبع ملحقا بالمراجعات في بيروت وبغداد. (*)

١٦٤

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٤٦: -

[ المورد - (١٥) -: مجئ أناس من المشركين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مهمة لهم فأحالهم فيها على صاحبيه ليعتذرا إليهم فكانا شافعين لا معتذرين ]

وذلك أن أناسا من المشركين جاؤا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون " يا محمد انا جيرانك وحلفاؤك، وان ناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين، ولا رغبة في الفقه، وانما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا. فلم يجبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما أرادوا مخافة أن يفتنوهم عن دينهم، لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كره أن يكاشفهم فقال لأبي بكر: ما تقول يا أبا بكر. أملا بأن يرد، طلبهم. فقال أبو بكر: صدقوا يا رسول الله فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يكن جوابه موافقا لما يريده الله ورسوله فسأل عمر أملا بأن يكاشفهم فقال: ما تقول يا عمر فقال: صدقوا يا رسول الله انهم لجيرانك وحلفاؤك فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . الحديث أخرجه أحمد من حديث علي (ع) في ص ١٥٥ من الجزء الأول من مسنده وأخرجه النسائي في ص ١١ من الخصائص العلوية.

واليك تمام هذا الحديث بلفظ النسائي، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله. قال: لا. ولكن ذلك الذي يخصف النعل. وقد كان أعطى عليا نعلا يخصفها. انتهى بلفظ النسائي في خصائصه العلوية(١٩٨) .

____________________

(١٩٨) الرجل الذي أمتحن الله قلبه بالإيمان: هو الإمام أمير المؤمنين على بن أبى طالبعليه‌السلام . وبما ان السيد قد نقل الحديث بغير ما هو موجود في النسخة التي هي بين أيدينا فاليك نص الحديث بلفظ النسائي: عن علىعليه‌السلام : قال جاء النبي أناس من قريش فقالوا يا محمد انا جيرانك وحلفائك وان أناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه انما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا، فقال لأبي بكر: ما تقول ؟ قال: صدقوا انهم جيرانك وحلفائك. قال: فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال لعمر: ما تقول ؟ قال: صدقوا انهم لجيرانك وحلفائك، فتغير وجه النبي صلى الله عليه (وآله) =>

١٦٥

..

____________________

=> وسلم. فقال: يا معشر قريش، والله ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالإيمان فيضربكم على الدين، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله قال: لا. قال عمر: أنا يا رسول الله، قال: لا، ولكن الذي يخصف النعل، وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها ". خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١١ ط التقدم وص ٦٨ ط الحيدرية وص ١٩ ط بيروت، مسند أحمد بن حنبل ج ٢ / ٣٣٨ ح ١٣٣٥ بسند صحيح. مع حذف الأخر ط دار المعارف بمصر، كنز العمال ج ١٥ / ١١٢ ح ٣١٧ و ٤٣٤ ط ٢. وقريب منه في: ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ٣٦٦ ح ٨٦٦. راجع: بقية اجتهاداته مقابل النص. في مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٦٠ (*).

١٦٦

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٤٨: -

[ الفصل الثاني ] [ تأول عمر وأتباعه ] [ المورد - (١٦) -: رزية يوم الخميس.]

وقد كانت سنة ١١ للهجرة في مرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبيل وفاته(١) (بأبي هو وأمي) بيسير.

[ الحقيقة الثابتة في هذه الرزية ]

والحقيقة هنا على سبيل التفصيل: ما قد أخرجه أصحاب الصحاح وسائر أهل المسانيد، وأرسله أهل السير والأخبار إرسال المسلمات.

واليك الآن بعض ما أخرجه البخاري(٢) بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس. قال: لما حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي البيت رجال فيهم عمر

____________________

(١) وكانت وفاته (بأبي وأمي) يوم الاثنين بعد هذه الرزية بأربعة أيام (منه قدس).

(٢) راجع باب قول المريض: (قوموا عنى) من كتاب المرضى من الجزء الرابع من صحيحه وكتاب العلم من الجزء الأول من الصحيح (منه قدس) (*).

١٦٧

ابن الخطاب. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : " هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا(١) بعده. فقال عمر: ان النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا (عني خ ل) - قال عبيد الله بن عبد الله بن مسعود -: فكان ابن عباس يقول: ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. أه‍ بنصه(١٩٩) .

وهذا الحديث أخرجه مسلم في آخر الوصايا أوائل الجزء الثاني من صحيحه.

ورواه أحمد بن حنبل في مسنده من حديث ابن عباس(٢) وسائر

____________________

(١) بحذف النون مجزوما لكونه جوابا ثانيا لقوله (هلم) (منه قدس).

(١٩٩) الرزية كل الرزية: راجع: صحيح البخاري ك المرضى ب قول المريض قوموا عنى ج ٧ / ٩ أفست دار الفكر على ط استانبول وج ٧ / ١٥٦ ط محمد على صبيح بمصر وطبع مطابع الشعب وج ٤ / ٧ ط دار احياء الكتب وج ٤ / ٥ ط المعاهد وج ٤ / ٥ ط الميمنية وج ٦ / ٩٧ ط بمبى وج ٤ / ٦ ط الخيرية. وتوجد عين هذه الرواية في مواضع أخر من صحيح البخاري. منها: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ب كراهية الخلاف ج ٨ / ١٦١ ط دار الفكر وج ٨ / ٦٤ ط بمبى وج ٤ / ١٩٤ ط الخيرية. ومنها: كتاب النبي إلى كسرى وقيصر ب مرض النبي ووفاته، صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج ٥ / ٧٥ ط محمد على صبيح وط المكتبة التجارية وج ٢ / ١٦ ط عيسى الحلبي وج ١١ / ٩٥ ط مصر بشرح النووي، مسند أحمد ج ٤ / ٣٥٦ ح ٢٩٩٢ بسند صحيح ط دار المعارف بمصر.

(٢) ص ٣٢٥ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

١٦٨

أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرفوا فيه فنقلوه بالمعنى، لان لفظه الثابت: " ان النبي يهجر " لكنهم ذكروا أنه قال: " ان النبي قد غلب عليه الوجع " تهذيبا للعبارة، واتقاء فظاعتها.

ويدل على ذلك ما أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة(١) بالإسناد إلى ابن عباس، قال: لما حضرت رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله: " ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده قال: فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر فلما، أكثروا اللغط واللغوا والاختلاف غضبصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: قوموا. " (الحديث)(٢٠٠) .

وتراه صريحا بأنهم انما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه. ويدلك على هذا أيضا أن المحدثين حيث لم يصرحوا باسم المعارض يومئذ نقلوا المعارضة بعين لفظها.

قال البخاري - في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير من صحيحه(٢) -: حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سلمان الاحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: " يوم الخميس وما يوم الخميس " ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه يوم

____________________

(١) كما في ص ٢٠ من المجلد الثاني من شرح النهج للعلامة المعتزلي (منه قدس).

(٢٠٠) ادعاء ان النبي يهجر: شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٦ / ٥١ ط أبو الفضل وج ٢ / ٢٩٤ ط دار مكتبة الحياة وج ٢ / ٣٠ ط دار الفكر.

(٢) ص ١١٨ من جزئه الثاني (منه قدس) (*).

١٦٩

الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: " هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله " قالصلى‌الله‌عليه‌وآله دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني(١) إليه. وأوصى عند موته بثلاث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم (قال): ونسيت الثالثة " آه.(٢٠١) .

وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضا في آخر كتاب الوصية من صحيحه، وأحمد من حديث ابن عباس في مسنده(٢) ورواه سائر المحدثين.

وأخرج مسلم في كتاب الوصية من الصحيح عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس، قال: " يوم الخميس وما يوم الخميس " ثم جعل تسيل

____________________

(١) تدعوني بالتشديد لأنها مرفوعة بثبوت النون فادغمت نون الرفع بنون الوقاية (منه قدس).

(٢٠١) ليست الثالثة إلا الأمر الذي أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتبه حفظا لهم من الضلال لكن السياسة اضطرت المحدثين إلى ادعاء نسيانه كما نبه إليه مفتى الحنفية في (صور) الشيخ أبو سليمان الحاج داود الدادا (منه قدس).

رزية يوم الخميس وتناسي الوصية: راجع: صحيح البخاري ك الجهاد والسير ب جوائز الوفد ج ٤ / ٣١ ط دار الفكر وج ٤ / ٨٥ ط مطابع الشعب وج ٢ / ١٧٨ ط دار احياء الكتب وج ٢ / ١٢٠ ط المعاهد وج ٢ / ١٢٥ ط الشرفية وج ٥ / ٨٥ ط محمد على صبيح وج ٤ / ٥٥ ط الفجالة وج ٢ / ١١١ ط الميمنية وج ٣ / ١١٥ ط بمبى.

صحيح مسلم ك الوصية ب ترك الوصية ج ٢ / ١٦ ط عيسى الحلبي وج ٥ / ٧٥ ط محمد على صبيح والمكتبة التجارية وج ١١ / ٨٩ - ٩٤ ط مصر بشرح النووي.

مسند أحمد ج ١ / ٢٢٢ ط الميمنية وج ٣ / ٢٨٦ ح ١٩٣٥ بسند صحيح وج ٥ / ٤٥ ح ٣١١١ ط دار المعارف بمصر.

(٢) ص ٢٢٢ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

١٧٠

دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ قال: " قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا: ان رسول الله يهجر " آه.(٢٠٢) .

ومن ألم بما حول هذه الرزية من الصحاح(٢٠٣) يعلم ان أول من قال

____________________

(٢٠٢) وأخرج هذا الحديث بهذه الالفاظ أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٥٥ وغير واحد من اثبات السنن (منه قدس). التطاول على الساحة المقدسة بدعواهم ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر: صحيح مسلم ك الوصية ب ترك الوصية لمن ليس عنده شئ ج ٢ / ١٦ ط الحلبي وج ٥ / ٧٥ ط صبيح وج ١١ / ٩٤ ط مصر بشرح النووي. مسند أحمد ج ٥ / ١١٦ ح ٣٣٣٦ بسند صحيح ط دار المعارف بمصر، تاريخ الطبري ج ٣ / ١٩٣، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠.

(٢٠٣) رزية يوم الخميس لها مصادر كثيرة غير ما تقدم راجع منها :

أ - صحيح البخاري ك العلم ب كتابة العلم ج ١ / ٣٧ ط دار الفكر وج ١ / ٣٩ ط مطابع الشعب وج ١ / ١٤ ط بمبى وج ١ / ٣٢ ط دار احياء الكتب وج ١ / ٢٢ ط المعاهد وج ١ / ٢٢ ط الشرفية وج ١ / ٣٨ ط صبيح وج ١ / ٢٨ ط الفجالة وج ١ / ٢٠ ط الميمنية.

ب - صحيح البخاري أيضا كتاب النبي إلى كسرى وقيصر ب مرض النبي ووفاته ج ٦ / ١١ ط مطابع الشعب وج ٥ / ٤٠ ط بمبى وج ٣ / ٦٦ ط الخيرية.

ج - صحيح البخاري أيضا ك الجزية ب اخراج اليهود من جزيرة العرب ج ٤ / ٦٥ ط دار الفكر وج ٤ / ١٢ ط بمبى وج ٢ / ١٣٢ ط آخر.

تاريخ الطبري ج ٣ / ١٩٢ - ١٩٣، عبد الله بن سبأ للعسكري ج ١ / ٧٩، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ١٣٣ ط ١، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٢، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٢٤٢ - ٢٤٤. فالمتتبع إذا راجع هذه المصادر مع ما تقدم يحصل له القطع ان القائل بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر انما هو عمر. فانا لله وإنا إليه راجعون. (*)

١٧١

يومئذ: " هجر رسول الله " انما هو عمر(٢٠٤) .

ثم نسج على منواله من الحاضرين من كانوا على رأيه. وقد سمعت قول ابن عباس - في الحديث الأول(١) -: فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر(٢٠٥) - أي يقول: هجر رسول الله - وفي رواية أخرجها الطبراني في الأوسط عن عمر(٢) قال: لما مرض النبي قال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال عمر: فقلت: انكن صواحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح ركبتن عنقه ؟ قال: فقال رسول الله: " دعوهن فانهن خير منكم ". آه(٢٠٦) .

وأنت ترى انهم لم يتعبدوا هنا بنصه الذي لو تعبدوا به لآمنوا من الضلال وليتهم اكتفوا بعدم الامتثال ولم يردوا قوله إذ قالوا: " حسبنا كتاب الله " حتى كأنه لا يعلم بمكان كتاب الله منهم، أو أنهم أعلم منه بخواص الكتاب وفوائده.

وليتهم اكتفوا بهذا كله ولم يفاجئوه بكلمتهم تلك " هجر رسول الله " وهو محتضر بينهم وأي كلمة كانت وداعا منهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنهم - حيث لم

____________________

(٢٠٤) قول عمر ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليهجر صرح به كل من: السبط بن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص ص ٦٢ ط الحيدرية، وأبى حامد الغزالي في كتابه سر العالمين وكشف ما في الدارين ص ٢١ ط النعمان.

(١) الذي أخرجه البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس، وأخرجه مسلم أيضا وغيره (منه قدس).

(٢٠٥) تقدمت مصادر الحديث تحت رقمي (١٩٩ و ٢٠٣) فراجع.

(٢) كما في ص ١٣٨ من الجزء الثالث من كنز العمال (منه قدس).

(٢٠٦) النساء خير من الرجال: راجع: عبد الله بن سبأ للعسكري ج ١ / ٧٩، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٢٤٣ (*).

١٧٢

يأخذوا بهذا النص اكتفاء منهم بكتاب الله على ما زعموا - لم يسمعوا هتاف الكتاب آناء الليل وأطراف النهار في أنديتهم( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٢٠٧) وكأنهم " حيث قالوا: هجر " لم يقرأوا قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (٢٠٨)

وقوله عز من قائل:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢٠٩)

وقوله جل وعلا:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢١٠) .

على أن العقل بمجرده مستقل بعصمته، لكنهم علموا أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله انما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بها على عليعليه‌السلام خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامة فصدوه عن ذلك، كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس(٢١١) .

وأنت إذا تأملت في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده وقوله في حديث الثقلين: " اني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي "(٢١٢)

تعلم ان المرمى في الحديثين واحد، وانهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد

____________________

(٢٠٧) سورة الحشر آية: ٧.

(٢٠٨) سورة التكوير آية: ١٩ - ٢٢.

(٢٠٩) سورة الحاقة آية: ٤٠ - ٤٣.

(٢١٠) سورة النجم آية: ٢ - ٦.

(٢١١) راجع شرح النهج الحديدي ج ٣ / ١١٤ س ٢٧ طبع مصر (منه قدس). شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ٧٩ بتحقيق أبو الفضل وج ٣ / ٨٠٣ ط دار مكتبة الحياة وج ٣ / ١٦٧ ط دار الفكر.

(٢١٢) حديث الثقلين تقدم مع مصادره تحت رقم (١٥) فراجع. (*)

١٧٣

في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين. وانما عدل عن ذلك، لان كلمتهم تلك التي فاجؤه بها اضطرته إلى العدول إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة والاختلاف من بعده في انه هل هجر فيما كتبه " والعياذ بالله " أو لم يهجر. كما اختلفوا في ذلك فاختصموا وأكثروا اللغو واللغط نصب عينيه فلم يتسن له يومئذ أكثر من قوله لهم: قوموا كما سمعت، ولو أصر. فكتب الكتاب للجوا في قولهم هجر، ولاوغل أشياعهم في اثبات هجره " والعياذ بالله " فسطروا به أساطيرهم، وملاوا طواميرهم ردا على ذلك الكتاب، وعلى من يحتج به.

لهذا اقتضت الحكمة البالغة أن يضربصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك الكتاب صفحا، لئلا يفتح هؤلاء وأولياؤهم بابا إلى الطعن في النبوة " نعوذ بالله وبه نستجير " وقد رأى ان عليا وأولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب، سواء عليهم، أكتب أم لم يكتب، وغيرهم لا يعمل به، ولا يعتبره لو كتب، فالحكمة - والحال هذه - توجب تركه، إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى.

[ أعذار المعارضين وتزييفها ]

وقد اعتذر شيخنا الشيخ سليم البشري المالكي(٢١٣) شيخ الجامع

____________________

(٢١٣) البشري شيخ الجامع الأزهر: ولد سنة ١٢٤٨ ه‍ وتوفى ١٣٣٥ ه‍ وكان الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس الله روحه) في أواخر سنة ١٣٢٩ ه‍ قد سافر إلى مصر واجتمع بالشيخ النحرير الشيح سليم وكان في ذلك الوقت شيخ الأزهر وقد دارت بين هذين العلمين مناظرات ومباحثات علمية موضوعية وكان من نتائجها كتاب (المراجعات) الذي هو فريد في نوعه وقد طبع أكثر من عشرين طبعة وترجم إلى عدة لغات وقد قام الأقل الحقير بتحقيقه =>

١٧٤

الأزهر في بعض " مراجعات " كانت بيني وبينه في مصر سنة ١٣٢٩ والتي بعدها. فقالرحمه‌الله : لعل النبيعليه‌السلام حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وانما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير، فهدى الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة فمنعهم من احظارهما، فيجب - على هذا - عد تلك الممانعة في جملة موافقاته لربه تعالى وتكون من كراماتهرضي‌الله‌عنه .

قالرحمه‌الله : هكذا أجاب بعض الأعلام (ثم قال): لكن الإنصاف ان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا بعده يأبى ذلك، لأنه جواب ثان للأمر، فمعناه انكم ان أتيتم بالدواة والبياض وكتبت لكم ذلك الكتاب لا تضلوا بعده، ولا يخفى ان الأخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الاختبار انما هو من نوع الكذب الواضح الذي يجب تنزيه كلام الأنبياء عنه، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولى من احضارهما.

(قال): على أن في هذا الجواب نظرا من جهات أخر، فلابد هنا من اعتذار آخر. قال: وحاصل ما يمكن أن يقال: ان الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب حتى لا تجوز مراجعته ويصير المراجع عاصيا، بل كان أمر مشورة، وكانوا يراجعونهعليه‌السلام في بعض تلك الأوامر ولاسيما عمر فانه كان يعلم من

____________________

=> والتعليق عليه وقد طبع مع التعليق في بغداد وذلك برعاية وأمر السيد الأستاذ الشهيد الإمام السيد محمد باقر الصدر (قدس) وطبع أخيرا في بيروت. فمن أراد الاطلاع على الحقيقة الناصعة فعليه بمراجعة الكتاب مع تعليقته (سبيل النجاة في تتمة المراجعات)

١٧٥

نفسه أنه موفق للصواب في ادراك المصالح، وكان صاحب الهام من الله تعالى وقد أراد التخفيف عن النبي إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع وقد رأىرضي‌الله‌عنه أن ترك إحضار الدواة والبياض أولى.

وربما خشي أن يكتب النبيعليه‌السلام أمورا يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بسبب ذلك، لانها تكون منصوصة لا سبيل إلى الاجتهاد فيها. ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب. لكونه في حال المرض فيصير سببا للفتنة، فقال: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢١٤) وقوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٢١٥) وكأنهرضي‌الله‌عنه أمن من ضلال الأمة، حيث أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة.

قالرحمه‌الله : هذا جوابهم وهو كما ترى، لان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا يفيد ان الأمر أمر عزيمة وإيجاب، لان السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة بلا ارتياب، واستياؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم، وقوله لهم قوموا حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر على أن الأمر انما كان للإيجاب لا للمشورة.

قال: [ فان قلت: ] لو كان واجبا ما تركه النبيعليه‌السلام بمجرد مخالفتهم، كما انه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين.

فالجواب: أن هذا الكلام لو تم فانما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة على النبي بعد معارضتهم لهعليه‌السلام ، وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي به، وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال إذ الأصل في الأمر انما هو الوجوب

____________________

(٢١٤) سورة الأنعام: ٣٨.

(٢١٥) سورة المائدة آية: ٣ (*).

١٧٦

على المأمور لا على الأمر، ولاسيما إذا كانت فائدته عائدة إلى المأمور خاصة والوجوب عليهم هو محل الكلام، لا الوجوب عليه. قال: على انه يمكن أن يكون واجبا عليه أيضا، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم وبقولهم هجر، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوى الفتنة كما قلت حرسك الله.

قالرحمه‌الله : وربما اعتذر بعضهم بأن عمررضي‌الله‌عنه ومن قالوا يومئذ بقوله لم يفهموا من الحديث ان ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال على سبيل الاستقصاء، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلا، وانما فهموا من قوله لا تضلوا أنكم لا تجتمعون على الضلال بقضكم وقضيضكم، ولا تتسرى الضلالة بعد كتابة الكتاب إلى كل فرد من أفرادكم، وكانوا رضي ‌الله‌ عنهم يعلمون ان اجتماعهم بأسرهم على الضلال مما لا يكون أبدا وبسبب ذلك لم يجدوا أثرا لكتابته، وظنوا ان مراد النبي ليس الا زيادة الاحتياط في الأمر لما جبل عليه من وفور الرحمة، فعارضوه تلك المعارضة، بناء منهم أن الأمر ليس للإيجاب وأنه انما هو أمر عطف ومرحمة ليس الا، فأرادوا التخفيف عن النبي بتركه. إشفاقا منهم عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: هذا كل ما قيل في الاعتذار عن هذه البادرة، لكن من أمعن النظر فيه جزم ببعده عن الصواب لان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا يفيد أن الأمر للإيجاب كما ذكرنا واستياؤه منهم دليل على أنهم تركوا أمرا من الواجبات عليهم، وأمره إياهم بالقيام مع سعة ذرعه وعظيم تحمله، دليل على أنهم انما تركوا من الواجبات ما هو أوجبها وأشدها نفعا، كما هو معلوم من خلقه العظيم.

قال: فالأولى ان يقال في الجواب: هذه قضية في واقعة كانت منهم على

١٧٧

خلاف سيرتهم كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، لا نعرف وجه الصحة فيها على سبيل التفصيل، والله الهادي إلى سواء السبيل(٢١٦) .

قلت: قد استفرغ شيخنا وسعه في الاعتذار عن هذه المعارضة، وفي حمل المعارضين فيها على الصحة، فلم يجد إلى ذلك سبيلا، لكن علمه واعتداله وإنصافه وكل ذلك أبى عليه الا أن يصدع برد تلك الترهات، ولم يقتصر في تزييفها على وجه واحد حتى استقصى مالديه من الوجوه، شكر الله حسن بلائه في ذلك.

[ تزييف الأعذار من نواحي أخر ]

وحيث كان لدينا في رد تلك الأعذار وجوه أخر، أحببت يومئذ عرضها عليه، وجعلت الحكم فيها موكولا إليه. فقلت: قالوا في الجواب الأول: لعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وانما أراد مجرد اختبارهم لا غير.

فنقول - مضافا إلى ما أفدتم -: ان هذه الواقعة انما كانت حال احتضاره - بأبي وأمي - كما هو صريح الحديث، فالوقت لم يكن وقت اختبار، وانما كان وقت أعذار وإنذار، ونصح تام للأمة، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة مشغول بنفسه ومهماته ومهمات ذويه ولاسيما إذا كان نبيا.

وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره. على أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله - حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده - :

____________________

(٢١٦) كتاب المراجعات لشرف الدين مراجعة - ٨٧ - وص ٣٥٧ - ٣٦٠ ط بيروت. (*)

١٧٨

" قوموا " ظاهر في استيائه منهم، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم وأظهر الارتياح إليها. ومن ألم بأطراف هذا الحديث، ولاسيما قولهم: " هجر رسول الله " يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه انما يريد أمرا يكرهونه، ولذا فاجؤوه بتلك الكلمة وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف كما لا يخفى.

وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة وعدها رزية دليل على بطلان هذا الجواب.

قال المعتذرون: ان عمر كان موفقا للصواب في أدراك المصالح، وكان صاحب الهام من الله تعالى. وهذا مما لا يصغى إليه في مقامنا هذا لأنه يرمي إلى ان الصواب في هذه الواقعة انما كان في جانبه، لا في جانب النبي، وأما الهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقالوا: بأنه أراد التخفيف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض، وأنت تعلم ان في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبي، وبرد فؤاده وقرة عينه، وأمنه على أمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الضلال.

على ان الأمر المطاع، والإرادة المقدسة مع وجوده الشريف انما هما له، وقد أراد - بأبي وأمي - إحضار الدواة والبياض، وأمر به فليس لأحد أن يرد أمره أو يخالف إرادته( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢١٧) .

على ان مخالفتهم لأمره في تلك المهمة العظيمة، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده كان أثقل عليه وأشق من املاء ذلك الكتاب الذي يحفظ أمته من الضلال

____________________

(٢١٧) سورة الأحزاب آية: ٣٦ (*).

١٧٩

وإذا كان خائفا من المنافقين ان يقدحوا في صحة ذلك الكتاب، فلماذا بذر لهم بذرة القدح، حيث عارض ومانع وقال: " هجر " ؟ ! وأما قولهم في تفسير قوله: " حسبنا كتاب الله ": انه تعالى قال:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وقال عز من قائل:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فغير صحيح، لان الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، ولا تضمنان الهداية للناس، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما ؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للامن من الضلال، لما وقع في هذه الأمة من الضلال والتفرق ما لا يرجى زواله(١) .

وقالوا في الجواب الأخير: ان عمر لم يفهم من الحديث ان ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من امته من الضلال، وانما فهم انه سيكون سببا لعدم اجتماعهم - بعد كتابته - على الضلال.

(قالوا): وقد علمرضي‌الله‌عنه ان اجتماعهم على الضلال مما لا يكون أبدا، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة. وفيه مضافا إلى ما أشرتم إليه: ان عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد

____________________

(١) وأنت تعلم ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل: ان مرادي أن اكتب الأحكام، حتى يقال في جوابه: حسبنا في فهمها كتاب الله تعالى ولو فرض ان مراده كان كتابة الأحكام، فلعل النص عليها منه كان سببا للأمن من الضلال، فلا وجه لترك السعي في ذلك النص اكتفاء بالقرآن، بل لو لم يكن لذلك الكتاب الا الأمن من الضلال بمجرده لما صح تركه والاعراض عنه اعتمادا على ان كتاب الله جامع لكل شئ. وأنت تعلم اضطرار الأمة إلى السنة المقدسة وعدم استغنائها عنها بكتاب الله وان كان جامعا مانعا، لان الاستنباط منه غير مقدور لكل أحد، ولو كان الكتاب مغنيا عن بيان الرسول لما أمر الله تعالى ببيانه للناس، إذ قال عز من قائل:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (منه قدس) (*).

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629