النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165948 / تحميل: 7985
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والأخبار متواترة في منعه الناس عن تدوين العلم، وردعه إياهم عن جمع السنن والآثار، وربما حظر عليهم الحديث عن رسول الله مطلقا، وحبس أعلامهم في المدينة الطيبة لكيلا يذيعوا الأحاديث في الآفاق(١٩٢) .

ولا يخفى ما قد ترتب على هذا من المفاسد التي لا تتلافى أبدا، فليت الخليفتين

____________________

=> المجلد الثالث من شرح النهج. وقد كان الواجب هنا من حق هذه الكتب وحق الأمة أن يأمر الخليفة بتمحيصها فيخص بالتمزيق مالا فائدة به أما ذو الفائدة كعلم الطب والعلوم الرياضية وعلم طبقات الأرض - الجلوجيا - والجغرافيا والعلم بأخبار الماضين من الأمم الماضية والقرون الخالية وما أشبه ذلك مما يبيحه الإسلام فلا وجه لتمزيقه. وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من المشركين. (الحديث). وقال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو من أيدى الشرط. روى هذين القولين عن علىعليه‌السلام أبو عمر ابن عبد البر في باب الحال التي تنال به العلم من كتابه - جامع بيان العلم وفضله - فراجع ص ٥١ من مختصره (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٢٩٧ - ٢٩٨، كنز العمال ج ١٠ / ٢٩٢ ح ٢٩٤٧٩، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ١٠١ ط أبو الفضل.

(١٩٢) فمنهم عبد الرحمن بن عوف. قال: والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبى الدرداء وأبى ذر وعقبة بن عامر فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآفاق، قالوا: تنهانا ! قال: لا. أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت. (الحديث)، أخرجه ابن إسحاق وهو الحديث ٤٨٦٥ ص ٢٣٩ من الجزء الخامس من الكنز (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٢٩٤ - ٢٩٧، سنن الدرامي ج ١ /، سنن ابن ماجة ج ١، مستدرك الحاكم ج ١ / ١٠٢ و ١١٠، جامع بيان العلم ج ٢ / ١٤٧ وما بعدها تذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ / ٤ و ٧، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦١، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٩، تاريخ ابن كثير ج ٨ / ١٠٧، تذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ / ٣، تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ج ١ / ٧ و ١٢٣، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١٦١، أضواء على السنة المحمدية ص ٥٣ (*).

١٦١

صبرا نفسيهما مع علي بن أبي طالب(١٩٣) وسائر الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله والخيرة من أصحابه فيحبساهم على جمع السنن والآثار النبوية وتدوينها في كتاب خاص يرثه عنهم من جاء بعدهم من التابعين فتابعيهم في كل خلف من هذه الأمة، شأن الذكر الحكيم والفرقان العظيم، فان في السنة ما يوضح متشابه القرآن، ويبين مجمله، ويخصص عامه ويقيد مطلقه، ويوقف أولي الألباب على كهنه، فيحفظها حفظه، وبضياعها ضياع لكثير من أحكامه، فما كان أولاها بعناية الخليفتين واستفراغ وسعهما في ضبطها وتدوينها، ولو فعلا ذلك لعصما الأمة والسنة من معرة الكاذبين بما افتأتوه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لو كانت السنن مدونة من ذلك العصر في كتاب تقدسه الأمة لارتج على الكذابين باب الوضع، وحيث فاتهما ذلك كثرت الكذابة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولعبت في الحديث أيدي السياسة، وعاثت به السنة الدعاية الكاذبة، ولاسيما على عهد معاوية وفئته الباغية، حيث سادت فوضى الدجاجيل، وراج سوق الأباطيل(١٩٤) .

____________________

(١٩٣) تقدم أمير المؤمنين على بن أبى طالبعليه‌السلام وشيعته في تدوين علوم الإسلام راجع: كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للسيد حسن الصدر ط في العراق، الشيعة وفنون الإسلام للصدر أيضا، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٤ / ٥٤٦ - ٥٥٥، المراجعات ص ٣٣٥، سبيل النجاة في تتمة المراجعات تحت رقم (٩٧٠ و ٩٧٣ إلى ١٠٢٨) طبع ملحقا بالمراجعات، جامع أحاديث الشيعة ج ١ / ٧ - ١١.

(١٩٤) وضع الأحاديث كذبا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : راجع: الغدير للأميني ج ٥ / ٢٩٧ - ٣٧٥ وج ٧ / ٨٧ - ١١٤ و ٢٣٧ - ٣٢٩ وج ٨ / ٣٠ - ٩٦ وج ٩ / ٢١٨ - ٣٩٦ وج ١٠ / ٦٧ - ١٣٧ وج ١١ / ٧٤ - ١٩٥، كتاب أبو هريرة للسيد شرف الدين، شيخ المضيرة أبو هريرة للشيخ أبى رية، أضواء =>

١٦٢

وقد كان في وسع الخليفتين وأوليائهما أن يكفوا الأمة شر هؤلاء بتدوين السنن على نحو ما ذكرناه، وما كان ليخفى عليهم رجحان ذلك، ولعلك تعلم أنهم كانوا أعرف منا بلزومه، لكن مطامعهم التي تأهبوا وأعدوا وتعبأوا لها، لا تتفق مع كثير من النصوص الصريحة المتوافرة التي لابد من تدوينها لو أبيح التدوين لكونها مما لا يجحد صدوره ولا يكابر في معناه(١٩٥) ومن هاهنا أتينا فانا لله وإنا إليه راجعون.

أما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد استودع كلا من الكتاب والسنة ومواريث الأنبياء وصيه ووليه علي بن أبي طالب، وبذلك أحصاها في إمام مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعهد إليه أن يحصيها فيمن بعدة من الأئمة(١٩٦) وهكذا يكون إحصاؤها في أئمة العترة إماما بعد إمام ثقل رسول الله واعدال كتاب الله لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله. وقد صحح عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: " علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(١٩٧) .

____________________

=> على السنة المحمدية لابي رية، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٤ / ٦٣ و ٦٤ و ٦٧ و ٦٩ و ٧٣ وج ١١ / ٤٤ وج ١٣ / ٢١٩ و ٢٢٣ ط أبو الفضل، سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٣ تحت رقم (٦١٤ و ٧٠١) ط بيروت.

(١٩٥) مثل حديث الغدير المتواتر وغيره من الأحاديث راجع: كتاب المراجعات لشرف الدين، سبيل النجاة في تتمة المراجعات طبع مع المراجعات في بغداد وبيروت عبقات الأنوار ط الهند وإيران وبيروت، دلائل الصدق للمظفر، الغدير للأميني.

(١٩٦) جامع أحاديث الشيعة ج ١ / ١٢٦ - ٣١٩، وراجع ما تقدم من حديث الثقلين تحت رقم (١٥) وحديث السفينة وغيره تحت رقم (١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩).

(١٩٧) أخرجه الحاكم بالإسناد الصحيح إلى أم سلمة عن رسول الله في باب مع القرآن على من كتاب معرفة الصحابة ص ١٢٤ من الجزء الثالث من المستدرك ثم قال: = (*)

١٦٣

..

____________________

=> هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه قلت: وأورده الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته ومما يجدر بنا أن نلفت القراء هنا إلى هذه المعية المقدسة المتبادلة بين القرآن وعلى سبيل الدوام والاستمرار في كل لحظة حتى يردا على الحوض.

والى نفى الافتراق بينهما بلن دون لا وغيرها من أدوات النفي، والى موت على قبل وروده مع القرآن على الحوض بمئات من السنين فكيف والحال هذه يتحقق عدم افتراقهما.( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (منه قدس).

راجع مصادر الحديث أيضا في: تلخيص المستدرك للذهبي ج ٣ / ١٢٤ بذيل المستدرك وصححه، المناقب للخوارزمي ص ١١٠، المعجم الصغير للطبراني ج ١ / ٥٥، كفاية الطالب ص ٣٩٩ ط الحيدرية وص ٢٥٤ ط الغرى، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٣٤، الصواعق ص ١٢٢ و ١٢٤ ط المحمدية وص ٧٤ و ٧٥ ط الميمنية، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٧٣، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٥٧ ط السعيدية و ١٤٣ ط العثمانية، نور الأبصار ص ٧٣، الغدير للأميني ج ٣ / ١٨٠، ينابيع المودة للقندوزى ص ٤٠ و ٩٠ و ١٨٥ و ٢٣٧ و ٢٨٣ و ٢٨٥ ط اسلامبول وص ٤٤ و ١٠٣ و ٢١٩ و ٢٨١ و ٣٣٩ و ٣٤٢ ط الحيدرية وج ١ / ٣٨ و ٨٨ وج ٢ / ١٠ و ٦١ و ١٠٨ و ١١٠ ط صيدا، غاية المرام ص ٥٤٠ (باب) ٤٥ ط إيران، فيض القدير للشوكاني ج ٤ / ٣٥٨، الجامع الصغير للسيوطي ج ٢ / ٥٦، إحقاق الحق ج ٥ / ٦٤٠، فرائد السمطين ج ١ / ١٧٧ ح ١٤٠، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ١٢٣ بالهامش، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ٢٤٢، أسنى المطالب للحوت ص ٢٠١ ح ٨٩٨، المناقب لابن مردويه كما في الطرائف لابن طاوس ج ١ / ١٠٣، ولأجل المزيد من المصادر لهذا الحديث راجع: سبيل النجاة في تتمة المراجعات تحت رقم (٧١٦) طبع ملحقا بالمراجعات في بيروت وبغداد. (*)

١٦٤

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٤٦: -

[ المورد - (١٥) -: مجئ أناس من المشركين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مهمة لهم فأحالهم فيها على صاحبيه ليعتذرا إليهم فكانا شافعين لا معتذرين ]

وذلك أن أناسا من المشركين جاؤا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون " يا محمد انا جيرانك وحلفاؤك، وان ناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين، ولا رغبة في الفقه، وانما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا. فلم يجبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما أرادوا مخافة أن يفتنوهم عن دينهم، لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كره أن يكاشفهم فقال لأبي بكر: ما تقول يا أبا بكر. أملا بأن يرد، طلبهم. فقال أبو بكر: صدقوا يا رسول الله فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يكن جوابه موافقا لما يريده الله ورسوله فسأل عمر أملا بأن يكاشفهم فقال: ما تقول يا عمر فقال: صدقوا يا رسول الله انهم لجيرانك وحلفاؤك فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . الحديث أخرجه أحمد من حديث علي (ع) في ص ١٥٥ من الجزء الأول من مسنده وأخرجه النسائي في ص ١١ من الخصائص العلوية.

واليك تمام هذا الحديث بلفظ النسائي، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله. قال: لا. ولكن ذلك الذي يخصف النعل. وقد كان أعطى عليا نعلا يخصفها. انتهى بلفظ النسائي في خصائصه العلوية(١٩٨) .

____________________

(١٩٨) الرجل الذي أمتحن الله قلبه بالإيمان: هو الإمام أمير المؤمنين على بن أبى طالبعليه‌السلام . وبما ان السيد قد نقل الحديث بغير ما هو موجود في النسخة التي هي بين أيدينا فاليك نص الحديث بلفظ النسائي: عن علىعليه‌السلام : قال جاء النبي أناس من قريش فقالوا يا محمد انا جيرانك وحلفائك وان أناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه انما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا، فقال لأبي بكر: ما تقول ؟ قال: صدقوا انهم جيرانك وحلفائك. قال: فتغير وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال لعمر: ما تقول ؟ قال: صدقوا انهم لجيرانك وحلفائك، فتغير وجه النبي صلى الله عليه (وآله) =>

١٦٥

..

____________________

=> وسلم. فقال: يا معشر قريش، والله ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالإيمان فيضربكم على الدين، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله قال: لا. قال عمر: أنا يا رسول الله، قال: لا، ولكن الذي يخصف النعل، وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها ". خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١١ ط التقدم وص ٦٨ ط الحيدرية وص ١٩ ط بيروت، مسند أحمد بن حنبل ج ٢ / ٣٣٨ ح ١٣٣٥ بسند صحيح. مع حذف الأخر ط دار المعارف بمصر، كنز العمال ج ١٥ / ١١٢ ح ٣١٧ و ٤٣٤ ط ٢. وقريب منه في: ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ٣٦٦ ح ٨٦٦. راجع: بقية اجتهاداته مقابل النص. في مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٦٠ (*).

١٦٦

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٤٨: -

[ الفصل الثاني ] [ تأول عمر وأتباعه ] [ المورد - (١٦) -: رزية يوم الخميس.]

وقد كانت سنة ١١ للهجرة في مرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبيل وفاته(١) (بأبي هو وأمي) بيسير.

[ الحقيقة الثابتة في هذه الرزية ]

والحقيقة هنا على سبيل التفصيل: ما قد أخرجه أصحاب الصحاح وسائر أهل المسانيد، وأرسله أهل السير والأخبار إرسال المسلمات.

واليك الآن بعض ما أخرجه البخاري(٢) بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس. قال: لما حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي البيت رجال فيهم عمر

____________________

(١) وكانت وفاته (بأبي وأمي) يوم الاثنين بعد هذه الرزية بأربعة أيام (منه قدس).

(٢) راجع باب قول المريض: (قوموا عنى) من كتاب المرضى من الجزء الرابع من صحيحه وكتاب العلم من الجزء الأول من الصحيح (منه قدس) (*).

١٦٧

ابن الخطاب. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : " هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا(١) بعده. فقال عمر: ان النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا (عني خ ل) - قال عبيد الله بن عبد الله بن مسعود -: فكان ابن عباس يقول: ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. أه‍ بنصه(١٩٩) .

وهذا الحديث أخرجه مسلم في آخر الوصايا أوائل الجزء الثاني من صحيحه.

ورواه أحمد بن حنبل في مسنده من حديث ابن عباس(٢) وسائر

____________________

(١) بحذف النون مجزوما لكونه جوابا ثانيا لقوله (هلم) (منه قدس).

(١٩٩) الرزية كل الرزية: راجع: صحيح البخاري ك المرضى ب قول المريض قوموا عنى ج ٧ / ٩ أفست دار الفكر على ط استانبول وج ٧ / ١٥٦ ط محمد على صبيح بمصر وطبع مطابع الشعب وج ٤ / ٧ ط دار احياء الكتب وج ٤ / ٥ ط المعاهد وج ٤ / ٥ ط الميمنية وج ٦ / ٩٧ ط بمبى وج ٤ / ٦ ط الخيرية. وتوجد عين هذه الرواية في مواضع أخر من صحيح البخاري. منها: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ب كراهية الخلاف ج ٨ / ١٦١ ط دار الفكر وج ٨ / ٦٤ ط بمبى وج ٤ / ١٩٤ ط الخيرية. ومنها: كتاب النبي إلى كسرى وقيصر ب مرض النبي ووفاته، صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج ٥ / ٧٥ ط محمد على صبيح وط المكتبة التجارية وج ٢ / ١٦ ط عيسى الحلبي وج ١١ / ٩٥ ط مصر بشرح النووي، مسند أحمد ج ٤ / ٣٥٦ ح ٢٩٩٢ بسند صحيح ط دار المعارف بمصر.

(٢) ص ٣٢٥ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

١٦٨

أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرفوا فيه فنقلوه بالمعنى، لان لفظه الثابت: " ان النبي يهجر " لكنهم ذكروا أنه قال: " ان النبي قد غلب عليه الوجع " تهذيبا للعبارة، واتقاء فظاعتها.

ويدل على ذلك ما أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة(١) بالإسناد إلى ابن عباس، قال: لما حضرت رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله: " ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده قال: فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر فلما، أكثروا اللغط واللغوا والاختلاف غضبصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: قوموا. " (الحديث)(٢٠٠) .

وتراه صريحا بأنهم انما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه. ويدلك على هذا أيضا أن المحدثين حيث لم يصرحوا باسم المعارض يومئذ نقلوا المعارضة بعين لفظها.

قال البخاري - في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير من صحيحه(٢) -: حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سلمان الاحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: " يوم الخميس وما يوم الخميس " ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه يوم

____________________

(١) كما في ص ٢٠ من المجلد الثاني من شرح النهج للعلامة المعتزلي (منه قدس).

(٢٠٠) ادعاء ان النبي يهجر: شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٦ / ٥١ ط أبو الفضل وج ٢ / ٢٩٤ ط دار مكتبة الحياة وج ٢ / ٣٠ ط دار الفكر.

(٢) ص ١١٨ من جزئه الثاني (منه قدس) (*).

١٦٩

الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: " هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله " قالصلى‌الله‌عليه‌وآله دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني(١) إليه. وأوصى عند موته بثلاث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم (قال): ونسيت الثالثة " آه.(٢٠١) .

وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضا في آخر كتاب الوصية من صحيحه، وأحمد من حديث ابن عباس في مسنده(٢) ورواه سائر المحدثين.

وأخرج مسلم في كتاب الوصية من الصحيح عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس، قال: " يوم الخميس وما يوم الخميس " ثم جعل تسيل

____________________

(١) تدعوني بالتشديد لأنها مرفوعة بثبوت النون فادغمت نون الرفع بنون الوقاية (منه قدس).

(٢٠١) ليست الثالثة إلا الأمر الذي أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتبه حفظا لهم من الضلال لكن السياسة اضطرت المحدثين إلى ادعاء نسيانه كما نبه إليه مفتى الحنفية في (صور) الشيخ أبو سليمان الحاج داود الدادا (منه قدس).

رزية يوم الخميس وتناسي الوصية: راجع: صحيح البخاري ك الجهاد والسير ب جوائز الوفد ج ٤ / ٣١ ط دار الفكر وج ٤ / ٨٥ ط مطابع الشعب وج ٢ / ١٧٨ ط دار احياء الكتب وج ٢ / ١٢٠ ط المعاهد وج ٢ / ١٢٥ ط الشرفية وج ٥ / ٨٥ ط محمد على صبيح وج ٤ / ٥٥ ط الفجالة وج ٢ / ١١١ ط الميمنية وج ٣ / ١١٥ ط بمبى.

صحيح مسلم ك الوصية ب ترك الوصية ج ٢ / ١٦ ط عيسى الحلبي وج ٥ / ٧٥ ط محمد على صبيح والمكتبة التجارية وج ١١ / ٨٩ - ٩٤ ط مصر بشرح النووي.

مسند أحمد ج ١ / ٢٢٢ ط الميمنية وج ٣ / ٢٨٦ ح ١٩٣٥ بسند صحيح وج ٥ / ٤٥ ح ٣١١١ ط دار المعارف بمصر.

(٢) ص ٢٢٢ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

١٧٠

دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ قال: " قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا: ان رسول الله يهجر " آه.(٢٠٢) .

ومن ألم بما حول هذه الرزية من الصحاح(٢٠٣) يعلم ان أول من قال

____________________

(٢٠٢) وأخرج هذا الحديث بهذه الالفاظ أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٥٥ وغير واحد من اثبات السنن (منه قدس). التطاول على الساحة المقدسة بدعواهم ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر: صحيح مسلم ك الوصية ب ترك الوصية لمن ليس عنده شئ ج ٢ / ١٦ ط الحلبي وج ٥ / ٧٥ ط صبيح وج ١١ / ٩٤ ط مصر بشرح النووي. مسند أحمد ج ٥ / ١١٦ ح ٣٣٣٦ بسند صحيح ط دار المعارف بمصر، تاريخ الطبري ج ٣ / ١٩٣، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠.

(٢٠٣) رزية يوم الخميس لها مصادر كثيرة غير ما تقدم راجع منها :

أ - صحيح البخاري ك العلم ب كتابة العلم ج ١ / ٣٧ ط دار الفكر وج ١ / ٣٩ ط مطابع الشعب وج ١ / ١٤ ط بمبى وج ١ / ٣٢ ط دار احياء الكتب وج ١ / ٢٢ ط المعاهد وج ١ / ٢٢ ط الشرفية وج ١ / ٣٨ ط صبيح وج ١ / ٢٨ ط الفجالة وج ١ / ٢٠ ط الميمنية.

ب - صحيح البخاري أيضا كتاب النبي إلى كسرى وقيصر ب مرض النبي ووفاته ج ٦ / ١١ ط مطابع الشعب وج ٥ / ٤٠ ط بمبى وج ٣ / ٦٦ ط الخيرية.

ج - صحيح البخاري أيضا ك الجزية ب اخراج اليهود من جزيرة العرب ج ٤ / ٦٥ ط دار الفكر وج ٤ / ١٢ ط بمبى وج ٢ / ١٣٢ ط آخر.

تاريخ الطبري ج ٣ / ١٩٢ - ١٩٣، عبد الله بن سبأ للعسكري ج ١ / ٧٩، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ١٣٣ ط ١، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٢، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٢٤٢ - ٢٤٤. فالمتتبع إذا راجع هذه المصادر مع ما تقدم يحصل له القطع ان القائل بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر انما هو عمر. فانا لله وإنا إليه راجعون. (*)

١٧١

يومئذ: " هجر رسول الله " انما هو عمر(٢٠٤) .

ثم نسج على منواله من الحاضرين من كانوا على رأيه. وقد سمعت قول ابن عباس - في الحديث الأول(١) -: فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر(٢٠٥) - أي يقول: هجر رسول الله - وفي رواية أخرجها الطبراني في الأوسط عن عمر(٢) قال: لما مرض النبي قال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال عمر: فقلت: انكن صواحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح ركبتن عنقه ؟ قال: فقال رسول الله: " دعوهن فانهن خير منكم ". آه(٢٠٦) .

وأنت ترى انهم لم يتعبدوا هنا بنصه الذي لو تعبدوا به لآمنوا من الضلال وليتهم اكتفوا بعدم الامتثال ولم يردوا قوله إذ قالوا: " حسبنا كتاب الله " حتى كأنه لا يعلم بمكان كتاب الله منهم، أو أنهم أعلم منه بخواص الكتاب وفوائده.

وليتهم اكتفوا بهذا كله ولم يفاجئوه بكلمتهم تلك " هجر رسول الله " وهو محتضر بينهم وأي كلمة كانت وداعا منهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنهم - حيث لم

____________________

(٢٠٤) قول عمر ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليهجر صرح به كل من: السبط بن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص ص ٦٢ ط الحيدرية، وأبى حامد الغزالي في كتابه سر العالمين وكشف ما في الدارين ص ٢١ ط النعمان.

(١) الذي أخرجه البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس، وأخرجه مسلم أيضا وغيره (منه قدس).

(٢٠٥) تقدمت مصادر الحديث تحت رقمي (١٩٩ و ٢٠٣) فراجع.

(٢) كما في ص ١٣٨ من الجزء الثالث من كنز العمال (منه قدس).

(٢٠٦) النساء خير من الرجال: راجع: عبد الله بن سبأ للعسكري ج ١ / ٧٩، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٢٤٣ (*).

١٧٢

يأخذوا بهذا النص اكتفاء منهم بكتاب الله على ما زعموا - لم يسمعوا هتاف الكتاب آناء الليل وأطراف النهار في أنديتهم( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٢٠٧) وكأنهم " حيث قالوا: هجر " لم يقرأوا قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (٢٠٨)

وقوله عز من قائل:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢٠٩)

وقوله جل وعلا:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢١٠) .

على أن العقل بمجرده مستقل بعصمته، لكنهم علموا أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله انما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بها على عليعليه‌السلام خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامة فصدوه عن ذلك، كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس(٢١١) .

وأنت إذا تأملت في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده وقوله في حديث الثقلين: " اني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي "(٢١٢)

تعلم ان المرمى في الحديثين واحد، وانهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد

____________________

(٢٠٧) سورة الحشر آية: ٧.

(٢٠٨) سورة التكوير آية: ١٩ - ٢٢.

(٢٠٩) سورة الحاقة آية: ٤٠ - ٤٣.

(٢١٠) سورة النجم آية: ٢ - ٦.

(٢١١) راجع شرح النهج الحديدي ج ٣ / ١١٤ س ٢٧ طبع مصر (منه قدس). شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ٧٩ بتحقيق أبو الفضل وج ٣ / ٨٠٣ ط دار مكتبة الحياة وج ٣ / ١٦٧ ط دار الفكر.

(٢١٢) حديث الثقلين تقدم مع مصادره تحت رقم (١٥) فراجع. (*)

١٧٣

في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين. وانما عدل عن ذلك، لان كلمتهم تلك التي فاجؤه بها اضطرته إلى العدول إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة والاختلاف من بعده في انه هل هجر فيما كتبه " والعياذ بالله " أو لم يهجر. كما اختلفوا في ذلك فاختصموا وأكثروا اللغو واللغط نصب عينيه فلم يتسن له يومئذ أكثر من قوله لهم: قوموا كما سمعت، ولو أصر. فكتب الكتاب للجوا في قولهم هجر، ولاوغل أشياعهم في اثبات هجره " والعياذ بالله " فسطروا به أساطيرهم، وملاوا طواميرهم ردا على ذلك الكتاب، وعلى من يحتج به.

لهذا اقتضت الحكمة البالغة أن يضربصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك الكتاب صفحا، لئلا يفتح هؤلاء وأولياؤهم بابا إلى الطعن في النبوة " نعوذ بالله وبه نستجير " وقد رأى ان عليا وأولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب، سواء عليهم، أكتب أم لم يكتب، وغيرهم لا يعمل به، ولا يعتبره لو كتب، فالحكمة - والحال هذه - توجب تركه، إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى.

[ أعذار المعارضين وتزييفها ]

وقد اعتذر شيخنا الشيخ سليم البشري المالكي(٢١٣) شيخ الجامع

____________________

(٢١٣) البشري شيخ الجامع الأزهر: ولد سنة ١٢٤٨ ه‍ وتوفى ١٣٣٥ ه‍ وكان الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس الله روحه) في أواخر سنة ١٣٢٩ ه‍ قد سافر إلى مصر واجتمع بالشيخ النحرير الشيح سليم وكان في ذلك الوقت شيخ الأزهر وقد دارت بين هذين العلمين مناظرات ومباحثات علمية موضوعية وكان من نتائجها كتاب (المراجعات) الذي هو فريد في نوعه وقد طبع أكثر من عشرين طبعة وترجم إلى عدة لغات وقد قام الأقل الحقير بتحقيقه =>

١٧٤

الأزهر في بعض " مراجعات " كانت بيني وبينه في مصر سنة ١٣٢٩ والتي بعدها. فقالرحمه‌الله : لعل النبيعليه‌السلام حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وانما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير، فهدى الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة فمنعهم من احظارهما، فيجب - على هذا - عد تلك الممانعة في جملة موافقاته لربه تعالى وتكون من كراماتهرضي‌الله‌عنه .

قالرحمه‌الله : هكذا أجاب بعض الأعلام (ثم قال): لكن الإنصاف ان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا بعده يأبى ذلك، لأنه جواب ثان للأمر، فمعناه انكم ان أتيتم بالدواة والبياض وكتبت لكم ذلك الكتاب لا تضلوا بعده، ولا يخفى ان الأخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الاختبار انما هو من نوع الكذب الواضح الذي يجب تنزيه كلام الأنبياء عنه، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولى من احضارهما.

(قال): على أن في هذا الجواب نظرا من جهات أخر، فلابد هنا من اعتذار آخر. قال: وحاصل ما يمكن أن يقال: ان الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب حتى لا تجوز مراجعته ويصير المراجع عاصيا، بل كان أمر مشورة، وكانوا يراجعونهعليه‌السلام في بعض تلك الأوامر ولاسيما عمر فانه كان يعلم من

____________________

=> والتعليق عليه وقد طبع مع التعليق في بغداد وذلك برعاية وأمر السيد الأستاذ الشهيد الإمام السيد محمد باقر الصدر (قدس) وطبع أخيرا في بيروت. فمن أراد الاطلاع على الحقيقة الناصعة فعليه بمراجعة الكتاب مع تعليقته (سبيل النجاة في تتمة المراجعات)

١٧٥

نفسه أنه موفق للصواب في ادراك المصالح، وكان صاحب الهام من الله تعالى وقد أراد التخفيف عن النبي إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع وقد رأىرضي‌الله‌عنه أن ترك إحضار الدواة والبياض أولى.

وربما خشي أن يكتب النبيعليه‌السلام أمورا يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بسبب ذلك، لانها تكون منصوصة لا سبيل إلى الاجتهاد فيها. ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب. لكونه في حال المرض فيصير سببا للفتنة، فقال: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢١٤) وقوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٢١٥) وكأنهرضي‌الله‌عنه أمن من ضلال الأمة، حيث أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة.

قالرحمه‌الله : هذا جوابهم وهو كما ترى، لان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا يفيد ان الأمر أمر عزيمة وإيجاب، لان السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة بلا ارتياب، واستياؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم، وقوله لهم قوموا حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر على أن الأمر انما كان للإيجاب لا للمشورة.

قال: [ فان قلت: ] لو كان واجبا ما تركه النبيعليه‌السلام بمجرد مخالفتهم، كما انه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين.

فالجواب: أن هذا الكلام لو تم فانما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة على النبي بعد معارضتهم لهعليه‌السلام ، وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي به، وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال إذ الأصل في الأمر انما هو الوجوب

____________________

(٢١٤) سورة الأنعام: ٣٨.

(٢١٥) سورة المائدة آية: ٣ (*).

١٧٦

على المأمور لا على الأمر، ولاسيما إذا كانت فائدته عائدة إلى المأمور خاصة والوجوب عليهم هو محل الكلام، لا الوجوب عليه. قال: على انه يمكن أن يكون واجبا عليه أيضا، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم وبقولهم هجر، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوى الفتنة كما قلت حرسك الله.

قالرحمه‌الله : وربما اعتذر بعضهم بأن عمررضي‌الله‌عنه ومن قالوا يومئذ بقوله لم يفهموا من الحديث ان ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال على سبيل الاستقصاء، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلا، وانما فهموا من قوله لا تضلوا أنكم لا تجتمعون على الضلال بقضكم وقضيضكم، ولا تتسرى الضلالة بعد كتابة الكتاب إلى كل فرد من أفرادكم، وكانوا رضي ‌الله‌ عنهم يعلمون ان اجتماعهم بأسرهم على الضلال مما لا يكون أبدا وبسبب ذلك لم يجدوا أثرا لكتابته، وظنوا ان مراد النبي ليس الا زيادة الاحتياط في الأمر لما جبل عليه من وفور الرحمة، فعارضوه تلك المعارضة، بناء منهم أن الأمر ليس للإيجاب وأنه انما هو أمر عطف ومرحمة ليس الا، فأرادوا التخفيف عن النبي بتركه. إشفاقا منهم عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: هذا كل ما قيل في الاعتذار عن هذه البادرة، لكن من أمعن النظر فيه جزم ببعده عن الصواب لان قولهعليه‌السلام : لا تضلوا يفيد أن الأمر للإيجاب كما ذكرنا واستياؤه منهم دليل على أنهم تركوا أمرا من الواجبات عليهم، وأمره إياهم بالقيام مع سعة ذرعه وعظيم تحمله، دليل على أنهم انما تركوا من الواجبات ما هو أوجبها وأشدها نفعا، كما هو معلوم من خلقه العظيم.

قال: فالأولى ان يقال في الجواب: هذه قضية في واقعة كانت منهم على

١٧٧

خلاف سيرتهم كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، لا نعرف وجه الصحة فيها على سبيل التفصيل، والله الهادي إلى سواء السبيل(٢١٦) .

قلت: قد استفرغ شيخنا وسعه في الاعتذار عن هذه المعارضة، وفي حمل المعارضين فيها على الصحة، فلم يجد إلى ذلك سبيلا، لكن علمه واعتداله وإنصافه وكل ذلك أبى عليه الا أن يصدع برد تلك الترهات، ولم يقتصر في تزييفها على وجه واحد حتى استقصى مالديه من الوجوه، شكر الله حسن بلائه في ذلك.

[ تزييف الأعذار من نواحي أخر ]

وحيث كان لدينا في رد تلك الأعذار وجوه أخر، أحببت يومئذ عرضها عليه، وجعلت الحكم فيها موكولا إليه. فقلت: قالوا في الجواب الأول: لعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وانما أراد مجرد اختبارهم لا غير.

فنقول - مضافا إلى ما أفدتم -: ان هذه الواقعة انما كانت حال احتضاره - بأبي وأمي - كما هو صريح الحديث، فالوقت لم يكن وقت اختبار، وانما كان وقت أعذار وإنذار، ونصح تام للأمة، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة مشغول بنفسه ومهماته ومهمات ذويه ولاسيما إذا كان نبيا.

وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره. على أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله - حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده - :

____________________

(٢١٦) كتاب المراجعات لشرف الدين مراجعة - ٨٧ - وص ٣٥٧ - ٣٦٠ ط بيروت. (*)

١٧٨

" قوموا " ظاهر في استيائه منهم، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم وأظهر الارتياح إليها. ومن ألم بأطراف هذا الحديث، ولاسيما قولهم: " هجر رسول الله " يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه انما يريد أمرا يكرهونه، ولذا فاجؤوه بتلك الكلمة وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف كما لا يخفى.

وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة وعدها رزية دليل على بطلان هذا الجواب.

قال المعتذرون: ان عمر كان موفقا للصواب في أدراك المصالح، وكان صاحب الهام من الله تعالى. وهذا مما لا يصغى إليه في مقامنا هذا لأنه يرمي إلى ان الصواب في هذه الواقعة انما كان في جانبه، لا في جانب النبي، وأما الهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقالوا: بأنه أراد التخفيف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض، وأنت تعلم ان في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبي، وبرد فؤاده وقرة عينه، وأمنه على أمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الضلال.

على ان الأمر المطاع، والإرادة المقدسة مع وجوده الشريف انما هما له، وقد أراد - بأبي وأمي - إحضار الدواة والبياض، وأمر به فليس لأحد أن يرد أمره أو يخالف إرادته( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢١٧) .

على ان مخالفتهم لأمره في تلك المهمة العظيمة، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده كان أثقل عليه وأشق من املاء ذلك الكتاب الذي يحفظ أمته من الضلال

____________________

(٢١٧) سورة الأحزاب آية: ٣٦ (*).

١٧٩

وإذا كان خائفا من المنافقين ان يقدحوا في صحة ذلك الكتاب، فلماذا بذر لهم بذرة القدح، حيث عارض ومانع وقال: " هجر " ؟ ! وأما قولهم في تفسير قوله: " حسبنا كتاب الله ": انه تعالى قال:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وقال عز من قائل:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فغير صحيح، لان الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، ولا تضمنان الهداية للناس، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما ؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للامن من الضلال، لما وقع في هذه الأمة من الضلال والتفرق ما لا يرجى زواله(١) .

وقالوا في الجواب الأخير: ان عمر لم يفهم من الحديث ان ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من امته من الضلال، وانما فهم انه سيكون سببا لعدم اجتماعهم - بعد كتابته - على الضلال.

(قالوا): وقد علمرضي‌الله‌عنه ان اجتماعهم على الضلال مما لا يكون أبدا، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة. وفيه مضافا إلى ما أشرتم إليه: ان عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد

____________________

(١) وأنت تعلم ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل: ان مرادي أن اكتب الأحكام، حتى يقال في جوابه: حسبنا في فهمها كتاب الله تعالى ولو فرض ان مراده كان كتابة الأحكام، فلعل النص عليها منه كان سببا للأمن من الضلال، فلا وجه لترك السعي في ذلك النص اكتفاء بالقرآن، بل لو لم يكن لذلك الكتاب الا الأمن من الضلال بمجرده لما صح تركه والاعراض عنه اعتمادا على ان كتاب الله جامع لكل شئ. وأنت تعلم اضطرار الأمة إلى السنة المقدسة وعدم استغنائها عنها بكتاب الله وان كان جامعا مانعا، لان الاستنباط منه غير مقدور لكل أحد، ولو كان الكتاب مغنيا عن بيان الرسول لما أمر الله تعالى ببيانه للناس، إذ قال عز من قائل:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (منه قدس) (*).

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629