النص والاجتهاد

النص والاجتهاد0%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي
تصنيف: الصفحات: 629
المشاهدات: 158685
تحميل: 7225

توضيحات:

النص والاجتهاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158685 / تحميل: 7225
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن الفهم، وما كان ليخفى عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس، لان القروي والبدوي انما فهما منه ان ذلك الكتاب لو كتب لكان علة تامة في حفظ كل فرد من الضلال، وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث إلى إفهام الناس.

وعمر كان يعلم ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن خائفا على أمته ان تجتمع على الضلال، إذ كان يسمع قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجتمع أمتي على الضلال، ولا تجتمع على الخطأ، وقوله: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. (الحديث)(٢١٨) .

وقوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) (٢١٩) إلى كثير من نصوص الكتاب والسنة الصريحة بأن الأمة لا تجتمع بأسرها على الضلال، فلا يعقل مع هذا ان يسنح في خاطر عمر أو غيره ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين طلب الدواة والبياض كان خائفا من اجتماع أمته على الضلال.

والذي يليق بعمر أن يفهم من الحديث ما يتبادر منه الأذهان، لا ما تنفيه صحاح السنة ومحكمات القرآن، على ان استياء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم المستفاد من قوله: " قوموا " دليل على ان الذي تركوه كان من الواجب عليهم، ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا، لا زال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(٢١٨) قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ".. لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.. ". راجع: كنز العمال ج ١ / ١٨٥ ح ١٠٣٠ و ١٠٣١ ط ٢ وج ١ / ١٦٠ ح ٩١٠ ط ٢، الدر المنثور للسيوطي ج ٢ / ٢٢٢ ط ١.

(٢١٩) سورة النور آية: ٥٥ (*).

١٨١

شبهته، وأبان لهم مراده منه، بل لو كان في وسع النبي أن يقنعهم بما أمرهم به لما آثر إخراجهم عنه. وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلة على ما نقول.

والإنصاف ان هذه الرزية لما يضيق عنها نطاق العذر، ولو كانت - كما ذكرتم - قضية في واقعة، كفلتة سبقت، وفرطة ندرت، لهان الأمر، وان كانت بمجردها بائقة الدهر، وفاقرة الظهر(٢٢٠) ، والحق ان المعارضين انما كانوا ممن يرون جواز الاجتهاد في مقابل النص، فهم في هذه المعارضة وأمثالها إذا مجتهدون، فلهم رأيهم ولله تعالى رأيه ؟.

[ أعجاب الشيخ بما قلنا ]

وما ان وقف شيخنا على ما قلناه في رد تلك الأعذار، حتى كتب إلينا ما يلي: " قطعت على المعتذرين وجهتهم، وملكت عليهم مذاهبهم، وحلت بينهم وبين ما يرومون، فلا موضع للشبهة فيما ذكرت، ولا مساغ للريب في شئ مما به صدعت " إلى آخر ما قال.(٢٢١) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٦٣: -

[ المورد - (١٧) - صلح الحديبية(١) ]

آثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصلح يوم الحديبية على الحرب وأمر به عملا بما

____________________

(٢٢٠) كتاب المراجعات مراجعة - ٨٨ - وص ٣٦٠ - ٣٦٤ ط بيروت.

(٢٢١) كتاب المراجعات ص ٣٦٤ ط بيروت.

(١) الحديبية بالتخفيف تصغير حدباء، وتشديدها غلط، وهى بئر أو شجرة أو قرية أو أرض على تسعة أميال من مكة أكثر أرضها في الحرم (منه قدس) (*).

١٨٢

أوحى إليه ربه عز وعلا. وكانت المصلحة في الواقع ونفس الأمر توجبه، لكنها خفيت على أصحابه فأنكره بعضهم عليه، وعارضه فيه علانية بكل مالديه من قول، فلم يعبأصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعارضتهم ومضى قدما في تنفيذ ما كان مأمورا به، فكانت عاقبته من أحسن عواقب الفاتحين والحمد لله رب العالمين.

[ بيان هذه الحقيقة بشئ من التفصيل ]

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ٦ للهجرة يريد العمرة، وكان يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت - كما فعلوا - فاستنفر الناس إلى العمرة معه، فلباه من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الأعراب ألف وأربعمائة رجل(١) فيهم مئتا فارس، وساق معه الهدي سبعين بدنة، ولم يخرج بسلاح الا سلاح المسافر - السيوف في القرب -(٢) فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم هو وأصحابه منها، ليأمن الناس حربه، وليعلموا أنه انما خرج زائرا، ومعظما له.

ثم سار حتى إذا كان في بعض الطريق علمصلى‌الله‌عليه‌وآله ان خالد بن الوليد في

____________________

(١) وقيل أكثر من ذلك، وقيل أقل منه، وأخرج معه أم المؤمنين زوجته السيدة أم سلمة رضي‌ الله ‌عنها، وتخلف عنه كثير من الأعراب منافقون ذمهم الله تعالى في سورة الفتح المنزلة في هذه الواقعة بعد انتهائها( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ) . وكان ممن خرج معه المغيرة بن شعبة وابن سلول وبايعاه مع من بايعه في الحديبية تحت الشجرة (منه قدس).

(٢) فقال له عمر بن الخطاب: أتخشى يا رسول الله أبا سفيان وأصحابه ولم تأخذ للحرب عدتها ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " لا أحمل السلاح معتمرا " (منه قدس) (*).

١٨٣

الغميم - موضع قرب مكة - في خيل لقريش فيها مئتا فارس، طليعتهم عكرمة ابن أبي جهل فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بذلك، وأمرهم أن يأخذوا ذات اليمين ليسلك بهم غير طريق خالد، فسلكوا بين ظهري الحمض(١) فما شعر بهم خالد: حتى رأى قترة جيشهم - غباره الاسود - ودنا خالد في خيله نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد بن بشر فتقدم في خيله إزاء خالد وخيله.

وحانت صلاة الظهر فصلاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه، فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من أنفسهم وهم في الصلاة، فقال خالد نعم قد كانوا في غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، وستأتي الساعة صلاة أخرى، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم، فأوحى الله عزوجل إلى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا * وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٢) ) .

____________________

(١) الحمض بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة موضع يخرج على مهبط الحديبية (منه قدس).

(٢) الآية ١٠٢ - ١٠٤ من سورة النساء (منه قدس) (*).

١٨٤

فصلى رسول الله فريضة العصر بأصحابه صلاة الخوف المشروعة بهذه الايات (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا)(١) .

[ شراسة قريش وحكمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ]

لقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية حين أتاها أذى كثيرا من المشركين، وغلظة وجفاء ومكاشفة له ولأصحابه في العداوة والبغضاء، ولقي المشركون من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ذلك وأشد عملا منهم رضي ‌الله ‌عنهم بقوله تعالى:( وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ) ، لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسع المشركين بحلمه الموحى يومئذ إليه من ربه عز وعلا بحكمته التي فطر عليها، وبخلقه العظيم الذي فضله الله به على سائر النبيين والمرسلين عليه وآله وعليهم‌السلام .

صده المشركون عن مكة صدا شكسا شرسا لئيما، فما استخفه بذلك غضب، ولا روع حلمه رائع، كان يأخذ الأمور - مع أولئك الجفاة - بالملاينة والإغماض، وله في شأنهم كلمات متواضعة، على ان فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثري، ويريهم أنفسهم تحت الثرى، وفيها من النضج لهم و الإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم - على قسوتها وغلظتها - باجتياحهم إليه، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ما يقطع نياط قلوبهم(٢٢٢) .

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٥.

(٢٢٢) سياسة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش: راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٦٩٢ و ٦٩٣ - ٦٩٧ و ٦٩٩، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ / ٣١٥ و ٣١٦ و ٣١٧، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٦ ط دار الكتاب العربي، الطبقات لابن سعد ج ٢ / ٩٦.

١٨٥

واليك بعض المأثور عنه من ذلك. فأمعن به لتقف على أهدافه، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " يا ويح قريش نهكتهم الحرب فماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب، فان هم أصابوني كان الذي أرادوه، وان أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وان أبوا قاتلوني وبهم قوة ؟ فما تظن قريش فوالله الذي لا اله إلا هو لا أزال أجاهد على الذي بعثني به ربي حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ! "(٢٢٣) - وهي صفحة العنق كناية عن قتله -.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله يطمعهم في خلقه الكريم وفضله العميم: " والذي نفس محمد بيده لا تدعوني اليوم قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها "(٢٢٤) .

أعلن رحمته هذه بكلماته هذه الحكيمة الرحيمة، ثم جمع أصحابه يستشيرهم في حرب قريش إذا أصروا على صده عن البيت، فكان جلهم - ان لم يكونوا كلهم - متأهبين للقتال، متعبئين لجهاد قريش وغيرها، مندفعين إلى ذلك، و نهض المقداد أثنا اندفاعهم يتكلم بلسان الجميع، فقال: " يا رسول الله نحن لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسىعليه‌السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا انا هيهنا قاعدون، وانما نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون، والله

____________________

(٢٢٣) راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٦٩٢، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٦ ط دار الكتاب العربي.

(٢٢٤) راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٦٩٣، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٦ ط دار الكتاب العربي. وقريب منه في: الطبقات لابن سعد ج ٢ / ٩٦ (*).

١٨٦

يا رسول الله لو سرت بنا إلى برد الغماد(١) لسرنا معك ما بقي منا رجل "(٢٢٥) فتهلل وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ثم اخذ منهم البيعة فبايعوه بأجمعهم على الموت في نصرته، وكانوا ألفا وأربعمائة رجل، فيهم كهف المنافقين ابن سلول(٢) لم يتخلف منهم عن هذه البيعة إلا

____________________

(١) حصن في اليمن من أمنع حصون العرب كان مسيرهم إليه مسيرا إلى الموت لا محالة لشدة حصانته في نفسه وفى بأس حاميته - وكانت يومئذ على الشرك - مضافا إلى وعورة طرقه، وحزونة ما حوله من الجبال (منه قدس).

(٢٢٥) موقف مقداد المشرف: قال: " يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعنى مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ودعا له بخير ". راجع: تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٧٣ ط دار القلم، الكامل في التاريخ ج ٢ / ٨٣ ط دار الكتاب العربي، السيرة الحلبية ج ٢ / ٦٩٢ ط مصطفى الحلبي.

(٢) ذكر أهل السير والأخبار ممن أرخ غزوة الحديبية - واللفظ للحلبي في سيرته -: ان قريشا بعثت إلى ابن سلول - وهو مع رسول الله في الحديبية - ان أحببت أن تدخل - مكة - تطوف بالبيت فافعل. فقال له ابنه عبد اللهرضي‌الله‌عنه يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن فتطوف ولم يطوف رسول الله ؟ فأبى الرجل حينئذ وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله، فلما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك رضى عنه وأثنى عليه، فابن سلول إذا ممن بايع تحت الشجرة إذ لم يتخلف أحد عن هذه البيعة ممن كان مع رسول الله في الحديبية إلا الجد بن قيس الأنصاري بإجماع أهل الأخبار (منه قدس (*).

١٨٧

رجل يدعى الجد بن قيس الأنصاري(١) دون غيره من أمثاله(٢٢٦) .

[ رعب المشركين وطلبهم للصلح ]

ما بلغ قريشا هذه البيعة - وهي بيعة الرضوان(٢) - حتى انخلعت قلوبهم، وملئت صدورهم رعبا، ولاسيما بعد خروج عكرمة بن أبي جهل على المسلمين يومئذ في خمسمائة فارس، فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في الكشاف - من هزمه

____________________

(١) ففي السيرة الحلبية عن سلمة بن الاكوع، قال: بايعنا الرسول على الموت ولم يتخلف إلا الجد بن قيس لكأني أنظر إليه لاصقا بابط ناقته يستتر بها من الناس (منه قدس).

(٢٢٦) مبايعة الصحابة للرسول ما عدى الجد بن قيس الأنصاري: راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠١ ط الحلبي، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ / ٣١٩، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٨ ط دار الكتاب العربي، الطبقات لابن سعد ج ٢ / ١٠٠.

(٢) كانت تحت شجرة من سمر فقيل عنها بيعة الشجرة وأضيفت إلى الرضوان لقوله تعالى في شأن المؤمنين من المبايعين يومئذ:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) إلى قوله عز من قائل في آخر السورة عنهم:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

بخ بخ طوبى وحسن مآب للمقيمين من هؤلاء على الإيمان والعمل الصالح حتى لقوا ربهم عزوجل اختصهم الله تعالى بالرضا عنهم والثناء العظيم في محكمات القرآن عليهم، ووعدهم - دون غيرهم من المبايعين - بالمغفرة والأجر العظيم. فالآية هذه هي على حد قوله عزوجل في آية أخرى تختص بأمهات المؤمنين( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) وهدفها انما هو الهدف الذى يرمى إليه قوله عز من قائل:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ، وما أغنى أولياء الله عما افتأته لهم المفتئون من أحاديث يضرب بها عرض الجدار بمخالفتها لمحكمات القرآن الحكيم (منه قدس) (*).

١٨٨

وأصحابه وأدخلهم حيطان مكة، وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوه البيوت، وعلموا أنهم لا قبل لهم بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله و أصحابه.(١)

فاضطر حينئذ أهل الرأي والمشورة منهم إلى طلب الصلح من رسول الله وكان قد بلغهم قوله: " والذي نفس محمد بيده لا تدعوني اليوم قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " فأرسلوا إليه عدة من كبارهم كان على رأسهم سهيل بن عمرو بن عبد ود العامري يمثلهم جميعا لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المهادنة على شروط اشترطوها كانت ثقيلة على المسلمين إلى الغاية، فأبوها كل الإباء، وأسرف بعضهم في إنكارها.

لكن المشركين تشبثوا في اشتراطها باطلاق الخطة التي وعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإعطائهم إياها متى دعوه إلى ذلك، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله مأمورا بهذا الوعد، وبالعمل على مقتضاه وانما قبل شروطهم على ما فيها من الشدة عملا بالوحي، وبما توجبه المصلحة التي كان الله عزوجل بها عليما، وقد علمها الجميع بعد ذلك واعترفوا بها(٢٢٧) ، ستسمعه ان شاء الله تعالى.

[ أنفة عمر من شروط الصلح ]

وما أن تقرر الصلح بين الفريقين على تلك الشروط حتى وثب عمر بن الخطاب وقد أدركته الحمية، ونزت في رأسه سورة الانفة فأتى أبا بكر وقد استشاط غيظا وغضبا. فقال(٢) : " يا أبا بكر أليس هو برسول الله ؟. قال: بلى

____________________

(١) الكشاف للزمخشري ج ٣ / ٥٤٧.

(٢٢٧) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٥ - ٧٠٦.

(٢) كما في السيرة الحلبية وغيرها من كتب الاخبار (منه قدس) (*).

١٨٩

قال أو لسنا بالمسلمين ؟. قال: بلى. قال: أليسوا بالمشركين ؟. قال: بلى قال: فعلى م نعطي الدنية في ديننا. فقال له أبو بكر: أيها الرجل انه رسول الله وليس يعصي ربه، وهو ناصره استمسك بغرزه(١) حتى تموت، فأني أشهد أنه رسول الله(٢) . (الحديث)(٢٢٨) .

وأخرج مسلم - في باب صلح الحديبية من الجزء الثاني من صحيحه - انه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ألسنا على حق وهم على الباطل ؟. قال رسول الله بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟. قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ !. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا.

(قال): فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل ؟ ! قال: بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ ! قال: بلى. قال: فعلى م نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟. فقال يابن الخطاب انه

____________________

(١) الغرز ركاب من جلد يضع الراكب رجله فيه فيكون المعنى اعتلق به وأمسكه واتبع قوله وفعله ولا تخالفه، فاستعار له الغرز كالذي يمسك بركاب الراكب ويسير بسيره، وفى القاموس غرز كسمع أطاع السلطان بعد عصيان، وعلى هذا فلفظ غرزه هنا مصدر غرز فيكون المعنى استمسك بطاعته بعد هذا العصيان (منه قدس).

(٢) وي كأنه أوجس منه شكا في الرسالة (منه قدس).

(٢٢٨) راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٦ ط الحلبي، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ / ٣٢٠، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش السيرة الحلبية ج ٢ / ١٧٧ و ١٨٤ ط البهية بمصر. وقريب منه في: شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ٥٩ ط بتحقيق أبو الفضل. (*)

١٩٠

رسول الله ولن يضيعه أبدا "(٢٢٩) (الحديث).

وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد بلهجة أشد من هذا.

وأخرج البخاري - في آخر كتاب الشروط من صحيحه(١) - حديثا جاء فيه أنه قال: فقلت ألست نبي الله حقا. قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني رسول الله ولست أعصيه(٢) وهو ناصري. (قال) قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به. قال: بلى. أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قلت: لا. قال: فانك آتيه ومطوف به(٣) .

____________________

(٢٢٩) راجع: صحيح مسلم ك الجهاد والسير ب ٣٤ ج ٣ / ١٤١٢ ح ١٧٨٥، صحيح البخاري ك التفسير سورة ٤٨ ج ٦ / ١٧٠ ط مطابع الشعب، تفسير القرطبي ج ١٦ / ٢٧٧، فتح القدير للشوكاني ج ٥ / ٥٥، الطرائف لابن طاوس ج ٢ / ٤٤٠ عن عدة مصادر.

(١) ص ٨١ من جزئه الثاني (منه قدس).

(٢) قوله: ولست أعصيه صريح بما قلناه آنفا من أنه كان مأمورا من الله تعالى بالصلح على الوجه الذي وقع (منه قدس).

(٣) فلما كان عام الفتح وأخذ المفتاح قالصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في السيرة الحلبية وغيرها -: ادعوا لي عمر بن الخطاب فلما أتاه قال: يا عمر هذا الذي قلت لكم، ولما كان في حجة الوداع ووقفصلى‌الله‌عليه‌وآله بعرفة استدعى عمر أيضا فقال له: هذا الذي قلت لكم آه‍. (منه قدس) (*).

١٩١

قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر هذا نبي الله حقا ؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟. قال: أيها الرجل انه لرسول الله وليس يعصي ربه(١) وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله انه لعلى الحق.

(قال) فقلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى. أفأخبرتك انك تأتيه العام.

(قال) قلت: لا. قال: فانك آتيه ومطوف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا(٢) . قال: فلما فرغ - رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - من الكتاب - الذي كتب يومئذ في الصلح - قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا

(قال): فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات(٣) فلما لم يقم منهم أحد دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشئ حتى نحر بدنة بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا ".(٢٣٠) الحديث.

وأخرجه الإمام أحمد - من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم - في مسنده.

____________________

(١) قول أبى بكر هنا: وليس يعصى ربه دليل على أنه كان عالما بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأمورا بالصلح على الذي وقع (منه قدس).

(٢) لا تخفى دلالة كلمته هذه على أن أعماله كانت عظيمة في مصادرة الصلح وبسببها لم يمتثلوا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم بالنحر حتى أمرهم بذلك ثلاثا كما ستسمعه بالأصل (منه قدس).

(٣) ابتلى الإمام أبو محمد الحسن الزكي السبط سيد شباب أهل الجنة في صلحه مع معاوية بمثل ما ابتلى به جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الصلح وله فيه أسوة حسنة (منه قدس).

(٢٣٠) راجع: صحيح البخاري ك الشروط باب الشروط في الجهاد ج ٢ / ١٢٢ ط دار الكتب العربية بحاشية السندي وج ٣ / ٢٥٦ ط مطابع الشعب، مسند أحمد ج ٤ / ٣٣٠ ط ١ (*).

١٩٢

ونص الحلبي في غزوة الحديبية من سيرته وغير واحد من أهل الأخبار: ان عمر جعل يرد على رسول الله الكلام. فقال له أبو عبيدة ابن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ما يقول نعوذ بالله من الشيطان الرجيم(٢٣١) (قال الحلبي وغيره) وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ: يا عمر إني رضيت وتأبى(٢٣٢) ! ونقل الحلبي وغيره: ان عمر كان بعد ذلك يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به(٢٣٣) . إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية.

[ تنفيذ خطة الصلح ]

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأبه يومئذ لمعارضة من عارضه في إنقاذ الخطة التي كان مأمورا بها - خطة الصلح بتلك الشروط الثقيلة - فاستدعى عليا لتسجيل كتابها. فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف هذا فليكتب باسمك اللهم. فضج المسلمون وقالوا: والله لا يكتب إلا ما أمر به رسول الله لكن رسول الله قطع النزاع بقوله لعلي: اكتب باسمك اللهم. فكتبها علي ممتثلا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال له النبي: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال سهيل: لو كنا نعلم انك رسول الله ما قاتلناك ولا صددناك عن البيت، ولكن ليكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، فقامت قيامة المسلمين في الإنكار على سهيل بذلك وأبوا إلا أن يكتب رسول الله كل

____________________

(٢٣١) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٦.

(٢٣٢) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٦، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ / ٣٢٠.

(٢٣٣) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٦ (*).

١٩٣

الإباء، وكادت الفتنة أن تقع لولا ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أنا محمد رسول الله، وان كذبتموني، وأنا محمد بن عبد الله، فاكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو فكتبها علي متغيضا متزفرا. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان لك يا أبا الحسن مثلها أو أنه قال: ستسام يا أبا الحسن مثلها فتجيب وأنت مضطهد(٢٣٤) .

وكان الصلح على أن يرجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه من الحديبية، فإذا كان العام القابل تخرج قريش من مكة فيدخلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه فيقيم بها ثلاثا، وليس معه من السلاح سوى السيوف في القرب، وأن توضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين(١) يأمن فيها الناس، ويكف فيها بعضهم عن بعض، وأنه من أحب من العرب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه(٢) وأن يكون بين الفريقين عيبة

____________________

(٢٣٤) هذه الكلمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله معدودة عند المسلمين كافة من أعلام النبوة وآيات الإسلام والتفصيل في السيرة الحلبية والدحلانية وغيرهما من كتب السير والأخبار فلتراجع (منه قدس). راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٦ - ٧٠٧، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٨ ط دار الكتاب العربي، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش الحلبية ج ٢ / ١٧٧ - ١٧٨ ط البهية بمصر. وقريب منه في: الكشاف ج ٣ / ٥٤٩، الطبقات لابن سعد ج ٢ / ٩٧.

(١) وقيل سنتين، وفى رواية صححها الحاكم أربع سنين (منه قدس).

(٢) فدخلت خزاعة في عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعهده، وكانوا من قبل حلفاء جده عبد المطلب، ودخلت بكر في عقد قريش وعهدها، ثم كان بين خزاعة وبكر حرب أمدت قريش فيه حلفاءها - أعنى بني بكر - على حلفاء رسول الله - أعنى خزاعة - وبذلك =>

١٩٤

مكفوفة: " أي صدور منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة " وأنه لا اسلال ولا اغلال (أي لا سرقة ولا خيانة) وأنه من أتى محمدا من قريش ممن هو على دين محمد بغير اذن وليه رد إليه، ومن أتى قريشا ممن كان مع محمد فارتد عن الإسلام لا ترده قريش إليه، فقال المسلمون: سبحان الله كيف نرد للمشركين من جاءنا منهم مسلما ؟ ! وعظم عليهم هذا الشرط، فقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا على نفسك ؟ ! قال: نعم انه من ذهب منا مرتدا أبعده الله، ومن جاءنا مسلما فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا.

فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة إذ جاء أبو جندل - واسمه العاص - بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في قيوده، وكان أسلم بمكة قبل ذلك، فمنعه أبوه من الهجرة وحبسه موثوقا، وحين سمع أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في الحديبية احتال حتى خرج من السجن، وتنكب الطريق في الجبال حتى هبط على المسلمين ففرحوا به وتلقوه، لكن أخذه أبوه بتلأبيبه يضرب وجهه ضربا شديدا(١) وهو يقول: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي.

فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : انا حتى الآن لم نفرغ من كتابة الكتاب. قال سهيل: إذن لا أصالحك على شئ. فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فأجره لي. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. فقال مكرز بن حفص وحويطب بن عبدالعزى وهما من وجوه قريش. قد أجرناه لك يا محمد

____________________

=> نقضت قريش ما عاهدت عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية، وبهذا استباح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غزو قريش فكان الفتح المبين والنصر العزيز والحمد لله رب العالمين (منه قدس).

(١) والمسلمون يبكون رحمة له متذمرين إلى الغاية (منه قدس) (*).

١٩٥

فأخذاه وأدخلاه فسطاطا وكفا أباه عنه. ثم قال سهيل: يا محمد قد تمت القضية ووجبت بيني وبينك قبل أن يأتي ابني اليك. قال: صدقت. وحينئذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي جندل. اصبر واحتسب فقد تم الصلح قبل أن تأتي، ونحن لا نغدر وقد تلطفنا بأبيك فأبى، وان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.

وهنا وثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يغريه بقتل أبيه، ويدني إليه السيف. قال عمر - كما في السيرة الدحلانية وغيرها -. رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه وجعل يقول له: أن الرجل يقتل أباه، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم، لكن أبا جندل لم يجبه إلى قتل أبيه خشية الفتنة(١) وعملا بما أمره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصبر والاحتساب(٢) وقال لعمر. مالك لا تقتله أنت ؟ قال عمر. نهانا رسول الله عن قتله وقتل غيره(٣) فقال أبو جندل. ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني(٤) . ورجع مع أبيه إلى مكة في جوار مكرز وحويطب فأدخلاه مكانا وكفا * (هامش) *

____________________

(١) إذ لو قتل يومئذ سهيل لكان بين قريش والمسلمين فتنة تجتاحهما جميعا ويكون شرها مستطيرا فالحمد لله على العافية (منه قدس).

(٢) لا يخفى ما في اغراء أبى جندل بقتل أبيه من المعارضة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره إياه بالصبر والاحتساب (منه قدس).

(٣) لا يخفى ما في إغراء أبى جندل بقتل أبيه من معارضة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في نهيه إياهم عن قتل سهيل وغيره، فهنا معارضتان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحداهما في أمره، والثانية في نهيه (منه قدس).

(٤) ولأبي جندل هذا أخ هو عبد الله بن سهيل بن عمر، كان إسلامه سابقا على إسلام شقيقه أبى جندل، لان عبد الله خرج مع المشركين إلى بدر، وكان قبل ذلك مسلما لكنه كتم إسلامه حتى أتى بدرا فانحاز فيها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وشهد معه بدرا والمشاهد كلها، أما أبو جندل فأول مشاهده الفتح (منه قدس) (*).

١٩٦

عنه أباه وغيره، وفاء بالجوار، وجعل الله بعد ذلك له ولسائر المستضعفين من المؤمنين فرجا ومخرجا،(٢٣٥) كما ستسمعه ان شاء الله تعالى قريبا، والحمد لله الذي نصر عبده، وأنجز وعده.

[ عائدة الصلح ]

كفى بالصلح عائدة انه كان سببا في اختلاط المسلمين بالمشركين، فكان المشركون يأتون بعده إلى المدينة، كما ان المسلمين كانوا يأتون مكة.

فإذا جاء المشركون إلى المدينة، ورأوا رسول الله بهرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأخلاقه وقدسي سيرته، وعظم في أنفسهم أمره، هديا ورأيا وسمتا ونعتا، وقولا وفعلا وراقهم الإسلام بشرائعه وأحكامه، من حلاله وحرامه، وعباداته ومعاملاته، وسائر نظمه، وبالغ حكمه، وملكهم القرآن بآياته وبيناته، فأخذ بسمعهم و أبصارهم وأفئدتهم، وأدهشهم أصحاب رسول الله بتعبدهم بأوامره وزواجره فإذا هؤلاء على مقربة من الإيمان، بعد ان كانوا قبل صلح الحديبية في منتهى العمه والطغيان، وإذا هم يرجعون إلى اهليهم كمبشرين بمحمد ومنذرين بفتحه.

وإذا أتى المسلمون مكة وخلوا بأرحامهم وأصدقائهم لا يألونهم نصحا ودعاية إلى الله ورسوله بما يوقفونهم عليه من اعلام النبوة وآيات الإسلام، وما في

____________________

(٢٣٥) صبر أبى جندل في سبيل الله: راجع: السيرة الحلبية ج ٢ / ٧٠٨ - ٧١١، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش السيرة الحلبية ج ٢ / ١٨٢ ط البهية. وقريب منه: في الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٣٩ ط دار الكتاب العربي، الطبقات لابن سعد ج ٢ / ٩٧.

١٩٧

القرآن الحكيم من علم وحكمة، ونظم اجتماعية، وسنن وفرائض وآداب وأخلاق، ومواعظ وعبر، وأخبار الأمم الماضية، والقرون الخالية، فإذا هؤلاء أيضا مبشرون - ببطن مكة - ومنذرون، وقد كان لعملهم هذا أثره العظيم في تسهيل أمر الفتح، بلا قتال ولا ممانعة، والحمد لله.

وهناك من فوائد الصلح ما حصل بمجرد اجتماع المشركين مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية، ووقوفهم على هديه وخلقه بإمعان، وكان أكثر قريش - إذ ذاك - لا يعرفون منهما شيئا، ولاسيما شبابهم، إذ كان أبو جهل والوليد وأبو سفيان وشيبة وعتبة وأمثالهم من مشيخة الأوثان والجاهلية أرجفوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتسنى لهم تسميم الرأي العام الجاهلي فيه، وقد أجلبوا عليه بكل مالديهم من حول وطول، وبكل ما يستطيعونه من فعل وقول، ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره.

قصدوه وهو في دار هجرته محاربين ليقتلوه وأصحابه، وليستأصلوا شأفة الذين آووه ونصروه بغيا وعدوانا، فنصره الله عليهم في بدر وأحد والأحزاب( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢٣٦) .

لكن ظل أهل مكة - بعد هذه الحروب - على ضلال رأيهم المسموم في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم تره أعينهم بعد الهجرة، ولم يبلغهم عنه الا ما سمعوه من أولئك المرجفين، فلما كان يوم الحديبية، واختلطوا به وبأصحابه، رأوا منه خلقا عظيما. كانوا كلما تبغضوا إليه بجفاء وسوء صنع، تحبب إليهم بحنو وعاطفة وحسن صنع، فإذا قسوا وأغلظوا له لان وخفض لهم جناح الرحمة، مستمرا

____________________

(٢٣٦) سورة الأنعام: ٤٥ (*).

١٩٨

معهم على هذه الحال، يقابل اساءتهم باللقيا عليهم، والإحسان إليهم ؟ عملا بقوله تعالى( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (٢٣٧) .

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قادرا على دخول مكة وزيارة البيت عنوة، بدليل قوله تعالى في هذه الواقعة:( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) (٢٣٨) وقوله فيها أيضا عز من قائل( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (٢٣٩) .

وكان المشركون على يقين من ظفره عليهم لو قاتلهمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد علموا بإصرار أصحابه عليه في القتال، وأنه أبى عليهم ذلك كل الإباء، إيثارا للسلم وحسن عواقبه، وحقنا للدماء، واحتراما للحرم، واحتياطا على حرماته، وأدركت قريش إشفاقه عليها، ورعايته لحقوقها الرحيمة منه، وانه لذلك " قبل المهادنة على ما فيها من الشروط القاسية " لم تأخذه الانفة من صدهم إياه عن المسجد الحرام، وإرجاعه - على حافزته بأصحابه رغما لكثير منهم - إلى المدينة. وهذا ما كان في نظر قريش كفارة له عما كان في بدر وأحد والأحزاب، إذ تجلى يومئذ لهم - بكفه عن قتالهم - انه غير مسؤول عن شئ من ذلك، وانما المسؤول عن تلك الدماء المسفوكة انما هم مشائخ قريش كأبي سفيان وأبي جهل وأضرابهما الذين غزوه - وهو في مهجره الذي فر منه إليه - فاضطروه إلى دفع عدوانهم عنه وعن أصحابه، ولو كفوا عنه وعن الذين آووه ونصروه

____________________

(٢٣٧) سورة فصلت: ٣٤ و ٣٥.

(٢٣٨) سورة الفتح: ٢٢.

(٢٣٩) سورة الفتح: ٢٤ (*).

١٩٩

لكف عنهم مقتصرا في دعوته إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة.

أطفأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - في الحديبية - وقدة قلوب هؤلاء المشركين، واستل سخائمهم، وأزال أضغانهم، وأغراهم بسادتهم وكبرائهم، حتى أيقنوا بعدوانهم عليه، وجنايتهم على أنفسهم، وبهذا لانت قلوبهم مطمئنة بحسن عواقبهم معه إذا انضموا إلى لوائه، معتصمين بولائه، حكمة بالغة، أعقبت الفتح المبين، والنصر العزيز، ودخول الناس في دين الله أفواجا(٢٤٠) .

[ رجوعهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ]

كانت إقامته في الحديبية تسعة عشر يوما، نقل بعدها إلى المدينة، فلما كان بكراع الغميم - موضع بين الحرمين - نزلت عليه سورة الفتح، وعمر لا يزال حينئذ آسفا من صد المشركين إياهم عن مكة ورجوعهم وهم على خلاف ما كانوا يأملون من الفتح، فأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلت عليه السورة أن يزيل بث عمر، ويذهب برحاء صدره.

فقال له - كما في صحيح البخاري بالإسناد إليه(١) - " لقد أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) . فقال رجل من أصحابه " ما هذا بفتح(٢) لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا، ورد رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا " فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ": بئس

____________________

(٢٤٠) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧١١.

(١) من حديث تجده في باب غزوة الحديبية من الجزء الثالث من الصحيح (منه قدس).

(٢) يا سبحان الله يقول الله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) إلى آخر السورة، ويتلوها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه عن الله عزوجل، وهذا الرجل يقول: ما هذا بفتح ؟ ! فمن هو هذا الرجل يا ترى ؟ ! ليتكم تعرفونه (منه قدس) (*).

٢٠٠