النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165934 / تحميل: 7984
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الكلام هذا بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الإبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ؟ ". فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولانت أعلم بالله وبأوامره منا(٢٤١) .

لكن قال عمر حينئذ: يا رسول الله ألم تقل انك تدخل مكة آمنا ؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا ؟ قال: لا. الحديث(٢٤٢) .

وعن سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى الشعبي في قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) قال: لم يكن في الإسلام فتح قبله أعظم منه، فانه لما كانت الهدنة ووضع الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا ؟ والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، لم يكلم أحد من المسلمين ذا عقل في تلك المدة

____________________

(٢٤١) راجع قصة الحديبية من السيرة النبوية الدحلانية وغيرها تجد كلما قلناه بنصه (منه قدس). معارضة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ١٠٥.

(٢٤٢) تجده في السيرة الحلبية وغيرها (منه قدس). صحيح البخاري، السيرة الحلبية ج ٢ / ٧١٥، السيرة النبوية لزين دحلان. وذكر صدره في: الكشاف ج ٣ / ٥٤١، تفسير القرطبي ج ١٦ / ٢٦٠، سورة الفتح آية: ١ (*).

٢٠١

بالإسلام الا دخل فيه، وقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر (قال): ويدلك عليه أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف

(قال): ومما ظهر من مصلحة الصلح أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا فكان صلح الحديبية مقدمة الفتح، فسميت فتحا إذ مقدمة الظهور ظهور " آه(٢٤٣) .

[ الفرج الذي وعد به المستضعفون ]

مر عليك حديث أبي جندل، إذ احتال حتى خرج من السجن وتنكب الطريق يرسف في قيوده، حتى هبط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحديبية مستغيثا به، وحيث لم يتمكن يومئذ من اغاثته اعتذر إليه وعزاه، وأمره بالصبر والاحتساب، فكان مما قاله له: " ان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا "(٢٤٤) .

وكان في المستضعفين المعذبين في مكة رجل من أبطال المسلمين يدعى أبا بصير(٢٤٥) احتال حتى خرج من السجن ففر هاربا إلى رسول الله و

____________________

(٢٤٣) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ / ٣٢٤، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٣٩ ط دار الكتاب العربي.

(٢٤٤) الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعد المستضعفين بالفرج: الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٣٩ ط دار الكتاب، الطبقات لابن سعد ج ٢ / ٩٧، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش السيرة الحلبية ج ٢ / ١٩٢ ط البهية.

(٢٤٥) واسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد الثقفى ترجم له أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكنى من استيعابه وغير واحد من أصحاب المعاجم، وقصته هذه ذكرها ابن =>

٢٠٢

هو في المدينة بعد رجوعه من الحديبية، فكتبت قريش في رده، كتابا بعثت به رجلا من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله بالكتاب فإذا فيه " قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أبنائنا فابعث إلينا أبا بصير ".

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : " يا أبا بصير انا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، و لا يصح الغدر منا فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق راشدا ".

قال: " يا رسول الله انهم يفتنوني عن ديني ".

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " يا أبا بصير انطلق فأن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجا ومخرجا " فودع الرجل رسول الله وانطلق معهما، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس إلى جدار ومعه صاحباه.

فقال لأحدهما: " أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ "

قال: " نعم " قال أبو بصير: " أرنيه " فناوله إياه فاستله أبو بصير، ثم علاه فإذا هو يتشحط بدمه. ثم هم بالثاني فهرب منه حتى أتى رسول الله، فلما رآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير في أثره.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " قد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى إلى النبي قال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ويحك ؟ مالك ؟ " قال " ان صاحبك قتل صاحبي وأفلت منه ولم أكد، واني لمقتول فأغثني يا محمد " فأمنه رسول الله، وإذا بأبي بصير يدخل متوشحا سيفه يقول :

____________________

=> إسحاق وغيره من أهل السير والأخبار وهى من أشهر القضايا نقلناها عن الحلبي في سيرته (منه قدس). راجع: الاستيعاب لابن عبد البر في ترجمة أبى بصير ج ٤ / ٢٠، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٣٩ ط دار الكتاب العربي. (*)

٢٠٣

" بأبي أنت وأمي يا رسول الله وفيت ذمتك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت منهم بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي ".

فقال له: " اذهب حيث شئت "

فقال: " يا رسول الله هذا سلب العامري الذي قتلته، رحله وسيفه فخمسه ".

فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ولكن شأنك بسلب صاحبك "

وعند ذلك هب أبو بصير إلى محل من طريق تمر به عيرات قريش، واجتمع إليه جمع من المسلمين المستضعفين الذين كانوا قد احتبسوا بمكة إذ بلغهم خبره، وان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في حقه: " انه مسعر حرب لو كان معه رجال "

فتسللوا حينئذ إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل ابن عمرو، وخرج من مكة في سبعين فارسا أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا ان يقدموا على رسول الله في تلك المدة - مدة المهادنة - وانضم إليهم ناس من غفار، وجهينة، وأسلم، وطوائف أخر من العرب حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل، فقطعوا مارة قريش، لا يظفرون بأحد منها الا قتلوه، ولا مر بهم عير الا أخذوها، ومنعوا الدخول إلى مكة والخروج منها، فاضطرت قريش أن تكتب لرسول الله تسأله بالأرحام التي بينه وبينها، الا آواهم، وأرسلت أبا سفيان بن حرب في ذلك، فأبلغه أبو سفيان: " انا أسقطنا هذا الشرط من شروط الهدنة، فمن جاءك منهم فأمسكه من غير حرج "

وحينئذ كتب رسول الله إلى أبي جندل وأبي بصير ان يقدما عليه، وان يلحق من معهما من المسلمين بأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليهما وأبو بصيررضي‌الله‌عنه يموت، فمات والكتاب في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم، وأمنت قريش على عيراتهم.

٢٠٤

وحينئذ عرف الصحابة الذين عظم عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه - ان طاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خير مما أحبوه، وعلموا أن الحكمة كانت في الحديبية توجب الصلح فرضا على التعيين، وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينطق عن الهوى وندموا كل الندم على ما بدر منهم من هناة معترفين بالخطأ، وقدرت قريش موقفه يومئذ معها في حقن دمائها، وحسن عواقبها، وعرفوه صادق الضمير، مخلص السريرة ودودا مشفقا، والحمد لله رب العالمين(٢٤٦) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٨٦: -

[ المورد - (١٨) - صلاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله على " ابن أبى " المنافق: ]

وقد عارضهصلى‌الله‌عليه‌وآله بغلظة وعنف، وحسبك من عنفه يومئذ ما أثبته أهل الصحاح والمسانيد، وأرسله أهل الأخبار والسير إرسال المسلمات(٢٤٧) .

واليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه(١) بسنده إلى عبد الله بن عمر قال لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله

____________________

(٢٤٦) السيرة الحلبية ج ٢ / ٧١٨ - ٧٢١، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ / ٢٠، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش الحلبية ج ٢ / ١٩٢ - ١٩٣. وقريب منه في: الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٣٩، الطبقات لابن سعد ج ٤ / ١٣٤.

(٢٤٧) شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ٨٧ ط أبو الفضل، الطرائف لابن طاوس ج ٢ / ٤٤٣ عن الجمع بين الصحيحين

(١) في ص ١٨ من جزئه الرابع، وأخرجه أيضا في باب قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ، من تفسير سورة التوبة ص ٩٢ من الجزء الثالث من الصحيح. ورواه الإمام أحمد وغير واحد من حديث عبد الله بن عمر وغيره في مسانيدهم فراجع (منه قدس) (*).

٢٠٥

أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه(١) وقال له إذا فرغت منه فآذنا، فلما فرغ منه آذنه به، فجاءصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصلي عليه، فجذبه عمر فقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ ! فقال لك( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) .

(قال ابن عمر) فنزلت (بعد ذلك)( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ ) (قال): فترك الصلاة عليهم بعد نزولها(٢٤٨) .

كأن عمر فهم النهي عن الصلاة على المنافقين من قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) (الآية) - وهذا خطأ في فهمها كما سنوضحه - وكأن هذه الآية نزلت قبل الصلاة على هذا المنافق، فلما رأى عمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا ليصلي عليه، توهم انه خالف النهي، فلم يتمالك من غضبه وإنكاره، فجذبه من موقفه منكرا عليه ما توهمه من المخالفة.

حاشاه، وحاشا لله، ومعاذ الله ونعوذ بالله. فان قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) ليس من النهي في شئ ما اصلا، وانما هو مجرد أخبار بعدم انتفاعهم باستغفاره لهم، وان استغفاره لهم وان كثر، وعدم استغفاره لهم بالمرة على حد سواء في عدم المغفرة لهم.

____________________

(١) وقد قيل له لم أعطيته قميصك ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ان قميصي لم تغن عنه من الله شيئا، وأنى أرجوا أن يدخل به في الإسلام خلق كثير ". قلت: وقد حقق الله بذلك رجاءه (منه قدس).

(٢٤٨) صحيح البخاري ك اللباس، صحيح البخاري أيضا ك التفسير باب تفسير سورة التوبة، مسند أحمد عن عبد الله بن عمر، صحيح مسلم ك صفات المنافقين ج ٨ / ١٢٠، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٩٩ ط دار الكتاب العربي. (*)

٢٠٦

والأمة مجمعة على ان النهي عن الصلاة على المنافقين انما كان بقوله تعالى:( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ ) ، وان ذلك انما نزل بعد هذه الواقعة بالاجماع على ان الحديث - حديث ابن عمر الذي تلوناه عليك الآن - بمجرده صريح في ذلك، فتدبر آخره تجده نصا في تأخره عن هذه الواقعة.

لذلك لم يأبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه المعارضة، لكنه وسعها بحلمه العظيم، وحكمته البالغة جريا على عادته المستمرة، فلما أكثر عمر عليه واقفا إزاء صدره يمنعه من الصلاة بكلام كنا نربأ بمثله ان يواجه به رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله - من حديث صحيح -: أخر عني يا عمر إني خبرت، قيل لي:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) فلو أعلم أني ان زدت على السبعين غفر الله له لزدت، ثم صلى عليه، ومشى خلفه وقام على قبره. (الحديث)(٢٤٩) .

قلت: جرىصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته على " ابن أبي ". حسبما اقتضاه يومئذ تكليفه من المعاملة على مقتضى الظاهر، ولم يكن " ابن أبي " في عداد الكافرين الذين أبوا الدعوة إلى الإسلام فردوها وانما كان ممن أجاب الدعوة في ظاهر حاله، ونطق بالشهادتين ولم يتظاهر بالردة.

وانما نافق، ولم يكن حينئذ نهى عن الصلاة على المنافقين كما سمعت فصلى عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله جريا على ظاهر حكم

____________________

(٢٤٩) أخرجه بالإسناد إلى عمر كل من البخاري ومسلم والترمذي والإمام أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه وغيرهم فيما نقله المتقى الهندي عنهم جميعا في أول ص ٢٤٧ من الجزء الأول من كنز العمال. وهو الحديث ٤٤٠٣ من أحاديث الكنز (منه قدس). وراجع: الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٩٩ ط بيروت. (*)

٢٠٧

الإسلام، واستئلافا لقومه الخزرج، وقد أسلم بذلك منهم ألف رجل، فكان قميص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وصلاته هذه مما فتح الله به على المسلمين فتحا مبينا والحمد لله رب العالمين(٢٥٠) .

وحينئذ ندم عمر على تسرعه، وكان بعد ذلك يقول - من حديث له -: أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط، أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت له: والله ما أمرك الله بهذا لقد قال الله لك:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (قال) فقال رسول الله: خيرني ربي فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فاخترت. (الحديث)(٢٥١) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٨٩: -

[ المورد - (١٩) صلاته على بعض المؤمنين. ]

وذلك فيما أورد ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبي عطية من الجزء الرابع من إصابته، إذ قال: أخرج البغوي، وأبو أحمد الحاكم من طريق اسماعيل بن عياش، وروى الطبراني من طريق بقية، كلاهما عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي عطية: " ان رجلا توفى على عهد رسول الله فقال بعضهم - يعني عمر -: يا رسول الله لا تصل عليه. فقال رسول الله: هل رآه أحد منهم على شئ من أعمال الخير ؟. فقال رجل حرس معنا ليلة كذا وكذا. فصلى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(٢٥٠) وأما الشيعة الإمامية فيرون ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليه وهى صلاة صورية كما في صحيحة الحلبي عن أبى عبد اللهعليه‌السلام راجع وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٧٠، الجواهر ج ١٣ ص ٥٠.

(٢٥١) أخرجه ابن أبى حاتم من طريق الشعبى عن عمر وهو الحديث ٤٤٠٤ من أحاديث الكنز فراجع هذا والذي قبله في كل من الكنز ومنتخبه المطبوع في هامش مسند الإمام أحمد (منه قدس) (*).

٢٠٨

ثم مشى معه إلى قبره، ثم حثا عليه وهو يقول: ان أصحابك يظنون انك من أهل النار، وأنا أشهد أنك من أهل الجنة، ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر: انك لا تسأل عن أعمال الناس، وانما تسأل عن الغيبة. (الحديث)(٢٥٢) .

وأورده أيضا في ترجمة أبي المنذر من الإصابة، إذ قال: أخرج مطين عن محمد بن حرب الواسطي عن حماد بن خالد عن هشام بن سعد، عن يزيد بن ثعلب عن أبي المنذر: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حثا في قبره ثلاث حثيات.

(قال): وأخرجه الطبراني مطولا عن عمرو بن أبي الطاهر بن السرح عن أبيه عن عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد: ان رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله ان فلانا هلك فصل عليه. فقال عمر: انه فاجر فلا تصل عليه فقال الرجل: يا رسول الله أرأيت الليلة التي أصبحت فيها في الحرس فانه كان فيهم فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم اتبعه حتى إذا فرغ منه، حثا عليه ثلاث حثيات، وقال: يثني الناس عليه شرا، وأثني عليه خيرا، فقال عمر: وما ذاك يا رسول الله ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : دعنا منك يا عمر من جاهد في سبيل الله وجبت له الجنة

(قال): أبو موسى في الذيل تقدم هذا المتن من حديث أبي عطية: " قال ابن حجر في أبي المنذر " قلت: وحديث أبي المنذر أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل عن أحمد بن منيع عن حماد بن خالد كرواية ابن نافع، ولم يذكره أبو أحمد في الكني

(قال) وأما حديث أبي عطية فقد تقدم كما قال أبو موسى في ترجمته

(قال) وذكره الحاكم أبو أحمد وقال: أخلق بهذا أن يكون صحابيا، لكن مخرج الحديثين مختلف وان تقاربا في سياق المتن. انتهى بلفظ الإصابة في ترجمة أبي المنذر(٢٥٣) .

____________________

(٢٥٢) الإصابة لابن حجر ج ٤ / ١٣٤ ط ١ بمصر.

(٢٥٣) الإصابة لابن حجر ج ٤ / ١٨٥ ط ١ بمصر ترجمة أبى المنذر. (*)

٢٠٩

[ المورد (٢٠) - تبشيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنة لكل من لقي الله عزوجل بالتوحيد، مطمئنا به قلبه]

وذلك حيث اقتضت حكمة الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤذن في الناس بهذه البشرى، تبيانا للحقيقة من عاقبة الموحدين، وكشفا عن الواقع من أمرهم، وتنشيطا لأهل الإيمان، وترغيبا فيه، وقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا هريرة بذلك فقال له: اذهب فمن لقيته يشهد أن لا اله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة. فكان أول من لقيه عمر فسأله عن شأنه، فأخبره بما أمره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال أبو هريرة - فيما أخرجه بالإسناد إليه مسلم في صحيحه(١) -.

فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله فأجهشت بكاء، وركبني عمر وإذا هو على أثري. فقال لي رسول الله: مالك يا أبا هريرة ؟ فقلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثديي ضربة فخررت لاستي فقال ارجع.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر ما حملك على ما فعلت ؟ قال يا رسول الله أبعثت أبا هريرة بان من لقى الله يشهد أن لا اله إلا الله مستيقنا بها قلبه يبشره بالجنة ؟ قال رسول الله: نعم. قال: لا تفعل فاني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله: فخلهم. آه(٢٥٤) .

____________________

(١) راجع باب (من لقى الله تعالى بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار) من أوائل جزئه الأول (منه قدس).

(٢٥٤) راجع: صحيح مسلم ج ١ / ٤٤، الغدير ج ٦ / ١٧٦، سيرة عمر لابن الجوزي ص ٣٨، شرح ابن أبى الحديد ج ٣ / ١٠٨ و ١١٦ ط ١، فتح الباري ج ١ / ١٨٤، الطرائف لابن طاوس ج ٢ / ٤٣٧ عن الجمع بين الصحيحين. (*)

٢١٠

وللنووي هنا عذر عن هذه المعارضة، نقله عن القاضي عياض وغيره، حاصله: ان عمر لم يكن في هذه الواقعة معترضا على رسول الله، أو رادا عليه فيما بعث به أبا هريرة من تبشير المؤمنين بالجنة، ولكنه خشي أن يتكل المؤمنون على البشرى إذا بلغتهم، ويتركوا العمل، فرأى ان كتمها عنهم أصلح لهم، وأعود عليهم بالخبر من إبلاغهم إياها، وهذا ما دعاه إلى ضرب أبي هريرة وإرجاعه على حافرته، وهو الذي حمله على القول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تفعل، نهيا له عما كان قد أصدر أمره به من تبشير المؤمنين بالجنة(٢٥٥) .

وأنت تعلم أن عذرهم هذا لا يعدو ما قلناه من اجتهاده في مقابل النص، وتقديمه الرأي الاجتهادي في مقام العمل على التعبد بالنصوص. على أنه في هذه الواقعة لم يقتصر على نفسه في مقابلة النص، حتى حمل عليها أبا هريرة بالعنف مهانة وضربا خر به لاسته، ولم يقف على هذا الحد حتى كلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعدول عما كان قد أصدر به أمره إذ قال بكل جرأة وصراحة: لا تفعل. لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسعه بحلمه وطول أناته، وكان كما قال الله تعالى:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (٢٥٦) .

لم يكن لهذه المعارضة عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله أي أثر، وقد بلغ تلك البشرى للأمة بنفسه متوكلا على الله، فسمعها منه عمر نفسه، وعثمان بن عفان، ومعاذ بن جبل

____________________

(٢٥٥) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١ ص.

(٢٥٦) سورة آل عمران: ١٥٩ (*).

٢١١

وعبادة بن الصامت. وعتبان بن مالك(١) وغيرهم حتى تجاوزت حد التواتر، فكانت من الضروريات بين المسلمين على اختلافهم في المذاهب و المشارب(٢٥٧) .

وان مما يدهش العقلاء، قول هؤلاء العلماء الأجلاء - العلامة النووي و القاضي عياض وأمثالهما -: ان الصواب في هذه الواقعة انما كان في جانب عمر وادعوا ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صوبه حين عرض عليه رأيه، فحق لنا بهذا، ان نعوذ بالله من كل محال، ونبرأ إليه من كل باطل.

واليك كلام النووي قال(٢) : وفي هذا الحديث - أي حديث أبي هريرة في هذه الواقعة - دليل على أن الإمام والكبير مطلقا إذا رأى شيئا ورأى بعض أتباعه خلافه، ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع لينظر فيه، فان ظهر له ما قاله التابع هو الصواب، رجع المتبوع إليه، وإلا بين للتابع جواب الشبهة التي عرضت له.

قلت: انما يصغى بهذا الكلام إذا لم يكن المتبوع نبيا بحق، أما إذا كان نبيا فليس لأحد من الأمة كافة إلا السمع والطاعة والإيمان الخالص من كل شبهة( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ

____________________

(١) وحديث هؤلاء موجود في باب (من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة) من أوائل صحيح مسلم (منه قدس).

(٢٥٧) صحيح مسلم ج ١ / ٤١ ط مشكول. وراجع أيضا: الغدير ج ٦ / ١٧٦.

(٢) في ص ٤٠٤ من الجزء الأول من شرحه لصحيح مسلم المطبوع في هامش شرحي البخاري - إرشاد الساري، وتحفة الباري - (منه قدس) (*).

٢١٢

إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢٥٨)

( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (٢٥٩)

( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢٦٠)

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢٦١)

( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٢٦٢) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ١٩٤: -

[ المورد - (٢١) - متعة الحج إذ نهى عنها عمر بن الخطاب: ]

وقد عملها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر بها عن الله عزوجل، وهي مما نص الذكر الحكيم [ عليها ظ ] بقوله عز من قائل في سورة البقرة:( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (١) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ (٢)

____________________

(٢٥٨) سورة الحشر آية: ٧ - ٨.

(٢٥٩) سورة التكوير آية: ١٩ - ٢٢.

(٢٦٠) سورة الحاقة آية: ٤٠ - ٤٣.

(٢٦١) سورة النجم آية: ٢ - ٦.

(١) أي فعليه ما تيسر له على الهدى (منه قدس).

(٢) أي فمن لم يجد الهدى ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج هي يوم السابع من ذي الحجة ويوم الثامن منه وهو يوم التروية ويوم التاسع وهو يوم عرفة، وان صام أول العشرة جاز له ذلك رخصة، وان صام يوم التروية ويوم عرفة قضى يوما آخر بعد انقضاء أيام التشريق، وان فاته صوم يوم عرفة أيضا صام الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق متتابعات (منه قدس) (*).

٢١٣

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (١) تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (٢٦٣) .

[ صفة هذا التمتع ]

أما صفة التمتع بالعمرة إلى الحج، فهي أن ينشئ المتمتع بها أحرامه في أشهر الحج(٢) من الميقات فيأتي مكة ويطوف بالبيت ثم يسعى بين الصفا والمروة: ثم يقصر ويحل من أحرامه فيقيم بعد ذلك حلالا، حتى ينشئ في تلك السنة نفسها احراما آخر للحج من مكة، والأفضل من المسجد، ويخرج إلى عرفات، ثم يفيض إلى المشعر الحرام، ثم يأتي بأفعال الحج على ما هو مفصل في محله. هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحج(٢٦٤) .

قال الإمام ابن عبد البر القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى:( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي ) هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج(٢٦٥) قلت: وهو فرض من نأى عن

____________________

(١) أي رجعتم إلى بلادكم (منه قدس)

(٢٦٣) أي ذلك الذي تقدم ذكره حول التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة ومن يجرى مجراهم في القرب إليها كما بيناه في الأصل (منه قدس). سورة البقرة آية: ١٩٦ وراجع: مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٠٥، تفسير القرطبي ج ٢ / ٣٨٨.

(٢) وهى شوال وذو القعدة وذو الحجة (منه قدس).

(٢٦٤) راجع: العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي ج ٢ / ٥٤٠، اللمعة الدمشقية ج ٢ / ٣٠٤، جواهر الكلام للشيخ محمد حسن النجفي ج ١٨ / ٢ - ٥، مجمع البيان ج ٢ / ٢٩١.

(٢٦٥) نقل الفاضل النووي هذا القول عن ابن عبد البر في بعض بحثه عن حج =>

٢١٤

مكة بثمانية وأربعين ميلا من كل جانب على الأصح(٢٦٦) .

وانما أضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع، أو قيل عنه: التمتع بالحج، لما فيه من المتعة: أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الاحرامين وهذا ما كرهه عمر وبعض أتباعه، فقال قائلهم - كما أخرجه أبو داود في سننه(١) . -: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر ؟(٢٦٧) .

____________________

=> التمتع من شرحه لصحيح مسلم، وشرح مسلم مطبوع على هامش شرحي البخاري فراجع منه ما هو في هامش ص ٤٦ من الجزء السابع من الشرحين (منه قدس). تفسير القرطبي ج ٢ / ٣٩١.

(٢٦٦) للأخبار الصحيحة الدالة عليه، وقيل يعتبر بعده عن مكة باثني عشر ميلا من كل جانب حملا للثمانية والأربعين على كونها موزعة على الجهات الأربع (منه قدس). لصحيحة زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام وغيرها. راجع: وسائل الشيعة ج ٨ / ١٨٧ ك الحج ب ٦ من أبواب أقسام الحج، العروة الوثقى ج ٢ / ٥٣٥، جواهر الكلام ج ١٨ / ٦، اللمعة الدمشقية ج ٢ / ٢٠٤، جامع أحاديث الشيعة ج ١٠ / ٣٤٥.

(١) سنن أبى داود مطبوعة في هامش شرح الزرقاني لموطئ مالك وهذا الحديث تجده بعين لفظه في هامش ص ١٠٣ من الجزء الثاني من شرح الزرقاني فراجع (منه قدس).

(٢٦٧) سنن أبى داود ج ٢ / ٢١٣ ح ١٧٨٩ تحقيق محمد عبد الحميد، تفسير القرطبي ج ٢ / ٣٩٥، صحيح مسلم ك الحج باب وجوه الإحرام ج ٤ / ٣٧ ط العامرة، صحيح البخاري ك التمنى باب لو استقبلت من أمري ما استدبرت ج ١ / ٢١٣ وج ٤ / ١٦٦، مسند أحمد ج ٣ / ٣٠٥ ط ١، سنن البيهقي ج ٥ / ٣ باب من اختار الأفراد وج ٤ / ٣٣٨ زاد المعاد ج ١ / ٢٤٦ فصل في احلال من لم يكن ساق الهدى، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢١٤. وفى لفظ عمر: تقطر رؤسهم. راجع: صحيح مسلم ج ٤ / ٤٦ (*).

٢١٥

وفي مجمع البيان. ان رجلا قال: أنخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر ؟ وان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: انك لن تؤمن بها أبدا(٢٦٨) .

وعن أبي موسى الأشعري. أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل. رويدك ببعض فتياك فانك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين - عمر - في النسك بعدك، حتى لقيه أبو موسى بعد فسأله عن ذلك، فقال عمر: قد علمت ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد فعله هو وأصحابه، ولكن كرهت ان يظلوا بهن معرسين في الاراك ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم(٢٦٩) .

وعن أبي موسى من طريق آخر أن عمر قال: هي سنة رسول الله - يعني المتعة - لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحون بهن حجاجا(٢٧٠) .

____________________

(٢٦٨) راجع تفسير الآية ١٩٥ من سورة البقرة من المجمع " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " (منه قدس). مجمع البيان ج ٢ / ٢٩١، وسائل الشيعة ج ٨ / ١٥١ ك الحج أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤ و ١٤، جامع أحاديث الشيعة ج ١٠ / ٣٣٢، جواهر الكلام ج ١٨ / ٣.

(٢٦٩) أخرجه الإمام أحمد من حديث عمر في ص ٥٠ من الجزء الأول من مسنده (منه قدس). وراجع: مسند أحمد ج ١ / ٥٠، سنن ابن ماجة ج ٢ / ٢٢٩ وفى طبع محمد فؤاد عبدا لباقي ج ٢ / ٩٩٢ ح ٢٩٧٩، صحيح مسلم ج ١ / ٤٧٢، سنن البيهقي ج ٥ / ٢٠، سنن النسائي ج ٥ / ١٥٣، تيسير الوصول ج ١ / ٢٨٨، شرح الموطأ للزرقاني ج ٢ / ١٧٩، الغدير ج ٦ / ٢٠٠.

(٢٧٠) أخرجه الإمام أحمد من حديث عمر في ص ٤٩ من الجزء الأول من مسنده (منه قدس). مسند أحمد ج ١ / ٤٩، الغدير ج ٦ / ٢٠٢ عن المسند. وعن ابن عباس قال =>

٢١٦

وعن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلما قام عمر - أي بأمر الخلافة - قال: ان الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وان القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله(١) وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل الا رجمته بالحجارة(٢٧١) .

____________________

=> " سمعت عمر يقول: والله إني لأنهاكم عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعنى العمرة في الحج ". راجع: سنن النسائي ج ٢ / ١٦، تاريخ ابن كثير ج ٥ / ١٠٩.

اعتراف عمر ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فعل متعة الحج وهى في كتاب الله: صحيح مسلم ص ٨٩٦ ح ١٥٧، مسند الطيالسي ج ٢ / ٧٠ ح ٥١٦، مسند أحمد ج ١ / ٤٩ و ٥٠ ط ١، سنن ابن ماجة ص ٦٩٢ ح ٢٩٧٩، كنز العمال ج ٥ / ٨٦ ط ١، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٢٥، حلية الأولياء ج ٥ / ٢٠٥.

(١) ما أدرى والله ما المراد بهذا الكلام فهل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتم الحج والعمرة على خلاف ما أمر الله ؟ !. وهل كان هو ومخاطبوه أعرف منهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأوامر الله ونواهيه ؟ ! (منه).

(٢٧١) راجع من صحيح مسلم الباب في المتعة بالحج ص ٤٦٧ من جزئه الأول تجد هذا الحديث وتجد بعده بلا فصل حديثا آخر هو أصرح في زجره عن التمتع بالعمرة إلى الحج (منه قدس). وراجع: صحيح مسلم باب المتعة في الحج ج ١ / ٤٦٧ وفى طبع العامرة ج ٤ / ٣٨، سنن البيهقي ج ٥ / ٢١ وفى ج ٧ / ٢٠٦ بتفصيل أكثر، أحكام القرآن للجصاص ج ٢ / ١٧٨، تفسير الرازي ج ٣ / ٢٦، كنز العمال ج ٨ / ٢٩٣، الدر المنثور ج ١ / ٢١٦، الغدير ج ٦ / ٢١٠، البيان للخوئي ص ٣١٩ عن مسلمو البيهقي، مسند الطيالسي ص ٢٤٧ ح ١٧٩٢، الدر المنثور ج ١ / ٢١٦ (*).

٢١٧

وقد خطب الناس ذات يوم فقال وهو على المنبر بكل حرية وكل صراحة " متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء "(٢٧٢) .

وفي رواية أخرى(١) أنه قال: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن، وأعاقب عليهن: متعة الحج، ومتعة النساء، وحي على خير العمل "(٢٧٣) .

____________________

(٢٧٢) هذا القول مستفيض عنه (وقد نقله الإمام الرازي حول تفسير قوله تعالى: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. من سورة البقرة. ونقله أيضا في تفسير قوله عز من قائل:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) . من سورة النساء فراجع (منه قدس). راجع: تفسير الرازي ج ٢ / ١٦٧ وج ٣ / ٢٠١ و ٢٠٢ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٢ / ٢٥١ و ٢٥٢ وج ١ / ١٨٢، البيان والتبيان للجاحظ ج ٢ / ٢٢٣، أحكام القرآن للجصاص ج ١ / ٣٤٢ و ٣٤٥ وج ٢ / ١٨٤، تفسير القرطبي ج ٢ / ٢٧٠ وفى طبع آخر ج ٢ / ٣٩، المبسوط للسرخسي الحنفي باب القرآن من كتاب الحج وصححه ج، زاد المعاد لابن القيم ج ١ / ٤٤٤ فقال ثبت عن عمر وفى طبع آخر ج ٢ / ٢٠٥ فصل إباحة متعة النساء، كنز العمال ج ٨ / ٢٩٣ و ٢٩٤ ط ١، ضوء الشمس ج ٢ / ٩٤، سنن البيهقي ج ٧ / ٢٠٦، الغدير للأميني ج ٦ / ٢١١، المغنى لابن قدامة ج ٧ / ٥٢٧، المحلى لابن حزم ج ٧ / ١٠٧، شرح معاني الاثار باب مناسك الحج للطحاوي ص ٣٧٤، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٠٠. وفى رواية أخرى قال عمر: " متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى عهد أبى بكررضي‌الله‌عنه وأنا أنهى عنهما ". راجع: وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٢ / ٣٥٩ ط إيران، الغدير ج ٦ / ٢١١.

(١) أرسلها الإمام القوشجي إرسال المسلمات فراجعها في أواخر مباحث الإمامة من كتابه (شرح التجريد) وهو من أئمة المتكلمين من الأشاعرة، وقد اعتذر بأن هذا القول انما كان من عمر عن اجتهاد (منه قدس).

(٢٧٣) راجع: شرح التجريد للقوشجى ط ايران ص ٤٨٤، الغدير ج ٦ / ٢١٣ =>

٢١٨

[ فصل ]

وقد أنكر عليه في هذا أهل البيت كافة، وتبعهم في ذلك أولياؤهم جميعا(٢٧٤) . ولم يقره عليه كثير من أعلام الصحابة وأخبارهم في ذلك متواترة(٢٧٥) .

وحسبك منها ما أخرجه مسلم في باب جواز التمتع من كتاب الحج من

____________________

=> عن المستبين للطبري، كنز العرفان ج ٢ / ١٥٨. السبب في المنع عن عمرة التمتع: عن الأسود بن يزيد قال: " بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة فإذا هو برجل مرجل شعره يفوح منه ريح الطيب فقال له عمر: أمحرم أنت ؟ قال: نعم. فقال عمر: ما هيئتك بهيئة محرم انما المحرم الأشعث الأغبر الاذفر قال: اني قدمت متمتعا وكان معي أهلي وانما أحرمت اليوم فقال عمر عند ذلك لا تتمتعوا في هذه الأيام فاني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الاراك، ثم راحوا بهن حجاجا ". راجع: زاد المعاد ج ١ / ٢٥٨ و ٢٥٩ وقال ابن القيم بعد هذه الرواية: وهذا يبين ان هذا من عمر رأى رآه، قال ابن حزم: وكان ماذا وحبذا ذلك وقد طاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على نسائه ثم أصبح محرما ولا خلاف ان الوطئ مباح قبل الإحرام بطرفة عين. وراجع أيضا: كنز العمال ج ٥ / ٨٦ ط ١، حلية الأولياء ج ٥ / ٢٠٥.

(٢٧٤) راجع: جامع أحاديث الشيعة ج ١٠ / ٣٢٩ - ٣٤٣، وسائل الشيعة ج ٨ / ١٥١ ك الحج ب ٢ من أبواب أقسام الحج ح ٤ و ١٤، مجمع البيان ج ٢ / ٢٩١.

(٢٧٥) كما سوف يأتي جملة منها. وقد أنكر عليه أيضا النظام استاد الجاحظ وأحد رؤساء المعتزلة كما في الملل والنحل ج ١ / ٧٨ ط مصر ١٣٦٨ ه. (*)

٢١٩

صحيحه(١) فان فيه عن شقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة. ثم قال علي: لقد علمت - يا عثمان - انا تمتعنا على عهد رسول الله. فقال عثمان: أجل ولكنا كنا خائفين !(٢٧٦) .

وفيه عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة والعمرة. فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه ؟ فقال عثمان: دعنا منك. فقال علي: اني لا أستطيع أن أدعك. (الحديث)(٢٧٧) .

وفيه عن غنيم بن قيس، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة ،

____________________

(١) ص ٤٧٢ وما بعدها إلى ص ٤٧٥ من جزئه الأول فراجع (منه قدس).

(٢٧٦) صحيح مسلم ك الحج ج ١ / ٤٧٢ وفى طبع العامرة ج ٤ / ٤٦ أنا قد تمتعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أجل، كنز العمال ج ٣ / ٣٣ ط ١، مسند أحمد ج ١ / ٩٧ ح ٧٥٦ وص ٦٠ ح ٤٣١ و ٤٣٢ ط ٢، سنن البيهقي ج ٥ / ٢٢، المنتقى ح ٢٣٨٢، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٢٩.

(٢٧٧) صحيح مسلم ج ١ / ٣٤٩ وفى طبع العامرة ج ٤ / ٤٦ فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة. وقريب منه في: صحيح البخاري ج ٣ / ٦٩ و ٧١، سنن النسائي ج ٥ / ١٤٨ و ١٥٢، مستدرك الحاكم ج ١ / ٤٧٢، سنن البيهقي ج ٥ / ٢٢ وج ٤ / ٣٥٢، تيسير الوصول ج ١ / ٢٨٢، الغدير ج ٦ / ٢١٩، مسند الطيالسي ج ١ / ١٦، مسند أحمد ج ١ / ١٣٦ ح ١١٤٦، منحة المعبود ج ١ / ٢١٠ باب ما جاء في القرآن ح ١٠٠٥، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ٢٣١ (*).

٢٢٠

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629