النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165824 / تحميل: 7981
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

..

____________________

=> سنن البيهقي ج ١ / ٤٢٥، دلائل الصدق ج ٣ / ١٠٠ عن مبادئ الفقه الإسلامي للعرفي ص ٣٨، جواهر الأخبار والآثار ج ٢ / ١٩٢، المحلى لابن حزم ج ٣ / ١٦٠، دعائم الإسلام ج ١ / ١٤٥، البحار ج ٨٤ / ١٧٩، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٠٥ ط ١٣٨٢ ه‍ باب الأذان، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٩٦.

٣ - سهل بن حنيف: سنن البيهقي ج ١ / ٤٢٥، دلائل الصدق ج ٣ / ١٠٠ عن مبادئ الفقه الإسلامي للعرفي ص ٣٨، المحلى لابن حزم ج ٣ / ١٦٠، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٩١.

٤ - بلال مؤذن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٣ / ٢٧٦، دلائل الصدق ج ٣ / ٩٩، كنز العمال ج ٤ / ٢٦٦، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٩١.

٥ - الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : جواهر الأخبار والآثار ج ٢ / ١٩١، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٥ / ٢٨٤.

٦ - أبى محذورة أحد مؤذني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : البحر الزخار ج ٢ / ١٩١ و ١٩٢، وجواهر الأخبار والآثار هامش نفس الصفحة، ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣٩، لسان الميزان ج ١ / ٢٦٨.

٧ - زيد بن أرقم: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٥ / ٢٨٣.

٨ - الإمام الباقرعليه‌السلام : البحر الزخار وجواهر الأخبار والآثار ج ٢ / ١٩٢، دعائم الإسلام ج ١ / ١٤٥، البحار ج ٨٤ / ١٥٦.

٩ - الإمام الصادقعليه‌السلام : دعائم الإسلام ج ١ / ١٤٢، البحار ج ٨٤ / ١٥٦. ولأجل المزيد من الاطلاع على هذا الموضوع: راجع: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ١ / ٢٣٣ - ٢٤١، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٨٨ وما بعدها. (*)

٢٦١

قلت: وهذا متواتر عن أئمة أهل البيت، فراجع حديثهم وفقههم لتكون على بصيرة من رأيهم وروايتهمعليهم‌السلام (٣٣٤) .

[ فصل ]

فصول الأذان عندنا ثمانية عشر، الله أكبر أربعا، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر. لا اله إلا الله. كل منها مرتان. وفصول الإقامة سبعة عشر، هي فصول الأذان غير أنها مثنى مثنى إلا " لا اله إلا الله " فمرة واحدة، ويزاد فيها " بعد الحيعلات الثلاث قبل التكبير " قد قامت الصلاة، مرتين(٣٣٥) .

ويستحب الصلاة على محمد وآل محمد بعد ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يستحب إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي بالولاية لله تعالى وإمرة المؤمنين في الأذان والإقامة. وقد أخطأ وشذ من حرم ذلك، وقال بأنه بدعة فان كل مؤذن في الإسلام

____________________

(٣٣٤) راجع: وسائل الشيعة للحر العاملي ك الصلاة باب ١٩ من أبواب الأذان والإقامة ح ٥ و ٦ و ٨ و ٩ و ١٢، جامع أحاديث الشيعة ج ٤ / ٦٦٥ و ٦٧٣ و ٦٧٤ و ٦٧٦ ٦٧٩ و ٦٨٠ و ٦٨٣ و ٦٨٤ و ٦٨٥، بحار الأنوار ج ٨٤ / ١٣٦ و ١٤٠ و ١٤١ و ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥٤ و ١٥٦ و ١٧١. وراجع أيضا الكافي للكليني، التهذيب والاستبصار للطوسي، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج ١ / ٢٩٠ ح ٨٩٧. وراجع من كتب الفقه: جواهر الكلام ج ٩ / ٨١ - ٩٢، الحدائق ج ٧ / ٣٩٨، تذكرة الفقهاء ج ١ / ١٠٤ ط قديم.

(٣٣٥) راجع المصادر المتقدمة تحت رقم (٣٣٤) (*).

٢٦٢

يقدم كلمة للأذان يوصلها به كقوله:( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) (الآية)،(٣٣٦) أو نحوها ويلحق به كلمة يوصله بها كقوله: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) أو نحوها. وهذا ليس من المأثور عن الشارع في الأذان، وليس ببدعة ولا هو محرم قطعا لان المؤذنين كلهم لا يرونه من فصول الأذان، وإنما يأتون به عملا بأدلة عامة تشمله وكذلك الشهادة لعلي بعد الشهادتين في الأذان فإنما هي عمل بأدلة عامة تشملها.

على ان الكلام القليل من سائر كلام الآدميين لا يبطل به الأذان ولا الإقامة ولا هو حرام في أثنائها، فمن أين جاءت البدعة والحرام ؟ وما الغاية بشق عصا المسلمين في هذه الأيام ؟.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٤٤: -

[ المورد - (٢٥) -: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ]

وذلك أن الطلاق الثلاث الذي لا تحل المطلقة بعده لمطلقها الا بالمحلل الشرعي المعروف، انما هو الطلاق الثالث، المسبوق برجعتين مسبوقتين بطلاقين، وذلك بأن يطلقها أولا ثم يرجعها، ثم يطلقها ثانيا ثم يرجعها، ثم يطلقها ثالثا وحينئذ لا تحل له حتى يأتي بالمحلل المعلوم.

هذا هو الطلاق الثالث الذي لا تحل المطلقة بعد لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، وبه جاء التنزيل:( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) إلى أن قال عز من قائل:( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) (الآية)(٣٣٧)

____________________

(٣٣٦) سورة الإسراء: ١١١. راجع: البحار ج ٨٤ / ١١١، الحدائق ج ٧ / ٤٠٣.

(٣٣٧) سورة البقرة: ٢٢٩ و ٢٣٠ (*).

٢٦٣

واليك ما قاله أئمة العربية في تفسيرها، واللفظ للزمخشري في كشافه جعله كشرح مزجي، قال: (الطَّلاَقُ) بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم (مَرَّتَانِ) أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة. ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن أراد التكرير كقوله:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) أي كرة بعد كرة.

إلى أن قال: وقوله تعالى( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) تخيير لهم - بعد ان علمهم كيف يطلقون - بين أن يمسكوا النساء بحسن المعاشرة والقيام بواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي لهن عليهم.

قال: وقيل معناه الطلاق الرجعي مرتان - مرة بعد مرة - لأنه لا رجعة بعد الثلاث. إلى أن قال:( فَإِن طَلَّقَهَا ) الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى:( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ) واستوفى نصابه أو فان طلقها مرة ثالثة بعد المرتين( فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ) أي بعد ذلك التطليق( حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) . الخ(٣٣٨) .

قلت: هذا هو معنى الآية وهو المتبادر منها إلى الأذهان وبه فسرها المفسرون كافة، ولا يمكن أن يكون قوله تعالى:( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ) متناولا لقول القائل لزوجته (أنت طالق ثلاثا) الا أن يكون قبل ذلك قد تكرر منه طلاقها مرتين بعد كل مرة منهما رجعة كما لا يخفى.

لكن عمر رأى أيام خلافته تهافت الرجال على طلاق أزواجهم ثلاثا بإنشاء واحد فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم عقوبة أو تأديبا، والسنن صريحة في نسبة ذلك إليه(٣٣٩) .

____________________

(٣٣٨) الكشاف للزمخشري ج، أحكام القرآن للجصاص ج ١ / ٤٤٧، الغدير ج ٦ / ١٨١.

(٣٣٩) الغدير للأميني ج ٦ / ١٧٨ - ١٧٩، صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق =>

٢٦٤

وحسبك منها ما عن طاووس من ان أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هنانك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر واحدة ؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم انتهى بلفظ مسلم في صحيحه(٣٤٠) .

وعن ابن عباس من عدة طرق كلها صحيحة، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: أن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. انتهى بلفظ مسلم في صحيحه(٣٤١) .

وأخرجه الحاكم في مستدركه مصرحا بصحته على شرط الشيخين، وأورده الذهبي، في تلخيص المستدرك معترفا بصحته على شرطهما أيضا(٣) .

____________________

=> الثلاث، سنن أبى داود ج ١ / ٣٤٤، أحكام القرآن للجصاص، سنن النسائي، سنن البيهقي، الدر المنثور ج ١ / ٢٧٩، تيسير الوصول، عمدة القاري للعيني ج ٢٠ / ٢٣٣، كنز العمال.

(٣٤٠) في باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق ص ٥٧٥ من الجزء الأول من صحيحه وأخرجه البيهقي ص ٣٣٦ من الجزء السابع من سننه. وأبو داود في كتاب الطلاق من السنن فراجع منه الحديث الأخير من باب نسخ المراجعة بعد الثلاث تطليقات (منه قدس). صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق الثلاث ج ٤ / ١٨٤ ط العامرة، سنن أبى داود ج ١ / ٥٧٤، الغدير ج ٦ / ١٧٩.

(٣٤١) في باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق من جزئه الأول (منه قدس). صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق الثلاث ج ٤ / ١٨٤ ط العامرة، ارشاد الساري ج ٨ / ١٢٧، الدر المنثور ج ١ / ٢٧٩، الغدير ج ٦ / ١٧٨، مسند أحمد ج ١ / ٣١٤، سنن البيهقي ج ٧ / ٣٣٦، تفسير القرطبي ج ٣ / ١٣٠.

(٣) راجع من كل من المستدرك وتلخيصه كتاب الطلاق ص ١٩٦ من الجزء الثاني فان هذين الكتابين مطبوعان معا وصحائفهما متحدة (منه قدس) (*).

٢٦٥

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في مسنده(١) .

ورواه غير واحد من أصحاب السنن واثبات السنن(٢) .

ونقله العلامة الشيخ رشيد رضا في ص ٢١٠ من المجلد الرابع من مجلته " المنار " عن كل من أبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي ثم قال - ما هذا لفظه -: ومن قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس(٣) قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف طلقتها ؟. قال ثلاثا. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : في مجلس واحد ؟. قال نعم. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : فانما تلك واحدة فأرجعها ان شئت. آه(٣٤٢) .

وأخرج النسائي من رواية مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم !. حتى قام رجل، فقال يا رسول الله ألا نقتله ؟(٣٤٣) إلى آخر ما جاء من السنن الصحيحة صريحا

____________________

(١) راجع من المسند ص ٣١٤ من جزئه الأول (منه قدس).

(٢) كالبيهقي ص ٣٣٦ من الجزء السابع من سننه، والقرطبي في الجزء الثالث ص ١٣٠ من تفسيره جازما بصحته وغير هؤلاء من أمثالهم (منه قدس).

(٣) ذكره ابن إسحاق في ص ١٩١ من الجزء الثاني من سيرته (منه قدس).

(٣٤٢) بداية المجتهد ج ٢ / ٦١، الغدير ج ٦ / ١٨٢.

(٣٤٣) وقد نقله قاسم بك أمين المصري ص ١٧٢ من كتابه - تحرير المرأة - عن النسائي والقرطبي والزيلعى لكن بالإسناد إلى ابن عباس، وربما دل هذا الحديث على فساد الطلاق الثلاث بالمرة لكونه لعبا، وبذلك قال سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين، لكن الصواب أن اللعب انما هو في قول ثلاثا فيلغى، وأما قوله أنت طالق يؤثر أثره لأنه جد لا لعب فيه (منه قدس). سنن النسائي ج ٦ / ١٤٢، تيسير الوصول ج ٣ / ١٦٠، تفسير ابن كثير ج ١ / ٣٧٧، ارشاد الساري ج ٨ / ١٢٨، الدر المنثور ج ١ / ٢٨٣، الغدير ج ٦ / ١٨١ (*).

٢٦٦

في ذلك ولذا ترى علماء الإسلام وإثباتهم يرسلونه إرسال المسلمات.

وحسبك منهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد المصري المعاصر وقد قال في كتابه " الديمقراطية ": ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك، فبينا يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة ويؤديه الرسول وأبو بكر، يأتي عمر فيقول: لا نعطي على الإسلام شيئا، وبينا يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدا بحكم السنة والإجماع جاء عمر فترك السنة وحطم الإجماع. هذا كلامه بعين لفظه فراجعه في ص ١٥٠ من " ديمقراطيته ".

وقال الأستاذ الدكتور الدواليبي - حيث ذكر عمر وايقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في كتابه أصول الفقه(١) ما هذا لفظه -: " ومما أحدثه عمررضي‌الله‌عنه تأييدا لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، هو إيقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، مع أن المطلق في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت ذلك في الخبر الصحيح عن ابن عباس، وقد قال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.

قال: وقال ابن القيم الجوزية في ذلك: ولكن أمير المؤمنين عمررضي‌الله‌عنه رأى أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم ايقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بامضائه عليهم فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه.

ورأى ان ما كان عليه في عهد النبي وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا

____________________

(١) فراجع منه آخر ص ٢٤٦ والتي بعدها (منه قدس) (*).

٢٦٧

يتقون الله في الطلاق. إلى أن قال: فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان(١)

(قال): وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به(٢) وصرحوا لمن استفتاهم بذلك(٣)

(قال): غير ان ابن القيم نفسه جاء فأبدى ملاحظته بالنسبة لزمنه، رغبة في الرجوع بالحكم إلى ما كان عليه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لان الزمن قد تغير أيضا، وأصبح إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة مدعاة لفتح باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة(٤) وقال: بأن العقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله(٥) .

(قال): وقال ابن تيمية: ولو رأى عمررضي‌الله‌عنه عبث المسلمين في تحليل المبانة لمطلقها ثلاثا لعاد إلى ما كان عليه الأمر في عهد الرسول.

(قال): وان ما أبداه ابن تيمية من الملاحظات القيمة قد كان مدعاة لعودة المحاكم الشرعية في مصر الآن إلى ما كان عليه الحكم في عهد الرسول عملا بقاعدة تغير الأزمان(٣٤٤) .

____________________

(١) سبحانك اللهم إذا صح للمجتهدين تغيير أمثال هذه الفتوى بتغيير الزمان حتى في هذه الفترة الوجيزة الكائنة بين خلافة الخليفتين، فعلى أحكام الكتاب والسنة ونصوصهما السلام. وى. وى. ما أفظع هذا الخطر إذا بنى المجتهدون على مثل هذه القاعدة التي ما أنزل الله بها من سلطان (منه قدس).

(٢) هذا مما لا دليل عليه. بل الأدلة قائمة على خلافه (منه قدس).

(٣) قل هاتوا برهانكم (منه قدس).

(٤) لم يكن في الزمن تغير ولا تغير الزمن يوجب تغير الحكم الشرعي المنصوص عليه في الكتاب أو السنة وانما عمل ابن القيم به علما منه انه حكم الله تعالى (منه قدس)

(٥) سبحان الله ما هذا التلاعب (منه قدس).

(٣٤٤) بل عملا بنص الكتاب وصريح السنة (منه قدس)

ولأجل الاطلاع على الموضوع بصورة أوسع راجع: الغدير ج ٦ / ١٧٨ - ١٨٣.

٢٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٥٠: -

[ المورد - (٢٦) -: صلاة التراويح ]

وذلك ان صلاة التراويح ما جاء بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كانت على عهده بل لم تكن على عهد أبي بكر ولا شرع الله الاجتماع لأداء نافلة من السنن غير صلاة الاستسقاء. وانما شرعه في الصلوات الواجبة كالفرائض الخمس اليومية، وصلاة الطواف، والعيدين والآيات وعلى الجنائز.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقيم ليالي رمضان بأداء سننها في غير جماعة، وكان يحض على قيامها، فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقيمها.

وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتى مضى لسبيله سنة ثلاثة عشر للهجرة(١) وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب، فصام شهر رمضان من تلك السنة لا يغير من قيام الشهر شيئا، فلما كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ومعه بعض أصحابه، فرأى الناس يقيمون النوافل وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبح ومحرم بالتكبير ومحل بالتسليم في مظهر لم يرقه، ورأى من واجبه إصلاحه فسن لهم التراويح(٢) أوائل الليل من الشهر وجمع الناس عليها حكما مبرما، وكتب بذلك إلى البلدان ونصب للناس في المدينة

____________________

(١) وكان ذلك ليلة الأربعاء لثمان بقين من ج ٢ وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام (منه قدس).

(٢) التراويح هي النافلة جماعة في ليالي شهر رمضان، وانما سميت تراويح للاستراحة فيها بعد كل أربع ركعات.

ونحن الإمامية لا تفوتنا والحمد لله نؤديها كما كان يؤديها رسول الله كما وكيفا عملا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صلوا كما رأيتموني أصلى (منه قدس) (*).

٢٦٩

إمامين يصليان بهم التراويح إماما للرجال وإماما للنساء، وهذا كله أخبار متواترة(٣٤٥) .

وحسبك منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما(١) من أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من قام رمضان - أي بأداء سننه - ايمانا واحتسابا غفر الله ما تقدم من ذنبه، وانهصلى‌الله‌عليه‌وآله توفي والأمر كذلك - أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يتغير عما كان عليه قبل وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر آه(٣٤٦) .

وأخرج البخاري في كتاب التراويح أيضا من الصحيح عن عبد الرحمن ابن عبد القاري(٢) قال: خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا

____________________

(٣٤٥) عمر يضع إماما لصلاة التراويح: الكامل في التاريخ ج ٣ / ٣١، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨١ وذكر ان ذلك كان سنة ١٤ للهجرة. وذكر النظام ان عمر هو الذي أبدع صلاة التراويح كما في: الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٧٨ ط ١٣٦٨ ه‍.

(١) فراجع من صحيح البخاري كتاب صلاة التراويح ص ٢٣٣ من جزئه الأول. وراجع من صحيح مسلم باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح من كتاب صلاة المسافرين وقصرها ص ٢٨٣ والتي بعدها من جزئه الأول (منه قدس).

(٣٤٦) في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة التراويح كانت فرادى: صحيح مسلم ك الصلاة باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح ج ٢ / ١٧٧ ط العامرة، صحيح البخاري ج ٢ / ٢٥١، الطرائف لابن طاوس ج ٢ / ٤٥٤ عن الجمع بين الصحيحين، موطأ مالك ج ١ / ١١٣.

(٢) عبد القاري بتنوين عبد وتشديد ياء القاري نسبة إلى قارة وهو ابن ديش بن ملحم ابن غالب المدنى. كان هذا عامل عمر على بيت المال وهو حليف بنى زهرة. =>

٢٧٠

الناس أوزاع متفرقون، إلى أن قال: فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب

(قال): ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعمت البدعة هذه.(٣٤٧) .

قال العلامة القسطلاني في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري عند بلوغه إلى قول عمر في هذا الحديث: نعمت البدعة هذه، ما هذا لفظه: سماها بدعة لان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسن لهم، ولا كانت في زمن الصديقرضي‌الله‌عنه . ولا أول الليل، ولا هذا العدد. الخ.

وفي تحفة الباري وغيره من شرح البخاري مثله فراجع.

وقال العلامة أبو الوليد محمد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ من تاريخه - روضة المناظر -: هو أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز، وأول من جمع الناس من إمام يصلي بهم التراويح. الخ(٣٤٨) .

ولما ذكر السيوطي في كتابه - تاريخ الخلفاء - أوليات عمر نقلا عن العسكري(١) قال: هو أول من سمي أمير المؤمنين، وأول من سن قيام شهر

____________________

=> روى عن عمر وأبى طلحة، وأبى أيوب، وأبى هريرة. وروى عنه ابنه محمد، والزهري ويحيى بن جعدة بن هبيرة. مات سنة ثمانين. وله ثمان وسبعون سنة (منه قدس).

(٣٤٧) صحيح البخاري ك التراويح ج ٢ / ٢٥٢، موطأ مالك ج ١ / ١١٤، الطرائف لابن طاوس ص ٤٤٥ عن الجمع بين الصحيحين.

(٣٤٨) أول من جعل إماما للتراويح عمر: روضة الناظرين لابن الشحنة بهامش الكامل ط قديم، ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري.

(١) العسكري هو الحسن بن عبد الله بن سهيل بن سعيد بن يحيى يكنى أبا اللغوي له كتاب الأوائل فرغ من تأليفه يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة ٣٩٥ (منه قدس) (*).

٢٧١

رمضان - بالتراويح - وأول من حرم المتعة، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات. الخ(٣٤٩) .

وقال محمد بن سعد - حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات -: وهو أول من سن قيام شهر رمضان - بالتراويح - وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئين قارئا يصلي التراويح بالرجال، وقارئا يصلي بالنساء. الخ(٣٥٠) .

وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من الاستيعاب: وهو الذي نور شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه(٣٥١) .

كان هؤلاء عفا الله عنهم وعنا، رأوهرضي‌الله‌عنه قد استدرك (بتراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين. بل هم بالغفلة - عن حكمة الله في شرائعه ونظمه - أحرى، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها انفراد مؤديها - جوف الليل في بيته - بربه عز وعلا يشكو إليه بثه وحزنه، ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحا عليه، متوسلا بسعة رحمته إليه، راجيا لاجئا، راغبا، منيبا تائبا، معترفا لائذا عائذا، لا يجد ملجأ من الله تعالى الا إليه، ولا منجى منه الا به.

____________________

(٣٤٩) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص، الكامل في التاريخ ج ٣ / ٣١.

(٣٥٠) صلاة التراويح جماعة كانت سنة ١٤ ه‍: الطبقات لابن سعد ج ٣ / ٢٨١، تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٢ ط الحسينية، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ٣١ ط دار الكتاب العربي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٧٥.

(٣٥١) الاستيعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة ج ٢ / ٤٦٠ ط ١ (*).

٢٧٢

لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقل منهم ما يستقل، ويستكثر من يستكثر، فانها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيد البشر.

أما ربطها بالجماعة فيحد من هذا النفع، ويقلل من جدواه. أضف إلى هذا ان إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظها من تربية الناشئة على حبها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدا يرسخها في عقولهم وقلوبهم

وقد سأل عبد الله ابن مسعود رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلان أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلى في المسجد إلا ان تكون صلاة مكتوبة " رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري(٣٥٢) .

وعن زيد بن ثابت ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: " صلوا أيها الناس في بيوتكم فان أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة " رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.(٣٥٣) .

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " اكرموا بيوتكم ببعض

____________________

(٣٥٢) يستحب صلاة النافلة في البيت: مسند أحمد ج، سنن ابن ماجة ج ١ / ٤٣٩ ح ١٣٧٨ صحيح ابن خزيمة ج، الترغيب والترهيب للمنذري ج ١ / ٢٧٩، مجمع الزوائد وصححه.

(٣٥٣) الترغيب والترهيب للمنذري ج ١ / ٣٨٠، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ١٩٠ (*).

٢٧٣

صلاتكم "(٣٥٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت " أخرجه البخاري ومسلم(٣٥٥) .

وعن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، وان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد.(٣٥٦)

والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الإملاء(٣٥٧) .

لكن الخليفةرضي‌الله‌عنه رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم وأنت تعلم أن الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختص الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٣٥٨) .

____________________

(٣٥٤) الترغيب والترهيب ج ١ / ٢٨٠، الفتح الكبير للنبهاني ج ١ / ٢٢٧.

(٣٥٥) صحيح مسلم ك الصلاة باب استحباب صلاة النافلة في بيته ج ٢ / ١٨٨ ط العامرة، الفتح الكبير ج ٣ / ١٢٨، الترغيب والترهيب ج ١ / ٢٧٨.

(٣٥٦) صحيح مسلم ك الصلاة باب استحباب صلاة النافلة في بيته ج ٢ / ١٨٧ ط العامرة، صحيح ابن خزيمة، الفتح الكبير ج ١ / ١٤٢، الترغيب والترهيب ج ١ / ٢٧٨.

(٣٥٧) راجع: صحيح مسلم ك الصلاة باب استحباب صلاة النافلة في بيته ج ٢ / ١٨٧.

(٣٥٨) سورة الأحزاب: ٣٦ (*).

٢٧٤

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٥٦: -

[ المورد - (٢٧) -: صلاة الجنائز ]

وذلك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكبر على الجنائز خمسا، لكن الخليفة الثاني راقه أن يكون التكبير في الصلاة عليها أربعا فجمع الناس على الأربع، نص على ذلك جماعة من أعلام الأمة كالسيوطي (نقلا عن العسكري) حيث ذكر أوليات عمر من كتابه " تاريخ الخلفاء " وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر سنة ٢٣ من كتابه " روضة المناظر " المطبوع في هامش تاريخ ابن الأثير وغيرهما من أثبات المتتبعين(٣٥٩) .

وحسبك ما في كتاب الديمقراطية لمؤلفه الأستاذ خالد محمد خالد مما أوردناه آنفا في مبحث الطلاق الثلاث فراجع.

وقد أخرج الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم عن عبد الأعلى، قال: صليت خلف زيد ابن أرقم على جنازة فكبر خمسا، فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال: أنسيت ؟ قال: لا، ولكني صليت خلف أبي القاسم خليليصلى‌الله‌عليه‌وآله فكبر خمسا فلا أتركه أبدا انتهى(١) .

قلت: وصلى زيد بن أرقم على سعد بن جبير المعروف بسعد بن حبتة وهي أمه، وهو من الصحابة فكبر على جنازته خمسا، فيما رواه ابن حجر في ترجمة سعد من إصابته.

ورواه ابن قتيبة في أحوال أبي يوسف من معارفه،(٣٦٠) وكان سعد هذا جد أبي يوسف القاضي.

____________________

(٣٥٩) راجع: روضة الناظر لابن الشحنة بهامش الكامل ج ١ / ٢٠٣ ط قديم، الكامل في التاريخ ج ٣ / ٣١، الغدير ج ٦ / ٢٤٥

(١) راجعه في ص ٣٧٠ من الجزء الرابع من المسند (منه قدس).

(٣٦٠) الإصابة لابن حجر ج ٢ / ٢٢، المعارف لابن قتيبة ص، الطبقات لابن سعد. (*)

٢٧٥

وأخرج الإمام أحمد من حديث حذيفة من طريق يحيى بن عبد الله الجابر قال صليت خلف عيسى مولى لحذيفة بالمدائن على جنازة فكبر خمسا، ثم التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت ولكن كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي حذيفة بن اليمان صلى على جنازة وكبر خمسا ثم التفت إلينا فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الحديث)(٣٦١) .

[المورد - (٢٨)- اشتراط التوارث بين الإخوة والأخوات ان لا يكون للموروث منهم ولد]

قال الله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣٦٢) الآية صريحة في اشتراط التوارث بين الإخوة والأخوات، أن لا يكون للموروث منهم ولد والبنت ولد لغة وعرفا(٣٦٣) .

____________________

(٣٦١) راجعه في أول ص ٤٠٦ من الجزء الخامس من المسند. ورواه الحافظ الذهبي في ترجمة يحيى بن عبد الله الجابر من ميزان الاعتدال عن جرير الضبى عن يحيى الجابر (منه قدس). عمدة القاري ج ٤ / ١٢٩، الغدير ج ٦ / ٢٤٥.

(٣٦٢) سورة النساء: ١٧٦.

(٣٦٣) ومعاجم اللغة كلها تشهد بذلك: وحسبك( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) وبشر بعض العرب ببنت فقال: والله ما هي بنعم الولد (منه قدس). مجمع البحرين ج ٣ / ١٦٥، معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الاصفهانى ص ٥٦٩.

٢٧٦

لكن عمر بن الخطاب حمل الولد في الآية على الذكر خاصة فواسى في الميراث بين بنت الميت وأخته لأبيه وأمه، فجعل لكل منهما النصف مما ترك، وتبعه في ذلك أهل المذاهب الأربعة(٣٦٤) .

أما أئمة العترة الطاهرة وأولياؤهم الإمامية فقد أجمعوا بأن لا حق للإخوة وسائر العصبة مطلقا مع وجود الولد ذكرا كان أم أنثى متعددا كان أم منفردا محتجين بهذه الآية، وبقوله تعالى( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ولهم في سقوط العصبة مع وجود الولد ولو كان بنتا واحدة لهجة شديدة يعرفها من راجع نصوصهم في المواريث، ودونه كتاب وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة وسائر مسانيدهم(٣٦٥) .

وقد سئل ابن عباس عن رجل توفي وترك بنته وأخته لأبيه وأمه فقال: ليس لأخته شئ والبنت تأخذ النصف فرضا والباقي تأخذه ردا قال السائل :

____________________

(٣٦٤) العصبة: الفقه على المذاهب الخمسة ص ٥١٤ ط دار العلم للملايين، الفقه على المذاهب الأربعة. وكان الخليفة الثاني يجهل تفسير هذه الآية وحكم الكلالة وقد وردت على لسانه عدة روايات في ذلك. راجع: صحيح مسلم ك الفرائض باب ميراث الكلالة ج ٥ / ٦١، وراجع بقية الروايات في الغدير ج ٦ / ١٢٧ ومع هذا فقد حكم الخليفة عمر بأن الذكر في الطبقة اللاحقة يشارك الأنثى في الطبقة السابقة.

(٣٦٥) أهل البيت لا يقولون بالعصبة: وسائل الشيعة ك الفرائض والمواريث باب ١٧ من أبواب ميراث الأبوين ح ٣ و ٦ وباب ١٩ ح ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦ وباب ١ من أبواب ميراث الإخوة والأجداد ح ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٢ وباب (٢) أن الأخ إذا انفرد فله المال ح ٢ و ٥ إلى غير ذلك من الأحاديث. (*)

٢٧٧

فان عمر قضى بغير ذلك. قال ابن عباس: أأنتم أعلم أم الله ؟. قال السائل: ما أدري وجه هذا ؟ حتى سألت ابن طاووس فذكرت له قول ابن عباس، فقال: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال الله عزوجل:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ، فقلتم أنتم: لها نصف ما ترك وان كان لها ولد(٣٦٦) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٥٩: -

[ المورد - (٢٩) -: عول الفرائض ]

اختلف المسلمون في جواز العول وعدمه، وحقيقة العول ان تنقص التركة عن ذوي السهام كأختين وزوج فان للاختين الثلثين وللزوج النصف، وقد التبس الأمر فيها على الخليفة الثاني فلم يدر أيهم قدم الله فيها ليقدمه، وأيهم أخر ليؤخره، فقضى بتوزيع النقص على الجميع بنسبة سهامهم، وهذا غاية ما يتحراه من العدل مع التباس الأمر عليه(٣٦٧) .

لكن أئمة أهل البيت وعلماؤهم عرفوا المقدم عند الله فقدموه، وعرفوا المؤخر فأخروه - وأهل البيت أدرى بالذي فيه -

____________________

(٣٦٦) أخرج هذا الحديث جماعة من حفظة السنن وهو موجود في كتاب الفرائض ص ٣٣٩ من الجزء الرابع من مستدرك الحاكم. وقد صرح ثمة بأنه صحيح على شرط الشيخين وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك حاكما بصحته على شرطهما أيضا فراجع (منه قدس). وراجع: الفقه على المذاهب الخمسة ص ٥١٤.

(٣٦٧) العول: الفقه على المذاهب الخمسة ص ٥١٩، جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام ج ٣٩ / ١٠٦ - ١٠٩ (*).

٢٧٨

قال: الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : كان أمير المؤمنين - عليعليه‌السلام - يقول: " ان الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة(١) لو يبصرون وجهها "(٣٦٨) .

وكان ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر الأسود ان الله لم يذكر في كتابه نصفين وثلثا، وقال أيضا: سبحان الله العظيم أترون ان الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟. فقيل له يا أبا العباس فمن أول من أعال الفرائض ؟ فقال: لما التفت الفرائض عند عمر ودفع بعضها بعضا، قال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر، وما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص قال ابن عباس: وأيم الله لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله ما عالت الفريضة، فقيل له: أيها قدم الله وأيها أخر.، فقال: كل فريضة لم يهبطها الله إلا إلى فريضة، فهذا ما قدم الله وأما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر قال: فأما التي قدم فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ ومثله

____________________

(١) كان الناس على عهدهعليه‌السلام يفرضون كل شئ ستة أجزء كل جزاء سدس كما يفرضون اليوم في عرفنا أربعة وعشرين قيراطا، وعليه فيكون مرادهعليه‌السلام انكم لو تبصرون وجوه السهام إذا تعارضت لم تتجاوز السهام عن الستة، وحيث أنكم لم تبصروا طرقها فقد تجاوزن عن الستة إذ أنكم تزيدون على الستة بقدر الناقص، مثلا إذا اجتمع أبوان وبنتان وزوج فللأبوين اثنان من الستة وللبنتين أربعة منها فتمت الستة فتزيدون على الستة واحدا ونصفا للزوج فتتجاوز السهام من الستة إلى سبعة ونصف. وهذا ممتنع ولا يجوز على الله تعالى أن يفرضه أبدا (منه قدس).

(٣٦٨) وسائل الشيعة ج ١٧ / ٤٢٣ ح ٩ و ١٤، الجواهر ج ٣٩ / ١٠٦ (*).

٢٧٩

الزوجة والأم قال: وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي (قال): فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدئ بما قدم فأعطي حقه كاملا فان بقي شئ كان لما أخر. الحديث أورده شيخنا الشهيد الثاني في الروضة قال: وانما ذكرناه على طوله لاشتماله على أمور مهمة(٣٦٩) .

قلت: وأخرج الحاكم في كتاب الفرائض ص ٣٤٠ من الجزء الرابع من المستدرك عن ابن عباس أنه قال: أول من أعال الفرائض عمر وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر، فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عزوجل عن فريضة إلا إلى فريضة، فهذا ما قدم الله عزوجل كالزوج والزوجة والأم وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها الا ما بقي فتلك التي أخر الله عزوجل كالأخوات والبنات فإذا اجتمع من قدم الله عزوجل ومن أخر بدئ بمن قدم فأعطى حقه كاملا، فان بقي شئ كان لمن أخر. (الحديث)(٣٧٠) .

وعلى هذا فإذا اجتمع الزوج والأم والبنات بدئ بالزوج والأم فأعطيا

____________________

(٣٦٩) أهل البيت لا يعترفون بالعول: راجع: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٨ / ٨٨ - ٩٢، الكافي للكليني ج ٧ / ٧٩ - ٨٠ ح ٢، من لا يحضره الفقيه ج ٤ / ١٨٧، كنز العمال ج ١١ / ١٩ - ٢٠ ح ١٢١، وسائل الشيعة ج ١٧ / ٤٢٦ ب ٧ من أبواب موجبات الارث ح ٦، جواهر الكلام ج ٣٩ / ١٠٦، الطرائف لابن طاوس ج ٢ / ٤٦٩ عن أبى هلال العسكري.

(٣٧٠) قال الحاكم بعد إيراده: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قلت: والذهبي لم يتعقبه إذ أورده في التلخيص إذعانا بصحته. ولنا حول العول في أجوبة موسى جار الله أبحاث دقيقة فليراجعها كل ولوع بتمحيص الحقيقة (منه قدس). وراجع: أحكام القرآن للجصاص ج ٢ / ١٠٩، السنن الكبرى ج ٦ / ٢٥٣، الغدير ج ٦ / ٢٧٠، أجوبة مسائل جار الله ص ٨٨ ط ٢ (*).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629