النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165950 / تحميل: 7985
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فريضتهما الثانية الربع للزوج والسدس للام كاملين، وأعطي الباقي للبنتين بالسواء، ولو اجتمع الاختان مع هؤلاء لم يكن لهما شئ أصلا، لان مراتب الإرث بالنسب عند أئمة أهل البيت وأوليائهم ثلاث " المرتبة الأولى ": الآباء والأمهات دون آبائهم وأمهاتهم، والأبناء والبنات على ما هو مفصل في محله، " المرتبة الثانية ": الإخوة والأخوات والأجداد والجدات على ما هو مبين في مظانه من كتب الفقه والحديث. " المرتبة الثالثة " الأعمام والعمات والأخوال والخالات على ما هو مفصل في فقهنا وحديثنا فلا يرث أحد من المرتبة التالية مع وجود أحد من سابقتها( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه ) (٣٧١) .

هذا مذهب الأئمة من العترة التي جعلها الله ورسوله بمنزلة الكتب إلى يوم الحساب، وعليه إجماع الإمامية. فالاختان من أهل المرتبة الثانية كما بيناه فلا ترثان مع وجود الأم. والله تعالى أعلم(٣٧٢) .

[ المورد - (٣٠) -: ميراث الجد مع الإخوة ]

أخرج البيهقي في سننه وفي شعب الإيمان كليهما(١) ان عمر سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم عن ميراث الجد مع الإخوة فقال له: ما سؤالك عن هذا يا عمر ؟ اني أظنك تموت قبل أن تعلمه، قال راوي هذا الحديث - سعيد بن المسيب - فمات عمر قبل أن يعلمه(٣٧٣) .

____________________

(٣٧١) سورة الأنفال: ٧٥.

(٣٧٢) جواهر الكلام ج ٣٩ / ١١١ - ١٩٥، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٨ / ٢٢ - ٢٤.

(١) وأخرجه الشيخ في فرائضه. ونقله المتقى الهندي في ص ١٥ من ج ٦ من كنز العمال (منه قدس).

(٣٧٣) الغدير للأميني ج ٦ / ١١٦ (*).

٢٨١

قلت: وقد اضطرب في هذه المسألة أيام خلافته حتى قضى فيها - فيما قيل عنه - بسبعين حكما.

قال عبيدة السلماني(١) : لقد حفظت لعمر بن الخطاب في الجد مائة قضية مختلفة(٣٧٤) .

وعن عمر قال(٢) : إني قضيت في الجد قضيات لم آل فيها عن الحق. ورجع أخيرا في هذه المعضلة إلى زيد بن ثابت(٣٧٥) . قال طارق بن شهاب الزهري(٣) : كان عمر بن الخطاب قضى في ميراث الجد مع الإخوة قضايا مختلفة، ثم أنه جمع الصحابة وأخذ كتفا ليكتب فيه وهم يرون أنه يجعله أبا فخرجت حية فتفرقوا فقال: لو أراد الله تعالى ان يمضيه لامضاه ثم أنه أتى إلى منزل زيد بن ثابت فقال له: جئتك في أمر الجد وأريد أن أجعله أبا، فقال زيد: لا أوافقك على ان تجعله أبا فخرج عمر مغضبا ثم أرسل إليه في وقت آخر فكتب زيد مذهبه فيه في قطعة قتب، فلما أتى عمر كتاب زيد خطب الناس ثم قرأ قطعة القتب عليهم (ثم قال): ان زيدا قد قال: في الجد قولا قد امضيته(٣٧٦) .

____________________

(١) فيما أخرجه عنه ابن أبى شيبة والبيهقي في سننهما وابن سعد في طبقاته ونقله صاحب كنز العمال في الفرائض ص ١٥ من جزئه السادس (منه قدس).

(٣٧٤) سنن البيهقي ج ٦ / ٢٤٥، الجامع لابن أبى شيبة، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٣٣٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١١٦ و ١١٧.

(٢) فيما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان كما في ص ١٥ من ج ٦ من كنز العمال (منه قدس).

(٣٧٥) الغدير للأميني ج ٦ / ١١٧.

(٣) فيما نقله الدميري في تتمة مادة الحية من حياة الحيوان. ومن أراد الوقوف على ارتباك عمر في هذه القضية فعليه بالوقوف على ما حولها من صحاح السنة ومسانيدها وحسبك ما في الفرائض من كنز العمال ومن مستدرك الحاكم (منه قدس).

(٣٧٦) حياة الحيوان للدميري. (*)

٢٨٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٦٤: -

[ المورد - (٣١) -: الفريضة المشتركة وتعرف بالحمارية ]

مجمل هذه الفريضة ان امرأة ماتت عن زوج وأم، وأخوين لامها دون أبيها وأخوين آخرين لامها وأبيها معا، وذلك على عهد الخليفة الثاني فرفعت إليه هذه القضية مرتين، فقضى في المرة الأولى بإعطاء زوجها فرضه وهو النصف وإعطاء أمها فرضها وهو السدس، وإعطاء أخويها لامها خاصة الثلث لكل منهما السدس فتم المال، واسقط أخويها الشقيقين.

وفي المرة الثانية أراد أن يحكم بذلك أيضا فقال له أحد الشقيقين: هب ان أبانا كان حمارا فأشركنا في قرابة أمنا، فأشرك بينهم بتوزيع الثلث على الإخوة الأربعة بالسواء، فقال له رجل: انك لم تشركهما عام كذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا الآن(٣٧٧) .

وتعرف هذه المسألة بالفريضة الحمارية ؟ لقوله: هب أن أبانا كان حمارا

____________________

(٣٧٧) أخرجه البيهقي وابن أبى شيبة في سننهما، وعبد الرزاق في جامعه كما في أول الصفحة الثانية من فرائض كنز العمال وهو الحديث ١١٠ من أحاديث الكنز في ص ٧ من جزئه السادس، وذكر في هذه القضية الفاضل الشرقاوي في حاشيته على التحرير للشيخ زكريا الأنصاري، ونقل صاحب مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: ان عمر كان أولا يقول بعدم التشريك ثم رجع. قال: وسبب رجوعه انه سئل عن هذه المسألة فأجاب كما هو مذهبه فقام واحد من الأولاد لأب وأم وقال: يا أمير المؤمنين لئن سلمنا أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فأطرق رأسه مليا وقال: صدقت لأنكم بنو أم واحدة فشركهم في الثلث. أه‍، وهذه الواقعة نقلها أحمد أمين بهذه الكيفية على سبيل الاختصار في ص ٢٨٥ من الجزء المختص بالحياة العقلية وهو الجزء الأول من فجر الإسلام (منه قدس). راجع: سنن البيهقي ج ٦ / ٢٥٥ (*).

٢٨٣

وربما سميت بالحجرية واليمية، إذ روى ان بعضهم قال: هب أن أبانا كان حجرا ملقى في اليم، وقد تسمى العمرية لاختلاف قولي عمر فيها، ويقال لها المشتركة(١) وهي من المسائل المعروفة عند فقهاء المذاهب الأربعة، وهم مختلفون فيها فأبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل وزفر، وابن أبي ليلى، يرون حرمان الأخوين الشقيقين على ما قضى به عمر أولا، بخلاف مالك والشافعي فانهما يشركان الشقيقين مع الأخوين لام في الثلث(٢) على ما قضى به خيرا(٣٧٨)

أما أئمة أهل البيت وشيعتهم الإمامية فانهم كما بيناه آنفا يجعلون الورثة بالنسب ثلاث طبقات مرتبة لا يرث واحد من الطبقة اللاحقة مع وجود وارث واحد من الطبقة السابقة مطلقا، والأم عندهم من الطبقة الأولى بخلاف الإخوة والأخوات مطلقا فانهم من الطبقة الثانية كما هو مفصل في فقههم، وعليه فالحكم في هذه المسألة عندهم أن يأخذ الزوج فرضه وهو النصف، والباقي للام فرضا وردا، وليس لواحد من الإخوة مطلقا مع وجودها شئ(٣٧٩) .

____________________

(١) وبهذه المناسبة ذكرها الواسطي في تاج العروس في مادة شرك تجدها مفصلة (منه قدس).

(٢) كما قال بعضهم :

وان تجد زوجا وأما ورثا

وإخوة للام حازوا الثلثا

وإخوة أيضا لام وأب

واستغرقوا المال بفرض النصب

فاجعلهم كلهم لام

واجعل أباهم حجرا في اليم

واقسم على الإخوة ثلث التركة

فهذه المسألة (المشتركة)

(منه قدس)

(٣٧٨) الفقه على المذاهب الخمسة ص ٥٣٩، المغنى لابن قدامة ج ٦ / ١٨٠ ط ٣.

(٣٧٩) جواهر الكلام ج ٣٩ / ١١٢، تحرير الوسيلة للإمام الخميني ج ٢ / ٣٧٨ وما بعدها، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٨ / ٩٤ (*).

٢٨٤

[ المورد - (٣٢) -: ان نصيب الورثة (مما ترك الوالدان والأقربون) مطلق من حيث العروبة وغيرها ]

قال الله عز من قائل:( لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) (١) وقال سبحانه وتعالى:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٢) وآيات الفرائض والمواريث كلها على هذا النسق في اطلاقها وهي في سورة النساء فلتراجع، ومثلها السنن المأثورة في هذا الموضوع، وعلى ذلك إجماع الأمة بأسرها نصا وفتوى.

قال الإمام أبو عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام : " الإسلام شهادة ان لا اله الا الله والتصديق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث "(٣٨٠) .

وقال الإمام أبو جعفر محمد الباقر في صحيح حمران من كلام له: " والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق الإسلامية كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة وصوم الشهر وحج البيت، فخرجوا بذلك عن الكفر وأضيفوا إلى الإيمان "(٣٨١) .

____________________

(١) الآية ٦ من سورة النساء.

(٢) الآية ١٠ من سورة النساء.

(٣٨٠) الإرث والعروبة: راجع: الكافي ك الإيمان والكفر ضمن مرآة العقول ج ٧ / ١٥١ ط جديد، صحيح الكافي ج ١ / ٦٩ ط بيروت.

(٣٨١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ / ٤٦٨ ب ٢٠ ح ٢٤ الكافي ضمن مرآة العقول ج ٧ / ١٥٥، الغدير ج ٦ / ١٨٧ (*).

٢٨٥

لكن حدث مالك في الموطأ عن الثقة عنده انه سمع سعيد بن المسيب يقول: أبى عمر ابن الخطاب ان يورث احدا من الأعاجم(١) إلا أحدا ولد في العرب، قال مالك: وان جاءت امرأة حامل من ارض العدو فوضعته في ارض العرب فهو ولدها يرثها ان ماتت وترثه ان مات ميراثها في كتاب الله انتهى بعين لفظه(٢) .

[ المورد - (٣٣) - ارث الخال لابن اخته: ]

أخرج سعيد بن منصور في سننه: أن رجلا عرف اختا له سبيت له في الجاهلية فوجدها بعد ذلك ومعها ابن لها لا يدري من أبوه، فاشتراهما ثم اعتقهما، فأصاب الغلام مالا ثم مات، فأتوا ابن مسعود فذكروا له ذلك. فقال: أئت عمر فسله ثم ارجع إلي فأخبرني بما يقول لك، فأتى عمر فذكر ذلك له فقال: ما أراك عصبته ولا بذي فريضة ولم يورثه، فرجع إلى ابن مسعود فأخبره، فانطلق ابن مسعود معه حتى دخل على عمر فقال له كيف أفتيت هذا الرجل ؟. قال: لم أره عصبة ولا بذي فريضة ولم أر وجها لتوريثه، فما ترى أنت يا عبد الله قال: أراه ذا رحم (لكونه خاله) وولي نعمة - لكونه معتقا - وأرى أن يورث به، فأبطل عمر حكمه الأول وورثه به(٣٨٢) .

نقل هذه الواقعة صاحب كنز العمال في كتاب الفرائض ص ٨ من الجزء السادس من كنزه، وانما تصح فتوى ابن مسعود إذا كانت أم الغلام متوفاة قبل ولدها.

____________________

(١) لعل اباء عمر عن توريث أولئك الأعاجم مسبب عن عدم ثبوت كونهم من ورثته شرعا، أما لكون ميتهم مسلما وهم كفار أو لكونهم لم يثبت لديه انهم من أرحامه الوارثين له والله تعالى أعلم (منه قدس).

(٢) فراجعه في كتاب الفرائض ص ١١ من ج ٢ قبل الكلام في ميراث من جهل أمره بالقتل (منه قدس).

(٣٨٢) الفقه على المذاهب الخمسة ص ٥٥٤ (*).

٢٨٦

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٦٨: -

[ المورد - (٣٤) -: عدة الحامل يتوفى عنها زوجها ]

ذكر البيهقي في شعب الإيمان ان امرأة استفتت عمر فقالت له: وضعت حملي بعد وفاة زوجي قبل انقضاء العدة، فأفتاها بوجوب التربص إلى أبعد الأجلين، فعارضه أبي بن كعب بمحضر من المرأة، وروى له: ان عدتها ان تضع حملها، وأباح لها ان تتزوج قبل الأربعة أشهر والعشر فلم يقل عمر لها سوى: إني أسمع ما تسمعين(٣٨٣) وعدل عن فتواه متوقفا، لكنه بعد ذلك وافق أبي بن كعب فقال، بأنها لو وضعت ذا بطنها وزوجها على السرير لم يدفن حلت للأزواج(١) وعلى هذا المنهاج سلك أهل المذاهب الأربعة إلى هذه الأيام(٣٨٤) .

لكنا نحن الإمامية وجدنا في القرآن الحكيم آيتين تتعارضان في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حبلى، وهما قوله عز من قائل،( وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ

____________________

(٣٨٣) وهذا الحديث هو الحديث ٣٣٧٦ في ص ١٦٦ من ج ٥ من كنز العمال فراجع (منه قدس). عدة الحامل يتوفى عنها زوجها: كنز العمال.

(١) هذه الفتوى أخرجها عنه بالإسناد إليه كل من البيهقي وابن أبى شيبة في سننهما وهى الحديث ٣٣٧٩ في ص ١٦٦ من الجزء الخامس من الكنز (منه قدس).

(٣٨٤) الفقه على المذاهب الخمسة ص ٤٣٣ (*).

٢٨٧

أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (٣٨٥) وقوله تبارك وتعالى:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) (٣٨٦) فالحبلى المتوفي عنها زوجها إذا أخذت بالآية الأولى حلت للأزواج بوضع حملها وان لم تمض المدة المضروبة في الآية الثانية، وان أخذت بالآية الثانية حلت للأزواج بمضي المدة المضروبة فيها وان لم تضع حملها، وعلى كلا الفرضين تكون مخالفة لإحدى الآيتين، ولا يمكنها الأخذ بكلتيهما معا إلا إذا تربصت إلى أبعد الأجلين، فإذا لا مندوحة لها عن ذلك، وهذا هو المروي عن أمير المؤمنين علي (ع) وابن عباس(١) وعليه الإمامية عملا بنصوص أئمتهمعليهم‌السلام (٣٨٧) .

[ فصل ]

اختلف المسلمون في ابتداء عدة الوفاة التي هي أربعة أشهر وعشر، فالذي عليه الجمهور ان ابتداءها انما هو موت زوجها سواء أعلمت بموته إذ مات أم لم تعلم لغيبته عنها أو لسبب آخر(٣٨٨) .

____________________

(٣٨٥) سورة الطلاق: ٤.

(٣٨٦) سورة البقرة: ٢٣٤.

(١) رواه عنهما الزمخشري في الكشاف فراجع منه تفسير قوله تعالى( وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) من سورة الطلاق وهذا مذهب أهل البيتعليهم‌السلام وهو الأحوط (منه قدس).

(٣٨٧) راجع: وسائل الشيعة ج ١٥ / ٤٥٥ ك الطلاق باب ٣١ من أبواب العدد جواهر الكلام ج ٣٢ / ٢٧٥، الروضة البهية للشهيد الثاني ج ٦ / ٦٢، الفقه على المذاهب الخمسة ص ٤٣٤، كشف اللثام ج ١ / ١٣٤ ك الطلاق.

(٣٨٨) الفقه على المذاهب الخمسة ص ٤٣٥ (*).

٢٨٨

اما ما نحن عليه من الرأي والعمل في هذه العدة، فانما ابتداؤها علم الزوجة بوفاة زوجها فلو تأخر علمها بذلك مهما تأخر فلا تتزوج حتى تمضي عليها - بعد علمها بالوفاة - أربعة أشهر وعشر، وحينئذ تحل للأزواج عملا بالتربص الذي هو صريح الآية، وأخذا بالحداد الواجب على المرأة بموت زوجها(٣٨٩) .

[ المورد - (٣٥) -: تزويج زوجة المفقود ]

قال الفاضل الدواليبي(١) : وكذلك اجتهد عمر في زوجة المفقود حيث حكم بأن لزوجة المفقود بعد ان يمضي أربع سنوات على فقدانه ان تتزوج بعد ان تقضي عدتها، وان لم يثبت موت زوجها، وذلك دفعا لضرر بقاء الزوجة معلقة مدى العمر.

(قال): وبذلك اخذ الإمام مالك خلافا لمذهب الحنفية والشافعية الذين قالوا ببقاء الزوجة في عصمة زوجها المفقود حتى تثبت وفاته أو تموت اقرانه لان الأصل النظري في ذلك اعتبار الاستمرار في حياته حتى يقوم دليل على انقطاعها.

(قال): غير ان رأى عمررضي‌الله‌عنه أجدر بالاعتبار لما فيه من دفع ضرر ظاهر عن زوجة المفقود، وفيه كما ترى اطلاق النكاح لها خلافا لظواهر نصوص الشريعة التي أخذ بها بقية الأئمة.

____________________

(٣٨٩) تحرير الوسيلة للإمام الخميني ج ٢ / ٣٤٠، جواهر الكلام ج ٣٢ / ٣٧٢، الروضة البهية للشهيد الثاني ج ٦ / ٨٢، الفقه على المذاهب الخمسة ص ٤٣٣.

(١) في ص ٢٤١ والتي بعدها من كتابه أصول الفقه (منه قدس) (*).

٢٨٩

(قال): وما هذا إلا تغيير للأحكام تبعا للأحوال، وذلك تقدير لظروف خاصة لابد من تقديرها دفعا للضرر والحرج، فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " لا ضرر ولا ضرار "(٣٩٠) وقال الله سبحانه وتعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣٩١)

(قال): وليس ذلك في الحقيقة تعطيل للنصوص بل أعمال لها على ضوء المصلحة والظروف. انتهى بلفظه.

قلت: أما نحن الإمامية فان لدينا عن أئمة العترة الطاهرة. نصوصا تحكم على الأصل النظري في ذلك، لتصريحها بأن المفقود إذا جهل خبره، وكان لزوجته من ينفق عليها، وجب عليها التربص إلى أن يحضر، أو تثبت وفاته، أو ما يقوم مقامهما. وان لم يكن ثمة من ينفق عليها فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فان فعلت بحث الحاكم عن أمره أربع سنين من حين رفع أمرها إليه، في الجهة التي فقد فيها ان كانت معينة والا ففي الجهات الأربع، ثم يطلقها الحاكم نفسه، أو يأمر الولي.

والأحوط تقديم أمر الولي به فان امتنع طلق الحاكم لأنه مدلول الأخبار الصحيحة، وانما يصح هذا الطلاق بعد المدة، ورجوع الرسل أو ما في حكمه، وتعتد بعده عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتحل بعد العدة للزواج، فان جاء المفقود في العدة فهو أملك بها، وإلا فلا سبيل له عليها، سواء أوجدها قد تزوجت أم لا.

هذا مذهب الإمامية في المسألة تبعا لأئمتهمعليهم‌السلام (٣٩٢) .

____________________

(٣٩٠) قاعدة لا ضرر ولا ضرار: القواعد الفقيهية للبجنوردى ج ١ / ١٧٦، وقد أورد الشيخ الأنصاري هذا الحديث بطرق متعددة في رسالة خاصة طبعت ملحقا في آخر المكاسب له طبع إيران، القواعد الفقهية للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ص ٢٢.

(٣٩١) سورة الحج: ٧٨.

(٣٩٢) تحرير الوسيلة للإمام الخميني ج ٢ / ٣٤٠، جواهر الكلام ج ٣٢ / ٢٨٨، الروضة البهية للشهيد الثاني ج ٦ / ٦٥، وسائل الشيعة ج ١٤ ك النكاح باب - ٤٤ - من أبواب ما يحرم بالمصاهرة وج ١٥ / ٣٨٩ باب - ٢٣ - من أبواب أقسام الطلاق.

٢٩٠

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٧٢: -

[ المورد - (٣٦) -: بيع أمهات الأولاد ]

تصافق الجمهور أعني أهل المذاهب الأربعة من المسلمين على أن الذي حرم بيع أمهات الأولاد ونهى عنه انما هو عمر، وان بيعهن كان مباحا، على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر وعدوا ذلك في مناقبه(١) كما عدوا التراويح وأمثالها(٣٩٣) .

لكن الباحثين عن حقيقة هذا الأمر وجدوا في السنن الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو ظاهر في تحريم بيعهن، فعلموا ان عمر انما أخذ بتلك السنن وعمل على مقتضاها، وحسبك من علمه بها ما حدث به ابنه عبد الله انه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أم الولد لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا توقف، يستمتع بها " أي مالكها " مدة حياته، فإذا مات عتقت بموته(٣٩٤) .

وحدث ابن عباس فقال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبره(٣٩٥) .

وهذان الحديثان أوردهما بعين لفظهما عن ابن عمر وابن عباس، شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب أمهات الأولاد وهو في

____________________

(١) وحسبك في ذلك ما قاله خالد محمد خالد مما نقلناه عنه في مبحث الطلاق الثلاث على كتابنا هذا فراجع (منه قدس).

(٣٩٣) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٣١، الطبقات لابن سعد ج ٣ / ٢٨١.

(٣٩٤) الخلاف للشيخ الطوسي.

(٣٩٥) الخلاف للشيخ الطوسي. وقريب منه في: الفتح الكبير ج ١ / ٢٦٢ (*).

٢٩١

آخر المجلد الثاني من كتاب الخلاف، وعلى مقتضى الظاهر منهما، ان منع عمر لم يكن عن رأي رآه، وانما كان منه عملا بحديث ابنه عبد الله وحديث ابن عباس ولعل هذا لا يخفى.

لكن الشيخ قد اضطرته نصوص الأئمة من أهل البيت في هذا الموضوع إلى تأويل الحديثين بحملهما على ما يقتضيه مذهبهمعليهم‌السلام كما سنتلوه عليك من كلامه.

واليك نصه: قال: إذا استولد الرجل أمة في ملكه ثبت لها حرمة الاستيلاد، ولا يجوز بيعها ما دامت حاملا، فإذا ولدت لم يزل الملك عنها ولم يجز بيعها مادام ولدها باقيا الا في ثمن رقبتها، فان مات ولدها جاز بيعها على كل حال، فان مات سيدها جعلت في نصيب ولدها وعتقت عليه، فان لم يخلف غيرها عتق منها نصيب ولدها واستسعت لباقي الورثة.

(قال) وبه قال علي عليه الصلاة والسلام، وابن الزبير، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن مسعود، والوليد ابن عقبة وسويد بن غفلة، وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين، وعبد الملك بن يعلى من أهل الظاهر.

(قال): وقال داود: يجوز التصرف فيها على كل حال ولم يفصل.

(قال) وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك: لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بوجه وتعتق عليه بوفاته.

(قال): دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فلا خلاف انه يجوز وطؤها بالملك فلو كان الملك قد زال لما جاز ذلك، وأيضا فلا خلاف انه يجوز عتقها، فلو كان زال الملك عنها لما جاز ذلك، وأيضا فالأصل كونها رقا فمن ادعى زوال ذلك وثبوت عتقها بعد وفاته فعليه الدلالة.

(قال): وما رواه ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: " أيما أمة ولدت من

٢٩٢

سيدها فهي حرة عن دبره " فمحمول على انه إذا مات سيدها فحصلت لولدها فانها تنعتق عليه.

(قال): وما رواه عبدالله بن عمر ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: " أم الولد لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا توقف. يستمتع بها مدة حياته فإذا مات عتقت بموته ". فالمعنى فيه أن لا يجوز بيعها مادام ولدها حيا فإذا مات سيدها انعتقت على ما قلناه في الخبر الأول. هذا كلام الشيخ بنصه أعلى الله مقامه(٣٩٦) .

[ المورد - (٣٧) - وجوب التيمم للصلاة ونحوها مع فقد الماء. ]

حسبك من النصوص على ذلك قوله عز من قائل في سورة المائدة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) (٣٩٧)

وقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ

____________________

(٣٩٦) الخلاف للشيخ الطوسي ج. وراجع: جواهر الكلام ج ٢٢ / ٣٧٤، الروضة البهية في شرح اللمعة ج ٣ / ٢٥٦.

(٣٩٧) وجوب التيمم عند فقد الماء: سورة المائدة: ٦ (*).

٢٩٣

كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) (٣٩٨) .

والسنن المأثورة في ذلك صحاح متضافرة، والمسألة مما أجمعت الأمة عليه، لم ينقل فيها مخالفة(٣٩٩) إلا عن عمر بن الخطاب، فان المشهور عنه(١) سقوط الفريضة عمن فقد الماء حتى يجده(٤٠٠) .

وقد أخرج البخاري ومسلم في التيمم من صحيحيهما عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه: ان رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء فقال: لا تصل - وكان عمار بن ياسر إذ ذاك حاضرا - فقال: عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : انما كان يكفيك ان تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. فقال عمر: اتق الله يا عمار. قال: ان شئت لم احدث به(٢) !. فقال عمر نوليك ما توليت "

____________________

(٣٩٨) سورة النساء: ٤٣

(٣٩٩) صحيح البخاري ج ١ / ١٢٩، صحيح مسلم ك الطهارة باب التيمم ج ١ / ١٩١، مسند أحمد ج ٤ / ٤٣٤، سنن البيهقي ج ١ / ٢١٦ و ٢١٧ و ٢١٩ و ٢٢٠، تاريخ بغداد ج ٨ / ٣٧٧، الغدير ج ٦ / ٨٥ - ٩٢.

(١) نقل عنه هذه الشهرة عدة من الأعلام كالقسطلاني في مباحث التيمم ص ١٣١ من الجزء الثاني من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري (منه قدس).

(٤٠٠) عمر وسقوط الفريضة عند عدم الماء: راجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٨٤ و ٨٥، عمدة القاري للعيني ج ٢ / ١٧٢، فتح الباري ج ١ / ٣٥٢، صحيح مسلم ج ١ / ١٩٣.

(٢) انما قال ذلك خوفا بدليل قول عمر له. نوليك ما توليت تهديدا له (منه قدس) (*).

٢٩٤

انتهى واللفظ لمسلم(٤٠١) .

وقيل: مال إلى رأي عمر في هذه المسألة ابن مسعود، إذ أخرج البخاري وغيره من أصحاب الصحاح والسنن واللفظ للبخاري من طريق شقيق بن سلمة(١) قال: كنت عند عبدالله بن مسعود وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى يا أبا عبدالرحمن إذا أجنب المكلف فلم يجد ماء كيف يصنع ؟ قال عبدالله: لا يصلي حتى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان يكفيك ؟ قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك. فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار فما تصنع بهذه الاية - وتلا عليه آية المائدة - قال: فما درى عبدالله ما يقول. (الحديث)(٤٠٢) .

قلت: انما كان ابن مسعود في كلامه هذا مع أبي موسى متقيا من عمر ومن صاحبه أبي موسى، لا ريب في ذلك والله تعالى أعلم.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٧٦: -

[ المورد - (٣٨) -: التطوع بركعتين بعد العصر ]

أخرج مسلم في صحيحه(٢) عن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت :

____________________

(٤٠١) صحيح مسلم ك الطهارة باب التيمم ج ١ / ١٩٣، صحيح البخاري ج ١ / ٨٧، الطرائف لابن طاوس ص ٤٦٤ عن الجمع بين الصحيحين، سنن أبى داود ج ١ / ٥٣، سنن ابن ماجة ج ١ / ٢٠٠، مسند أحمد ج ٤ / ٢٦٥، سنن النسائي ج ١ / ٥٩ و ٦١، سنن البيهقي ج ١ / ٢٠٩، الغدير ج ٦ / ٨٣.

(١) في ص ٥٠ من الجزء الأول من صحيحه (منه قدس).

(٤٠٢) ابن مسعود والتيمم: صحيح البخاري ج ١ / ١٢٨، صحيح مسلم ج ١ / ١١٠ وطبع العامرة ج ١ / ١٩٢، سنن أبى داود ج ١ / ٥٣، تيسير الوصول ج ٣ / ٩٧، سنن البيهقي ج ١ / ٢٢٦.

(٢) راجع باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي بعد العصر ص ٣٠٩ والتي بعدها من جزئه الأول تجد ثمة هذا الحديث والحديثين اللذين بعده (منه قدس) (*).

٢٩٥

ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتين بعد العصر عندي قط(٤٠٣) .

وأخرج أيضا عن عبدالرحمن بن الاسود عن أبيه عن عائشة قالت: صلاتان ما تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي قط سرا ولا علانية، ركعتان قبل الفجر وركعتان بعد العصر(٤٠٤) .

وأخرج أيضا عن الاسود ومسروق. قالا: نشهد على عائشة انها قالت: ما كان يومه الذي يكون عندي الا صلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي تعني الركعتين بعد العصر. انتهى بلفظه(٤٠٥) .

لكن عمر بن الخطاب كان ينهى عنهما ويضرب من يقيمهما من المسلمين أخرج الإمام مالك في الموطأ(١) عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد: انه رأى عمر بن الخطاب يضرب المكندر(٢) في الصلاة بعد العصر.

وروى عبد الرزاق عن زيد بن خالد(٣) ان عمر رآه وهو خليفة ركع

____________________

(٤٠٣) التطوع عند العصر: صحيح مسلم ك الصلاة باب معرفة الركعتين اللتين بعد العصر ج ٢ / ٢١١.

(٤٠٤) صحيح مسلم ج ٢ / ٢١١، الغدير ج ٦ / ١٨٥.

(٤٠٥) صحيح مسلم ج ٢ / ٢١١.

(١) راجع من الموطأ آخر موارد النهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر. وراجع من شرح الموطأ للزرقاني آخر الجزء الأول منه (منه قدس).

(٢) المكندر هو ابن محمد بن المكندر القرشى التيمي المدني المتوفى سنة ثمانين للهجرة كما في شرح الموطأ للزرقاني. وتوفى أبوه محمد بن المكندر فيما نص عليه القيسرانى في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين سنة ١٣٠ للهجرة أي بعد وفاة ابنه بخمسين سنة (منه قدس).

(٣) فيما نقله الزرقاني في آخر الجزء الأول من شرح الموطأ وغير واحد من الاثبات (منه قدس) (*).

٢٩٦

بعد العصر فضربه فذكر الحديث. وفيه فقال عمر: يا زيد لولا اني أخشى ان يتخذها الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما(٤٠٦) . وروى عن تميم الدارى نحو ذلك وفيه: ولكني أخاف ان يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى الغروب حتى يمروا بالساعة(١) التي نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلي فيها انتهى بلفظه(٤٠٧) .

[ المورد - (٣٩) -: تأخير مقام إبراهيم عن موضعه ]

مقام إبراهيمعليه‌السلام وهو الحجر الذي يصلي الحاج عنده بعد الطواف عملا بقوله تعالى:( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى ) وكان إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام - لما بنيا البيت وارتفع بناؤه - يقفان عليه لمناولة الحجر و الطين، وكان ملصقا بالكعبة أعزها الله تعالى، لكن العرب بعد إبراهيم وإسماعيل أخرجوه إلى مكانه اليوم، فلما بعث الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتح له ألصقه بالبيت، كما كان على عهد أبويه إبراهيم وإسماعيل، فلما ولي عمر أخره إلى موضعه

____________________

(٤٠٦) مجمع الزوائد ج ٢ / ٢٢٢ وحسن سنده، الغدير ج ٦ / ١٨٤.

(١) أراد بالساعة التي نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة فيها ساعة الغروب، والحديث في ذلك ثابت في الصحاح ولفظه عند الإمام مالك في الموطأ بالإسناد إلى ابن عمر مرفوعا لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. (الحديث)

والحكمة فيه أن لا تشبه الأمة في عبادتها بالمجوس يعبدون الشمس عند طلوعها وعند الغروب وقد احتاط الخليفة فنهى عن الصلاة بعد العصر مطلقا غير مقتصر على وقت الغروب، فخالف بذلك من حيث يريد الطاعة كما ترى. وليته اكتفى بمجرد النهى ولم يضرب عباد الله وهم ماثلون بين يديه عزوجل محرمين في الصلاة (منه قدس).

(٤٠٧) الغدير ج ٦ / ١٨٣ (*).

٢٩٧

اليوم وكان على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر ملصقا بالبيت(٤٠٨) .

وفي السنة السابعة عشرة للهجرة وسع عمر المسجد الحرام بإضافة دور جماعة من حوله إليه، وكانوا أبوا بيعها فهدمها عليهم(١) ووضع أثمانها في بيت المال حتى أخذوها(٤٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٧٩: -

[ المورد - (٤٠) -: البكاء على الموتى ]

حزن الإنسان عند موت أحبته، وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة، ما لم يصحبهما شئ من منكرات الأقوال أو الأفعال. وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث عنه صحيح أخرجه الإمام أحمد عن ابن

____________________

(٤٠٨) كما نص عليه ابن سعد في ترجمة عمر من طبقاته في صفحة ٢٠٤ من جزئه الثالث، والسيوطي في أحوال عمر من كتابه - تاريخ الخلفاء - صفحة ٥٣ منه، وابن أبى الحديد في أحوال عمر صفحة ١١٣ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، والدميري في مادة الديك من كتابه حياة الحيوان، وأبو الفرج ابن الجوزي أول صفحة ٦٠ من كتابه - تاريخ عمر - (منه قدس). عمر زحزح مقام إبراهيم عن موضعه: الطبقات لابن سعد ج ٣ / ٢٨٤، تاريخ الخلفاء ص ١٣٧، روضة الكافي ص ٥٨ - ٦٣، جامع أحاديث الشيعة ج ١٠ / ٥٥ ب ٩ ح ٧ و ٨ و ٩ و ١٠، مقدمة مرآة العقول ج ٢ / ١٢٨.

(١) كما نص عليه ابن الأثير في حوادث تلك السنة من كامله، وغير واحد من أهل السير والأخبار (منه قدس).

(٤٠٩) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٦، تاريخ الخلفاء ص ١٣٧، روضة الكافي ص ٥٨، مقدمة مرآة العقول ج ٢ / ١٢٨، تاريخ الطبري في حوادث سنة ١٧ ه‍، الغدير ج ٦ / ٢٦٦ (*).

٢٩٨

عباس(١) مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان(٤١٠) .

والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرة على ذلك من غير نكير وأصالة الإباحة تقتضيه.

على ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بكى في مقامات عديدة، وأقر غيره على البكاء في موارد، واستحسنه في موارد أخر، وربما دعا إليه(٤١١) .

____________________

(١) فيصلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٣٥ من الجزء الأول من مسنده (منه قدس).

(٤١٠) البكاء على الميت: الغدير للأميني ج ٦ / ١٥٩، السنن الكبرى ج ٤ / ٧٠.

البكاء على الميت سنة طبيعية

١ - بكاء آدم على ابنه هابيل: وقال: ومالي لا أجود بسكب دمع * وهابيل تضمنه الضريح

راجع: العرائس للثعالبي ص ٦٤ ط بمبى، دعوة الحسينية ص ٧٥.

٢ - بكاء إبراهيم على إسماعيل: راجع: العرائس ص ١٣٠، دعوة الحسينية ص ٧٥.

٣ - بكاء إسماعيل: العرايس ص ١٣٠، دعوة الحسينية ص ٧٥.

٤ - بكاء يعقوب على يوسف: الآيات القرآنية في سورة يوسف، العرايس ص ١٥٥.

٥ - بكاء زكريا وزوجته على يحيى: راجع: دعوة الحسينية ص ٧٦.

(٤١١) ٦ - بكاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على جده عبدالمطلب: راجع: تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي في ذكر والد على بن أبى طالب، دعوة الحسينية ص ٤٨ =>

٢٩٩

..

____________________

=> بكاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على عمه أبى طالب: راجع الطبقات لابن سعد ج ١ / ١٢٣ ط بيروت، دعوة الحسينية ص ٤٨

بكاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على عليعليه‌السلام : عن ابن عباس: قال: خرجت أنا والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليرضي‌الله‌عنه في حيطان المدينة فمررنا بحديقة فقال عليرضي‌الله‌عنه : ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله ؟ فقال حديقتك في الجنة أحسن منها، ثم أومأ بيده إلى رأسه ولحيته ثم بكى حتى علا بكاه. قيل ما يبكيك ؟ قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني".

وفى لفظ عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ". فلما خلا له الطريق اعتقني وأجهش باكيا ! ! فقلت: يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك الا بعدى ! ! فقلت: في سلامة من ديني ؟ قال: في سلامة من دينك ".

وفى لفظ عن أنس ابن مالك: ". ثم وضع النبي رأسه على إحدى منكبي علي فبكى ! فقال له: ما يبكيك يا رسول الله ؟ صلى الله عليك. قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا. ".

المصادر: سيرتنا وسنتنا للأميني ص ٢٩، فرائد السمطين ج ١ / ١٥٢ ح ١١٤، المصنف لابن أبى شيبة باب فضائل عليعليه‌السلام ج ٦، كنز العمال ج ١٥ / ١٤٦، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ٣٢٧ ح ٨٣١، مجمع الزوائد ج ٩ / ١١٨، الفضائل لأحمد بن حنبل ح ٢٣١، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٣٩، تاريخ بغداد ج ١٢ / ٣٩٨، المناقب للخوارزمي ص ٢٦، دعوة الحسينية ص ٦٥، ينابيع المودة ص ٥٣ =>

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629