النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165935 / تحميل: 7984
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان(٤٣٥)

وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة كما تزار المشاهد المقدسة حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود الجندي لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع عملا بما يقتضيه مذهبه الوهابي وذلك سنة ١٣٤٤ للهجرة وكنا سنة ١٣٣٩ تشرفنا بزيارة هذا البيت (بيت الأحزان) إذ من الله علينا في تلك السنة بحج بيته وزيارة نبيه ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين في البقيععليهم‌السلام (٤٣٦) .

____________________

(٤٣٥) راجع: كشف الارتياب للسيد محسن الأمين ص ٥٥ و ٢٨٧ ط ٢، وسائل الشيعة ج ٢ / ٩٢٢ ك الطهارة ب ٨٧ من أبواب الدفن.

(٤٣٦) آل سعود يمحون الآثار الإسلامية في مكة والمدينة: فقد هدم آل سعود :

١ - البيت الذي ولد فيه النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بشعب الهواشم بمكة المكرمة.

٢ - هدموا بيت السيدة خديجة أم المؤمنين وأول امرأة آمنت بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة الإسلامية وبذلت كل أموالها في سبيل الدعوة الإلهية.

٣ - هدموا البيت الذي ولدت فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء.

٤ - هدم آل سعود بيت أبى بكر ويقع بمحلة المسفلة بمكة.

٥ - هدم آل سعود بيت حمزة بن عبدالمطلب عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسد الله وأسد رسوله ويقع بيته في المسفلة بمكة.

٦ - هدم آل سعود بيت الأرقم وهو أول بيت تكونت فيه خلايا الثورة الإسلامية وكان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يجتمع فيه مع أصحابه سرا وهذا البيت يقع بجوار الصفا بمكة. أما الآن فقد شيد في مكانه قصر أعطى لتاجر الفتاوى السعودية الباطلة عبدالملك بن إبراهيم ليتاجر به وذريته ويفسدون.

٧ - هدم آل سعود قبور الشهداء الواقعة في المعلى بأعلى مكة وبعثروا رفاتها =>

٣٢١

.

____________________

=> ٨ - هدم آل سعود قبور الشهداء في بدر.

٩ - هدم آل سعود البيت الذي ولد فيه الحسن والحسينعليهما‌السلام في المدينة.

١٠ - سرق آل سعود الذهب الموجود في القبة الخضراء. في المدينة.

١١ - دمر آل سعود بقيع الغرقد الذي يرقد فيه الأئمة الأربعة من أهل البيت وهم الحسن بن على وزين العابدين والإمام الباقر والإمام الصادقعليهم‌السلام ، وزوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبناته وأولاده وجملة كبيرة من أصحابه.

١٢ - هدموا بيت الأحزان الذي بناه الإمام على سيدة النساء فاطمة الزهراء لتبكى على أبيها فيه.

١٣ - طموا المكان الذي ربضت فيه ناقة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عند قدومه إلى المدينة.

١٤ - مكتبات من أثمن المكتبات في العالم أحرقتها الهمجية السعودية بمكة والمدينة: فقد أحرق آل سعود " المكتبة العربية " الأثرية الإسلامية التاريخية العلمية التي كانت في مكة المكرمة وهى التي تعد من أثمن المكتبات في العالم إذ لا تقدر بالمال أبدا، ولا بمليارات العملات. لقد كان بهذه المكتبة (٠٠٠ و ٦٠) من الكتب النادرة الوجود الجامعة لمختلف المناهل العلمية والتاريخية.

وفيها (٠٠٠ و ٤٠) مخطوطة نادرة الوجود من مخطوطات " جاهلية " خطت كمعاهدات بين طغات قريش واليهود وتكشف الغدر اليهودي وعدم ارتباط اليهود بالدين والوطن من قديم الزمان وتكشف مؤامرات اليهود على - النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله - وفيها وثائق خطت قبل الثورة المحمدية بمئات السنين وفيها ما يعطى فكرة ممتازة عن تلك الحضارات العربية القديمة. وفى هذه المكتبة وغيرها من مكتبات المدينة بعض المخطوطات المحمدية التي كتبت بخط النبي محمد في أيام كفاحه السري وهناك ما هو بخط على بن أبى طالب وأبى بكر وعمر وخالد بن الوليد وطارق بن زياد وعدد من الصحابة، ومن هذه المخطوطات ما يسجل =>

٣٢٢

.

____________________

=> العديد من الخطط الحربية التي أرسلها خالد بن الوليد لعمر بن الخطاب والتي أرسلها - عمر - لخالد والتي يظهر بعضها بعض الخلاف الاجتهادي في وجهات النظر. ومن تلك المخطوطات ما هو مخطوط على جلود الغزلان وعلى فرش من الحجارة وألواح من عظام فخوذ الإبل وغيرها من الوسائل القابلة للكتابة كالألواح الخشبية والفخارية والطين المصهور بالأفران. والمكتبة العربية التاريخية في مكة المكرمة بالإضافة إلى كونها مكتبة نادرة فهي متحف أيضا يحتوى على مجموعة آثار ما قبل الإسلام وبعده، وأنواع من أسلحة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيها آخر الأصنام المعبودة التي حطمتها الثورة المحمدية، مثل اللات، والعزى، ومناة، وهبل. وغيرها

ويقول ناصر السعيد المختطف حاليا من قبل السلطات اليهودية السعودية: ويحدثنا أحد المشايخ المؤرخين المعاصرين (ونمتنع عن ذكر اسمه خشية عليه من جهنم آل سعود) فيقول: وكنت أزور هذه المكتبة مع والدي قبل الاحتلال السعودية وكان يرودها العديد من الدارسين، فتقدم بعضهم بشكوى للحسين بن على يطلبون منه " إحراق بعض المخطوطات النادرة لان فيها كفريات " فقال لهم: (أي الشريف حسين): " اننى معكم قد لا أو يد هذه الكفريات وبعض هذه المخطوطات هي ليست من حقي أو حقكم أو حق أي كائن من البشر إحراق التاريخ " !.

وقال ان في هذه المكتبة وثائق تكشف أصل آل سعود بأنهم من اليهود الذين أسلموا. وان فيها مخطوطات بأقلام مجموعة من الصحابة ومنهم عبدالله بن مسعود سجلوا فيها عددا من الآيات القرآنية الكريمة التي دار الصراع عليها وقال التجار انها " منسوخة " وقال الفقراء في اللجنة انها غير " منسوخة " من القرآن الكريم، وفى تلك المخطوطات اتهام واضح لعثمان بن عفان في محاولاته حذف آيات من القرآن الكريم ويرى عدم تسجيلها في المصحف الذي شكلت لجنة لتحقيقه الذي أمر بجمعه - في عهده - من أفواه وصدور الرواة من حفظة القرآن ومن السجلات الجلدية وغيرها =>

٣٢٣

.

____________________

=> ويتابع الثائر المقدام ناصر السعيد نقلا عن ذلك المؤرخ قائلا: وقال المؤرخ: ان من هذه الآيات التي رأى عثمان عدم إثباتها في القرآن واعتبارها آيات منسوخة تلك الآيات التي تقطع في اعطاء الفقراء حقوقهم ودعوتهم للقتال من أجلها، وكذلك مساواة النساء بالرجال ومساواة الناس أجمعين ودعوة المغلوبين على أمرهم لأخذ حقوقهم بقوة القتال، وان من تمتع بحقوق الناس فهو باغ وان الناس شركاء في الخير والشر والسراء والضراء، وان ملكية الأشياء والأرض مشاعة، وان الملوك بغاة. إلى غير ذلك

وقال ناصر السعيد نقلا عن ذلك المؤرخ: وقال: ان بعض هذه المخطوطات كانت بخط الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود وهو من أوائل الذين رافقوا النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن المسؤولين عن " لجنة " أو جماعة الأشراف التي تشكلت في عهد عثمان لجمع القرآن في كتاب موحد، وكان ابن مسعود ممن يعبرون عن رأى محمد وعلى والكادحين لكونه من رعاة الأغنام فشهر ابن مسعود سيفه بوجه " يمين " اللجنة وبحضور عثمان وقال: ما معناه والله لا أعيدن سيفي إلى غمده حتى تعيدون للقرآن آية - الكنز التي تأمر بحرق أصحاب الأموال بالنار -..( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) " انتهى كلامه.

راجعه في كتابه تاريخ آل سعود ج ١ / ١٥٨ - ١٦٠ ط بيروت. وكذلك راجع جملة من جرائمهم في كتاب: كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب ص ٥٥ و ١٨٧ و ٣٢٤ و ٨٦، أعيان الشيعة ج ٢ / ٧، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ١ / ٨١، آل سعود من أين إلى أين ص ٤٧، مذكرات مستر هنفر.

أقول: في سنة ١٣٨٩ ه‍ تشرفت بزيارة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته ورأيت جملة من الأماكن المقدسة والآثار القديمة والتي الآن أعفى أثرها ومن جملتها: أنى زرت قبر السيدة فاطمة بنت أسد أم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والتي ربت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد والدته وجده وكان يعبر عنها بامه قال السمهودي: " لما استقر بفاطمة وعلم بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال إذا توفيت فأعلموني، فلما توفيت خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بقبرها فحفر =>

٣٢٤

.

____________________

=> في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحدا، ولم يضرح لها ضريحا فلما فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثم نزع قميصه فأمر ان تكفن فيه، ثم صلى عليها عند قبرها فكبر تسعا وقال: ما أعفى أحد من ضغطة القبر الا الا فاطمة بنت أسد.. قال السمهودي قلت: وقوله في موضع المسجد إلى آخره يقتضى انه كان على قبرها مسجد يعرف به في ذلك الزمان ". وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ج ٣ / ٨٩٧.

أقول: زرت هذا المرقد الطاهر الذي شرفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاضطجاع فيه وكان هذا المرقد حجرة مبنية من الطين قد أردمت من جوانبها الأربع وفى سنة ١٤٠٠ ه‍ تشرفت بزيارة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ومررت على هذا المكان فلم أرى أثرا لذلك القبر الشريف فقد حرثه آل سعود وأنشأوا مكانه عمارات شاهقة فنادق وغيرها وهذا مرقد وأثر واحد من مئات بل آلاف الأماكن المقدسة التي كانت في مكة والمدينة لا نجد لها في يومنا هذا عين ولا أثر فبعد احتلال آل سعود. مكة والمدينة أذهبوا بتلك الآثار والأماكن المشرفة وحققوا أهداف أجدادهم اليهود في القضاء على الإسلام ومآثره. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

من أراد مزيد الاطلاع على فساد مذهب الوهابية، وجواز زيارة القبور، والدعاء عندها، والتبرك بها، والنذور، وجواز نقل الميت، وجرائم آل سعود من حرقهم للآثار الإسلامية، وهدم القبور وعمالتهم للاستعمار وغيرها من الجرائم. فاليرجع إلى: تاريخ آل سعود ج ١ ط بيروت لناصر السعيد، كشف الارتياب للسيد محسن الأمين ط بيروت، هكذا رأيت الوهابيين، هذه هي الوهابية، الغدير للأميني ج ٥ / ٦٦ - ٢٠٧، مذكرات مستر هنفر الجاسوس البريطاني في البلاد الإسلامية وغيرها من عشرات المصادر. (*)

٣٢٥

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٠٧: -

[المورد - (٤١) -: نصه على صدق حاطب ونهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن أن يقولوا له إلا خيرا]

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي عوانة عن حصين، قال: تنازع أبو عبدالرحمن وحبان بن عطية، فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء - يعني عليا - قال: ما هو ؟ لا أبا لك. قال: شئ سمعته يقوله. قال: ما هو ؟.

قال: بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس، قال: حتى تأتوا روضة حاج(١) (قال أبو سلمة هكذا قال أبو عوانة حاج) فان فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها، فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تسير على بعير لها، وكان حاطب كتب إلى أهل مكة بمسير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم، فقلنا: أين الكتاب الذي معك ؟. قالت: ما معي كتاب. فأنخنا بها بعيرها فابتغاه في رحلها فما وجدنا شيئا، فقال صاحباي: ما نرى معها كتابا.

قال: فقلت لقد علمنا ما كذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لاجردنك(٢) فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة فأتوا بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله و رسوله والمؤمنين دعني فأضرب عنقه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حاطب ما حملك على ما صنعت ؟. قال يا رسول الله مالي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله ،

____________________

(١) لعل الصواب روضة خاخ وهو موضع بين الحرمين بخاءين معجمتين (منه قدس).

(٢) انما تهددها بتجريدها من حجزتها التي كانت محتجزة بها وهى الكساء وقد كان الكتاب في تلك الحجيزة (منه قدس) (*).

٣٢٦

ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هناك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله، قال: صدق لا تقولوا له إلا خيرا، قال فعاد عمر فقال: يا رسول الله قد خان الله و رسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه. (الحديث)(٤٣٧) .

قلت: كان الواجب أن لا يقولها عمر بعد أن اخبرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصدق الرجل ونهيه إياهم عن أن يقولوا له إلا خيرا.

[ المورد - (٤٢) -: كتابهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمرائه فيمن يبردونه إليه ]

أخرج الإمام مالك والبزاز - كما في مادة لقحة(١) بوزن بركة من حياة الحيوان - للدميري - عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه كتب إلى أمرائه إذا أبردتم إلي بريدا فأبردوه حسن الاسم حسن الوجه، فقام عمر حين علم بذلك قائلا: لا أدري أقول أم أسكت ؟ فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل قل يا عمر فقال: كيف نهيتنا عن الطيرة وتطيرت ؟ فقال: ما تطيرت ولكن اخترت. آه.(٤٣٨) .

[ المورد -(٤٣) -: لمزهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدقات ]

أخرج الإمام أحمد من حديث عمر في مسنده(٢) عن سلمان بن ربيعة ،

____________________

(٤٣٧) فراجعه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم من ج ٤ من صحيحه (منه قدس). مجمع البيان للطبرسي ج ٩ / ٢٦٩، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٦٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٧٥، السيرة النبوية لزين دحلان بهامش الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(١) اللقحة هي الناقة الحلوب (منه قدس).

(٤٣٨) (٢) ص ٢٠ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

٣٢٧

قال: سمعت عمر يقول: قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قسمة، فقلت: يا رسول الله لغير هؤلاء أحق منهم، أهل الصفة. قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنكم تسألوني بالفحش، وتبخلوني ولست بباخل. آه(٤٣٩) .

قلت: وأتم القسمة على ما أراد الله ورسوله، وعن أبي موسى ان عمر سأل النبي عن أشياء يكرهها رسول الله فغضبصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى رأى عمر ما في وجهه من الغضب. (الحديث)(٤٤٠)

أخرجه البخاري في باب، الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، من أبواب كتاب العلم ص ١٩ من الجزء الأول من صحيحه.

[ المورد -(٤٤) -: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر حين اسلم: استر إسلامك ]

روى شيخ العرفاء محي الدين ابن العربي(١) ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمر بن الخطاب حين أسلم: أستر إسلامك وان عمر أبى إلا إعلانه(٤٤١)

____________________

(٤٣٩) صحيح مسلم ج ٢ / ٧٣٠ ط محمد فؤاد وج ٣ / ١٠٣ ط مشكول، الطرائف ص ٤٦٥. وهناك أحاديث أخرى في الاعتراض على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في القسمة ولا يعتبر عدالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الا انه لقضايا سياسية لم يصرح باسم قائلها. راجع هذه الأحاديث في: صحيح مسلم ج ٣ / ١٠٩ ط مشكول.

(٤٤٠) (١) فيما نقله عنه الكاتب محمد لطفي المصرى في تاريخ فلسفة الإسلام ص ٣٠١ (منه قدس).

(٤٤١) اختلاف في أي وقت أسلم عمر فهل أسلم قبل انتشار الدعوة أم بعد انتشارها وظهورها ولعل الصحيح انه أسلم قبل هجرة الرسول إلى المدينة بقليل فقد روى البخاري في صحيحه ج ٥ / ١٦٣ ط مشكول عن نافع قال ان الناس يتحدثون ان ابن عمر =>

٣٢٨

قلت: كانت الحكمة يومئذ تضطر إلى الكتمان، وكانت الدعوة إلى الله ورسوله لا سبيل إليها الا بالتستر، لكن بطولة عمر تأبى عليه إلا الصراحة برأيه وان خالف النص.

[ المورد - (٤٥) - ما كان في بدء الإسلام مما يتعلق بالصيام: ]

وذلك ان الصائم كان إذا أمسى حل له في شهر رمضان الأكل والشرب والنساء وسائر المفطرات إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد فإذا صلاها أو رقد حرم عليه ما حرم على الصائم إلى الليلة القابلة(٤٤٢) .

لكن عمر أتى أهله بعد العشاء واغتسل فندم على ما فعل، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا: يا رسول الله إني اعتذر إلى الله واليك من نفسي هذه الخاطئة، وأخبره بما فعل، وحينئذ قام رجال فاعترفوا بأنهم كانوا يصنعون كما صنع عمر بعد العشاء، فأنزل الله عزوجل( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (١) )

____________________

=> أسلم قبل عمر. الخ. وابن عمر أسلم وعمره عشر سنين قبيل الهجرة. فيكون هذا المورد من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٤ / ٩٣.

(٤٤٢) راجع: الميزان في تفسير القرآن ج ٢ / ٤٥، تفسير القمي، الدر المنثور وغيرها.

(١) وهى الآية ١٨٧ من سورة البقرة، فليراجع تفسيرها في الكشاف وغيره من =>

٣٢٩

الآية(٤٤٣) وان كانت صريحة بأنهم كانوا يختانون أنفسهم غير مرة، لكنها نص بالتوبة عليهم والعفو عنهم وقد وسع الله عليهم، وخفف مما كان قد كلفهم به. فالحمد لله على عفوه ومغفرته، وله الآلاء على سعة رحمته.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣١١: -

[ المورد - (٤٦) -: حول الخمر وتحريمها ]

وذلك أن الله عزوجل أنزل في الخمر ثلاث آيات، الأولى قوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) (٤٤٤) . (الآية)، فكان من المسلمين شارب وتارك إلى ان شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ) (٤٤٥) . (الآية)، فشربها بعد من شربها من المسلمين وتركها من تركها، قال أهل الاخبار حتى شربها عمر بن الخطاب فأخذ بلحي بعير وشج به رأس عبدالرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الاسود بن يعفر إذ يقول :

وكائن بالقليب قليب بدر

من الفتيان والعرب الكرام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام

____________________

=> سائر التفاسير، وقد أخرجه الإمام الواحدي في كتابه أسباب النزول ص ٣٣ منه (منه قدس).

(٤٤٣) ذكرت ان السبب في ذلك عمر عدة روايات: راجع: مجمع البيان للطبرسي ج ٢ / ٢٨٠، تفسير الطبري، الدر المنثور، الميزان في تفسير القرآن ج ٢ / ٥٠.

(٤٤٤) سورة البقرة: ٢١٩.

(٤٤٥) سورة النساء: ٤٣ (*)

٣٣٠

أيعجز أن يرد الموت عني

وينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عني

بأني تارك شهر الصيام

فقل لله يمنعني شرابي

وقل لله يمنعني طعامي

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج مغضبا يجر ردائه فرفع شيئا كان في يده فضربه به فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فأنزل الله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (٤٤٦) قال: فقال عمر انتهينا انتهينا(٤٤٧) .

____________________

(٤٤٦) سورة المائدة: ٩١.

(٤٤٧) تجد هذه القضية بلفظها في الباب الرابع والسبعين المختص بتحريم الخمر وذمها والنهى عنها من الجزء الثاني من كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للإمام شهاب الدين الابشيهى وهو من الكتب المنتشرة، ونقلها جماعة من الاثبات عن ربيع الأبرار للزمخشري.

وقد ألمع الإمام الرازي إلى شئ منها في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) من سورة المائدة، في ص ٤٤٦ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير إذ قال: روى أنه لما نزل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ) قال عمر بن الخطاب: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت هذه الآية:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) . قال عمر: انتهينا يا رب (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ٢٥١، عن المستطرف ج ٢ / ٢٩١، ربيع الأبرار للزمخشري مخطوط، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٤ / ٤٨ وغيرها.

ومن أراد مزيد اطلاع على هذا الموضوع فاليراجع كتاب الغدير ج ٦ / ٢٥١ فقد نقل شرب الخليفة في الجاهلية ولم ينته عن شربه الا بعد نزول آية( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) التي في سورة المائدة، والمائدة آخر سورة نزلت في القرآن والتي نزلت =>

٣٣١

.

____________________

=> على الرسول في حجة الوداع. ثم بعد ذلك صار يشرب النبيذ الشديد وكان يقول: انا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا. الخ وقد " شرب شخص من النبيذ الذي كان يشرب منه فأسكره فأقام عليه الخليفة الحد قال الشعبي: شرب أعرابي من أدواة عمر فأغشى فحده عمر. ثم قال وانما حده للسكر لا للشرب ". العقد الفريد ج ٣ / ٤١٦. وقريب منه في: أحكام القرآن للجصاص ج ٢ / ٥٦٥. لأجل المزيد من الاطلاع على هذا الموضوع راجع الغدير ج ٦ / ٢٥٧.

ناد الخمر في دار أبى طلحة: ولعل الآية الأخيرة نزلت بسبب نادي الخمر الذي عقد في دار أبى طلحة وكان يضم أحد عشر رجلا من كبار الصحابة: ذكر الطبري في تفسيره ج ٢ / ٢٠٣ وفى طبعة أخرى ج ٢ / ٢١١ عن أبى القموص قال: أنزل الله عزوجل في الخمر ثلاث مرات فأول ما نزل قال الله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) قال: فشربها من المسلمين ما شاء الله منهم على ذلك حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يهجران كلاما لا يدرى - عوف - ما هو فأنزل الله عزوجل فيها:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ) فشربها من شربها منهم وجعلوا يتقونها عند الصلاة حتى شربها فيما زعم أبوالقموص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر :

تحيى بالسلامة أم عمرو

وهل لك بعد رهطك من سلام ؟

ذريني اصطبح بكرا فأنى

رأيت الموت نقب عن هشام

وود بنو المغيرة لو فدوه

بألف من رجال أو سوام

كأني بالطوى طوى بدر

من الشيزى يكلل بالسنام

كأني بالطوى طوى بدر

من الفتيان والحلل الكرام

قال فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه فلما عاينه الرجل فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا كان بيده ليضربه قال أعوذ بالله من غضب الله =>

٣٣٢

.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣١٤: -

[ المورد - (٤٧) -: النهى عن قتل العباس وغيره(١) ]

وذلك ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه وقد حمي الوطيس يوم بدر: عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها لا حاجة لهم لقتالنا، فمن

____________________

=> ورسوله والله لا أطعمها أبدا فأنزل الله تحريمها( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ. - إلى قوله - فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) فقال عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه : انتهينا. انتهينا. وفى هذه الرواية تحريف من الطبري أو غيره فحذف اسم (أبو بكر) وجعل مكانه (رجل) وفى الأبيات حذف اسم (أم بكر) وجعل مكانه (أم عمرو) والذي قال الأبيات هو أبو بكر كما في مجمع الزوائد ج ٥ / ٥١ وذكر القصة كل من: الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص ٦٦، وابن حجر في الإصابة ج ٤ / ٢٢، وابن حجر في فتح الباري ج ١٠ / ٣٠، والعيني في عمدة القاري ج ١٠ / ٨٢.

وكان النادي يضم أحد عشر رجلا وهم :

١ - أبو بكر وهو الذي قرأ الأبيات.

٢ - عمر

٣ - أبو عبيدة بن الجراح.

٤ - أبو طلحة زيد بن سهل صاحب النادي

٥ - سهيل بن بيضاء

٦ - أبى بن كعب

٧ - أبو دجانة سماك بن خرشة

٨ - أبو أيوب الأنصاري

٩ - أبو بكر ابن شغوب

١٠ - أنس بن مالك ساقي القوم ذكر هؤلاء ابن حجر في فتح الباري ج ١٠ / ٣٠ وغيره

١١ - معاذ بن جبل كما في صحيح مسلم ج ٦ / ٨٨ وغيره.

وكانت هذه الحادثة في سنة ٨ ه‍ عام الفتح راجع: في خصوصيات هذه الحادثة مع مصادرها والآراء في تحريم الخمر ومتى كان. الغدير للعلامة الأميني ج ٧ / ٩٥ - ١٠٢، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٤ / ٥٠ وغيرهما.

(١) أما نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قتل العباس فمما لا ريب فيه. والاخبار فيه متواترة، والصحاح مشحونة به، وكل من أرخ بدرا من أهل السير نص عليه. وعلى النهى عن قتل بني هاشم كافة (منه قدس) (*).

٣٣٣

لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله(٤٤٨) ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله(٤٤٩) ومن لقي العباس بن عبدالمطلب عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يقتله، فانه خرج مستكرها(٤٥٠) .

تراهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتل بني هاشم عامة، ثم نهى عن قتل عمه العباس بالخصوص، تأكيدا للمنع من قتله، وتشديدا ومبالغة في ذلك، ولما أسر

____________________

(٤٤٨) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٨٩، تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨١، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ١٧٢، السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ / ٢٨١ ط بيروت، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٦٨، شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٤ ص ١٨٢.

(٤٤٩) تجد هذا في غزوة بدر العظمى ص ٢٨٤ والتي بعدها من جزء ٣ من البداية والنهاية لابن كثير، وفى غيرها من كتب السير والاخبار كسيرة بن إسحاق وغيرها وانما نهى عن قتل أبى البخترى لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة، وكان لا يؤذى رسول الله ولم يبلغه عنه شئ يكرهه، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثر بقاؤه حيا أملا بتوفيقه وهدايته إلى الله تعالى ورسوله، لكن لقيه في حومة الحرب المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار، فقال له ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهانا عن قتلك، ومع أبى البخترى زميل له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة من بني ليث قال: وزميلي ؟. قال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله الا بك وحدك، قال: لا والله اذن لاموتن وهو جميعا لا تتحدث عنى نساء قريش بمكة انى تركت زميلي حرصا على الحياة. فاقتتلا فقتله المجذر ثم أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فأتيك به فأبى الا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته (منه قدس). الكامل في التاريخ ج ٢ / ٨٩، تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٢، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ١٧٢، السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ / ٢٨١، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٦٨، شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٤ / ١٣٣ و ١٨٣.

(٤٥٠) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٨٩، الدرجات الرفيعة ص ٨٠، تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٢، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ١٧٢، السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ / ٢٨١، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٦٨، شرح النهج الحديدي ج ١٤ / ١٨٣ (*).

٣٣٤

العباس بات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ساهرا أرقا فقال له أصحابه - كما نص عليه كل من أرخ وقعة بدر من أهل السير والاخبار - يا رسول الله مالك لا تنام ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله سمعت تضور عمي العباس في وثاقه فمنعني النوم، فقاموا إليه فأطلقوه فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٥١) .

وعن يحيى بن أبي كثير: أنه لما كان يوم بدر أسر المسلمون من المشركين سبعين رجلا، فكان ممن أسر العباس عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فولي وثاقه عمر بن الخطاب، فقال العباس: أما والله يا عمر ما يحملك على شد وثاقي الا لطمي اياك في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسمع أنين العباس فلا يأتيه النوم. فقالوا: يا رسول الله ما يمنعك من النوم ؟. فقال رسول الله: كيف أنام وأنا أسمع أنين عمي. فأطلقه الأنصار. (الحديث)(٤٥٢) .

وكان أصحاب رسول الله كافة من مهاجرين وأنصار وغيرهم يعلمون ما لأبي الفضل العباس من المنزلة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحب السلامة له والكرامة، ولما بلغهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمة أبي حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - وكان معه في بدر - إذ قال أنقتل آبائنا واخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف ساءهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك من أبي حذيفة فاستنجد بعمر يقول له مثيرا حفيظته: يا أبا حفص أيضرب وجه عم الرسول بالسيف ؟. قال عمر: والله انه لأول يوم كناني فيه

____________________

(٤٥١) الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٨٩، الدرجات الرفيعة ص ٨٠، مجمع البيان ج ٤ / ٥٥٩، شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٤ / ١٨٢.

(٤٥٢) تجده في ج ٥ / ٢٧٢ من الكنز وهو حديث ٥٣٩١ وقد أخرجه ابن عساكر (منه قدس). وراجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٥٢٠ عن جملة من المصادر. (*)

٣٣٥

رسول الله بأبي حفص(٤٥٣) .

وما ان وضعت الحرب أوزارها - ونصره الله عبده، وأعز جنده وقتل الطواغيت سبعين وأسر سبعين آخرين. وجئ بهم موثوقين - حتى قام أبو حفص يحرض على قتلهم بأشد لهجة قائلا: يا رسول الله انهم كذبوك وأخرجوك وقاتلوك فمكني من فلان - لقريب أو نسيب له - فأضرب عنقه، ومكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه(٤٥٤) .

قلت: يا سبحان الله لم يكن عباس ولا عقيل ممن كذبوا رسول الله، ولا ممن أخرجوه، ولا ممن آذوه، وقد كانوا معه في الشعب أيام حصرهم فيه يكابدون معه تلك المحن، وقد أخرجا إلى بدر كرها بشهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهما بذلك. ونهى رسول الله عن قتلهم والحرب قائمة على ساقها، فكيف يقتلان وهما أسيران ؟.

وإذا كان تضور العباس أقلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنعه النوم، فما ظنك بقتله صبرا بلا مقتض لذلك، فان العباس كان من قبل ذلك مسلما، وانما كتم إسلامه لحكمة كان لله ورسوله فيها رضا، وله وللأمة فيها صلاح(٤٥٥)

____________________

(٤٥٣) نقل ذلك عنه ابن إسحاق وغيره من أهل السير والاخبار فراجع ص ٢٨٥ من الجزء ٣ من البداية والنهاية (منه قدس). أقول وراجع أيضا: الكامل في التاريخ ج ٢ / ٨٩، تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٢، السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ / ٢٨١، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٦٨، ابن أبي الحديد ج ١٤ / ١٨٣.

(٤٥٤) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٢٤٩، صحيح مسلم ك الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة ج ٦ / ١٥٧، الدرجات الرفيعة ص ٨٢، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٩٠ و ١٩١، ابن أبي الحديد ج ١٤ / ١٨٣.

(٤٥٥) قال مفتى الشافعية في عصره السيد أحمد زيني دحلان حيث ذكر العباس في غزوة بدر من سيرته النبوية ص ٥٠٤ من جزئه الأول المطبوع في هامش السيرة الحلبية نقلا عن المواهب ما هذا لفظه: وكان العباس فيما قاله أهل العلم بالتاريخ قد أسلم قديما =>

٣٣٦

.

____________________

=> وكان يكتم إسلامه، وكان يسره ما يفتح الله على المسلمين، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يطلعه على أسراره حين كان بمكة وكان يحضر مع النبي حين كان يعرض نفسه على القبائل، وكان يحثهم ويحرضهم على مناصرته كما تقدم ذلك في حضوره بيعة العقبة التي كانت مع الأنصار، فهذا كله يدل على إسلامه.

(قال): وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بالمقام بمكة ليكتب له أسرار قريش وأخبارهم، ولما أرادت قريش الخروج إلى بدر واستنفرت الناس لم يمكنه التخلف عنها، ولهذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر: من لقى العباس فلا يقتله فانه خرج مستكرها.

(قال) ولا ينافى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما طلب منه الفداء: ظاهر أمرك انك كنت علينا لان كونه عليهم في الظاهر لا ينافى كونه مكرها في الباطن، وانما عامله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بظاهر حالة تطييبا لقلوب الصحابة حيث فعل مثل ذلك بآبائهم وأبنائهم وعشائرهم.

(قال) وكان للعباس مال وديون في قريش وكان يخشى ان أظهر أسلامه ضياعها عندهم، فكان يخفى إسلامه بأذن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يظهر النبي للصحابة إسلام عمه رفقا به وخوفا على ضياع ماله.

(قال) وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غرض في اخفاء إسلامه ليكون عينا له ينقل أخبار القوم إليه ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه، فهو لم يظهر إسلامه الا يوم فتح مكة.

(قال) وكان العباس كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله، فكتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله له: مقامك بمكة خير لك.

(قال) وفى رواية كتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فان الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بى النبوة، فكان الأمر كذلك فقد كان آخر المهاجرين لأنه التقى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الابواء ولا علم له بخروج النبي لفتح مكة فرجع معه إلى آخر كلامه، وللحلبي في سيرته كلام أصرح في تقدم إسلام العباس وزوجته أم الفضل على الهجرة، فليراجعه من شاء التتبع، وليراجع نصوص العلماء في هذا الموضوع (منه قدس) الدرجات الرفيعة ص ٨٠، السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ / ٣٠١، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٢٤٢.

٣٣٧

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣١٩: -

[ المورد - (٤٨) -: اخذ الفداء من الأسرى يوم بدر ]

لما نصر الله عزوجل عبده ورسوله يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في بدر، وجئ بالأسرى إليه، علم من عزمه انه سيبقي عليهم، أملا بأن يهديهم الله - فيما بعد - لدينه، ويوفقهم لما دعا إليه من سبيله - كما وقع ذلك والحمد لله - وهذا هو النصح لله تعالى ولعباده.

لكن قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - مع العفو عنهم - أخذ الفداء منهم ليضعفهم عن مقاومته، ويقوى به عليهم، وهذا هو الأصح - في الواقع للفريقين، وفيه النصح لله تعالى ولعباده أيضا كما لا يخفى( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (٤٥٦) على أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مطبوعا على الرحمة ما وجد إليها سبيلا.

وكان من رأي عمر بن الخطاب أن يقتلوا، بأجمعهم، جزاء بما كذبوا وآذوا وهموا بما لم ينالوا، وأخرجوا وقاتلوا، وكان قوي العزيمة شديد الشكيمة في استئصالهم قتلا بأيدي أرحامهم من المسلمين، حتى لا يبقى منهم أحد(٤٥٧) .

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل فيهم كلمته التي حكاها الله تعالى عنه في محكم فرقانه العظيم(١) ألا وهي قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ

____________________

(٤٥٦) سورة النجم: ٣.

(٤٥٧) الدرجات الرفيعة ص ٨٢، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٢٤٢، صحيح مسلم ج ٥ / ١٥٧.

(١) هي الآية ١٦ من سورة يونس (منه قدس) (*).

٣٣٨

عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) . فخلى سبيلهم - عفوا عنهم وكرما - بعد أن أخذ منهم الفداء، فكان الجاهلون بعصمته وحكمته بعد ذلك( لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ) انما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بقياه عليهم، وأخذه الفداء منهم مجتهدا(١) وكان الصواب قتلهم، واستئصال شأفتهم، محتجين بأحاديث مفتأتة لا يجيزها عقل ولا نقل.

فمنها: أن عمر غدا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أخذه الفداء فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: ما يبكيكما فان وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب(٤٥٨) .

(قالوا) وأنزل الله تعالى( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ

____________________

(١) نقل ذلك عنهم السيد الدحلانى في السطر الأخير من ص ٥١٢ من الجزء الأول من سيرته النبوية المطبوعة في هامش السيرة الحلبية (منه قدس).

(٤٥٨) تجد هذا اللفظ في ص ٥١٢ من الجزء الأول من السيرة النبوية للدحلانى وتجد غيره مما هو في معناه فيها وفى السيرة الحلبية، وفى البداية والنهاية لابن كثير نقلا عن كل من الإمام أحمد ومسلم وأبى داود والترمذي بالإسناد إلى عمر بن الخطاب (منه قدس). راجع: صحيح مسلم ج ٥ / ١٥٧، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٢٤٣ عن: تاريخ الطبري ج ١ / ١٦٩، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٣٦، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٩٠، أسباب النزول للواحدي ص ١٣٧، حياة الصحابة ج ٢ / ٤٢، كنز العمال ج ٥ / ٢٦٥ عن عدة كتب، الدر المنثور ج ٣ / ٢٠١ - ٢٠٣، مشكل الآثار ج ٤ / ٢٩١، المغازي للواقدي ج ١ / ١٠٧، فواتح الرحموت بهامش المستصفى للغزالي ج ٢ / ٢٦٧، تاريخ الخميس ج ١ / ٣٩٣، المستصفى للغزالي ج٢ / ٣٥٦ (*).

٣٣٩

فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) الآيات(٤٥٩) .

( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٤٦٠) إذ أمعنوا في التيه. فجوزوا الاجتهاد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والله تعالى يقول:( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) وقد أو غلوا في الجهل إذ نسبوا إليه الخطأ، وتسكعوا في الضلال، إذ آثروا قول غيره، واشتبهت عليهم - في هذه الآية - معالم القصد، وعميت لديهم - فيها - وجوه الرشد، فقالوا بنزولها في التنديد برسول الله وأصحابه، حيث آثروا - بزعم هؤلاء الحمقى - عرض الدنيا على الآخرة فاتخذوا الأسرى، وأخذوا منهم الفداء قبل ان يثخنوا في الأرض، وزعموا أنه لم يسلم يومئذ من هذه الخطيئة إلا عمر، وأنه لو نزل العذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب.

وكذب من زعم أنه اتخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض فانهصلى‌الله‌عليه‌وآله إنما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض، وقتل صناديد قريش وطواغيتها كأبي جهل بن هشام، وعتبة، وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة، والعاص بن سعيد، والاسود بن عبد الأسد المخزومي، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسد، وعقيل بن الاسود، ونبيه، ومنبه، وأبي البختري، وحنظلة بن أبي سفيان، وطعيمة بن عدي بن نوفل، ونوفل بن خويلد، والحارث ابن زمعة، والنظر بن الحارث بن عبد الدار، وعمير بن عثمان التميمي، وعثمان ومالك اخوي طلحة، ومسعود بن أمية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، وحذيفة بن أبي حذيفة ابن المغيرة، وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن مخزوم، وأبي المنذر بن

____________________

(٤٥٩) سورة الأنفال: ٦٧.

(٤٦٠) سورة الأنعام: ٩٠ (*).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629