النص والاجتهاد

النص والاجتهاد12%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165937 / تحميل: 7984
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

(٨٧)

سورة الأعلى

مكّيّة عند ابن عبّاس، ومدنيّة عند الضحّاك. وهي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: «كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ هذه السورة( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

وعن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: «سبحان ربّي الأعلى». وكذلك روي عن عليّعليه‌السلام . وروى جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول ذلك. وكان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّعليه‌السلام ، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وإنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى».

٤٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد والتهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى وقدرته على ما يشاء، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر والاقتدار على كلّ شيء، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. ومن إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. ومن أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، والاسم باعتبار المسمّى.

وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم. وكانوا يقولون في الركوع: أللّهمّ لك ركعت، وفي السجود: أللّهمّ لك سجدت».

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق كلّ شيء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام والاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

__________________

(١) الحاقّة: ٥٢.

٤٠٢

عليم وصانع حكيم.

( وَالَّذِي قَدَّرَ ) قدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها وأفعالها وآجالها.

وقرأ الكسائي: قدر بالتخفيف.( فَهَدى ) فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول والإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها وبين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، وترجع باصرة بإذن الله تعالى.

وإلهامات البهائم والطيور وهو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. ومن ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، وهدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه وأمّه، وسائر الدوابّ والطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. وما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة والمثمّنة وغيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب والأبصار ليهتدوا إلى الله العزيز الحكيم.

وهدايات الله للإنسان من نصب الدلائل وإنزال الآيات ـ إلى ما لا يحدّ من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، فسبحان ربّي الأعلى وبحمده.

( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أنبت ما ترعاه الحيوانات( فَجَعَلَهُ ) بعد خضرته( غُثاءً ) يابسا هشيما( أَحْوى ) أسود. وقيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته وريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، وقدّر هذا التقدير. وقيل: إنّه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

٤٠٣

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩) )

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله:( سَنُقْرِئُكَ ) على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة.( فَلا تَنْسى ) فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات.

وقيل: نهي، والألف للفاصلة، كقوله:( السَّبِيلَا ) (١) . والمعنى: فلا تغفل من قراءته وتكريره فتنساه.

( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته، كقوله:( أَوْ نُنْسِها ) (٢) فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

__________________

(١) الأحزاب: ٦٧.

(٢) البقرة: ١٠٦.

٤٠٤

مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء الله.

وقيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء الله. ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلّة في معنى النفي.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) ما ظهر من أحوالكم وما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، وما دعاك إليه من مخافة التفلّت والنسيان، فيعلم ما فيه صلاحك وأمّتك من إبقاء أو إنساء.

( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ) معطوف على( سَنُقْرِئُكَ ) . وقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) اعتراض.

والمعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفّقك لعمل الجنّة. ولـمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا وطغيانا. وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلظّى حسرة وتلهّفا، ويزداد جدّا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (١) .( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) (٢) . ثمّ قيل له:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) وذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

وقيل: ظاهر الآية شرط، ومعناه ذمّ للمذكّرين، وإخبار عن حالهم، واستبعاد لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

__________________

(١) ق: ٤٥.

(٢) الزخرف: ٨٩.

٤٠٥

المكّاسين(١) إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنّه لن يكون كذلك.

( سَيَذَّكَّرُ ) سيتّعظ وينتفع بها( مَنْ يَخْشى ) يخشى الله وسوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

( وَيَتَجَنَّبُهَا ) ويتجنّب الذكرى( الْأَشْقَى ) الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده وإنكاره، وحقده وشدّة غضبه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ) نار جهنّم. والصغرى: نار الدنيا، فإنّهعليه‌السلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ وأشدّ من نار أطباق أخر.

( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ) فيستريح( وَلا يَحْيى ) حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، ومشقّة يتمنّى زوالها، لـما فيها من فنون العقاب وألوان العذاب. ولهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) تطهّر من الكفر والمعصية. وقيل: من الزكاء بمعنى النماء. والمعنى: من نشأ ونما في التقوى. وقيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) وحّده بقلبه ولسانه( فَصَلَّى ) بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٢) . وعن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

__________________

(١) المكّاس: من يأخذ المكس. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.

(٢) طه: ١٤.

٤٠٦

وموقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. وعن الضحّاك: وذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. وعن عليّعليه‌السلام : تصدّق بالفطر،( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

ومتى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة وختمت بالمدينة.

وعند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان والإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:( بَلْ تُؤْثِرُونَ ) تختارون( الْحَياةَ الدُّنْيا ) على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. وقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد الله بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذّتها وبهجتها، وإنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنّا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.

( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ ) أفضل في نفسها( وَأَبْقى ) وأدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «وأبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، وخلاصة الكتب المنزلة. والمعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) بدل من الصحف الأولى.

٤٠٧

وروي عن أبي ذرّرضي‌الله‌عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا.

قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيّتهم أنبياء.

قلت: أكان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه الله وخلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟

قال: مائة وأربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ ـ وهو إدريس ـ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وقيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

وقيل: إنّ كتب الله سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

٤٠٨

(٨٨)

سورة الغاشية

مكّيّة. وهي ستّ وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من أدمن قراءة( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) في فريضة أو نافلة، غشّاه الله رحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، وأنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله:( يَوْمَ يَغْشاهُمُ

٤٠٩

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) (١) . أو النار من قوله:( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (٢) ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (٣) .

( وُجُوهٌ ) أي: صواحبها( يَوْمَئِذٍ ) يوم إذ غشيت( خاشِعَةٌ ) ذليلة( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل والأغلال، وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.

وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها وتنعّمت، ونصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ) (٤) .( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٥) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) (٦) .

وقيل: هم أصحاب الصوامع. ومعناه: أنّها خشعت لله، وعملت ونصبت في أعمالها، من الصوم الدائب(٧) والتهجّد الواصب.

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ».

( تَصْلى ناراً ) تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

__________________

(١) العنكبوت: ٥٥.

(٢) إبراهيم: ٥٠.

(٣) الأعراف: ٤١.

(٤) الفرقان: ٢٣.

(٥) الكهف: ١٠٤.

(٦) آل عمران: ٢٢.

(٧) الدائب: الدائم المستمرّ. والتهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

٤١٠

الجمر، أو على المقلى(١) ، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر تصلى، من: أصلاه الله.( حامِيَةً ) متناهية في الحرّ.

( تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) متناهية في الحرّ، كقوله:( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) (٢) قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

وقال أبو الدرداء: إنّ الله يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم الله ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله:( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٣) .

( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) يبيس الشبرق. وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سمّ قاتل. وقيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

وعن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرّا من النار، سمّاه الله الضريع».

وإنّما قال:( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) . وفي الحاقّة:( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) (٤) وظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، والمعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع.

__________________

(١) المقلى: وعاء يقلى ـ أي: ينضج ـ فيه الطعام.

(٢) الرحمن: ٤٤.

(٣) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٥.

(٤) الحاقة: ٣٦.

٤١١

( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (١) . أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل وتعافه، لضرّه وعدم نفعه.

وهذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع والزقّوم والغسلين.

روي: أنّ المشركين لـمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع. وكذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم :

( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) أي: لا يسمن أحدا، ولا يدفع جوعا. وهذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. والمعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.

وقيل: أراد الله سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) )

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) ذات بهجة وحسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات( لِسَعْيِها ) في الدنيا( راضِيَةٌ ) رضيت بعملها لـمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب لسعيها.

__________________

(١) الحجر: ٤٤.

٤١٢

( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) عليّة المحلّ أو القدر( لا تَسْمَعُ فِيها ) يا مخاطب، أو الوجوه. وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس. وبالتاء نافع.

( لاغِيَةً ) لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر والحكم، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.

( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) يجري ماؤها ولا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله:( عَلِمَتْ نَفْسٌ ) (١) . فهي اسم جنس. والتنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

( فِيها سُرُرٌ ) ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدرّ والياقوت( مَرْفُوعَةٌ ) رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك والنعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

( وَأَكْوابٌ ) جمع كوب. وهو إناء من ذهب وفضّة لا عروة له.( مَوْضُوعَةٌ ) بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

( وَنَمارِقُ ) جمع نمرقة بالفتح والضمّ، وهي الوسادة( مَصْفُوفَةٌ ) بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة(٢) واستند إلى اخرى.

( وَزَرابِيُ ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس(٣) الّتي لها خمل رقيق. جمع زربية.( مَبْثُوثَةٌ ) مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

__________________

(١) التكوير: ١٤.

(٢) المسورة: متّكأ من جلد.

(٣) الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

٤١٣

سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) )

ولـمّا نعت الله سبحانه الجنّة وما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال :

( أَفَلا يَنْظُرُونَ ) نظر اعتبار( إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، ولو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها وهي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار(١) ، ترعى كلّ نابت في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري والمفاوز. مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات وأكثرها صنعا، ولأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

وقيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك.

( وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

__________________

(١) الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

٤١٤

وبدائع الفطرة، من الشمس والقمر والكواكب، وعلّق بها منافع الخلق وأسباب معايشهم.

( وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) فهي راسخة لا تميل ولا تزول، ولولاها لمادت الأرض بأهلها.

( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

ووجه حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب ومطاع(١) نظرهم في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

وملخّص المعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به، ويستعدّوا للقائه؟ ولذلك عقّب به أمر المعاد، ورتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال:( فَذَكِّرْ ) أي: لا ينظرون، فذكّرهم ولا تلحّ عليهم( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) أي: فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله:( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٢) .

( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم وتجبرهم عليه، كقوله:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٣) . وعن الكسائي بالسين على الأصل، وحمزة بالإشمام.

( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) الاستثناء منقطع. والمعنى: لست بمستول عليهم، ولكن من تولّى عن الذكر وكفر بالله( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) الّذي هو عذاب جهنّم.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية، ولعلّ الصحيح: ومطمح.

(٢) الشورى: ٤٨.

(٣) ق: ٤٥.

٤١٥

وقيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار وقتلهم تسلّط. وكأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

وقيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه وتولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. وما بينهما اعتراض.

( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) رجوعهم بعد الموت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) في المحشر. وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، وهو الّذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

٤١٦

(٨٩)

سورة الفجر

مكّيّة. وهي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

وروى داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّعليه‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين بن عليّعليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) )

٤١٧

ولـمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه وحسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ ) أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله:( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) (١) . أو بمطلق فلقه، كقوله:( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) (٢) . أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. والأوّل أشمل وأعمّ، ومنقول عن عكرمة والحسن والجبائي، ورواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

( وَلَيالٍ عَشْرٍ ) عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد والضحّاك وابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّي. ولذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. وقيل: عشر رمضان الأخير. ولأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. ولو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم والتفخيم. ولأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) أي: والأشياء كلّها، شفعها ووترها. أو الخلق، لقوله:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (٣) والخالق، لأنّه فرد.

ومن فسّرهما بشفع هذه الليالي ووترها، وبالعناصر والأفلاك والبروج والسيّارات. أو شفع الصلوات ووترها. أو بيومي النحر وعرفة، لأنّها تاسع أيّامها

__________________

(١) المدّثر: ٣٤.

(٢) التكوير: ١٨.

(٣) الذاريات: ٤٩.

٤١٨

وذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، والوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة. أو الشفع عليّ وفاطمةعليهما‌السلام ، والوتر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو الصفا والمروة، والوتر البيت. فلعلّه(١) أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لـما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

وقرأ حمزة والكسائي: والوتر، بفتح الواو. وهما لغتان، كالحبر والحبر.

( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) إذا يمضي، كقوله:( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) (٢) . وأصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. وقد خصّه نافع وأبو عمرو بالوقف. والتقييد بذلك لـما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعم.

( هَلْ فِي ذلِكَ ) الإقسام، أو المقسم به( قَسَمٌ ) حلف، أو محلوف به( لِذِي حِجْرٍ ) يعتبره ويعظم بالإقسام به، ويؤكّد به ما يريد تحقيقه. والحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء، وهو الضبط. وفي هذا تعظيم وتأكيد لـما وقع به القسم.

والمعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته.

والمقسم عليه محذوف، وهو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) . الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لـمّا كفرت بالله وبأنبيائه، وكانت أطول أعمارا وأشدّ قوّة. وعاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

__________________

(١) خبر لقوله: ومن فسّرهما ...، في بداية الفقرة.

(٢) المدّثر: ٣٣.

٤١٩

( إِرَمَ ) عطف بيان لـ «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. وهذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. وقيل: سمّي أوائلهم ـ وهم عاد الأولى ـ بإرم اسم جدّهم، ومن بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. ومنع صرفه للعلميّة والتأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة.( ذاتِ الْعِمادِ ) ذات البناء الرفيع، أو القدود(١) الطوال. ومنه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. ورجل طويل العماد، أي: القامة. أو ذات الرفعة والثبات.

( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) صفة اخرى لـ «إرم». والضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. والمعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام وقوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

وقيل: كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، وملك المعمورة، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة وسمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

وعن عبد الله بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. وقصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد الله بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته وعقلها، وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

__________________

(١) القدود جمع القدّ: قدر الشيء وتقطيعه.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629