النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165928 / تحميل: 7984
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

عمه أبي ذؤيب، وأبي هريرة المسكين وأمثالهم(٥١١) .

وقد اعتصم بتقشفه في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه، وأخذه بالصبر عن الشهوات، والكف عن الملذات، والاكتفاء بالبلغة وأسباغه عطاياه على الأمة من الغنائم، لا يؤثر نفسه وأهله بشئ منها، ووفره على بيت المال.

وأخذه بالحزم في محاسبة العمال. ومقاسمتهم إلى كثير من أمثال هذه الأمور التي ساقت الأمة بعصاه. وأخرست الألسن وألجمت الأفواه. لم يسلم منه أحد من عماله سوى معاوية على ما بينهما من تباين المشرب والسيرة. فانه لم يحاسبه في شئ ولا عاقبه في أمر. بل تركه يسرح ويمرح على غلوائه إذ قال له: لا آمرك ولا أنهاك. ومن عرف عمر علم انه لأمر ما آثر معاوية هذا الإيثار(٥١٢) .

[ المورد - (٥٩) - تشدده على أبي هريرة ]

وذلك ان عمر بعثه واليا على البحرين سنة إحدى وعشرين، فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله وولى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة آلاف زعم انه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة، وحسبك منها ما ذكره ابن عبد ربه المالكي (فيما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم من أوائل الجزء الأول من عقده الفريد) إذ قال - وقد ذكر عمر - ثم دعا أبا هريرة فقال له: علمت إني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ؟. ثم بلغني انك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار !. قال: كانت لنا

____________________

(٥١١) الغدير ج ٦ / ٣١٦، راجع ما تقدم تحت رقم

(٤٣٤) والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٥.

(٥١٢) شيخ المضيرة أبو هريرة ص ٨٦ (*).

٣٨١

أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت. قال: حسبت لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل فأده قال: ليس لك ذلك. قال: بلى والله وأوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: ائت بها. قال: احتسبها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا، أجئت من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك لا لله ولا للمسلمين ؟ ما رجعت(١) بك أميمة إلا لرعية الحمر.

قال ابن عبد ربه: وفي حديث أبي هريرة: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه ! سرقت مال الله ؟. قال فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداك وما سرقت مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟. قال فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين ! (الحديث).

وقد أورده ابن أبي الحديد إذ ألم بشئ من سيرة عمر في المجلد الثالث من شرح النهج(٢) وأخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته الكبرى(٣) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله ؟ إلى آخر الحديث.

وأورده ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبي هريرة من اصابته فحوره عطفا على أبي هريرة تحويرا خالف فيه الحقيقة الثابتة باتفاق أهل العلم، وذهل عما يستلزمه ذلك التحوير من الطعن بمن ضرب ظهره فأدماه وأخذ ماله وعزله(٥١٣) .

____________________

(١) الرجع والرجيع العذرة والروث سميا رجعيا لانهما رجعا من حالتهما الأولى بعد ان كانا طعاما وعلفا، وأميمة أم أبى هريرة، وكلمة الخليفة هذه من أفظع كلمات الشتم (منه قدس).

(٢) ص ١٠٤ طبع مصر (منه قدس).

(٣) ص ٩٠ من قسمها الثاني من جزئها الرابع (منه قدس)

(٥١٣) تاريخ الذهبي ج ٢ / ٣٣٨، سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٢ / ٤٤٤، الغدير للأميني ج ٦ / ٢٧١، شيخ المضيرة أبو هريرة لأبي رية ص ٧٩، فتوح البلدان للبلاذري ص ٨٢ ط أوربا. (*).

٣٨٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٦٣: -

[ المورد - (٦٠) -: تشدده على سعد بن أبى وقاص بتحريق قصره عليه ]

وذلك انه استعمله على الكوفة فبلغه انه يحتجب في قصره عن الرعية، فدعا محمد بن مسلمة فقال له: اذهب إلى سعد بالكوفة فحرق عليه قصره، ولا تحدثن حدثا حتى تأتيني. فذهب محمد إلى الكوفة فأضرم النار في القصر يفاجئ بذلك سعدا، فخرج سعد وهو يقول: ما هذا ؟. فقال له محمد: هذا حزم أمير المؤمنين، فتركه حتى أحرق ثم انصرف إلى المدينة (الحديث)(٥١٤) .

[ المورد - (٦١) -: تشدده على خالد بن الوليد ]

وذلك إذ انتجعه (وهو على قنسرين من قبل عمر) الأشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف، فسمع بذلك عمر بن الخطاب، وكان لا يخفى عليه شئ من عمله، فدعا عمر البريد، فكتب معه إلى أبي عبيدة - عامله على حمص -: أن أقم خالدا على رجل واحدة معقول الأخرى بعمامته وانزع قلنسوته على رؤوس الأشهاد، من موظفي الدولة، ووجوه الشعب، حتى يعلمك من أين

____________________

(٥١٤) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٦٩، فتوح البلدان للبلاذري ص ٢٨٦، الغدير ج ٦ / ٢٧١ (*).

٣٨٣

أجاز الأشعث، أمن ماله، فهو الإسراف، والله لا يحب المسرفين، أم من مال الأمة ؟ فهي الخيانة، والله لا يحب الخائنين، واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله، فكتب أبو عبيدة إلى خالد. فقدم عليه، ثم جمع الناس، وجلس لهم على المنبر في المسجد الجامع، فقام البريد فسأل خالدا من أين أجاز الأشعث ؟ فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال الحبشي فقال ان أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ونزع عمامته، ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته، وقال: من أين أجزت الأشعث ؟ أمن مالك ؟ أم من مال الأمة ؟. فقال من مالي. فأطلقه وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده وهو يقول: نسمع لولاتنا. ونفخم ونخدم موالينا، وأقام خالد متحيرا لا يدري أمعزول أم غير معزول، إذ لم يعلمه أبو عبيدة بعزله تكرمة وتفخمة له، فلما تأخر قدومه على عمر ظن الذي كان، فكتب إلى خالد انك معزول فتنح، ثم لم يوله بعد ذلك عملا حتى مضى لسبيله(٥١٥) .

وقد ذكر العقاد هذه القضية كما في ص ٢٤٥ من أصل الكتاب إلى آخر المورد.

[ المورد - (٦٢) -: نفيه لضبيع التميمي وضربه إياه: ]

وذلك ان رجلا جاء إليه فقال: ان ضبيعا التميمي لقينا فجعل يسألنا يا أمير المؤمنين عن تفسير آيات من القرآن. فقال لي اللهم أمكني منه. فبينا هو يوما جالس يغدي الناس إذ جاءه ضبيع وعليه ثياب وعمامة، فتقدم فأكل مع

____________________

(٥١٥) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٧٥، الغدير ج ٦ / ٢٧٤، الحلبية ج ٣ / ٢٢٠، البداية والنهاية ج ٧ / ١١٥ (*).

٣٨٤

الناس حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى:( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) . فقال له ويحك: أنت هو ؟. فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا ضربت رأسك. ثم أمر به فحبس في بيت ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة ! فإذا برى أخرجه فضربه مائة أخرى ! ! ثم حمله على قتب وسيره إلى البصرة، فكتب إلى عامله أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته وأن يقوم في الناس خطيبا يقول لهم: ان ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه. فلم يزل بعدها ضبيع عند الناس وفي قومه حتى هلك، وقد كان من قبل سيد قومه(٥١٦) .

[ المورد - (٦٣) - نفيه نصر بن حجاج ]

وذلك فيما رواه عبدالله بن بريد إذ قال(١) بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب مجاف وامرأة تغني نسوة :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

فقال عمر: أما، ما عاشت فلا. فلما أصبح دعا نصر بن حجاج - وهو نصر بن حجاج بن علابط البهزي السلمي - فأبصره وهو من أحسن الناس وجها وأصبحهم وأملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره فخرجت جبهته فازدادت حسنا فقال له عمر اذهب فاعتم. فاعتم فبدت وفرته فأمره بحلقها فازداد حسنا.

____________________

(٥١٦) أخرجها أهل الأخبار مسندة وأرسلها المتتبع ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ١٢٢ من المجلد الثالث من شرح النهج طبع مصر (منه قدس). وج ١٢ / ١٠٢ ط مصر بتحقيق أبو الفضل.

(١) كما في ص ٩٩ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة (منه قدس) (*).

٣٨٥

فقال له: فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها. ثم سيره إلى البصرة فأقام بها أياما، ثم كتب لعمر كتابا فيه هذه الأبيات :

لعمري لئن سيرتني أو حرمتني

لما نلت من عرضي عليك حرام

أئن غنت الدلفاء يوما بمنية

وبعض أماني النساء غرام

ظننت بي الظن الذي ليس بعده

بقاء فمالي في الندي كلام

وأصبحت منفيا على غير ريبة

وقد كان لي بالمكتين مقام

فيمنعني مما تظن تكرمي

وآباء صدق سالفون كرام

ويمنعها مما تغنت صلاتها

وحال لها في دينها وصيام

فهاتان حالانا فهل أنت راجع

فقد جب مني كاهل وسنام

فقال عمر: أما ولي ولاية فلا. فلما قتل عمر ركب نصر راحلته ولحق بأهله في المدينة(٥١٧)

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٦٦: -

[ المورد (٦٤) -: تجاوزه الحد الشرعي في الغلظة على ولده ]

وذلك أن ولده عبدالرحمن المكنى أبا شحمة شرب الخمر في مصر أيام ولاية عمرو بن العاص عليها، فأمر به الوالي ابن العاص فحلق رأسه وجلد الحد الشرعي بمحضر من أخيه عبدالله بن عمر، فلما بلغ عمر ذلك كتب إلى ابن العاص أن يبعث به إليه في عباءة على قتب بغير وطاء وشدد عليه في ذلك، وأغلظ له القول، فأرسله إليه على الحال التي أمر بها أبوه.

وكتب إلى عمر أني أقمت الحد عليه بحلق رأسه وجلده في صحن الدار، وحلف بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذي تقام فيه الحدود على

____________________

(٥١٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٥ (*).

٣٨٦

المسلمين والذميين، وبعث بالكتاب مع عبدالله بن عمر، فقدم عبدالله بن عمر بالكتاب وبأخيه عبدالرحمن على أبيهما وهو في عباءة لا يستطيع المشي لمرضه واعيائه ومما فيه من عقر القتب، فشدد أبوه عليه وقال: يا عبدالرحمن فعلت وفعلت !. ثم صاح: السياط السياط. فكلمه عبدالرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد، وشهد بذلك أخوه عبدالله. فلم يلتفت إليه وزبره، فأخذته السياط، وجعل يصيح: أنا مريض وأنت والله قاتلي. فلم يرق له وتصام عن صياحه حتى استوفى الحد وحبسه بعده شهرا فمات(٥١٨) .

ومحل الشاهد هنا ان ابن العاص، ان كان مأمونا على حدود الله وثقة في نفس عمر فقد أخبره بإقامة الحد على ولده أبي شحمة بحضور أخيه عبدالله، وكان عبدالله من أوثق آل الخطاب في نفس أبيه، وإذا فلا وجه لإقامة الحد

____________________

(٥١٨) هذه الواقعة من الوقائع المشهورة ذكرها أهل الأخبار في أحوال عمر وخصائصه فلتراجع في ص ١٢٣ وما بعدها من المجلد الثالث من شرح النهج الحميدي طبع مصر. وتجد في ص ١٢٧ من المجلد نفسه عن بعض أولياء عمر: أنه ضرب ابنا له على الشراب فمات من ضربه. وكل من ذكر أبا شحمة ذكر ذلك حتى أن ابن عبد البر أورد هذه القضية بنحو من التنسيق والتنميق في ترجمة عبدالرحمن الأكبر بن عمر هو أخو أبى شحمة الذي هو عبدالرحمن الأوسط، ولهما أخ ثالث يدعى عبدالرحمن الأصغر كما نقلها ابن عبد البر.

وقال الدميري في مادة ديك من حياة الحيوان: وكان عمر قد حد ابنه عبدالله على الشراب فقال له وهو يحده قتلتني يا أبتاه.

(قال): والذي في كتب السير ان المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة أه‍. وعقد ابن الجوزي بابا مختصا بضرب عمر لولده على شرب الخمر، وهو الباب ٧٧ من تاريخ عمر (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ٣١٦، سنن الكبرى للبيهقي ج٨ / ٣١٢، العقد الفريد ج ٣ / ٣٧٠، تاريخ بغداد للخطيب ج ٥ / ٤٥٥، سيرة عمر لابن الجوزي ص ١٧٠ وفى طبع آخر ص ٢٠٧، الرياض النضرة ج ٢ / ٣٢ ط ١، ارشاد الساري ج ٩ / ٤٣٩، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٢ / ٣٩٤ (*).

٣٨٧

عليه مرة أخرى، وان كان ابن العاص غير مأمون على حدود ولا صادق فيما يخبر به حتى لو حلف الإيمان المغلظة كما فعل، فكيف يوليه مصر فيسلطه على أحكام الله وحدوده ؟ ودماء عباده ؟ وأعراضهم وأموالهم ؟ !. على أن المريض لا يحد قبل شفائه والمحدود لا يحبس بعد اقامة الحد عليه ولاسيما إذا كان مريضا أو أضره الحبس، لكن عمر مولع بايثار رأيه في المصلحة على النصوص.

[ المورد - (٦٥) -: قطعة شجر الحديبية ]

شجرة الحديبية هذه بويع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيعة الرضوان تحتها، فكان من عواقب تلك البيعة ان فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبينا، ونصره نصرا عزيزا، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركا بها، وشكرا لله تعالى على ما بلغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها فأمر بقطعها وقال(١) : ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد. آه(٥١٩) .

سبحان الله وبحمده والله أكبر ! ! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصره وهو رأس المارقة فيمتنع عن قتله احتراما لصلاته(٥٢٠) " ثم يستل

____________________

(١) كما في السطر الأخير من ص ٥٩ من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي (منه قدس).

(٥١٩) الغدير للأميني ج ٦ / ١٤٦، شرح النهج الحديدي ج ٣ / ١٢٢، سيرة عمر لابن الجوزي ص ١٠٧، الطبقات الكبرى لابن سعد، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩، فتح الباري ج ٧ / ٣٦١ وقد صححه، ارشاد الساري ج ٦ / ٣٣٧، شرح المواهب للزرقاني ج ٢ / ٢٠٧، الدر المنثور ج ٦ / ٧٣، عمدة القاري ج ٨ / ٢٨٤ وقال: إسناد صحيح.

(٥٢٠) كما تقدم تحت رقم (١٣١) فراجعه مع مصادره. (*)

٣٨٨

اليوم سيفه لقتل من يصلي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان ؟ ! " وي، وي ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلواتهم ؟ ان هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد (حيث يطلع قرن الشيطان)(٥٢١) .

وكم لفاروق الأمة من أمثال هذه البذرة كقوله للحجر الاسود: " انك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا اني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.. "(٥٢٢) .

ولقد كانت هذه الكلمة منه كأصل من الأصول العملية بني عليها بعض الجاهلين تحريم التقبيل للقرآن الحكيم، والتعظيم لضريح النبي الكريم ولسائر الضرائح المقدسة، ففاتهم العمل بكثير من مصاديق قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (١) ) .

ولم يكونوا في شغفهم بحب الله عزوجل على حد قول القائل :

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

____________________

(٥٢١) صحيح البخاري ك الجهاد والسير باب ما جاء في بيوت أزواج النبي ج ٤ / ٤٦ ط استانبول وج ٤ / ١٠ ط مطابع الشعب.

(٥٢٢) أخبار مكة للازرقي ج ١ / ٣٢٣ و ٣٢٩ و ٣٣٠ ط دار الأندلس، الغدير ج ٦ / ١٠٣، المستدرك للحاكم ج ١ / ٤٥٧، سيرة عمر لابن الجوزي ص ١٠٦، ارشاد الساري ج ٣ / ١٩٥، عمدة القاري ج ٤ / ٦٠٦، شرح النهج الحديدي ج ٣ / ١٢٢ ط ١ وج ١٢ / ١٠٠ ط مصر بتحقيق أبو الفضل، الفتوحات الإسلامية ج ٣ / ٤٨٦، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ٤٠ ح ١٠٧٣ ط بيروت.

(١) الآيتان في سورة الحج (منه قدس) (*).

٣٨٩

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٧٠: -

[ المورد - (٦٦) -: يوم شكته أم هاني إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ]

أخرج الطبراني في الكبير عن عبدالرحمن بن أبي رافع عن أم هاني بنت أبي طالبعليه‌السلام انها قالت: يا رسول الله ان عمر بن الخطاب لقيني فقال لي: ان محمدا لا يغني عنك شيئا. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقام خطيبا فقال: ما بال أقوام يزعمون ان شفاعتي لا تنال أهل بيتي، وان شفاعتي لتنال حاء وحكم(٥٢٣) .

وغضبصلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام آخر إذ توفي لعمته صفية ولد فعزاهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما خرجت لقيها رجل(١) فقال لها: ان قرابة محمد لن تغني عنك شيئا. فبكت حتى سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صوتها ففزع من ذلك، فخرج إليها فسألها فأخبرته فغضب فقال: يا بلال هجر بالصلاة، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام يزعمون ان قرابتي لا تنفع، ان كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة الا سببي ونسبي، وان رحمي موصولة في الدنيا والآخرة(٥٢٤) .

____________________

(٥٢٣) قبيلتان في اليمن بعيدتا النسب من قريش (منه قدس). ينابيع المودة للقندوزي ص ٢٦٧ ط اسلامبول.

(١) هو عمر بن الخطاب بلا ريب (منه قدس).

(٥٢٤) أخرجه المحب الطبري في ذخائر العقبى بالإسناد إلى ابن عباس (منه قدس). مجمع الزوائد ج ٨ / ٢١٦ وصرح بأن القائل هو عمر بن الخطاب، المعرفة والتاريخ ج ٢ / ٤٩٩، ينابيع المودة ص ٢٦٧ ط اسلامبول. وقريب منه في: فرائد السمطين ج ٢ / ٢٨٨ ح ٥٤٨ و ٥٤٩، المسند لأحمد ج ٣ / ١٨ و ٣٩ و ٦٢ ط ١، تفسير ابن كثير ج ٧ / ٣٤، إحقاق ج ٩ / ٥١٤، شرح نهج البلاغة ج ٢ / ١٨٧ ط ٢ القول الفصل للحداد ج ٢ / ١٦ =>

٣٩٠

[ المورد - (٦٧) -: يوم النجوى ]

وقد فات الخير يومئذ جميع الناس حاشا علياعليه‌السلام فانه الفائز بخيرها لا يشاركه فيه فاروق ولا صديق ولا غيرهما من سائر البشر.

واليك آيتها فتدبرها ولا تكن ممن عناهم الله بقوله تعالى: أم على قلوب أقفالها. والآية في سورة المجادلة وهي قوله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ) فلم يعمل بها سوى علي بإجماع هذه الأمة، كما تراه في تفسير الآية من كل من كشاف الزمخشري، والتفسير الكبير للطبري، والتفسير العظيم للثعلبي، ومفاتيح الغيب للرازي، وسائر التفاسير.

ودونك من الصحاح ما أخرجه الحاكم في تفسير الآية ص ٨٤٢ من الجزء الثاني من صحيحة المستدرك عن عليعليه‌السلام قال: ان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدى، آية النجوى، كان عندي

____________________

=> قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة الا سببي ونسبي "

عن عمر بن الخطاب: راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ١٠٨ ح ١٥٠ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣، تاريخ بغداد للخطيب ج ٦ / ١٨٢، سنن البيهقي ج ٧ / ٦٣ و ٦٤، حلية الأولياء ج ٧ / ٣١٤، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٢٤، تذكرة الحفاظ ج ٣ / ١١٧ وفى ط ٩١٠، مجمع الزوائد ج ٤ / ٢٧١ وج ٩ / ١٧٣، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ٤٦٣ ط بيروت، ينابيع المودة ص ٢٦٧ ط اسلامبول.

وعن ابن عباس: تاريخ بغداد للخطيب ج ١٠ / ٢٧١، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٧٣ وج ٨ / ٢١٦، الجامع الصغير ص ٢٣٦، كفاية الطالب ص ٣٨٠ ط الحيدرية، ينابيع المودة ص ٢٦٧ ط اسلامبول. (*)

٣٩١

دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت بقوله تعالى:( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ (١) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٥٢٥) .

فشمل هذا التقريع عمر وغيره من سائر الصحابة حاشا علياعليه‌السلام فانه ما أشفق من تقديم الصدقات ولا خاف الأمر ليحتاج إلى التوبة.

وقد قام الرازي هنا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنه

____________________

(١) قال الحاكم بعد إيراد هذا الحديث هنا بلفظه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قلت وصححه الذهبي من شرط الشيخين إذ أورده في تلخيص المستدرك (منه قدس).

(٥٢٥) آ ية النجوى لم يعمل به إلا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام . راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج ٢ / ٢٣٠ ح ٩٤٩ و ٩٥٠ و ٩٥١ و ٩٥٢ و ٩٥٣ و ٩٥٤ و ٩٥٥ و ٩٥٦ و ٩٥٧ و ٩٥٨ و ٩٥٩ و ٩٦٠ و ٩٦١ و ٩٦٢ و ٩٦٣ و ٩٦٤ و ٩٦٥ و ٩٦٦ و ٩٦٧ ط ١، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ٣٢٥ ح ٣٧٢ و ٣٧٣ ط ١، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٣٢٢ و ٣٥٧ ح ٢٨٣ و ٢٨٤ دلائل الصدق ج ٢ / ١٠٤، نظم درر السمطين للزرندي ص ٩٠، مقام أمير المؤمنين للعسكري ص ٥٨، ينابيع المودة للقندوزي ص ١٠٠ ط اسلامبول، المستدرك للحاكم ج ٢ / ٤٨١، مسند أحمد ج ٢ / ٢١ ط ١، المناقب للخوارزمي ص ١٩٦ ط الحيدرية، تفسير الطبري ج ٢٨ / ١٩، كفاية الطالب ص ١٣٥، سمط النجوم العوالي ج ٢ / ٤٧٤، تفسير الحبرى، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٣٩ ط مصر، تفسير ابن كثير ج ٤ / ٣٢٦، صحيح الترمذي ج ٥ / ٨٠ رقم - ٣٣٥٥ - وج ٢ / ٢٢٧ ط آخر الذهبي ج ٣ / ١٤٦، أحكام القرآن للجصاص ج ٣ / ٥٢٦، صحيح ابن حبان ج ٢ / ١٨٠، المصنف لابن أبى شيبة ج ٦، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ / ٢١، تفسير النسفي بهامش تفسير الخازن ج ٤ / ٢٤٢، تاريخ الطبري ج ٨ / ١٨٤، دلائل الصدق ج ٣ / ٢١٢، الاستيعاب بترجمة معاوية. (*)

٣٩٢

قال: ان الآية تضيق قلب الفقير وتوجب حزنه لعدم تمكنه من الصدقة، وتوحش الغني بما تشتمل عليه من التكليف، وتوجب طعن بعض المسلمين ببعض، فالعمل بها يسبب فرقة ووحشة، وترك العمل بها يسبب الفة، والذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، إلى آخر هذيانه المعارض لقوله تعالى:( ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ) . والمناقض لقوله عز اسمه:( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) فراجع هذا الهذيان منه في ص ١٦٨ من الجزء ٨ من تفسيره الكبير مفاتيح الغيب.

ولم يبق عليه إلا أن يقول: ان الزكاة والحج مثلا يضيقان قلب الفقير ويوجبان حزنه لعدم تمكنه من فعلهما، ويوحشان الغنى بما يشتملان عليه من التكليف، فالعمل بها يسبب فرقة ووحشة وترك العمل بهما يسبب ألفة ومحبة والذي يكون سببا للألفة أولى من الذي يكون سببا للوحشة، فترك الزكاة والحج أولى على قياس هذا الإمام، بل قياسه يوجب ترك الأديان كلها ترجيحا للاتفاق على الاختلاف. نعوذ بالله من سبات العقل وخطل القول وبه نستجير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[ المورد - (٦٨) -: تسامحه مع معاوية إذ ولاه أمر الشام ]

حيث أملى له في غيه، وخلا بينه وبين ما أراد، مطلقا له العنان، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، مسوما مترفا، راكبا سجيحة رأسه، لا يبالي في غير ما يختاره لنفسه، على نقيض ما يعجب عمر من سيرة أمرائه، وقد رآه في الشام أبهة كسروية، وأزياء تنفر منها جبلة عمر، ويبرأ منها فما قال له عندها سوى: لا آمرك ولا أنهاك (أ)، يقلده حبله، ويقرطه عنانه، فعاث ما شاء أن يعيث ولا راد لجماح غلوائه، ولا مقوم من صعره، فكانت عاقبة هذا الإملاء له ما

٣٩٣

كان منه في صفين من بغيه على أمير المؤمنين، وبعدها ما كان منه في ساباط مع سيد الأسباط. وبهذا اتخذ بنو أمية مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا(٥٢٦)

فانا لله وإنا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٧٤: -

[المورد - (٦٩)-: أمره بما يخالف الشرع ورجوعه عن ذلك بعد تنبيه وموارد ذلك كثيرة]

أولا: ما أخرجه محمد بن مخلد العطار في فوائد(١) : ان عمر (رض) قد أمر برجم حبلى زنت. فقال له معاذ بن جبل منكرا عليه ذلك: ان يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأبطل عمر حكمه. وقال: عجزت النساء ان يلدن معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر(٥٢٧) .

ثانيا: ما أخرجه الحاكم - في رفع عنه القلم من كتاب الحدود ص ٣٨٩ الجزء الرابع من مستدركه - بالإسناد إلى ابن العباس. قال: أتى عمر بامرأة مجنونة حبلى، فأراد أن يرجمها. فقال له علي: أو ما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة ؟. عن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى

____________________

(٥٢٦) شيخ المضيرة أبو هريرة ص ٨٦ ط ٣، المستدرك للحاكم ج ٤ / ٤٧٩ و ٤٨٠، كنز العمال ج ٦ / ٣٩ ط ١، الغدير ج ٨ / ٢٥٠.

(١) كما نص عليه ابن حجر العسقلاني في ترجمة معاذ بن جبل من اصابته (منه قدس).

(٥٢٧) الإصابة لابن حجر ج ٣ / ٤٢٧ ط ١.

وروى ان الذي اعترض عليه هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام . راجع: الغدير ج ٦ / ١١٠ و ١١١، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٦ ط ١، ذخائر العقبى ص ٨٠ و ٨١، مطالب السئول ص ١٣، المناقب للخوارزمي ص ٣٩ ط الحيدرية (*).

٣٩٤

يستيقظ. فخلى عمر عنها(٥٢٨) .

قلت: هذه غير تلك التي نبهه فيها معاذ لم تكن مجنونة، فكان له عليها سبيل، ولكن بعد وضع حملها، وإلا من عليه في حضانته بعد رجمها. اما هذه فلا سبيل له عليها مطلقا لجنونها كما لا يخفى.

ولقاضي القضاة عبد الجبار في كتابه - المغي - كلام حول الأمر برجم الحبلى كان محل البحث بينه وبين الشريف المرتضى في كتابه - الشافي - وقد أورد كلاميهما ابن أبي الحديد في هذه المواضيع ص ١٥٠ إلى ص ١٥٢ من المجلد الثالث من شرح النهج طبع مصر.

ثالثا: ما أخرجه الإمام أحمد من حديث علي - ص ١٥٤ والتي بعدها من الجزء الاول من مسنده - عن أبي ظبيان الجنبي(١) قال: ان عمر أتى بامرأة

____________________

(٥٢٨) سنن أبى داود ج ٢ / ٢٢٧، الغدير ج ٦ / ١٠١، سنن ابن ماجة ج ٢ / ٢٢٧ المستدرك للحاكم ج ٢ / ٥٩ وج ٤ / ٣٨٩ وصححه، السنن الكبرى للبيهقي ج ٨ / ٢٦٤، تيسير الوصول ج ٢ / ٥، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٦، ذخائر العقبى ص ٨١، ارشاد الساري ج ١٠ / ٩، فيض القدير ج ٤ / ٣٥٧، حاشية العزيزي على الجامع الصغير ج ٢ / ٤١٧، مصباح الظلام ج ٢ / ٥٦، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ١٤٧ ط النجف، فتح الباري ج ١٢ / ١٠١، عمدة القاري ج ١١ / ١٥١، المناقب للخوارزمي ص ٣٨ ط الحيدرية، الطرائف لابن طاووس ج ٢ / ٤٧٣.

(١) أخرجه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس بألفاظ تقارب ألفاظ أحمد. فراجع باب من رفع عنه القلم من كتاب الحدود أول ص ٣٨٩ من الجزء الرابع من المستدرك تجده صحيحا على شرط الشيخين. وأورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته.

واختصره البخاري في كتاب الحدود من صحيحه فقال ما هذا لفظه: باب لا يرجم المجنون والمجنونة وقال علي لعمر: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ انتهى بلفظ البخاري في أول ص ١١٧ من جزئه الرابع (منه قدس) (*).

٣٩٥

قد زنت فأمر برجمها، فانتزعها علي من أيديهم وردهم بها، فرجعوا إلى عمر فقالوا: ردنا علي بن أبي طالب. قال: ما فعل هذا إلا لشئ قد علمه، فأرسل إلى علي فجاءه وهو شبه المغضب. فقال له عمر: مالك رددت هؤلاء ؟. قال: أما سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل. قال: بلى. قال على: فان هذه مبتلاة بني فلان فلعله أتاها وهو بها. فقال عمر: لا أدرى فلم يرجمها(٥٢٩) .

رابعا: ما ذكره ابن القيم في كتابه - الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية -: ان امرأة جئ بها إلى عمر فأقرت بالزنى فأمر برجمها فاستمهله علي إذ لعل لها عذرا يدرأ عنها الحد ثم قال لها: ما حملك على الزنى ؟. قالت: كان لي خليط، وفي ابله ماء ولبن، ولم يكن في ابلي ماء ولبن فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت ان نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. فقال علي: الله أكبر، "( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) "(٥٣٠) .

وروى البيهقي في سننه(١) عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: أتي عمر بامرأة جهدها العطش فمرت على راع فاستسقته فأبى أن يسقيها الا أن تمكنه من نفسها ففعلت. فشاور عمر الناس في رجمها فقال علي: هذه مضطرة أرى

____________________

(٥٢٩) الغدير للأميني ج ٦ / ١٠١، المناقب للخوارزمي ص ٣٨، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ١٤٧ ط الحيدرية.

(٥٣٠) الآية ١١٥ من سورة النحل (منه قدس). كنز العمال ج ٣ / ٩٦، الغدير ج ٦ / ١٢٠.

(١) فيما نقله ابن القيم في ص ٥٣ من كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) (منه قدس) (*).

٣٩٦

أن يخلى سبيلها، ففعل عمر ذلك(٥٣١) .

خامسا: ما ذكره ابن القيم في أول ص ٥٥ من طرقه الحكيمة، إذ قال: رفعت إلى عمر امرأة أخرى وقد زنت فأقرت لديه بذلك، وكررت الإقرار به وأيدت ما فعلت من فجورها، وكان علي إذ ذاك حاضرا فقال: انها لتستهل به استهلال من لا يعلم انه حرام، فدرأ الحد عنها(٥٣٢) .

قال ابن القيم: وهذا من دقيق الفراسة. سادسا: ما نقله العلامة المعاصر أحمد أمين بك في ص ٢٨٥ من كتابه (فجر الإسلام) نقلا على كتاب (أعلام الموقعين) قال: رفعت إلى عمر قضية رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها. فتردد عمر في قتل اثنين بواحد. فقال له علي: أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة توجب القطع أكنت قاطعهم ؟. قال: نعم قال: فكذلك. فعمل برأي علي. وكتب إلى عامله أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم(٥٣٣) .

سابعا: ما قد رواه أهل السير والأخبار، واللفظ للمتتبع علامة المعتزلة ابن أبي الحديد(١) إذ قال: استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها، فأجهضت به جنينا ميتا، فاستفتى أكابر الصحابة في ذلك. فقالوا: لا شئ عليك، انما أنت مؤدب. فقال له علي: ان كانوا

____________________

(٥٣١) سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١١٩، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٦ ط ١، ذخائر العقبى ص ٨١.

(٥٣٢) (٥٣٣) (١) في ص ٥٨ من ج ١ من شرح النهج الحديدي أثناء شرح الخطبة الشقشقية (منه قدس) (*).

٣٩٧

راقبوك فقد غشوك، وان كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا، عليك غرة، يعني عتق رقبة، فرجع عمر والصحابة إلى قوله(٥٣٤) .

ثامنا: تحيره في أمر رجل من المهاجرين الأولين من أهل بدر، - وهو قدامة بن مظعون: جئ به وقد شرب الخمر فأمر به عمر أن يجلد. فقال: لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله عزوجل. فقال عمر: في أي كتاب الله اني لا أجلدك ؟. فقال: ان الله تعالى يقول في كتابه:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ) الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله بدرا والحديبية والخندق والمشاهد - فلم يدر عمر ما يقول في رده - فقال: ألا تردون عليه.

فقال ابن عباس: ان هذه الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على الباقين، لان الله عزوجل يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ثم قرأ حتى أتم الآية الأخرى.

[ ومنها ]( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ) (١) فان الله عزوجل قد نهى عن أن يشرب الخمر فأين شاربها عن التقوى بعد أن نهى عنها ؟. فقال عمر: صدقت فماذا ترون: فأفتى علي بجلده ثمانين وجرى الأمر على هذا من ذلك اليوم

____________________

(٥٣٤) الغدير للأميني ج ٦ / ١١٩، سيرة عمر لابن الجوزي ص ١١٧، فضل العلم لأبي عمر ص ١٤٦، كنز العمال ج ٧ / ٣٠٠ ط ١، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ١٧٨ ح ٢٠٦ ط بيروت.

(١) الآية ٩٠ - ٩٣ من سورة المائدة.

(٥٣٥) أخرجه الحاكم في باب مشورة الصحابة في حد الخمر من كتاب الحدود ٤ / ٣٧٦ من مستدركه مصرحا بصحته. وأورده الذهبي في التلخيص وصححه أيضا (منه قدس). المناقب للخوارزمي ص ٥٣ ط الحيدرية.

٣٩٨

تاسعا: ما نقله ابن القيم في ص ٢٧ من كتابه (الطرق الحكمية) في قضية امرأة تعلقت بشاب من الأنصار وكانت تهواه، فلما لم يساعدها احتالت عليه فأخذت بيضة فألقت صفرتها وصبت البياض على ثوبها وبين فخذيها ثم جاءت عمر صارخة تستعديه عليه فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي، وهذا أثر ما فعله بي. فسأل عمر: النساء ؟، فقلن له: ان ببدنها وثوبها أثر المني. فهم بعقوبة الشاب، والشاب يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت في أمري، فوالله ما أتيت بفاحشة، وما هممت بها ولقد راودتني عن نفسي فاعتصمت. وكان علي حاضرا، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما ؟ فنظر علي إلى الثوب ثم دعا بماء حار شديد الغليان، فصبه على الثوب فجمد ذلك البياض ثم أخذه فشمه وذاقه فعرف طعم البيض وزجر المرأة فاعترفت(٥٣٦) .

عاشرا: ما ذكر ابن القيم في ص ٣٠ والتي بعدها من طرقه الحكمية من ان رجلين من قريش دفعا إلى امرأة مائة دينار وديعة وقالا لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه، فلبثا حولا فجاء أحدهما فقال: ان صاحبي قد مات، فادفعي الي الدنانير. فأبت وقالت انكما قلتما لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه فلست بدافعتها اليك. فتوسل إليها بأهلها وجيرانها حتى دفعتها إليه.

وبعد حول تام جاء الأخر فقال: ادفعي إلي الدنانير. فقالت: ان صاحبك قد جاءني فزعم انك قدمت فطالبني بها، فدفعتها إليه. فترافعا إلى عمر: فأراد أن يقضي عليها. فقالت: ارفعنا إلى علي بن أبي طالب، فرفعهما إليه، فعرف علي انهما

____________________

(٥٣٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٦ (*).

٣٩٩

قد مكرا بها فقال للرجل أليس قلتما لها لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه ؟. قال: بلى. قال: فاذهب إذا فجئ بصاحبك تدفعه اليكما، وإلا فلا سبيل لك عليها(٥٣٧) .

الحادي عشر: ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس ص ١٩٠ من الجزء الأول من مسنده: أن عمر تحير في حكم الشك في الصلاة فقال له: يا غلام هل سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من أحد أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟. قال: فبينا هو كذلك أقبل عبدالرحمن بن عوف. فقال: فيم أنتما ؟. فقال عمر: سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله أو أحد أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع. فقال عبدالرحمن: سمعت رسول الله يقول: إذا شك أحدكم في صلاته. (الحديث)(٥٣٨) وفيه فتوى عبد الرحمن وهي على خلاف المأثور عن رسول الله عندنا فلتراجع(٥٣٩) .

وما أكثر أمثال هذه القضايا من نوادره الدالة على انقياده للحق في مثل هذه المسائل إذا عرفه، واستسلامه إلى من ينبهه إليه إذا جهله(٥٤٠) لكنه كان

____________________

(٥٣٧) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٦، الأذكياء لابن الجوزي ص ١٨، أخبار الظراف لابن الجوزي ص ١٩، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٧، ذخائر العقبى ص ٨٠، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ١٤٨ ط الحيدرية، المناقب للخوارزمي ص ٥٣ ط الحيدرية.

(٥٣٨) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٢، مسند أحمد ج ١ / ١٩٠ و ١٩٥، سنن البيهقي ج ٢ / ٣٣٢.

(٥٣٩) فانه في فتوى عبدالرحمن البناء على الأقل. وأما عندنا فالبناء على الأكثر إذا لم يكن مبطلا هذا في الركعات. راجع: جامع أحاديث الشيعة ج ٥ / ٥٩١ - ٦١٤.

(٥٤٠) الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ / ٣٩، ذخائر العقبى ص ٨١ و ٨٢، تذكرة =>

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629