النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165826 / تحميل: 7981
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

علق. اقرأ وربك الأكرم. قالت عائشة: فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف بها فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني. زملوني. فزملوه فقال لخديجة وقد أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك أبدا، انك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

قالت عائشة فانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا - شابا - ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال: أو مخرجي هم ؟. (الحديث)(١) .

تراه نصا في ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان - والعياذ بالله - مرتابا في نبوته بعد تمامها، وفي الملك بعد مجيئه إليه، وفي القرآن بعد نزوله عليه، وانه كان من الخوف على نفسه في حاجة إلى زوجته تشجعه، والى ورقة الهم الأعمى الجاهلي المتنصر يثبت قدمه، ويربط على قلبه، ويخبره عن مستقبله إذ يخرجه قومه، وكل ذلك ممتنع محال.

وقد أمعنا في أخذ الملك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وغطه إياه مرتين يبلغ منه الجهد فيأخذ نفسه ويرجف فؤاده، ويخيفه على مشاعره، فلم نجد له وجها يليق بالله تعالى، ولا بملائكته، ولا برسله، ولاسيما مع اختصاص خاتم النبيين

____________________

(١) راجع من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري ص ١٧١ من جزئه الأول (منه قدس) (*).

٤٤١

بهذا، إذ لم ينقل عن أحد منهمعليهم‌السلام انه جرى له مثل ذلك عند ابتداء الوحي إليه، كما صرح به بعض شارحي هذا الحديث من صحيح البخاري(١) .

وقد وقفنا على المحاورة التي جرت - بمقتضى هذا الحديث السخيف - بين الملك والنبي فرأينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعيدا كل البعد عن فهم مراد الملك من تكليفه إياه بالقراءة، إذ قال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، فان مراد الملك ان يتابعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يتلوه عليه، لكن النبي انما فهم منه أن ينشئ القراءة في حال انه لم يكن قارئا، وكأنه ظن - والعياذ بالله - أن يكلفه بغير المقدور وكل ذلك ممتنع ومحال، وما من شك في انه فرية ضلال، وهل يليق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يفهم خطاب الملك ؟ أو يليق بالملك ان يكون قاصرا عن الأداء فيما يوحيه عن الله، تعالى الله وملائكته ورسله عن ذلك.

فالحديث باطل من حيث متنه، وباطل من حيث سنده، وحسبك في بطلانه من هذه الحيثية كونه من المراسيل، بدليل انه حديث عما قبل ولادة عائشة بسنين عديدة فانها انما ولدت بعد المبعث بأربع سنين في أقل ما يفرض، فأين هي عن مبدء الوحي ؟ وأين كانت حين نزول الملك في غار حراء على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فان قلت: أي مانع لها أن تسند هذا الحديث إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سمعته ممن حضر مبدأ الوحي.

قلنا: لا مانع لها من ذلك، غير ان هذا الحديث في هذه الصورة لا يكون حجة، ولا يوصف بالصحة، وانما يكون مرسلا، حتى نعرف الذي سمعته

____________________

(١) تجده في باب بدء الوحي من الجزء الأول من صحيح البخاري. وفى تفسير سورة اقرأ من جزئه الثالث، وأخرجه أيضا في التعبير والإيمان. وتجده في الإيمان من صحيح مسلم. وأخرجه الترمذي والنسائي في التفسير (منه قدس) (*).

٤٤٢

منه، ونحرز عدالته، فان المنافقين على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا كثيرين، وكان فيهم من يخفي نفاقه على عائشة، بل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (٦٣١) .

والقرآن الكريم يثبت كثرة المنافقين على عهد النبي، واخواننا يوافقوننا على ذلك، لكنهم يقولون: ان الصحابة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأجمعهم عدول، حتى كأن وجود النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بين ظهرانيهم كان موجبا لنفاق المنافقين منهم، فلما لحق بالرفيق الأعلى، وانقطع الوحي، حسن إسلام المنافقين، وتم إيمانهم، فإذا هم أجمعون اكتعون أبصعون ثقات عدول مجتهدون، لا يسألون عما يفعلون وان خالفوا النصوص ونقضوا محكماتها. وهذا الحديث يمثل سائر مراسيلها( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) (٦٣٢) .

____________________

(٦٣١) سورة التوبة: ١٠١.

(٦٣٢) سورة يس: ٢٦.

٤٤٣

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٢٣: -

[ المورد - (٨٥) - خروجها على الإمام ]

وحسبك خروجها على الإمام طلبا بدم عثمان، بعد تحاملها عليه، وإغرائها الناس به وقولها فيه ما قالت(٦٣٣) .

____________________

(٦٣٣) هنا نصوص شتى خالفتها أم المؤمنين في سيرتها مع على وعثمان، لعلها تربو في عددها على كل ما تقدمها من النصوص التي تأولها الخلفاء الثلاثة، فلم يعملوا على مقتضاها، وحسبك من موارد مخالفتها ما تراه في أصل الكتاب كمورد واحد، ولا تنس ما مر عليك آنفا مما أخرجه مسلم عنها من عدة طرق: ان الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت الحضر، روت ذلك ثم لم تعمل به، بل تأولته كما سمعت نصه في صحيح مسلم (منه قدس).

كما تقدم تحت رقم (٥٦٨ و ٦٢٨ و ٦٢٩) (*).

٤٤٤

وقد قال الله تعالى فيما أمر به نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في محكمات الكتاب من سورة الأحزاب:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٦٣٤) ،

لكن السيدة خرجت على الإمام بعد انعقاد البيعة له، وإجماع أهل الحل والعقد عليه، وكان أول من بايعه طلحة والزبير من السابقين الأولين إلى ذلك(٦٣٥) .

خرجت هذا الخروج من بيتها الذي أمرها الله أن تقر فيه، وكان خروجها على قعود من الإبل، تقود ثلاثة آلاف من طغام الناس، وأوباش العرب، وفيهم - بكل أسف - طلحة والزبير، وقد نكثا البيعة، فكانت تعلو بجيشها الجبال، وتهبط الأودية، وتجوب الفيافي وتقطع المفاوز والقفار، حتى أتت البصرة وعليها من قبل أمير المؤمنين عثمان بن حنيف الأنصاري، ففتحها بعد تلك الدماء المسفوكة، والحرمات المهتوكة، وكان ما كان مما لم يكن في الحسبان من فظائع وفجائع فصلها أهل السير والأخبار، وتعرف هذه الواقعة عندهم بوقعة الجمل الأصغر، وكان لخمس بقين من ربيع الثاني سنة ست وثلاثين للهجرة، وذلك قبل مجئ عليعليه‌السلام إلى البصرة(٦٣٦) .

ثم لما أتى إلى البصرة بمن معه نهدت إليه عائشة بمن معها تذوده عنها ،

____________________

(٦٣٤) سورة الأحزاب: ٣٣. (٦٣٥) لأجل المزيد من الاطلاع حول خروجها على أمير المؤمنين: راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة ق ١، كتاب الجمل للشيخ المفيد ط الحيدرية وراجع ما تقدم تحت رقم (٥٦٨ و ٥٧٠ و ٦٢٨).

(٦٣٦) تاريخ الطبري ج ٤ / ٤٧٤، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ٢٢٨، أسد الغابة ج ٢ / ٣٨، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٢ / ٤٨١ ط ١. وراجع ما تقدم تحت رقم (٥٧٠)، سبيل النجاة في تتمة المراجعات رقم (٤٤٣) (*).

٤٤٥

فكف يده ودعاها إلى السلام بكلام يأخذ بالأعناق إلى ذلك، لكنها أصرت على الحرب وبدأته بالقتال، فلم يسعه حينئذ الا العمل بقوله تعالى:( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (٦٣٧) وبذلك فتح الله عليه، لكن بعد جهاد عظيم أبلى فيه المؤمنون بلاء حسنا، وتسمى هذه الواقعة وقعة الجمل الأكبر وكانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين للهجرة.

وهاتان الوقعتان متواترتان تواتر وقعات صفين والنهروان وبدر وأحد والأحزاب، وقد فصلهما من فصل حوادث سنة ست وثلاثين للهجرة(١) وذكرهما أو أشار إليهما كل من أرخ حياة علي (ع) وعائشة وسائر من كان مع كل منهما من الصحابة والتابعين من أهل المعاجم والتراجم(٦٣٨) .

____________________

(٦٣٧) سورة الحجرات: ٩.

(١) كهشام بن محمد الكلبى في كتابه الجمل. والطبري في تاريخ الأمم والملوك وابن الأثير في كامله. والمدائني في كتابه الجمل وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين. ولا يفوتنكم ما في المجلد الثاني من شرح النهج لابن أبى الحديد طبع مصر وعليكم منه ص ٧٧ وما بعدها إلى ص ٨٢ إذ شرح قول أمير المؤمنين (النساء نواقص الحظوظ. إلى آخره)، ولا تفوتنكم منه ص ٤٩٦ وما بعدها إذ شرح قوله: فخرجوا يجرون حرمة رسول الله. الخطبة (منه قدس).

(٦٣٨) وحسبكم من ذلك الاستيعاب وأسد الغابة، والإصابة، وطبقات ابن سعد وغيرها (منه قدس).

لأجل التفصيل حول ذلك وأسماء الصحابة الذين استشهدوا مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في يوم الجمل الأكبر: راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة ق ١ / ١٢١ - ٢٠٠، الجمل للشيخ المفيد ط الحيدرية، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٩ - ٣٦٠، أسد الغابة ج ١ / ٣٨٥ وج ٢ / ١١٤ و ١٧٨ وج ٤ / ٤٦ و ١٠٠ وج ٥ / ١٤٣ و ١٤٦ و ٢٨٦، الإصابة ج ١ / ٢٤٨ و ٥٠١ وج ٢ / ٣٩٥، سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٠٤ تحت رقم (٤٤٤) (*) .؟

٤٤٦

[ حول هذه المأساة ]

وقال كل من صنف في السير والأخبار " فيما نص عليه ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة(١) ": ان عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، حتى انها أخرجت ثوبا من ثياب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته(٦٣٩) .

(قالوا): أن أول من سمى عثمان نعثلا لعائشة، وكانت تقول: " اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، اقتلوا نعثلا فقد كفر "(٦٤٠) وكان طلحة والزبير من أشد المؤلبين عليه وأشدهما كان طلحة(٦٤١)

وروى المدائني في كتاب الجمل وغير واحد من اثبات السير (قالوا): لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة، وحين بلغها قتله لم تكن تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر، فقالت: بعدا لنعثل وسحقا، ايه ذا الاصبع أيه أبا شبل ايه يا ابن عم، لكأني أنظر إلى اصبعه وهو يبايع(٦٤٢) .

____________________

(١) ص ٧٧ من المجلد الثاني (منه قدس).

(٦٣٩) تاريخ أبى الفداء ج ١ / ١٧٢، أنساب الأشراف ج ٥ / ٤٨ و ٨٨، الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى ج ٤ / ١٨٠، الغدير ج ٨ / ١٢٣ وج ٩ / ٧٧ وما بعدها وراجع ما تقدم تحت رقم (٦٢٨)، المعيار والموازنة ص ٢١، شيخ المضيرة أبو هريرة ص ١٨١.

(٦٤٠) تقدما تحت رقمي (٦٢٨ و ٦٢٩).

(٦٤١) الغدير ج ٩ / ٩١ - ١٠٩، شرح النهج الحديدي ج ٢ / ٥٠٦ ط ١، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٣٩ و ١٢٢ و ١٤٣ و ١٦٥ و ١٥٤، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ٨٧ ط بيروت تاريخ بن خلدون ج ٢ / ٣٩٧، أنساب الأشراف ج ٥ / ٤٤ و ٩٠ و ٧٤ و ٧٦ و ٨١، الإمامة والسياسة ج ١ / ٣٤، العقد الفريد ج ٢ / ٢٦٩. راجع بقية المصادر في الغدير ج ٩.

(٦٤٢) الغدير ج ٩ / ٨٢، أنساب الأشراف للبلاذرى ج ٢ / ٢١٧ (*).

٤٤٧

(قالوا): وكان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتيح بيت المال، وأخذ نجائب كانت لعثمان في داره، ثم لما فسد أمره دفعها إلى علي بن أبي طالب (ع)(٦٤٣) .

وروى الطبري(١) وغيره بالإسناد إلى أسد بن عبدالله عمن أدركهم من أهل العلم: ان عائشة لما انتهت إلى سرف راجعة في طريقها إلى مكة، لقيها عبد ابن أم كلاب، وهو عبد ابن أم سلمة ينسب إلى أمه، فقالت له: مهيم ؟ قال: قتلوا عثمان فمكثوا ثمانيا. قالت: ثم صنعوا ماذا. قال: أخذها أهل المدينة بالإجماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت على هذه ان تم الأمر لصاحبك، ردوني ردوني فارتدت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لاطلبن بدمه. فقال لها ابن أم كلاب: ولم ؟ فوالله ان أول من أمال حرفه لانت، ولقد كنت تقولين " اقتلوا نعثلا فقد كفر " قالت: انهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير من قولي الأول فقال لها ابن أم كلاب :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا انه قد كفر

فهبنا اطعانك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرؤ

يزيل الشبا ويقيم الصعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر(٢)

____________________

(٦٤٣) الغدير ج ٩ / ٨٢.

(١) في ص ٤٧٦ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٢) أورد ابن الأثير وغيره هذه القضية وهذه الأبيات، وهى من الشهرة بمكان (منه قدس) (*).

٤٤٨

قال: فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد، فقصدت الحجر، واجتمع الناس إليها فقالت: يا أيها الناس ان عثمان قتل مظلوما، والله لاطلبن بدمه(٦٤٤)

وأثارتها فتنة عمياء بكماء انتقاما من علي خليل النبوة، والمخصوص بالاخوة، وما كان بالقاتل لعثمان أو المحرض عليه، أو الراضي بقتله(٦٤٥)

وكان مما قالته - كما في الكامل(١) لابن الأثير وغيره -: ان الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه، وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل فقتلوه ظلما، ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه. وقد استعمل أمثالهم من كان قبله، ومواضع من الحمى حماها، فتاب ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا غدرا بادره بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لاصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. فقال عبدالله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب. وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة(٦٤٦) .

____________________

(٦٤٤) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٧٢، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٠٥، الغدير ج ٩ / ٨٠، تذكرة الخواص ص ٦٤.

(٦٤٥) كما يعلمه كل مصنف من هذه الامة وغيرها (منه قدس). بل كان محايدا كما يشير إليه قوله: " لو أمرت به لكنت قاتلا أو نهيت عنه لكنت ناصرا غير ان من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير منى وأنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الاثرة وجزعتم فأسأتم الجزع ولله حكم واقع في المستأثر والجازع " نهج البلاغة الخطبة: ٣٠

(١) ص ١٠٣ من جزئه الثالث (منه قدس)

(٦٤٦) الكامل لابن الأثير ج ٣ / ٦٠٦، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٥. (*).

٤٤٩

[ موقف أم سلمة في هذه الفتنة ]

ذكر أهل السير والأخبار - كما في ص ٧٧ والتي بعدها من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدي -: ان عائشة جاءت إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها: يا ابنة أبي أمية أنت أول مهاجرة من ازواج النبي، وأنت أكبر أمهات المؤمنين، وكان رسول الله يقسم لنا في بيتك، وكان جبرائيل أكثر ما يكون في منزلك.

فقالت لها أم سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة فقالت عائشة: ان القوم استابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائما في الشهر الحرام وقد عزمت على الخروج إلى البصرة، ومعي الزبير وطلحة، فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا.

فقالت أم سلمة: انك كنت بالأمس تحرضين على عثمان، وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك ألا نعثلا، وانك لتعرفين منزلة علي عند رسول الله ؟.

قالت: نعم.

قالت: أتذكرين يوم أقبل ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال، فأردت ان تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلت: ما شأنك ؟.

فقلت: أتيتهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي: ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ؟. فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي وهو محمر الوجه غضبا فقال: ارجعي وراءك والله لا يبغضه احد من الناس الا وهو خارج من الإيمان. فرجعت نادمة ساخطة.

٤٥٠

فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك(٦٤٧)

قالت وأذكرك أيضا: كنت أنا وأنت مع رسول الله، فقال لنا أيتكن صاحبة الجمل الأدب(١) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك فضرب على ظهرك فقال: إياك أن تكونيها يا حميراء.

قالت أم سلمة: اما أنا فقد أنذرتك

قالت عائشة: أذكر ذلك(٦٤٨)

فقالت أم سلمة: واذكري أيضا يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله في سفر له، وكان علي يتعاهد نعل رسول الله فيخصفها. وثيابه فيغسلها، فنقب نعله فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر، وقمنا إلى الحجاب ودخلا يحدثانه فيما أراد إلى أن قالا: يا رسول الله، انا لا ندري أمد ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا. فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون. فسكتا ثم خرجا، فلما خرجا خرجنا إلى رسول الله فقلت له أنت وكنت أجرأ عليه منا: يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم ؟. فقال: خاصف النعل فنزلنا فرأيناه عليا فقلت: يا رسول الله ما أرى الا عليا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : هو ذاك.

قالت عائشة: نعم اذكر ذلك.

فقالت لها أم سلمة: فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة. فقالت: انما أخرج للإصلاح بين الناس(٦٤٩) .

____________________

(٦٤٧) حديث مناجات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عليعليه‌السلام ومجيئها اليهما يوجد في :

(١) الأدب: الجمل الكثير الشعر (منه قدس).

(٦٤٨) سوف يأتي هذا الحديث مع مصادره.

(٦٤٩) مجئ عائشة إلى أم سلمة وطلبها الخروج معها يوجد في: =>

٤٥١

وجاءتها أم سلمة بعد هذا - فيما رواه أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث - فنهتها عن الخروج بكلام شديد جاء فيه: ان عمود الإسلام لا يثأب بالنساء ان مال، ولا يرأب بهن ان صدع حماديات النساء غض الأطراف، وخفر الأعراض، ما كنت قائلة لو أن رسول الله عارضك في بعض هذه الفلوات، ناصة قلوصا من منهل إلى آخر ؟ والله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس، لاستحييت أن ألقى محمدا هاتكة حجابا ضربه علي، إلى آخر كلامها(٦٥٠) الذي لم تصغ إليه عائشة.

وحينئذ كتبت أم سلمة إلى عليعليه‌السلام من مكة. أما بعد: فان طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة ومعهم عبدالله بن عامر، يذكرون أن عثمان قتل مظلوما والله كافيهم بحوله وقوته، ولولا ما نهانا الله عن الخروج، وأنت لم ترض به لم أدع الخروج اليك والنصرة لك، ولكني باعثة اليك بابني وهو عدل نفسي عمر بن أبي سلمة يشهد مشاهدك فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا، فلما قدم عمر على علي أكرمه، ولم يزل معه حتى شهد مشاهده كلها(٦٥١) .

____________________

=> المعيار والموازنة للاسكافي المعتزلي ص ٢٧ - ٢٩، الغدير ج ٢ / ٣١٩ وج ٩ / ٨٣.

(٦٥٠) وقد أورده بتمامه علامة المعتزلة ابن أبى الحديد في ص ٧٩ من المجلد الثاني من شرح النهج، وفسر ثمة ألفاظه الغريبة فراجع. وقد أبلت أم سلمة بكلامها هذا البلاء الحسن من النصح لله تعالى ولرسوله وللأمة ولعائشة بالخصوص وجاهدت به في سبيل الله أتم الجهاد وأفضله، وشتان بين جهادها وجهاد تلك (منه قدس). وقريب منه في: تذكرة الخواص ص ٦٥.

(٦٥١) المعيار والموازنة للاسكافي ص ٣٠، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١١٣، =>

٤٥٢

[ موقف حفصة ]

أرسلت عائشة حفصة وغيرها من أمهات المؤمنين (كما نص عليه غير واحد من اثبات أهل الأخبار) تسألهن الخروج معها إلى البصرة(١) فما أجابها إلى ذلك منهن الا حفصة، لكن أخاها عبدالله أتاها فعزم عليها بترك الخروج، فحطت رحلها بعد أن همت(٦٥٢) .

[ موقف الأشتر ]

وكتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهي بمكة: أما بعد فانك ظعينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أمرك أن تقري في بيتك، فان فعلت فهو خير لك، وان أبيت الا أن تأخذي منسأتك، وتلقي جلبابك، وتبدي للناس شعيراتك قاتلتك حتى أردك إلى بيتك، والموضع الذي يرضاه لك ربك(٦٥٣) .

____________________

=> تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٧، تذكرة الخواص ص ٦٥.

(١) وكن حينئذ معتمرات كما كانت عائشة وطلحة والزبير (منه قدس).

(٦٥٢) كما في ص ٨٠ من المجلد الثاني من شرح النهج (منه قدس). تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٧ و ١٦٩، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٠٦. (٦٥٣)

٤٥٣

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٣٣: -

[ القيادة العامة في هذه الفتنة ]

كانت القيادة العامة فيها لعائشة، تصدر الأوامر وتنظم العساكر، وتعين الأمراء، وتعزل منهم من تشاء(٢) ، وتوجه الرسل بكتبها التي أشاعتها في المسلمين تؤلبهم على أمير المؤمنين، وتدعوهم إلى نصرتها عليه، فلباها من لباها، ورد عليها جماعة من ذوي البصائر وأولي الألباب، لكن بني أمية بذلوا لهذا الخروج أموالهم، وأقبلوا من كل حدب إلى حيث وقفت، وكان مروان في جيشها، لكنه كان يرمي بنبله تارة جيشها وأخرى جيش علي ويقول أيهما أصيب كان الفتح، حتى قيل هو الذي رمى طلحة فقتله(٦٥٤) .

[ خروج عائشة من مكة إلى البصرة ]

ولما أرادت عائشة الخروج من مكة إلى البصرة، جمعت إليها بني أمية وأولياءهم فأداروا الرأي، فقال بعضهم: نسير إلى علي فنقاتله، فقالت عائشة وجماعة آخرون: ليس لكم طاقة بأهل المدينة. وقال بعضهم: نسير إلى الشام. فقالت عائشة وغيرها: يكفيكم الشام معاوية، ولكن نسير حتى ندخل البصرة

____________________

(٢) روى الشعبي عن مسلم بن أبى بكرة عن أبيه أبى بكرة (كما في ص ٨١ من حديثا عن رسول الله كنت سمعته: " لن يفلح قوم تدبر أمرهم امرأة " فانصرفت عنهم واعتزلتم. أه‍. قال ابن أبى الحديد. وقد روى هذا الخبر على صورة أخرى: ان قوما يخرجون بعدى في فئة رأسها امرأة. قال وكان الجمل لواء البصرة لم يكن لواء غيره (منه قدس).

(٦٥٤) مروان هو الذي قتل طلحة: الغدير ج ٩ / ٩٦، تاريخ ابن عساكر ج ٧ / ٨٤، تذكرة الخواص ص ٧٧، الإصابة ج ٢ / ٢٣٠، المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٧٠، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٥٩، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٥، العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٢٤، صفة الصفوة ج ١ / ١٣٢، أسد الغابة ج ٣ / ٦١، دول الإسلام للذهبي ج ١ / ١٨، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ٢٤٧، مرآة الجنان لليافعي ج ١ / ٩٧، تهذيب التهذيب ج ٥ / ٥١، تاريخ ابن الشحنة بهامش الكامل ج ٧ / ١٨٩ (*).

٤٥٤

والكوفة، ولطلحة في الكوفة هوى، وللزبير بالبصرة أولياء، فاتفقوا على ذلك. وحينئذ تبرع عبدالله بن عامر لهم في مال كثير، وابل كثيرة، وأعانهم يعلى بن أمية بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلا منهم، وحمل عائشة على جمل يقال له عسكرا(٦٥٥) وكان عظيم الخلق شديدا، فلما رأته أعجبها، وأنشأ الجمال يحدثها بقوته وشدته، ويسميه في أثناء كلامه عسكرا، فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت وقالت: ردوه لا حاجة لي فيه، وذكرت ان رسول الله ذكره لها بهذا الاسم ونهاها عن ركوبه.

فطلب لها الناس غيره فلم يجدوا لها ما يشبهه فغيروا لها جلاله وقالوا لها: أصبنا لك أعظم منه وأشد قوة. فهدأ روعها ورضيت به(٦٥٦) وما خرجت من مكة حتى استنفذت ما في وسع الأمويين من نصرة لها ثم مضت على غلوائها.

[ ماء الحوأب ]

روى الاثبات من أهل الأخبار، عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله انه قال يوما لنسائه وهن جميعا عنده: أيتكن صاحبة الجمل الأدب، تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم في النار، وتنجو بعد ما كادت ؟(٦٥٧) .

____________________

(٦٥٥) شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٢ / ٨٠ ط ١ وج ٦ / ٢٢٤، نور الأبصار ص ٨٢، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٦٥، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٧، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٧.

(٦٥٦) تجد هذا في ص ٨٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحديدي (منه قدس).

(٦٥٧) تجد هذا الحديث بلفظه في ص ٤٩٧ من المجلد الثاني من شرح النهج =>

٤٥٥

وقد روى جميع أهل السير والأخبار: ان عائشة لما انتهت في مسيرها إلى الحوأب، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها، فقال قائل من أصحابها: ألا ترون ما أكثر كلاب الحوأب وأشد نباحها. فأمسكت أم المؤمنين بزمام بعيرها وقالت: وانها لكلاب الحوأب ؟ ! ردوني ردوني فاني سمعت رسول الله يقول. وذكرت الحديث.

فقال لها قائل: مهلا يرحمك الله فقد جزنا ماء الحوأب: فقالت: هل من شاهد ؟ فلفقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا، فحلفوا لها ان هذا ليس بماء الحوأب(١) فسارت لوجهها حتى انتهت إلى حفر أبي موسى قريبا من البصرة(٦٥٨) .

____________________

=> الحديدي (منه قدس). وراجع: الأعلام للماوردي ص ٨٢، الفائق للزمخشري ج ١ / ١٩٠، النهاية لابن الأثير ج ٢ / ١٠، القاموس ج ١ / ٦٥، كفاية الطالب ص ٧١ ط الغرى وص ١٧١ ط الحيدرية، المواهب اللدنية ج٢ / ١٩٥، شرح الزرقاني ج ٧ / ٢١٦، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٤، كنز العمال ج ٦ / ٨٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٣١٣، السيرة الدحلانية بهامش الحلبية ج ٣ / ١٩٣، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ٦٧، الغدير للأميني ج ٣ / ١٨٨.

(١) تجد ذلك كله بعين لفظه في آخر ص ٨٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحديدي، لكن إنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بركوب الجمل والمرور على ماء الحوأب ونبح كلابه لمن الحديث المستفيض عنه، المعدود في أعلام النبوة وآيات الإسلام، لا يجهله أحد من خاصة هذه الأمة والكثير من عوامها في كل خلف منها حتى هذه الأيام (منه قدس).

(٦٥٨) النبي يحذر عائشة من أن تنبحها كلاب الحوأب وقد نقل بألفاظ متعددة راجع: العقد الفريد ج ٤ / ٣٣٢ ط ٢ وج ٢ / ٢٨٣ ط آخر، تاريخ الطبري ج ٤ / ٤٥٧ و ٤٦٩ ط دار المعارف، النهاية لابن الأثير ج ١ / ٤٥٦ وج ٢ / ٩٦، كفاية الطالب ص ١٧١ ط الحيدرية وص ٧١ ط الغرى، مجمع الزوائد ج ٧ / ١٣٤، إسعاف الراغبين =>

٤٥٦

[ موقف أبى الأسود الدؤلي من عائشة وطلحة والزبير ]

لما انتهت عائشة بجيشها إلى حفر أبي موسى، أرسل عثمان بن حنيف وهو يومئذ عامل أمير المؤمنين على البصرة أبا الأسود الدؤلي إلى القوم ليعلم له علمهم، فدخل على عائشة فسألها عن مسيرها. فقالت: أطلب بدم عثمان.

قال: انه ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.

قالت: صدقت، ولكنهم مع علي ابن أبي طالب في المدينة، وجئت استنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان، ولا نغضب لعثمان من سيوفكم ؟ !

فقال لها: ما أنت من السوط والسيف، انما أنت حبيس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك، وليس على النساء قتال، ولا لهن الطلب بالدماء، وان أمير المؤمنين لأولى بعثمان منك وأمس رحما، فانهما أبناء عبد مناف، فقالت: لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه، أفتظن يا أبا الأسود ان أحدا يقدم على قتالي ؟ ! قال أما والله لنقاتلنك قتالا أهونه الشديد!.

ثم قام فأتى الزبير فقال: يا أبا عبدالله عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول: لا أحد أولى بهذا الأمر من علي بن أبي طالب، فأين هذا المقام من ذاك ؟. فذكر له: دم عثمان.

فقال: انما أنت وصاحبك وليتماه فيما بلغنا. قال فانطلق إلى طلحة فاسمع ما يقول. فذهب إلى طلحة فوجده

____________________

=> بهامش نور الأبصار ص ٦٤ ط العثمانية وص ٦٥ ط السعيدية، المستدرك على الصحيحين ج ٣ / ١٢٠، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ / ٣٦١، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ / ٥٩ ط مصطفى محمد، نور الأبصار ص ٨٢ ط العثمانية، تذكرة الخواص ص ٦٦، تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٥٧ ط الغرى، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٧، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٧، تاج العروس ج ١ / ٢٤٤ و ١٩٥، الغدير للأميني ج ٣ / ١٨٨ - ١٩١ (*).

٤٥٧

سادرا في غيه مصرا على الحرب والفتنة، فرجع حينئذ إلى عثمان بن حنيف فقال: انها الحرب فتأهب لها(٦٥٩) .

[ عائشة وابن صوحان ]

كتبت عائشة - وهي في البصرة - إلى زيد بن صوحان العبدي: من عائشة أم المؤمنين، بنت أبي بكر الصديق، زوجة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد ابن صوحان، (أما بعد) فأقم في بيتك وخذل الناس عن ابن أبي طالب وليبلغني عنك ما أحب فانك أوثق أهلي عندي والسلام.

فأجابها - كما في شرح النهج الحديدي الحميدي -: من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر. (أما بعد) فان الله أمرك بأمر، وأمرنا بأمر، أمرك أن تقري في بيتك، وأمرنا ان نجاهد، وقد أتاني كتابك تأمريني ان أصنع خلاف ما أمرني الله به، فأكون قد صنعت ما أمرك به الله، وصنعت أنت ما به أمرني، فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك لا جواب له(٦٦٠) .

[ جارية بن قدامة السعدي وعائشة ]

روى الطبري، بالإسناد إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر قال(١) : أقبل

____________________

(٦٥٩) الإمامة والسياسة ج ١ / ٥٧، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٢ / ٨١ ط ١، العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٨، الغدير ج ٩ / ١٠٦

(٦٦٠) شرح النهج لابن أبى الحديد، أحاديث أم المؤمنين عائشة للعسكري، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١١٠، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٣ و ١٨٨.

(١) في الجزء السادس من تاريخه ص ٤٨٢ منه، وكذلك حكاية السعدي مع طلحة والزبير ومحاورة الجهينى مع محمد بن طلحة (منه قدس) (*).

٤٥٨

جارية بن قدامة السعدي على عائشة فقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح، انه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، انه من رأى قتالك فانه يرى قتلك ان كنت أتيتنا طائعة فأرجعي إلى منزلك، وان كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس(٦٦١) .

[ شاب من بنى سعد يؤنب طلحة والزبير فيقول لهما ]

صنتم حلائلكم وقدتم أمكم

هذا لعمرك قلة الإنصاف

أمرت بجر ذيولها في بيتها

فهوت تشق البيد بالايجاف

غرضا يقاتل دونها أبناؤها

بالنبل والخطي والأسياف(٦٦٢)

[ غلام من جهينة ومحمد بن طلحة ]

أقبل الجهيني على محمد بن طلحة فقال: أخبرني عن قتلة عثمان. فقال: نعم دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج يعني عائشة، وثلث على صاحب الجمل الأحمر يعني أباه طلحة، وثلث على علي بن أبي طالب فضحك الغلام الجهيني ولحق بعلي وهو يقول :

سألت ابن طلحة عن هالك

بجوف المدينة لم يقبر

فقال ثلاثة رهط هم

أماتوا ابن عفان فاستعبر

فثلث على تلك في خدرها

وثلث على راكب الأحمر

____________________

(٦٦١) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٧٦، أحاديث أم المؤمنين عائشة للعسكري، تذكرة الخواص ص ٦٧، الإمامة والسياسة ج ١ / ٦٠، الغدير ج ٩ / ١٠٠.

(٦٦٢) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٧٦، تذكرة الخواص ص ٦٧ (*).

٤٥٩

وثلث على ابن أبي طالب

ونحن بدوية قرقر

فقلت صدقت على الأولين

وأخطأت في الثالث الأزهر(٦٦٣)

[ الأحنف بن قيس وعائشة ]

روى البيهقي في المحاسن والمساوي (ج ١ ص ٣٥) عن الحسن البصري ان الأحنف ابن قيس قال لعائشة يوم الجمل: يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله هذا المسير ؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره. قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون. قال: فهل رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة قالت: اللهم لا. قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا ؟(٦٦٤) .

وفي رواية أخرى انه قال لها: يا أم المؤمنين إني سائلك ومغلظ لك في المسألة فلا تجدي علي. فقالت له: قل نسمع. قال: أعندك عهد من رسول الله في خروجك هذا ؟. فلم يكن في وسعها إلا أن تقول: لا. فقال: أعندك عهد منهصلى‌الله‌عليه‌وآله انك معصومة من الخطأ ؟ قالت: لا. قال: صدقت ان الله رضي لك المدينة فأبيت إلا البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت بيت أحد بني ضبة، ألا تخبريني يا أم المؤمنين أللحرب قدمت أم للصلح ؟ أجابت وهي متألمة: بل للصلح. فقال لها: والله لو قدمت وليس بينهم إلا الخفق بالنعال والرمي بالحصى ما اصطلحوا على يديك فكيف والسيوف على عواتقهم ؟

____________________

(٦٦٣) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٧٦.

(٦٦٤) وقريب منه في: الغدير ج ٩ / ٨١ (*).

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629