النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165902 / تحميل: 7983
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بأبي أنت وأمي: أتأذن لي ان امكث أياما حتى يشفيك الله تعالى. فقال: اخرج وسر على بركة الله. فقال: يا رسول الله ان أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة. فقال: سر على النصر والعافية. فقال: يا رسول الله إني أكره أن أسائل عنك الركبان. فقال: انفذ لما أمرتك به.

ثم أغمي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقام أسامة فتجهز للخروج، فلما أفاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سأل عن أسامة والبعث، فأخبر انهم يتجهزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه، وكرر ذلك، فخرج أسامة واللواء على رأسه، والصحابة بين يديه.

حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار أسيد بن خضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أم أيمن يقول له: ادخل فان رسول الله يموت، فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله، ورسول الله قد مات في تلك الساعة " انتهى بعين لفظه(٦٢) وقد نقله جماعة من المؤرخين، منهم العلامة المعتزلي في آخر ص ٢٠ والتي بعدها من المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة، طبع مصر(٦٣)

____________________

(٦٢) شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٦ / ٥٢.

(٦٣) المراجعات مراجعة - ٩٢ ٣٧٤ ط الثانية في بيروت مع سبيل النجاة في تتمة المراجعات. (*)

٦١

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٣: -

[ المورد - (٥) - سهم المؤلفة قلوبهم: ]

وذلك أن الله تعالى فرض في محكم كتابه العظيم للمؤلفة قلوبهم سهما في الزكاة إذ يقول عزوجل(١) :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي المؤلفة قلوبهم هذا السهم من الزكاة وهم أصناف، فمنهم أشراف من العرب كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يتألفهم ليسلموا فيرضخ لهم، ومنهم قوم اسلموا ونياتهم ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء، كأبي سفيان، وابنه معاوية، وعيينة بن حصن، والأقرع ابن حابس، وعباس بن مرداس ومنهم من يترقب - باعطاهم - اسلام نظرائهم من رجالات العرب، ولعل الصنف الأول كان يعطيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من سدس الخمس الذي هو خالص ماله، وقد عد منهم من كان يؤلف قلبه بشئ من الزكاة على قتال الكفار(٦٤) هذه سيرته المستمرة مع المؤلفة قلوبهم منذ نزلت الآية الحكيمة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لحق بالرفيق الأعلى، ولم يعهد إلى احد من بعده بإسقاط هذا السهم إجماعا من الأمة المسلمة كافة وقولا واحدا.

لكن لما ولي أبو بكر جاء المؤلفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم هذا جريا على عادتهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكتب أبو بكر لهم بذلك، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطه عليه فمزقه وقال: لا حاجة لنا بكم فقد اعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فان أسلمتم والا السيف بيننا وبينكم، فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا له: أنت الخليفة أم هو ؟. فقال: بل هو ان شاء الله تعالى وأمضى ما

____________________

(١) هي الآية ٦١ من سورة التوبة (منه قدس).

(٦٤) المؤلفة قلوبهم من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : راجع: تفسير القرطبي ج ٨ / ١٧٩ - ١٨٠، فتح القدير للشوكاني ج ٢ / ٣٥٥، الدر المنثور للسيوطي ج ٣ / ٢٥١ (*).

٦٢

فعله عمر(٦٥) .

فاستقر الأمر لدى الخليفتين، ومن يرى رأيهما من منع المؤلفة قلوبهم من سهمهم هذا، وصرفه إلى من عداهم من الأصناف المذكورين في الآية. ولبعض فضلاء الأصوليين هنا كلام يجدر بنا نقله وتمحيصه لما في ذلك من الفوائد.

____________________

(٦٥) تجد هذه القضية بألفاظها في كتاب الجوهرة النيرة على مختصر القدورى في الفقه الحنفي ص ١٦٤ من جزئه الأول. وقد ذكرها غير واحد من اثباتهم في مناقب الخليفتين وخصائصهما.

وكم لعمر من قضايا تشبه قضيته هذه، فمنها ما ذكره المؤرخون إذ قالوا: جاء عيينة بن حصن والاقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا له: ان عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلا ولا منفعة قال رأيت أن تقطعناها لعل الله ينفع بها بعد اليوم فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون ؟ فقالوا: لا بأس فكتب لهم كتابا بها، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهم ما فيه، فأخذه منهم ثم تفل فيه فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة، ثم ذهبا إلى أبي بكر وهما يتذمران. فقالا: والله ما ندرى أأنت الخليفة أم عمر ؟ !. فقال: بل هو، وجاء عمر حتى وقف على أبي بكر وهو مغضب. فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين أهي لك خاصة أم بين المسلمين ؟ ؟ فقال: بل بين المسلمين. فقال: ما حملك على أن تخص بها هذين ؟ قال: استشرت الذين حولي. فقال: أو كل المسلمين وسعتهم مشورة ورضى ؟ فقال أبو بكر (رضي): فقد كنت قلت لك انك أقوى على هذا الأمر منى لكنك غلبتني. نقل هذه القضية ابن أبي الحديد في الجزء الثاني عشر من شرح النهج في ص ١٠٨ من المجلد الثالث. والعسقلاني في ترجمة عيينة من إصابته وغيرهما. وليتهما يوم السقيفة وسعا كل المسلمين مشورة، ويا حبذا لو تأنيا حتى يفرغ بنو هاشم من أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليحضروا الشورى، فانهم أولى الأمة بذلك (منه قدس).

عمر يمنع سهم المؤلفة: راجع: تفسير المنار ج ١٠ / ٤٩٦، الدر المنثور للسيوطي ج ٣ / ٢٥٢ (*).

٦٣

قال الأستاذ المعاصر الدواليبي(١) في كتابه - أصول الفقه(٢) -: " ولعل اجتهاد عمررضي‌الله‌عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعا لتغير المصلحة بتغير الأزمان رغم أن النص القرآني في ذلك الذي لا يزال ثابتا غير منسوخ إيثارا لرأيه الذي أدى إلى اجتهاده "

فتأمل فيما قال، ثم أمعن فيما يلي من كلامه.

قال: " والخبر في هذا ان الله سبحانه وتعالى فرض في أول الإسلام، وعندما كان المسلمون ضعافا، عطاءا يعطي لبعض من يخشى شرهم ويرجى خيرهم تألفا لقلوبهم، وذلك في جملة من عددهم القرآن لينفق عليهم من أموال بيت المال الخاص بالصدقات. فقال:( انَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .

قال: وهكذا قد جعل القرآن الكريم المؤلفة قلوبهم في جملة مصارف الصدقات، وجعل لهم بعض المخصصات على نحو ما تفعله الدول اليوم في تخصيص بعض النفقات من ميزانياتها للدعاية السياسية(٣)

قال: " غير ان الإسلام لما اشتد ساعده، وتوطد سلطانه رأى عمررضي‌الله‌عنه حرمان المؤلفة قلوبهم من هذا العطاء المفروض لهم بنصوص القرآن ".

قلت: أعاد الأستاذ تصريحه بأن عمررضي‌الله‌عنه قطع العطاء الذي * (هامش) *

____________________

(١) هو العلامة الشيخ محمد معروف أستاذ علم أصول الفقه والحقوق الرومانية في كلية الحقوق بالجامعة السورية (منه قدس).

(٢) حيث ذكر الأمثلة على تغير الأحكام بتغير الأزمنة ص ٢٣٩ (منه قدس).

(٣) لعلهم اقتبسوا ذلك من آية المؤلفة قلوبهم، فترى بريطانيا واميركا وأمثالهما يطعمون ويكسون الفقراء والمساكين من رعايا الدول الضعيفة وينعشونهم بمشاريع إصلاحية من غير حاجة لهم إلى تلك الدول ورعاياها سوى الأخذ بالحكمة التي هي هدف القرآن في إعطاء المؤلفة قلوبهم (منه قدس) (*).

٦٤

جعله القرآن الكريم بنصه الصريح حقا مفروضا للمؤلفة قلوبهم، ايثارا لرأى رآه في ذلك، ثم اعتذر عن الخليفة.

فقال: " وليس معنى ذلك ان عمر قد أبطل أو عطل نصا قرآنيا، ولكنه نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، واعتبر إعطاء المؤلفة قلوبهم معللا بظروف زمنية أي موقتة وتلك هي تألفهم واتقاء شرهم عندما كان الإسلام ضعيفا، فلما قويت شوكة الإسلام وتغيرت الظروف الداعية للعطاء، كان من موجبات النص ومن العمل بعلته(١) ان يمنعوا من هذا العطاء ".

قلت: لا يخفى ان النص على إعطائهم مطلق، وإطلاقه جلي في الذكر الحكيم وهذا مما لا خلاف ولا شبهة فيه، وليس لنا ان نعتبره مقيدا - والحال هذه - أو معللا بشئ ما الا بسلطان من الله تعالى أو من رسوله، وليس ثمة من سلطان(٢) .

فمن أين لنا ان نعتبر إعطاءهم معللا بظروف زمنية موقتة، هي تألفهم حينما كان الإسلام ضعيفا دون غيره من الأزمنة ؟. على أنا لو أمنا من شر المؤلفة قلوبهم في عهد ما فان دخولهم في الإسلام

____________________

(١) لا علة هنا يدور الحكم مدارها وجودا وعدما، ليكون الاخذ بها من موجبات النص، فان تألف من جعل الله لهم هذا السهم في الصدقات ليس بعلة للحكم الشرعي، وانما هو من الحكم والمصالح التي لوحظت في اشتراعه والأصوليون يعلمون ان العلة في الحكم شى والحكمة التي هي المصلحة في اشتراعه شئ آخر.

ألا ترى ان المصلحة في وجوب العدة على المطلقات المدخول بهن انما هي حفظ أنساب الأجنة اللواتي قد يكن في أرحامهن ؟ !. ومع ذلك فعدة المدخول بها منهن مما لابد منه إجماعا حتى لو علم عدم حملها ! (منه قدس).

(٢) ونزول النص في أول الإسلام وعندما كان الإسلام ضعيفا ليس من تقييده في شئ كما لا يخفى (منه قدس) (*).

٦٥

بسبب إعطائهم لا ينقطع بذلك، بل ربما اشتد بقوة سلطان الإسلام، وكفى بهذا الأمل موجبا لتألفهم بالعطاء. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤلف بعطائه هذا أصنافا متعددة، صنفا ليسلموا ويسلم قومهم بإسلامهم، وصنفا كانوا قد اسلموا ولكن على ضعف الإيمان فيريد تثبيتهم بإعطائه، وصنفا يعطيهم لدفع شرهم فلو فرضنا أنا أمنا شر أهل الشر منهم، فليعط هذا الحق لمن يرجى إسلامه، أو إسلام قومه، ولمن يقوي إيمانه ويثبته الله عليه بسبب هذا العطاء، تأسيا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأحب العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه والمقتص أثره.

على ان قوة الإسلام تلك التي قهرت عدو المسلمين وأمنتهم من شره قد تغيرت إلى الضد مما كانت عليه. فاستحوذت عليهم الأجانب فاضطرتهم إلى تألفها ومصانعتها بالعطاء وغيره، كما هو المشاهد العيان في هذا الزمان وما قبله، وبهذا تبين ان إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم يوم كان الإسلام قويا، انما كان عن اغترار بحالتهم الحاضرة في ذلك الوقت، لكن القرآن العظيم انما هو من لدن عليم حكيم(١) .

والآن نستأنف البحث عن النص المطلق وتقييده بالمصلحة التي تختلف باختلاف الأزمان، فيختلف الحكم الشرعي باختلافها. نبحث عن هذا الأصل من حيث شروطه.

فنقول: نحن الإمامية إجماعا وقولا واحدا لا نعتبر المصلحة في تخصيص عام ولا في تقييد مطلق الا إذا كان لها في الشريعة نص خاص يشهد لها بالاعتبار فإذا لم يكن لها في الشريعة أصل شاهد باعتبارها إيجابا أو سلبا كانت عندنا مما لا اثر له، فوجود المصالح المرسلة وعدمها عندنا على حد سواء(٦٦) .

____________________

(١) بنص آية المؤلفة قلوبهم فراجعها وامعن في هدفها الرفيع (منه قدس).

(٦٦) وتفصيل ذلك في محله من كتبنا في أصول الفقه المنتشرة ببركة المطابع (منه قدس) =>

٦٦

وهذا هو رأي الطائفتين الشافعية والحنفية(١) .

أما الحنابلة فإنهم وان اخذوا بالمصالح المرسلة التي لا يكون لها في الشريعة أصل يشهد لها، لكنهم مع ذلك لا يقفون بالمصالح موقف المعارضة من النصوص بل يؤخرون المصلحة المرسلة عن النصوص(٢) فهم إذن لا يقيدون بها نص المؤلفة قلوبهم، فليعطفوا فيه وفي أمثاله على الإمامية والشافعية والحنفية.

وكذلك المالكية في نص المؤلفة قلوبهم وأمثاله، لأنهم وان اخذوا بالمصالح المرسلة، ووقفوا بها موقف المعارضة المنصوص، لكنهم انما يعارضون بها أخبار الآحاد وأمثالها مما لا يكون قطعي الثبوت، ويعارضون بها أيضا بعض العمومات القرآنية التي لا تكون قطعية الدلالة على العموم، اما ما كان قطعي الثبوت وقطعي الدلالة كنص المؤلفة قلوبهم فلا يمكن عندهم ان تقف المصالح المرسلة معارضة لها أبدا(٣) لأنها قطعية الثبوت والدلالة معا.

وبالجملة فان أصول الفقه على هذه المذاهب كلها لا تبيح حمل حرمان المؤلفة قلوبهم على ما قد أفاده الأستاذ وقد فصلنا ذلك. ولولا إجماع الجمهور(٤) على ان الخليفتين رضي ‌الله ‌عنهما قد ألغيا

____________________

=> الشيعة الإمامية لا تعتمد على المصالح المرسلة: ولأجل الاطلاع على ذلك راجع: المعالم الجديدة للأصول للشهيد الصدر ص ٣٦ - ٤٠، كتاب الرسائل (فرائد الأصول) للشيخ الأنصاري، كفاية الأصول ج ٢، حقائق الأصول ج ٢، دروس في علم الأصول للشهيد الرابع الإمام الصدر الحلقة الثالثة ج ٢.

(١) نقله عنهم الفاضل الدواليبي ص ٢٠٤ من كتابه أصول الفقه (منه قدس).

(٢) فيما نقله عنهم الفاضل الدواليبي ص ٢٠٦ من كتابه أصول الفقه (منه قدس).

(٣) نقل ذلك عنهم الفاضل الدواليبي ص ٢٠٧ من كتابه أصول الفقه (منه قدس).

(٤) راجع من تفسير أبي السعود ما هو موجود في أول ص ١٥٠ من هامش الجزء الخامس من تفسير الرازي تجد دعوى الإجماع. وراجع ص ٥٠٢ من كتاب الفقه على =>

٦٧

- بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - سهم المؤلفة قلوبهم وأبطلا هذا الحق الواجب لهم بنص القرآن(٦٧) لكان من الوجاهة بمكان ان نقول: إنهما رضي ‌الله ‌عنهما لم يخالفا الآية وان لم يعطيا المؤلفة يومئذ لان الله عزوجل انما جعل الأصناف الثمانية في الآية مصارف الصدقات على سبيل حصر الصرف فيها خاصة دون غيرهما لا على سبيل توزيعها على الثمانية بأجمعها، وعلى هذا فمن وضع صدقاته كلها في صنف واحد من الثمانية تبرأ ذمته، كما تبرأ ذمة من وزعها على الثمانية وهذا مما اجمع عليه المسلمون وعليه عملهم في كل خلف منهم بعد رسول الله فأي بأس بما فعله عمر وأمضاه أبو بكر، لولا القول بأنهما قد ابطلا هذا الحق وألغياه رغم النص القرآني الذي لا يزال ثابتا غير منسوخ ؟ !.

وقبل ان نختم هذا البحث نرى لزاما علينا ان ننبه الأستاذ الدواليبي إلى تدارك ما نقله عن الإمامية(١) من الأخذ بالمصالح المرسلة وتقديمهم إياه على النصوص القطعية فان هذا مما لا صحة له ولم يقل به منهم احد، وسليمان الطوفي من الغلاة الذين ما زالت خصومنا تحملنا أوزارهم.

ورأي الإمامية في هذه المسألة ما قد ذكرناه آنفا وعليه إجماعهم، وتلك كتبهم في أصول الفقه (٦٨) منتشرة فليراجعها الأستاذ وليعتمد عليها فيما ينقله عن الإمامية بدلا من اعتماده في ذلك على كتاب ابن حنبل سامحه الله تعالى.

____________________

=> المذاهب الأربعة الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية تحقيقا لرجاء الملك فؤاد الأول - تجد القول بأن المؤلفة قلوبهم منعوا من الزكاة في خلافة الصديق مرسلا ذلك إرسال المسلمات (منه قدس).

(٦٧) سهم المؤلفة: راجع: تفسير القرطبي ج ٨ / ١٨١، تفسير المنار ج ١٠ / ٤٩٦، الدر المنثور ج ٣ / ٢٥٢، الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ٦٢١، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٨٣ ط أبو الفضل.

(١) ص ٢٠٧ وفى أول ص ٢٠٩ من كتابه أصول الفقه (منه قدس).

(٦٨) تقدم تحت رقم - ٦٦ - فراجع. (*)

٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٣: -

[ المورد - (٦) - سهم ذي القربى: ]

المنصوص عليه بقوله عز من قائل:( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ (١) فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ (٢) وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ (٣) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٤) .

وقد اجمع أهل القبلة كافة على ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يختص بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه، وانه لم يعهد بتغيير ذلك إلى احد حتى دعاه الله إليه، واختاره الله إلى الرفيق الأعلى(٦٩) .

____________________

(١) الغنم والغنيمة والمغنم حقيقة عند العرب في كل ما يستفيده الإنسان ومعاجم اللغة صريحة في ذلك فلا وجه للتخصيص هنا بغنائم دار الحرب. وقوله من شئ بيان ما الموصولة في قوله أنما غنتم فيكون المعنى أن ما استفدتم من شئ ما كثر أو قل حتى الخيط فان لله خمسه (منه قدس).

(٢) وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لوفد عبد القيس لما أمرهم بالإيمان بالله وحده -: أتدرون ما الإيمان بالله وحده - قالوا: الله ورسوله أعلم. قال شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس (منه قدس).

(٣) معنى هذا الشرط ان الخمس حق شرعي لأربابه المذكورين في الآية يجب صرفه إليهم فاقطعوا عنه أطماعكم وأدوه إليهم ان كنتم آمنتم بالله، وفيه من البعث على أداء الخمس والإنذار لتاركيه مالا يخفى (منه قدس).

(٤) هذه الآية هي الآية ٤١ من سورة الأنفال (منه قدس).

(٦٩) الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسهم ذي القربة: راجع: الكشاف للزمخشري ج ٢ / ١٥٨، فتح القدير للشوكاني ج ٢ / ٢٩٥، =>

٦٩

فلما ولي أبو بكررضي‌الله‌عنه تأول الآية فأسقط سهم النبي وسهم ذي القربى بموتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنع - كما في الكشاف(١) وغيره - بني هاشم من الخمس، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم(٧٠) .

وقد أرسلت فاطمةعليها‌السلام تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة و " فدك " وما بقي من خمس " خيبر " فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا

____________________

=> تفسير القرطبي ج ٨ / ١٠، تفسير الطبري ج ١٠ / ٤ - ٥ و ٧، الدر المنثور للسيوطي ج ٣ / ١٨٥ - ١٨٦، تفسير المنار ج ١٠ / ١٥ و ١٦، سنن النسائي ك الفئ ب - ١ - ج ٧ / ١٢٠ و ١٢٢، تاريخ الطبري ج ٣ / ١٩، تفسير النيسأبوري بهامش تفسير الطبري ج ١٠، الأموال لأبي عبيد ص ٣٢٥ و ١٤، أحكام القرآن للجصاص ج ٣ / ٦٠، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ١١٣، الأحكام السلطانية للماوردى ص ١٦٨ - ١٧١، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص ١٨١ - ١٨٥، شرح صحيح مسلم للنووي ج ١٢ / ٨٢ باب حكم الفئ من كتاب الجهاد.

(١) قال حول بحثه عن آية الخمس، وعن أبن عباس انه - أي الخمس - على ستة أسهم لله ولرسوله سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبضصلى‌الله‌عليه‌وآله فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء قال: وروى ان أبا بكر قد منع بني هاشم من الخمس. الخ (منه قدس).

(٧٠) منع سهم ذي القربى: راجع الكشاف ج ٢ / ١٥٩، تفسير القرطبي ج ٨ / ١٠، فتح القدير للشوكاني ج ٢ / ٢٩٥، تفسير الطبري ج ١٠ / ٦، الدر المنثور ج ٣ / ١٨٧، سنن النسائي ك الفئ ب - ١ - ج ٧ / ١٢١، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ١٦ / ٢٣٠ و ٢٣١ وج ١٢ / ٨٣، مقدمة مرآة العقول ج ١ / ١٤٤ (*).

٧٠

ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها. (الحديث)(٧١) .

وفي صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز. قال: كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز: فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب وحين كتب جوابه وقال ابن عباس والله لولا ان أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه، ولا نعمة عين. قال فكتب إليه: انك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله من هم ؟ وانا كنا نرى ان قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هم نحن فأبى ذلك علينا قومنا. الحديث(٧٢) .

____________________

(٧١) أخ رجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بإسنادهما إلى عائشة. فراجع من صحيح البخاري أواخر باب غزوة خيبر ص ٣٦ من جزئه الثالث. وراجع من صحيح مسلم باب لا نورث ما تركناه فهو صدقة ص ٧٢ من جزئه الثاني.

وتجده أيضا في مواضع أخر من الصحيحين (منه قدس). وجد فاطمة على أبى بكر فلم تكلمه حتى ماتت وذلك بعد أن طالبته ب‍ (فدك) وما بقى من خمس (خيبر) وامتنع من دفعه إليها: راجع: صحيح البخاري ج ٥ / ١٧٧ ط دار مطابع الشعب وج ٣ / ٥٥ ط دار إحياء الكتب العربية مع حاشية السندي، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب - ١٦ - ج ٣ / ١٣٨٠ ط بيروت بتحقيق محمد فؤاد، مشكل الاثار ج ١ / ٤٧ وقريبا منه أيضا رواه البخاري ك فضائل أصحاب النبي ب - ١٢ - ج ٥ / ٢٥ مطابع الشعب ورواه أيضا بمعنى آخر ك الفرائض ب - ٣ - ج ٤ / ١٦٤ ط دار إحياء الكتب العربية. ورواه في ك الخمس ب - ١ - ج ٢ / ١٨٦ ط دار احياء الكتب العربية، مسند أحمد ج ١ / ٦ و ٩ وج ٢ / ٣٥٣، سنن النسائي ك الفئ ب - ١ - ج ٧ / ١٢٠، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ١٦ / ٢١٧، صحيح الترمذي كتاب السير باب - ٤٤ - ج ٤ / ١٥٧.

(٧٢) راجعه في باب النساء الغازيات يرضخ لهن وهو في آخر كتاب الجهاد والسير ص ١٠٥ من جزئه الثاني (منه قدس). صحيح مسلم ك الجهاد والسير ب - ٤٨ - ج ٣ / ١٤٤٤ وفى طبع العامرة ج ٥ / ١٩٨ =>

٧١

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص ٢٩٤ من الجزء الأول من مسنده، ورواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة، وهذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمتهمعليهم‌السلام .

لكن الكثير من أئمة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين رضي ‌الله‌ عنهم ا فلم يجعلوا لذي القربى نصيبا من الخمس خاصا بهم. فأما مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوضا إلى رأي الإمام يجعله حيث يشاء من مصالح المسلمين، لا حق فيه لذي قربى ولا ليتيم ولا لمسكين ولا لابن سبيل مطلقا(٧٣) .

وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد أسقطوا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سهمه وسهم ذي قرباه وقسموه بين مطلق اليتامى والمساكين وابن السبيل على السواء، لا فرق عندهم بين الهاشميين وغيرهم من المسلمين(٧٤) .

والشافعي جعله خمسة أسهم: سهما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الخيل والسلاح والكراع

____________________

=>، مسند أحمد ج ١ / ٢٤٨ و ٢٩٤ و ٣٢٠، سنن النسائي ك الفئ ب - ١ - ج ٧ / ١١٧، الدر المنثور ج ٣ / ١٨٦، فدك للقزويني ص ١٢٥، سنن الدرامي ج ٢ / ٢٢٥ ك السير، مشكل الاثار للطحاوي ج ٢ / ١٣٦ و ١٧٩، مسند الشافعي ص ١٨٣، حلية الأولياء لأبي نعيم ج ٣ / ٢٠٥، الأموال لأبي عبيد ص ٣٣٣. وقريب منه أحاديث أخرى راجعها في: مقدمة مرآة العقول ج ١ / ١١٢ و ١٥٤.

(٧٣) رأى مالك وأبى حنيفة في سهم ذي القربى: راجع: فتح القدير للشوكاني ج ٢ / ٢٩٥، تفسير القرطبي ج ٨ / ١١، تفسير المنار ج ١٠ / ١٦، الفقه على المذاهب الخمسة ص ١٨٨.

(٧٤) نفس المصادر السابقة. (*)

٧٢

ونحو ذلك، وسهما لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفرق الثلاث: اليتامى والمساكين وابن السبيل مطلقا(٧٥) .

أما نحن - الإمامية - فنقسم(١) الخمس ستة أسهم: لله تعالى ولرسوله سهمان وهذان مع السهم الثالث - سهم ذي القربى - للإمام القائم مقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل من آل محمد خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم، لان الله سبحانه حرم عليهم الصدقات، فعوضهم عنها الخمس(٧٦) وهذا ما رواه الطبري في تفسيره عن الإمامين علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام (٧٧) .

[ فائدة: ]

أجمع علماؤنا رضي ‌الله‌ عنهم على ان الخمس واجب في كل فائدة

____________________

(٧٥) نفس المصادر السابقة.

(١) رأينا في الخمس وغيره من فروع الدين وأصوله إنما هو تبع لرأى الأئمة الإثنى عشر من آل محمد (علي والأوصياء من بنيه) (منه قدس).

(٧٦) رأى الشيعة في الخمس: راجع وسائل الشيعة للحر العاملي ك الخمس ب - ١ - من أبواب قسمة الخمس ج ٦ / ٣٥٥ - ٣٦٢، جواهر الكلام ج ١٦ / ٨٤ - ١١٤، مستمسك العروة الوثقى ج ٩ / ٥٦٧ - ٥٩٦، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٢ / ٧٨ - ٨٦، العروة الوثقى ج ٢ / ٤٠٣ - ٤٠٧.

(٧٧) رأى الإمام الباقرعليه‌السلام في الخمس: راجع: تفسير الطبري ج ١٠ / ٧، فتح القدير ج ٢ / ٢٩٥، تفسير المنار ج ١٠ / ١٥، تفسير القرطبي ج ٨ / ١٠، مرآة العقول ج ١ / ١١٥ (*).

٧٣

تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات والحرف ومن الزرع والضرع والنخيل والأعناب ونحوها، وتجب في الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما هو مذكور في فقهنا وحديثنا(٧٨) .

ويمكن أن يستدل عليه بهذه الآية واعلموا أنما غنمتم من شئ فان كلاا من الغنيمة والغنم والمغنم حقيقة في كل ما يستفيده الإنسان، ومعاجم اللغة صريحة في ذلك وتفصيل القول في هذا كله موكول إلى محله، وموضوع البحث هنا انما هو الاجتهاد في إسقاط سهم ذي القربى مع نص الآية بكل صراحة.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٥٥: -

[ المورد - ٧ -: توريث الأنبياء ]

المنصوص عليه بعموم قوله عز من قائل( لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) (٧٩) .

وقوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٨٠) إلى آخر آيات المواريث، وكلها عامة تشمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن دونه من سائر البشر فهي على حد قوله عزوجل( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى

____________________

(٧٨) جو اهر الكلام في شرح شرايع الإسلام ج ١٦ / ٥ - ٨٣، المستمسك للسيد الحكيم ج ٩ / ٤٤٣ - ٥٦٦، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٢ / ٦٥ - ٧٨ مسالك للشهيد الثاني ج ١ / ٦٦، العروة الوثقى ج ٢ / ٣٦٦ - ٤٠٣.

(٧٩) سورة النساء: ٧.

(٨٠) سورة النساء: ١١ (*).

٧٤

الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) (الآية)(٨١) .

وقوله سبحانه وتعالى:( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (الآية)(٨٢) .

وقوله تبارك وتعالى:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ) (الآية)(٨٣) ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكل مكلف من البشر، لا فرق بينه وبينهم، غير ان الخطاب فيها متوجه إليه ليعمل به وليبلغه إلى من سواه، فهو من هذه الحيثية أولى في الالتزام بالحكم من غيره.

ومنها: قوله عز وعلا( وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٨٤) جعل الله عزوجل في هذه الآية الكريمة، الحق في الإرث لأولي قرابات الموروث، وكان التوارث قبل نزولها من حقوق الولاية في الدين، ثم لما أعز الله الإسلام وأهله نسخ بهذه الآية ما كان من ذي حق في الإرث قبلها، وجعل حق الإرث منحصرا بأولي الأرحام الأقرب منهم للموروث فالأقرب مطلقا، سواء أكان الموروث هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أم كان غيره، وسواء أكان الوارث من عصبة الموروث أم من أصحاب الفرائض، أم كان من غيرهما عملا بظاهر الآية الكريمة(١) .

ومنها: قوله تعالى فيما اقتص من خبر زكريا:( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا *

____________________

(٨١) سورة البقرة: ١٨٣.

(٨٢) سورة البقرة: ١٨٢.

(٨٣) سورة المائدة: ٣.

(٨٤) سورة الأنفال: ٧٥.

(١) ومن راجع صحاح السنن الواردة في تشريع المواريث وجدها بأسرها عامة تشمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره على حد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله - من حديث أخرجه الشيخان كلاهما في كتاب الفرائض من صحيحيهما -: " ومن ترك مالا فلورثته " (منه قدس) (*).

٧٥

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (٨٥) .

احتجت الزهراء والأئمة من بنيها بهذه الآية، على أن الأنبياء يورثون المال، وان الإرث المذكور فيها انما هو المال لا العلم ولا النبوة، وتبعهم في ذلك أوليائهم من أعلام الإمامية كافة. فقالوا: ان لفظ الميراث في اللغة(٨٦) والشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة(٨٧) .

وأيضا فان زكرياعليه‌السلام قال في دعائه: (واجعله رب رضيا) أي اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك. ممتثلا لأمرك، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغوا عبثا ألا ترى انه لا يحسن أن يقول أحد: اللهم ابعث لنا نبيا واجعله عاقلا مرضيا في أخلاقه لأنه إذا كان نبيا فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة. ويقوي ما قلناه أن زكرياعليه‌السلام صرح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله :

____________________

(٨٥) سورة مريم: ٣ - ٦.

(٨٦) راجع تاج العروس مادة - ورث - ج ١ / ٦٥٢، الصحاح ج ١ / ٢٩٦ وغيرهما.

(٨٧) الإرث في الشريعة: راجع تفسير البيان للشيخ الطوسي ج ٨ / ٩٤ - ٩٥، تلخيص الشافي للطوسي أيضا ج ٣ / ١٣٢ - ١٣٦، مجمع البيان للطبرسي ج ٦ / ٥٠٣، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ١٦ / ٢٤١ - ٢٤٤، تفسير الفخر الرازي ج ٢١ / ١٨٤، تفسير الطبري ج ١٦ / ٣٧ (*).

٧٦

( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ) وإنما يطلب وارثا لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم، لأنهعليه‌السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف ان يبعث نبيا من هو ليس بأهل للنبوة، وان يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ولأنه انما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فكيف يخاف الأمر الذي هو الغرض في بعثته.

فان قيل: هذا يرجع عليكم في وراثة المال لان في ذلك إضافة البخل إليه.

فالجواب: معاذ الله أن يستوي الأمران، فان المال قد يرزقه المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذ كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فان تقوية أهل الفساد، وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين والعقل فمن عد ذلك بخلا فهو غير منصف.

وقوله:( خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ) يفهم منه أن خوفه انما كان من أخلاقهم وأفعالهم، والمراد خفت الموالي ان يرثوا بعدي أموالي فينفقوها في معاصيك فهب لي يا رب ولدا رضيا يرثها لينفقها فيما يرضيك.

وبالجملة لابد من حمل الإرث في هذه الآية على ارث المال دون النبوة وشبهها حملا للفظ يرثني من معناه الحقيقي المتبادر منه إلى الأذهان، إذ لا قرينة هنا على النبوة ونحوها، بل القرائن في نفس الآية متوفرة على إرادة المعنى الحقيقي دون المجاز.

وهذا رأي العترة الطاهرة في الآية(٨٨) . وهم أعدال الكتاب لا يفترقان أبدا.

____________________

(٨٨) راجع: الميزان في تفسير القرآن ج ١٤ / ٩ - ١٥ وص ٢٢ - ٢٥ (*).

٧٧

وقد علم الناس ما كان بين الزهراء سيدة نساء العالمين، وبين أبي بكر، إذ أرسلت إليه تسأله ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو بكر: ان رسول الله قال: " لا نورث ما تركناه صدقة "(١) " قالت عائشة ": فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئا، واستأثر لبيت المال بكل ما تركه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من بلغة العيش لا يبقي ولا يذر شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا - بوصية منها(٢) ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها. الحديث(٨٩) .

____________________

(١) هذا الحديث ردته الزهراء والأئمة من بنيها، وهو - بألفاظه هذه الثابتة في باب غزوة خيبر من صحيح البخاري - لا يصلح لان يكون حجة عليها. الا أن يكون لفظه صدقة مرفوعا على الاخبار به عن (ما) الموصولة في قوله ما تركنا، ولا سبيل إلى اثبات ذلك إذ لعل (ما) هذه في محل النصب على المفعولية لتركنا وتكون صدقة حالا من (ما)، فيكون المعنى ان ما نتركه في أيدينا من الصدقات لا حق لو ارثنا فيه (منه قدس).

(٢) كما اعترف به شارحا البخاري، القسطلاني في ارشاده، والأنصاري في تحفته، فراجع ص ١٥٧ من المجلد الثامن من كل من الشرحين إذ ينتهيان فيهما إلى هذا الحديث (منه قدس).

(٨٩) أخرجه أصحاب الصحاح بأسانيدهم إلى عائشة فراجع منها ص ٣٧ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيح البخاري أثناء غزوة خيبر، وص ٧٢ من الجزء الثاني من صحيح مسلم في باب قول النبي: لا نورث ما تركنا فهو صدقة من كتاب الجهاد والسير، وص ٦ من الجزء الأول من مسند أحمد (منه قدس).

وجد فاطمة على أبى بكر: تقدمت مصادر الحديث تحت رقم - ٧١ - وأيضا يوجد حديث مطالبتها بإرثها في صحيح الترمذي ك السير ب - ٤٤ - ج ٤ / ١٥٧ ح ١٦٠٨ و ١٦٠٩، مسند أحمد ج ١ / ٦ و ٩ وج ٢ / ٣٥٣، سنن النسائي ك الفئ ب - ١ - ج ٧ / ١٢٠، تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٧، فدك للقزويني ص ٨٧، وفاء الوفاء ج ٢ / ٩٩٥، فتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤ (*).

٧٨

ثم غضبت على اثارة(١) واستقلت غضبا(٢) فلاثت خمارها واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها(٣) ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء.

وارتج المجلس، فأمهلتهم حتى إذا سكن نشيجهم، وهدأت فورتهم افتتحت الكلام " بحمد الله عزوجل "، ثم انحدرت في خطبتها(٩٠) .

تعظ القوم في أتم خطاب

حكت المصطفى به وحكاها(٩١)

فخشعت الأبصار، وبخعت النفوس، ولولا السياسة ضاربة يومئذ بجرانها لردت شوارد الاهواء، وقادت حرون الشهوات، ولكنها السياسة توغل في غاياتها لا تلوي على شئ، ومن وقف على خطبتها في ذلك اليوم(٥) عرف

____________________

(١) انما يقولون: غضب فلان على اثارة بالفتح إذا كان غضبه مسبوقا بغضب، كغضب الزهراء لارثها مسبوقا بغضبها لكشف بيتها، وذاك مسبوقا أيضا بما كان في السقيفة (منه قدس).

(٢) انما يقولون: استقل غضبا إذا أشخصه فرط الغضب، كما أشخص الزهراء من بيتها حتى دخلت على أبى بكر فخطبت محتجة بأشد لهجة (منه قدس).

(٣) أي خادماتها (منه قدس).

(٤) الملاءة الازار. والريطة ذات لفقين. ونيطت علقت (منه قدس).

(٩٠) من خطبة لسيدة النساء فاطمة الزهراء راجعها في: بلاغات النساء لابن أبى طيفور المتوفى ٢٨٠ ه‍ ص ١٢ - ١٩، أعلام النساء لعمر كحالة ج ٣ / ١٢٠٨، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٦ / ٢١١ - ٢١٣ و ٢٤٩ - ٢٥٣ ط مصر بتحقيق أبو الفضل، تلخيص الشافي للشيخ الطوسي ج ٣ / ١٣٩.

(٩١) هذا البيت للشيخ كاظم الأزري من قصيدته العصماء في أهل بيت النبوة.

(٥) السلف من بني علي وفاطمة يروى خطبتها في ذلك اليوم لمن بعده ومن بعده =>

٧٩

ما كان بينها وبين القوم(٩٢) .

____________________

=> رواها لمن بعده، حتى انتهت إلينا يدا عن يد، فنحن الفاطميين نرويها عن آبائنا، وآبائنا يروونها عن آبائهم، وهكذا كانت الحال في جميع الأجيال، إلى زمن الأئمة من أبناء على وفاطمة، ودونكموها في كتاب الاحتجاج للطبرسي، وفى بحار الأنوار، وقد أخرجها من اثبات الجمهور وأعلامهم أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة وفدك بطرق وأسانيد ينتهي بعضها إلى السيدة زينب بنت على وفاطمة، وبعضها إلى الإمام أبى جعفر محمد الباقر، وبعضها إلى عبدالله بن الحسن بن الحسن يرفعونها جميعا إلى الزهراء كما في ص ٧٨ من المجلد الرابع من شرح النهج الحميدي، وأخرجها أيضا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانى بالإسناد إلى عروة بن الزبير عن عائشة ترفعها إلى الزهراء كما في صفحة ٩٣ من المجلد الرابع من شرح النهج، وأخرجها المرزبانى أيضا كما في صفحة ٩٤ من المجلد المذكور بالإسناد إلى أبى الحسين زيد ابن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده يبلغ فيها فاطمةعليها‌السلام ونقل ثمة عن زيد انه قال: رأيت مشايخ آل أبى طالب يروونها عن آبائهم ويعلمونها أولادهم (منه قدس).

(٩٢) ومما كان بينها وبينهم ان قالت لأبي بكر حين منعها ارثها: لان مت اليوم يا أبا بكر من يرثك ؟. قال: ولدى وأهلي. قالت: فلم أنت ورثت رسول الله دون ولده وأهله ؟ قال: ما فعلت يا بنت رسول الله. قالت: بلى انك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله فأخذتها منا، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا. الحديث أخرجه أبو بكر ابن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة وفدك - كما في ص ٨٧ من المجلد الرابع من شرح النهج بسنده إلى مولى أم هاني.

وأخرج الجوهري في كتابه المذكور - كما في ص ٨٢ من المجلد الرابع من شرح النهج - بالإسناد إلى أبى سلمة: ان فاطمة لما طلبت ارثها قال لها أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: ان النبي لا يورث، ولكن أعول على من كان النبي يعوله، وأنفق على من كان النبي ينفق عليه، فقالت: يا أبا بكر أيرثك بناتك ولا يرث رسول الله بناته ؟ فقال هو ذاك. وأخرج الإمام أحمد بالإسناد إلى أبى سلمة نحوه فراجع ص ١٠ من الجزء الأول من مسنده حيث أورد حديث أبى بكر =>

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629