أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87757
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87757 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد مثّلت واقعة التحكيم بخاصّة فصلاً حاسماً في الصراع، لمَا أسفرت عن زيادة أسهم معاوية وتدعيم موقفه، بما تغيّرت معه المسألة تغيّراً كيفيّاً بدخول عنصر مستجدّ، وهو مبايعة أهل الشام لمعاوية بالخلافة، ذلك الذي لمْ يكن مطورحاً من قبل في الظاهر على الأقلّ، بينما اضطرب معسكر عليّعليه‌السلام عليه، وأصابت الشروخ جبهته، إنّ بفعل انشقاق الخوارج أو الاختراق الداخلي لجماعته باستمالة معاوية لرؤوس جند عليّعليه‌السلام أو بالحرب المعنويّة المُخذلة والمُوهنة لعزم الرجال حول عليّعليه‌السلام .

وإنّا نظنّ أنّ أيّ باحث عن الحقيقة سيكتشف أنّه لأوّل مرّة تُكتب شهادة وفاة قبل حدوثها! فذلك ما حدث في حكومة دومة الجندل، إذ فيها كُتبت شهادة وفاة الخلافة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي النظام الإسلامي، ثمّ تحقّقت بالفعل بمقتل إمام الحقّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولنقرأ معاً تفاصيل خدعة التحكيم، والحيل التي تخللتها هروباً من مأزق الاستمرار في مواجهة عليّعليه‌السلام وجيشه في حرب صفّين عام ( ٣٧ هـ )، وذلك فيما رواه أبو الحسن الأشعري(١) ، وذكره فيما رآه من أسباب اختلاف المسلمين حتّى اليوم:

(... فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألمْ تزعم أنّك لمْ تقع في أمر فضيع فأردت الخروج منه إلاّ خرجت؟ قال: بلى. قال: فما المخرج ممّا نزل؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألاّ تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال: لك ذلك، ولك به عهد الله وميثاقه، قال: فأمر بالمصاحف فتُرفع، ثمّ يقول أهل

____________________

(١) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين : ٦٢ - القاهرة - مكتبة النهضة المصريّة : ١٩٦٩.

١٤١

الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم، البقيّة البقيّة! فإنّه إنْ أجابك إلى ما تُريده خالفه أصحابه، وإنْ خالفك خالفه أصحابه. وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنّه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص، ففعلوا ذلك، فاضطرب أهل العراق على عليّعليه‌السلام وأبوا عليه إلاّ التحكيم، وأنْ يبعث عليّعليه‌السلام حَكَماً ويبعث معاوية حَكَماً، فأجابهم عليّعليه‌السلام إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألاّ يُجيبهم إليه، فلمّا أجاب عليّعليه‌السلام إلى ذلك، بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حَكَماً، وبعث عليّعليه‌السلام وأهل العراق أبا موسى حَكَماً ...).

ولمْ تكن تلك الحيلة لتخفي أبعادها على عليّعليه‌السلام ، فهو كما قال عن نفسه:« لست بالخَب ولا الخَبُ يخدعني » . ولكنّها كانت قد أحدثت أثرها - كما توقّع عمرو - في صفوف أصحابه، فاضطر لقبولها اضطراراً.

يروي الطبري(١) أنّ عليّاًعليه‌السلام قال للناس يوم صفّين:

« لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوّة، وأسقطت منّة، وأوهنت وأورثت وهناً وذلّةً، ولمّا كنتم الأعلين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحر بهم القتل ووجدوا ألمَ الجراح، رفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها ليفثؤوكم عنهم، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم، ويتربّصوا بكم ريب المنون خديعةً ومكيدةً، فأعطيتموهم ما سألوا، وأبيتم إلاّ أنْ تُدهنوا وتجوزوا، وأيمَ الله، ما أظنّكم بعدها توافقون رشداً، ولا تصيبون باب حزم » .

وهذا ما قد حدث، فقد تظاهر عمرو بالاتّفاق مع أبي موسى على خلع عليّعليه‌السلام

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٥٦.

١٤٢

ومعاوية(١) وترك الأمر شورى للمسلمين يختارون مَن أحبّوا، فلمّا حان موعد إعلان نتيجة الحكومة، قدّم عمرو أبا موسى أوّلاً - رغم تحذير عبد الله بن عبّاس لأبي موسى ألاّ يفعل بقوله(٢) : إنّ عمراً رجل غادر، ولا آمن أنْ يكون قد أعطاك الرضا بينك وبينه، فإذا قُمت في الناس خالفك - فأعلن أبو موسى ما استقرّا عليه، ثمّ إذا بعمرو يقوم قائلاً: إنّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبّت صاحبي معاوية. فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله، غدرت وفجرت، إنّما مثلك كمثل الكلب إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. فقال عمرو: إنّما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

فكان أبو موسى يقول(٣) : حذّرني ابن عبّاس غدرة الفاسق، ولكنّي اطمأننت إليه، وظننت أنّه لن يُؤثر شيئاً على نصيحة الاُمّة.

وهكذا كان البغي على الإمام الحقّ، وسفك دماء الاُمّة، ورشوة معاوية لعمرو بإطعامه مصر ما بقي حيّاً، وخدعة عمرو لأصحاب عليّعليه‌السلام طريقهم للوثوب على الحكم. فأين هذا إذاً من شروط الإمامة الشرعيّة؟

على أنْ معاوية ذاته لا ينكر هدفه من القتال، ولا وسيلته لتحقيق غايته، فيقول - فيما يروي ابن كثير(٤) - في خطبة الجمعة بالنخيلة خارج الكوفة:

____________________

(١) من عجيب أمر هذه الحكومة، أنّ الحَكَمين أصدرا حُكماً على غير موضوع، فقد كانت دعوى معاوية الطلب بالقود من قتلة عثمان، بزعم أنّه ولّي دمه. وكان ردّ عليّعليه‌السلام : أنّ على معاوية أنْ يدخل في الجماعة ولا يسفك دماء المسلمين هملاً، ثمّ يُقيم دعواه لدى وليّ الأمر الشرعي. فما بال الحكومة تخلع عليّاًعليه‌السلام ومعاوية؟ وهل كان معاوية مثبتاً أصلاً حتّى يُخلع؟

(٢) المرجع السابق ٥ : ٧٠.

(٣) المرجع السابق : ٧١.

(٤) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ١٣٤.

١٤٣

ما قاتلتكم لتصوموا، ولا لتُصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، قد عرفت أنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.

ثمّ يقول في خطبته في المدينة(١) :

(أمّا بعد، فإنّي والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنّكم لا تسرّون بولايتي ولا تحبّونها، وإنّي لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكنّي خالستكم بسيفي هذا مخالسةً ...).

إذاً حاز معاوية السلطة مغالبةً وقهراً بحدّ السيف، فإذا أُضيف إلى ذلك استخدام كلّ الوسائل الغير مشروعة - كما فصّلنا من قبل - من رشوة وخداع وتضليل وتحريف للكلم عن مواضعه، لمْ يتبقَّ شرط واحد تتوفّر فيه المطابقة والشروط التي وضعها فقهاء السنّة لصحّة الإمامة، باعتبارها اختياراً من الاُمّة بعقد مكتمل الشروط، من حيث المبايعة الحرّة من غير إكراه، والعدالة الجامعة والشورى العامّة بين المسلمين.

ومن هُنا تجد حجم التناقض الهائل الماثل في تحليلات التاريخ السياسي الإسلامي، والتي حفلت بها الصيغ التراثيّة، وهي لا تعدو في تحليلها الأخير كونها صيغاً تلفيقيّة لا يُمكنها الصمود طويلاً أمام النقد؛ لأنّها لا تحتوي على أيّ قدر من الإقناع لأيّ باحث عن الحقيقة، ولذلك كان أمراً متّسقاً أنْ تجد هذه التحليلات مصحوبةً دائماً بقدر هائل من الأخبار الموضوعة التي تعلو إلى درجة تقديس شخصيات هذا التاريخ، وتحذّر من مجرد مناقشة أمورهم بموضوعيّة تحذيراً يصل إلى درجة التكفير.

____________________

(١) المرجع السابق : ١٣٥.

١٤٤

فقد أجمع فقهاء السنّة على صحّة إمامة عليّعليه‌السلام ، وكذلك أجمعوا على صحّة قتاله لمعاوية. يقول البغدادي(١) :

أجمع أهل الحقّ على صحّة إمامة عليّعليه‌السلام وقت انتصابه لها بعد قتل عثمانرضي‌الله‌عنه . ويقول: أجمع أصحابنا أهل السنّة على أنّ عليّاًعليه‌السلام كان مُصيباً في قتال أصحاب الجمل، وفي قتال أصحاب معاوية بصفّين.

إلاّ أنّهم مع ذلك جعلوا معاوية - رغم خطئه - مجتهداً مأجوراً. يقول ابن حزم(٢) : فبهذا قطعنا على صواب عليّعليه‌السلام وصحّة إمامته، وأنّه صاحب الحقّ وأنّه له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وقطعنا أنّ معاويةرضي‌الله‌عنه ومَن معه مُخطئون مأجورون أجراً واحداً.

وكذلك فعل ابن خلدون، إلاّ أنّه زاد على ذلك بالتماس الأعذار لمعاوية في استيلائه على السلطة، واستبداد بني اُمّية بها - طِبقاً لنظريته في الملك المؤسّس على العصبيّة - فيقول(٣) :

(... كلّ واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ، فاقتتلوا عليه وإنْ كان المُصيب عليّاًعليه‌السلام ، فلمْ يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل، إنّما قصد الحقّ وأخطأ، والكلّ كانوا في مقاصدهم على حقّ، ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولمْ يكن لمعاوية أنْ يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبيّة بطبيعتها، واستشعرته بنو اُمّية).

____________________

(١) أصول الدين، مرجع سابق : ٢٨٦.

(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل، مرجع سابق ٤ : ٢٤٢.

(٣) المقدّمة، مرجع سابق : ١٧١.

١٤٥

ولقد سبق لنا مناقشة أمر الاجتهاد المأجور، ودللّنا على بطلان الرأي القائل باجتهاد معاوية لأسباب كثيرة عدّدناها. وكذلك سبق لنا بيان - كما هو معلوم من الدين بالضرورة - أنّ الإسلام نقيض الجاهليّة، وأحد أسّسها العصبيّة القِبليّة. ولسنا نرى أدحض لكلام ابن خلدون من رأي أحد الفقهاء المحدّثين، وهو الشيخ رشيد رضا(١) الذي نُورد رأيه بنصّه فيما يلي:

(... لأنّ الإسلام قضى على هذه العصبيّة الجاهليّة - يعترف ابن خلدون كغيره بذلك - فلا يُمكن أنْ يجعلها علّة من علل شرعه القويم الذي مداره على جعل القوّة تابعة للحقّ، خلافاً لسائر المبطلين من البشر الذين يجعلون القوّة فوق الحقّ، فإمّا أنْ يكون تابعاً لها، وإمّا أنْ تقضي عليه قبل أنْ يقضي عليها.

وبهذا البيان الوجيز يُعلم سائر ما في كلام ابن خلدون، من شوب الباطل بتحكيم قاعدته في تصحيح عمل معاوية حتّى في استخلاف يزيد، وجعله مجتهداً مُخطئاً في قتال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ومُصيباً في استخلاف يزيد الذي أنكره عليه أكبر علماء الصحابة فنفّذه بالخداع والقوّة والرشوة، فهو يزعم أنّ معاوية كان عالماً بقاعدته في أنّ الأمور العامّة لا تتم إلاّ بشوكة العصبيّة، وبأنّ عصبيّة العرب كلّهم قد انحصرت في قوّة بني اُمّية، وأنّ جعل الخلافة شورى في أهل الحلّ والعقد من أهل العلم والعدل والكفاية من وجهاء قريش غير بني اُمّية لمْ يعد مُمكناً، وكلّ هذا باطل.

وفي كلام ابن خلدون شواهد على بطلانه، وليس من مقصدنا إطالة القول في بيان ذلك كلّه.

وحسبنا أنْ نقول: إنّ عصبيّة العرب لمْ تنحصر في بني اُمّية، لا بقوّتهم الحربيّة ولا بثقة الاُمّة بعدلهم وكفاءتهم، وإنّما افترضوا حياء عثمان وضعفه

____________________

(١) الشيخ محمّد رشيد رضا، الخلافة : ١٥٠ - القاهرة - الزهراء للإعلام العربي : ١٩٨٨ م.

١٤٦

فنزوا على مناصب الإمارة والحكم في الأمصار الإسلاميّة التي هي قوّة الدولة ومددها واصطنعوا من محبّي الدنيا من سائر بطون قريش وغيرهم مَن يعلمون أنّهم يواتونهم وأكثر هؤلاء ممّن لمْ يعرفوا من الإسلام إلاّ بعض الظواهر، وهم مع الحكّام أتباع كلّ ناعق، فتوسّلوا بهم إلى سن سنّة الجاهليّة والقضاء على خلافة النبوّة الشرعيّة.

ولو شاء معاوية أنْ يجعلها شورى كما نصح له بعض كبراء الصحابةرضي‌الله‌عنهم ، ويجعل قومه وغيرهم مؤيّدين لمَن ينتخب انتخاباً شرعيّاً بالاختيار من أهل الشورى لفعل، وما منعه إلاّ حبّ الدنيا وفتنة الملك، ولكن عمر بن عبد العزيز لمْ يكن يستطيع ذلك بعد أنْ استفحلّ أمرهم، وصاروا مُحيطين بمَن يتولّى الأمر منهم.

وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري: أنّ أبا برزة الصحابي الجليل سُئل - وكان بالبصرة - عن التنازع على الخلافة بين مروان وابن الزبير والخوارج - وهو أثر سنّة معاوية - فقال: أحتسب عند الله أنّي أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنّكم يا معشر العرب، كنتم على الحال الذي علمتم من الذلّة والقلّة والضلالة، وإنّ الله أنقذكم بالإسلام وبمُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إنّ ذاك الذي في الشام والله إنْ يُقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم إنْ يُقاتلون إلاّ على الدنيا، وإنّ ذاك الذي بمكّة والله، إنْ يُقاتل إلاّ على الدنيا. انتهى.

ويكاد يتطابق الرأي السابق للشيخ رشيد رضا، ورأي الشيخ أبو زهرة في هذا الأمر بقوله(١) :

____________________

(١) الشيخ محمّد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلاميّة : ٨٨ - القاهرة - دار الفكر العربي.

١٤٧

ولكن معاوية لمْ يُمهل إمام الهُدى عليّعليه‌السلام حتّى ما ابتدأ، بل حارب البيعة وانتقض على المسلمين، واتّهم مبايعيه، ووجد من مبايعيه من انتقض عليه، وهكذا ابذعر الأمر واضطرب.

... وقد جاءت البيعة من كلّ البلاد ما عدا الشام. وكان على معاوية أنْ يخضع لمصلحة الإسلام ورأى الكثرة الكبرى، ومكانة عليّعليه‌السلام ، فقد كان إمام المسلمين في ذلك الوقت غير منازع، أو كما يعبّر بلغة العصر: كان رجل الساعة. ولكن تحرّكت المطامع نحو الملك، والعصبيّة العربيّة والإحن الجاهليّة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله تعالى.

وعلى بالعكس من رأي ابن خلدون الذي وإنْ أقرّ بتحوّل الخلافة إلى الملك على يد معاوية، إلاّ أنّه اعتبر مع ذلك أنّ معاني وروح الخلافة كانت لا تزال باقية، على العكس من ذلك نرى واحداً من أكثر المفكّرين الإسلاميين تأثيراً في العصر الحديث، وهو أبو الأعلى المودودي، يرى(١) أنّ ما قام به معاوية يُعدّ تحوّلاً جذرياً، إذ أنّه أحلّ أسلوب التنصيب بالقوّة كطريق للوصول إلى السلطة وأسلوب لممارستها، محل البيعة الحرّة الشورية.

وهذا الرأي الذي أبداه المودودي، هو عين ما توصّل إليه الباحثون المحدثون على اختلاف مناهج البحث السياسيّة والاجتماعيّة. يقول الدكتور الريس(٢) :

أمّا بعد عصر الراشدين، فالكلّ مجمع على أنّه حدث تطوّر أو تغيّر، وإنْ كانوا يختلفون في المدى الذي ذهب إليه التغيير، فإنّ تولّي معاوية الخلافة لمْ يتمّ في الأصل بالمبايعة الحرّة أو الاختيار من جميع الاُمّة، وإنّما الذي بايعه أهل

____________________

(١) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك : ١١٢ - الكويت - دار القلم : ١٩٧٨ م.

(٢) النظريّات السياسيّة الإسلاميّة، مرجع سابق : ١٨٦.

١٤٨

الشام الذين كانوا في ولايته، ثمّ بايعه سائر الناس الذين بايعوه بعد عام الجماعة، ولكن كان هذا في حقيقة الأمر اعترافاً بالواقع وحرصاً على حفظ وحدة الاُمّة. فهنا دخل عنصر القوّة والاضطرار بدل الاختيار التامّ أو الشورى، فيُمكن القول: بأنّه هنا حدث التفارق بين المثال والواقع.

وتؤكّد إحدى الدراسات المعاصرة الاُخرى(١) : إنّ أهم ما ميّز أسلوب الوصول إلى السلطة في ظلّ هذا النموذج - الملك - هو الاعتماد على البطش والقوّة، بل إنّ معاوية عمد بعد ذلك إلى جعل منصب القيادة وراثياً.

ومن ثمّ أصبحت قيادة الاُمّة شبه ملك خاصّ يتركه الحاكم لابنه، كما يترك الوالد لولده مزرعةً أو تجارةً أو صناعةً. وبذلك يُنظر إلى معاوية على أنّه مؤسّس أوّل ملك عضوض في الإسلام، حيث انقلبت الخلافة على يديه إلى ملك. وعلى الرغم من الإبقاء على تلقيب الحاكم بلقب الخليفة أو أمير المؤمنين، إلاّ أنّ نظام الحكم أصبح يسوده نموذج الملك لا نموذج الخلافة.

وفي بحثه عن أسباب انهيار الحضارة الإسلاميّة، يرى فقيه آخر(٢) أن كلّ الأدواء الفكريّة والخلقيّة والاجتماعيّة مردّها إلى الفساد السياسي الذي صدّع بناء هذه الحضارة. يقول الشيخ: بدأ هذا بجذع الحكم، وأصله الأوّل، أعني: الخلافة، فالمفروض عقلاً ونقلاً أنْ يختار المسلمون خليفتهم من بين أعظم الكفايات فيهم، إلاّ أنّ سطوة العصبيّات وغلبة الشهوات هدمتا هذه القاعدة، فإذا

____________________

(١) د. نيفين عبد الخالق مصطفى، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي : ١٩٥ - القاهرة - مكتبة الملك فيصل : ١٩٨٥ م.

(٢) الشيخ محمّد الغزالي، حقيقة القومية العربيّة : ٢٥٧ - القاهرة - مكتبة دار العروبة.

١٤٩

الخلافة ميراث شخصي يتركه الوالد لولده، لكن هذا الهزل هو الذي ساد بلاد الإسلام دهراً، بعد أن طويت أعلام الخلافة الراشدة، وقضى عليها معاوية بن أبي سفيان. إنّ توريث إمارة المؤمنين الذي ابتدعه معاوية مقلّداً المجوسيّة الفارسيّة، والصليبيّة الرومانيّة كان بداية الشرر الذي تحوّل على مرّ الليالي حريقاً مستعرة دمّرت الأخضر واليابس في الحضارة الإسلاميّة المظلومة.

ونختتم بحث هذه الجزئيّة الخاصّة بآليّة انتقال السلطة، كمؤشر على طبيعة النظام الاُموي بإيراد تحليل أحد كبار الدُعاة الأصوليّين في العصر الحديث، وهو سيّد قطب الذي يقول(١) : فلمّا جاء الاُمويون، وصارت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً في بني اُمّية، لمْ يكن ذلك من وحي الإسلام، إنّما كان من وحي الجاهليّة الذي أطفأ إشراقه الروح الإسلامي ...

وكان هذا الاتّجاه طعنة نافذة في قلب الإسلام ونظام الإسلام واتّجاه الإسلام ...

ومضى عثمان إلى رحمة ربّه، وقد خلف الدولة الاُمويّة قائمة بالفعل بفضل ما مُكّن لها في الأرض، وبخاصّة في الشام، وبفضل ما مُكّن للمبادئ الاُمويّة المجافية لروح الإسلام، من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع، ممّا أحدث خلخلةً في الروح الإسلامي العام ...

ولقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الاُمويّة على يدي الخليفة الثالث عثمان في كبرته، أنّ تقاليده العمليّة لمْ تتأصّل على

____________________

(١) سيّد قطب، العدالة الاجتماعيّة في الإسلام : ٢٠٧ وما بعدها، ط ٧ - القاهرة - دار الشروق : ١٩٨٠.

١٥٠

أُسس من تعاليمه النظريّة لفترة أطول. وقد نشأ عن عهد عثمان الطويل في الخلافة أنْ تنمو السلطة الاُمويّة ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام ...

فلمّا أنْ جاء عليّعليه‌السلام لمْ يكن من اليسير أنْ يردّ الأمر إلى نصابه في هوادة. وقد علم المستنفعون على عهد عثمان، وبخاصّة من اُميّة، أنّ عليّاًعليه‌السلام لن يسكتَ عليهم، فانحازوا بطبيعتهم وبمصالحهم إلى معاوية

ولقد كان من الطبيعي ألاّ يرضى المستنفعون عن عليّعليه‌السلام ، وألاّ يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل، ومن مردوا على الاستئثار. فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر: معسكر اُميّة، حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم، على حساب العدل والحقّ اللذين يصرّ عليهما عليّعليه‌السلام هذا الإصرار ...

والذين يرون في معاوية دهاءً وبراعة لا يرونهما في عليّعليه‌السلام ، ويعزون إليها غلبة معاوية في النهاية، إنّما يخطئون تقدير الظروف، كما يُخطّئون فهم عليّعليه‌السلام وواجبه. لقد كان واجب عليّعليه‌السلام الأوّل والأخير أنْ يردّ للتقاليد الإسلاميّة قوّتها، وأنْ يردّ إلى الدين روحه، وأنْ جارى وسائل بني اُميّة في المعركة لبطلت مهمّته الحقيقيّة. ولمّا كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين. إنّ عليّاًعليه‌السلام إمّا أنْ يكون عليّاًعليه‌السلام أو فلتذهب الخلافة عنه، بل فلتذهب حياته معها. وهذا هو الفهم الصحيح الذي لمْ يغب عنهعليه‌السلام وهو يقول - فيما يروى عنه إنْ صحّت الرواية -:« والله، ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر؛ ولو لا كراهيّة الغدر لكنت من أدهى الناس » . انتهى.

* * *

١٥١

ولعلّك ترى الآن فيما أوردنا من كلام السابقين اتّفاقهم على اختلافهم في الملامح الرئيسيّة للنظام الاُموي الذي أسّسه معاوية، وهي: النظام مغاير كلّية للنظام الإسلامي. أو بتعبير المودودي: تحوّل جذري عنه. وليس كما زعم ابن خلدون: أنّ روح الخلافة كانت لا تزال باقية فيه.

الوصول للسلطة تمّ عبّر القهر والقوّة والجبروت، فلا اختيار ولا حرّية ولا شورى.

النظام الاُموي نظام جاهلي:

وهذه أخطر النتائج، أنّها سيترتّب عليها عواقب على درجة عُظمى من الأهميّة في الفهم الكلّي لكافة ممارسات النظام، ومع خطورتها فقد أجمعوا عليها بالنصّ:

أ - يقول الشيخ رشيد رضا: فتوسّلوا بهم إلى سنّ سنّة الجاهليّة والقضاء على خلافة النبوّة الشرعيّة.

ب - ويقول الشيخ أبو زهرة: ولكن تحرّكت المطامع نحو الملك والعصبيّة العربيّة والإحن الجاهليّة.

ت - ويقول الشيخ الغزالي: طويت أعلام الخلافة الراشدة، وقضى عليها معاوية بن أبي سفيان مقلّداً المجوسيّة الفارسيّة والصليبيّة الرومانيّة دمّرت الأخضر واليابس في الحضارة الإسلاميّة المظلومة.

ث - ويقول سيّد قطب: لمْ يكن ذلك من وحي الإسلام، إنّما كان من وحي الجاهليّة الذي أطفأ إشراقه الروح الإسلامي، وكان هذا الاتّجاه طعنة نافذة في قلب الإسلام ونظام الإسلام واتّجاه الإسلام.

* * *

١٥٢

ب - الرقابة على السلطة، والموقف من المعارضة:

ما ابتلي نظام قط بسبب مدمّر على مهل بمثل ما ابتلي باستبداد الرأي؛ ذلك أنّه كالسوس ينخر في العظام حتّى تستحيل فتاتاً. وما أسوأ العاقبة على النظام ذاته، فضلاً عن غيره. ومهما كان النظام متّسعاً كنظام الدولة أو مقتصراً على حياة فرد واحد فالعاقبة سواء، مثله في ذلك كمثل مَن يسدّ على نفسه نافذته لتيار الهواء الصحّي في غرفة محكمة، فلا يكون تنفّسه إلاّ خصماً من نقاء هواء الغرفة، فلا تجديد ولا تغيير حتّى تضيق عليه أنفاسه، فيسقط في النهاية مختنقاً.

صدق ذلك في كلّ الأحوال، وأينما كان المكان وفي جميع الأزمان؛ ذلك أنّ العلاقة الأساسيّة للحياة هي علاقة تواصل وحوار بما يعنيه من أخذ وعطاء وتبادل وتشابك مع الأغيار، فإذا انعدم الأغيار انقطع الحوار، وبذا يسقط شرط استمرار علاقة الحياة.

ألمْ ترَ إلى الجسد الإنساني يشترط لاكتسابه المناعة وجود آليّة لتوليد أجسام مضادّة لمسبّبات الأمراض التي يحفل بها الجسد ذاته، إضافة إلى البيئة المحيطة، فكذلك كلّ نظام، ولا سيّما النظام السياسي الذي يكتسب حيويّته، ويحافظ على بقائه إنْ توفّرت شروط مناعته بوجود الرأي الآخر الذي يُراجع قراراته، فيمضي منها الصالح ويعيق السيء، وينبّه إلى مواطن الزلل، ويكشف عن مواقع الخلل، ويستشف مظان الخطر، ويُساند ويحشد في الملمّات، ويقترح الحلول في المعضلات.

ولهذا كان أتعس نظام الذي يقف موقف العداء الجهول من الآراء الناقدة، فيعمل على وأدها بدل الاسترشاد بها، فيضرّ نفسه من حيث أراد نفعها.

١٥٣

وقد حرص الإسلام أشدّ الحرص على تبيان أهميّة هذا الأمر، حتّى إنّه لمْ يجعله حقّاً وإنّما فرضه واجباً، فشدّد على وجوب النصح والتناهي عن المنكر والأمر بالمعروف؛ ولمْ يستثنِ من هذا الوجوب أحداً من المسلمين، وإلاّ عمّ البلاء الجميع الآثم منهم والمستكين.

قال الله تعالى - يصف عمل المؤمنين -:( وَتَوَاصَوْا بِالحقّ ) (١) .

وإخباراً عن نوح:( وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) (٢) .

وعن هود:( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) (٣) .

ووصفاً لجزيرة بني إسرائيل الكبرى:( كَانُوا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (٤) .

وبياناً للمجتمع الإيماني:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٥) .

وروى مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:« الدينُ النصيحةُ » . قلنا: لمَن؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« لله ولكتابهِ ولرسولهِ، ولأئمّةِ المسلمينَ وعامِّتهم » .

وفي حديث متّفق عليه، عن جرير بن عبد الله، أنّه قال: بايعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلّ مسلم.

وروى الترمذي وأبو داوود، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« أفضلُ الجهاد كلمةُ عدل عند سلطانٍ جائرٍ ».

____________________

(١) سورة العصر : ٣.

(٢) سورة الأعراف : ٦٢.

(٣) سورة الأعراف : ٦٨.

(٤) سورة المائدة : ٧٩.

(٥) سورة التوبة : ٧١.

١٥٤

ثمّ إنّ الإسلام أرسى قاعدة أساسيّة يقوم عليها بِناء الدولة كلّه، وحياة المسلمين جميعاً، وهي: الشورى.

وأنت إذا تمعّنت آيات الشورى، واطّلعت على أسباب وظروف نزولها، لانطلقت من فورك مهللاً لمَا تطّلع عليه، إذ يقول الله تعالى:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى‏ اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ ) (١) .

فقد نزلت هذه الآيات عقب كارثة هزيمة اُحد، والتي كان أحد أسبابها خروج المسلمين لملاقاة العدوّ خارج المدينة، وهو ما تمّ بعد المشاورة وتغلّب الرأي القائل بالخروج، وبالرغم من هذه النتيجة التي أسفرت عنها المشاورة، فإنّ الله تعالى يحثّ نبيّه على الشورى، أي: الاستمرار في المشاورة.

فإذا علمت أنّ إمضاء الرأي القائل بالخروج قد تمّ، وفيهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان رأيه التحصّن بالمدينة، لأدركت أمرين، أوّلهما: أنّ القيادة المعصومة بالنصّ هي وحدها صاحبة القرار الصائب الذي لا تجوز مخالفته، لمَا يقع بمخالفته من شرور تخفى على الناس إنْ هم أعلموا رأيهم، يقول الله تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (٢) . وثانيهما:ففيما عدا ذلك فالشورى واجبة، وإنْ أفضت إلى خطأ جزئي، فذلك أدعى للصحّة الكلّية، وقد كان أمر الله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشورى تدريباً للمسلمين على ممارستها وهو موجود بينهم؛ لفهم المعاني وإدراك المقاصد، وارتقاء بوعيهم الكلّي للوصول إلى القرار

____________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.

١٥٥

الصحيح فيما قد يعن لهم من مشكلات حتّى يكون كلّ على بيّنة من أمره، ولذلك لمْ تمنع عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من ممارسته الشورى. وقد أثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه لم يكن أحد أكثر مشورةً لأصحابه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وبذلك تسقط كلّ حجج المستبدّين الطُغاة، فالمشاورة ضرورة، وحريّة إبداء الرأي واجبة على كافّة المستويات، ومهما تكن النتائج.

ولكن لمّا أفل العصر الأمثل(٢) وأغشى عهد الملك، تكاثفت ظلم الليل حتّى صار بهيماً متثاقلاً طويلاً لا يلوح لصبحه انبلاج قريب، وتبدّلت كلّ مظاهر الحياة كما عايشها النّاس في العصر الأمثل، فاستحالت الشورى استبداداً والعدل ظلماً. وأضحت النصيحة جريرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إفساداً في الأرض وتفريقاً للجماعة، ولمْ تزل تلك سمة كلّ نظام استبدادي.

____________________

(١) السياسة الشرعيّة، مرجع سابق : ١٣٥.

(٢) يرى طه حسين أنّ أحد أسباب انتثار أمر عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كثرة مشاورته لرعيّته، على العكس من معاوية، فيقول: كان عليّعليه‌السلام يدبّر أمور أصحابه عن ملأ منهم، لا يستبدّ من دونهم بشيء، وإنّما يستشيرهم في الجليل والخطير من أمره، وكان يرى لهم الرأي فيأبونه ويمتنعون عليه ويضطرونه إلى أنْ ينفّذ رأيهم ويحتفظ برأيه لنفسه. وكان ذلك يُغريهم به ويطمعهم فيه.

ولمْ يكن معاوية يُعطي أصحابه بعض هذا الذي كان يُعطيهم عليّعليه‌السلام ، لمْ يكن يستشيرهم، وإنّما كان له المُشيرون من خاصّته الأدنين. فكان إذا أمر أطاعه أهل الشام دون أنْ يجمجموا فضلاً عن أنْ يُجادلوا، ثمّ كان أمور عليّعليه‌السلام كلّها تدبّر وتبرم على ملأ من الناس، لا تخفى على أصحابه من أمره خافية مهما يكن من خطرها. كان عليّعليه‌السلام يدبّر خلافة وكان معاوية يدبّر ملكاً، وكان عصر الخلافة قد انقضى، وكان عصر الملك قد أظلّ. طه حسين، الأعمال الكاملة، الخلفاء الراشدون، عليّ وبنوه : ٥٩٣، ط ١ - بيروت - دار الكتاب اللبناني : ١٩٧٣ م.

١٥٦

وقد يجد المبرّرون أسباباً، وإنْ وهت، يتعلّقون بها لتبرير أفعال السلاطين في قمعهم لمعارضيهم، بمثل حجّة حصر الفتنة وحفظ استقرار المجتمع، وتلك هي الحجّة الدائمة لحكّام الاستبداد وسدنة حكمهم على مرّ التاريخ، وأمّا أنْ يُعاقب شخص على حبّ شخص في الله، فهذا ما لا يقوى على تجويزه أشدّ المكابرين مماراة.

فكيف إذا بلغت العقوبة حدّ القتل؟

وكيف إذا كان المعاقب فاضلاً خيّراً صحابيّاً جليلاً؟

وكيف إذا كان المحبوب غير متواجد، بل مضى إلى أمر ربّه؟

وكيف إذا كان هذا الحبّ ذاته بعض الدين؟

فهذا ما لمْ نسمع به في قصص البرابرة، أو نقرأ عنه في تاريخ الوثنيّين، فكيف يحدث ذلك في تاريخ الدولة الإسلاميّة؟ وممّن؟ من خليفة المسلمين!

تلك كانت فجيعة قتل حجر بن عدي على يد معاوية بن أبي سفيان.

وحجر بن عدي كما يعرّف به ابن الأثير(١) : المعروف بحجر الخير، وفد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأخوه هانئ، وشهد القادسيّة، وكان من فضلاء الصحابة.

وكلّ جريرة حجر أنّه كان يعترض على سبّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه وآل البيتعليهم‌السلام على المنابر، فاعتبر معاوية ذلك الاعتراض اجتراء على عمّاله، وانتقاصاً من هيبة الحكم، وإفساداً في الأرض يستحقّ معه حجر القتل؛ ذلك أنّ معاوية - بعد استيلائه على السلطة - سنّ لنفسه ولعمّاله في الأقاليم سبّ عليّعليه‌السلام وأصحابه وبنيهعليهم‌السلام على المنابر عقب الصلوات وفي خطب الجمعة.

____________________

(١) أُسد الغابة، مرجع سابق ١ : ٤٦١.

١٥٧

يروي الطبري(١) : أنّ معاوية كان إذا قنت لعن عليّاًعليه‌السلام وابن عبّاس والأشتر وحسناً وحُسيناًعليهما‌السلام .

ولكن حجراً لمْ يكن يطيق سماع سبّ آل بيت رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين)، بينما هو جالس للصلاة بالمسجد، فكان يخرج عن صمته رادّاً على عمّال معاوية مقالتهم.

يروي الطبري(٢) : أنّ المغيرة بن شعبة - وهو عامل معاوية على الكوفة - كان لا يدع ذمّ عليّعليه‌السلام والوقوع فيه، فكان حجر إذا سمع ذلك، يقول: بل إيّاكم فذمّ اللهُ ولَعن، إنّ الله عزّ وجل يقول:( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّهِ ) (٣) . وأنا أشهد أنّ مَن تذمّون وتعيّرون لأحقّ بالفضل، وأنّ مَن تزكّون وتطرون أولى بالذمّ.

فلمّا مضى المغيرة وولّي زياد بن سمية، كان يفعل فعل المغيرة سنّة معاوية، وظلّ حجر كذلك على شهادته لله بفضل عليّعليه‌السلام كلمّا سمع سبّه. إلاّ أنّ زياداً كشّر عن نابيه وتوعّد حجراً بقوله: سقط العشاء بك على سرحان(٤) . وكتب زياد إلى معاوية في أمر حجر وكثّر عليه، فأمره معاوية بشدّه في الحديد وإشخاصه إليه بدمشق، ففعل زياد، فلمّا قدم حجر على معاوية قدّمه للقتل، فضرب بالسيف صبراً.

فعل معاوية إذاً فعلته، ولمْ ينسَ منهجه في إخراج أفعاله إخراجاً مشبّهاً، فجاء بكتاب تشهد فيه بطانة زياد على خروج حجر عن الجماعة، كما لمْ ينسَ إدراج بعض الأسماء المعروفة بالصلاح زيفاً، حتّى لا يقتصر كتاب الشهادة على مَن هم معروفون بالمُداهنة.

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٧١.

(٢) المرجع السابق : ٢٥٤.

(٣) سورة النساء : ١٣٥.

(٤) مثل يضرب في طلب الحاجة، يؤدّي بصاحبها إلى التلف. سرحان: الذئب.

١٥٨

ومن هؤلاء المزيّفة أسماؤهم: شريح بن هانيء الذي بلغه ما حدث، فكتب إلى معاوية كتاباً يبرأ فيه ممّا أُلصق به من شهادة، فجاء كتابه دليلاً على زور شهادة المُداهنين لمعاوية وزياد على دينهم، فضلاً عن إلزامه معاوية الحجّة أمام الله، قال شريح(١) :

بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانيء. أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ زياداً كتب إليك بشهادتي على حجر بن عدي، وأنّ شهادتي على حجر أنّه ممّن يُقيم الصلاة، ويُؤتى الزكاة، ويديم الحجّ والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإنْ شئت فاقتله، وإنْ شئت فدعه.

ولكنّ معاوية لمْ يعر كتاب شريح اهتماماً، وأمضى في حجر أمره بالقتل، متعلّلاً بكتاب شهادة شهود زياد، حتّى إذا لامه اللائمون من بعد، قال: إنّما قتله الذين شهدوا عليه(٢) .

وهذه تذكّرنا على الفور بتأوّل معاوية التأول الفاسد لحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار:« تقتلك الفئة الباغية » . فيقول معاوية بعد قتله عمّاراً: إنّما قتله مَن دفعه للقتل.

وبالرغم من هول تلك الفجيعة التي قتل فيه معاوية حجراً وستّة من أصحابه، فإنّنا لا نعجب منها؛ ذلك أنّنا علمنا منهجه في الإفتئات على الدين بالتأوّل الدائم الفساد، كما قد علمنا بعد شرهه للملك، وأنّه ملك عضوض، أي: يعضّ عليه بالنواجذ، وأنّ طبيعة مثل هذا الملك - كما وصفه ابن خلدون - الاستئثار بالمجد.

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق : ٢٧٢.

(٢) ابن كثير، البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ :٥٥.

١٥٩

وإنّما العجب كلّ العجب أنْ يأتي المعذّرون من الفقهاء، أمثال: ابن تيميّة وابن العربي، ليبرّروا كلّ أفعال معاوية مهما كانت، ظانّين أنّهم بذلك يدافعون عن الإسلام وتاريخه، غير مميّزين بين الحقّ والرجال، فيضرّوه من حيث أرادوا نفعه، وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً.

ولنرَ معاً مدى تهافت ابن العربي، ووهن حجّته في قضيّة حجر؛ ذلك أنّه يعدّد حججه دفاعاً عن قتل معاوية حجراً كالتالي(١) :

الأصل أنّ قتل الإمام بالحقّ، فمَن ادّعى أنّه بالظلم فعليه الدليل. لو كان ظلماً محضاً، لمَا بقي بيت إلاّ لعن فيه معاوية.

هذه مدينة السلام - بغداد - مكتوب على أبواب مساجدها: خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّعليه‌السلام ، ثمّ معاوية خال المؤمنينرضي‌الله‌عنهم .

فهل رأيت أبعد من ذلك تهافتاً ووهناً بل وازدراء بالعقول؟!

فقد قرّر ابن العربي - دون أدنى مناقشة للواقعة - أنّ معاوية إمام الحقّ، وأنّ كلّ ما يصدر عنه حقّ(٢) حتّى وإنْ قتل صحابيّاً. وكلّ برهانه في ذلك أنّ أحداً لا يشتم معاوية، كما أنّ اسمه منقوش على الأبواب.

لا لا يُمكن موافقة ابن العربي على مثل هذا الهزل الذي يُبيح للحاكم قتل النفوس الحرام بلا نُقاش، فذلك ما لمْ تقرّه أعراف الجاهليّة، فكيف بنظام الإسلام العادل الذي يزعم المنافحة عنه.

____________________

(١) العواصم من القواصم، مرجع سابق : ١٣٩.

(٢) في الوقت الذي ينكر فيه فقهاء السنّة القول بعصمة الأئمة من آل البيتعليهم‌السلام ، تراهم يطبقون هذا المعتقد عملياً كما في حالتنا هذه، ولكن على الحكّام - فقط الحكام - ممّن كان قد عاصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهذا مصدر آخر - إضافة إلى ما سبق ذكره - من مصادر الازدواجيّة.

١٦٠