أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87750
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87750 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والله، ما كانوا يقتلون في الجاهليّة والإسلام. والله، يابن أبي أرطأة إنّ سلطاناً لا يقوم إلاّ بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير، ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء(١) .

قارن هذا بسيرة عليّعليه‌السلام في أسلوبه في الحرب، والتي يرويها الطبري أيضاً بقوله(٢) : كان من سيرة عليّعليه‌السلام ألاّ يقتل مدبراً، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف ستراً، ولا يأخذ مالاً.

وحدث عقيب وقعة الجمل أنْ سبّت امرأة عليّاًعليه‌السلام مواجهة، وأخبر عليّعليه‌السلام أنّها تخفي في بيتها اُناساً ممّن كانوا يُحاربونه، فتغافل عنهم وأمر مَن معه:« لا تهتكن ستراً، ولا تدخلن داراً، ولا تهيجن امرأة بأذىً، وإنْ شتمن أعراضكم، وسفهن أمراءكم وصلحاءكم » .

وعندما أقبل جيش معاوية قُبيل حرب صفّين، منعوا جيش عليّعليه‌السلام من الماء، فلمّا قاتلهم عليّعليه‌السلام وأصبح بيده الماء، أفسح لجيش معاوية كي يأخذوا حاجتهم من الماء.

هنا النبل والشرف والمروءة، والعدل والرحمة والترفع والإباء والفطنة، هنا الدين وهناك ما قد علمت من معاوية وعمرو، بما يدفع الباحث دفعاً لاتّخاذ موقف ولو وصف بالانحياز، وليس في ذلك أيّ قدر من تجاوز أصول البحث، فإنْ سبيل الأمانة ألاّ تتجاوز نفسك لتطابق مفهوماً مغلوطاً للموضوعيّة، ثمّ إنّ

____________________

(١) قارن معلّق بين أفعال معاوية والتتار، فوجد أنّ وصايا معاوية لقوّاده لا تختلف في شيء عن وصيّة منكوخان أخي هولاكو، عندما بعثه لغزو البلاد الإسلاميّة. نهج البلاغة بشرح محمّد عبده.

(٢) المرجع السابق : ٥٤١.

٢٢١

الموقف لا يأتي من مقولات قبليّة، وإنّما هو نتاج مرحلة وصفيّة وهي التي ينبغي حيادها. وفي النهاية يظلّ تقدم البحث الاجتماعي والعلم بشكل عامّ مرهوناً بطرح مواقف، شريطة الوعي بقابليّتها للنقد والاختبار.

في هذا الوقت الذي تغلب فيه على تبنّي الموقف، أو كما عبّر المستشرق جولد: موقفك تثبيتاً، عندما تطّلع على شنيعة اُخرى من صنع جيش معاوية، إذ عدا عمرو بن العاص على مصر، وكان عليها محمّد بن أبي بكر من قبل عليّعليه‌السلام ، فقاتل عمرو محمّداً حتّى قتله، فجاء معاوية بن خديج أحد قوّاد عمرو فوضع جثّة محمّد في جيفة حمار ثمّ أحرقها.

فلمْ يرقب هؤلاء في مؤمن إلاّ ولا ذمّة، ولمْ يحفظوا لميّت حرمةً، ولمْ ينتهوا عمّا نهى عنه الإسلام من المُثلة. وبلغ أمر محمّد أخته السيّدة عائشة، فكانت تدعو على معاوية وعمرو وحرّمت على نفسها كلّ الشواء حتّى ماتت(١) . فهل راجعت نفسها حينئذ، وقارنت بين تكريم عليّعليه‌السلام لها ومن معها من نسوة ورجال، وصلاته على قتلاهم، رغم مبادءتهم له بالحرب وانتصاره عليهم في موقعة الجمل، وبين تمثيل معاوية بجثّة أخيها؟

وهل أدركت حينئذ كيف كانت حربها لعليّعليه‌السلام في واقع الأمر تمكيناً لمعاوية ومعسكره من رقاب المسلمين؟

لقد أتوا في الإسلام بما لمْ تعرفه الجاهليّة، فضلاً عن أنْ يقبل به دين أو يقرّه عرف، فتراهم محمومين في لهاثهم فقط نحو السلطة والمال بغير حدّ ينتهون عنده.

____________________

(١) الكامل، مرجع سابق : ٢٣٠.

٢٢٢

ثمّ إنّهم قد بلغ بهم المدى في محاولتهم تقنين ظلمهم، وإضفاء الشرعيّة على ما تقترف أيديهم من آثمّ، فتراهم يستحدثون مذاهب، ويبتدعون أفكاراً، ولا يعدمون في ذلك التدعيم من فقهاء السلاطين على ما مرّ بنا.

التقط بنو اُميّة فكرة عدم تبين وجه الحقّ والتوقف عن اتّخاذ موقف، وهي تلك التي أتى بها القاعدون عن نصرة عليّعليه‌السلام ، فطوّروها وضخّموها وأشاعوها بين الناس، وخلاصتها: أنْ لا يضرّ مع الإيمان معصيّة كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وتلك هي بدعة الإرجاء.

وهنا تلحظ إثم مَن قعد عن نصرة عليّعليه‌السلام مرّتين، فأمّا أوّلاهما: فعدم الامتثال لأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، وأمّا ثانيهما: فإنّ عملهم كان بمثابة السابقة والمرجعيّة لبدعة تاليّة، وهي الإرجاء.

إذاً جاء الإرجاء سياسة تلبس مسوح الدين؛ فطالما لا يضرّ مع الإيمان معصيّة كبيرة كانت أو صغيرة، فكلّ أفعال الاُمويّين مهما حادت عن جادة الإسلام، فهي مرجأة إلى يوم القيامة، ولا مجال بالتالي لمنتقد أو شاك في حكمهم.

يقول أحمد أمين(١) : وينتج من هذا، أنّ موقفهم - المرجئة - إزاء حكم الاُمويّين موقف تأييد.

ويرى جولد تسيهر: أنّ الاُمويّين كانوا في حاجة لفكرة الإرجاء لمخالفتهم صريح الدين، فيقول(٢) : وممّا لا ريب فيه أنّ بني اُميّة لمْ يكونوا متديّنين ولا متظاهرين بالتقوى. وكانت حياتهم في بلاطهم وبين حاشيتهم، لا تحقّق من كلّ الوجوه ما كان ينتظره الأتقياء، من رؤساء الدولة الإسلاميّة من كبت النفس والهوى والابتعاد عن متع الحياة وزينتها.

____________________

(١) أحمد أمين، فجر الإسلام : ٢٨٠ - القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة : ١٩٧٨ م.

(٢) العقيدة والشريعة، مرجع سابق : ٧١.

٢٢٣

وقد حاول معاوية استغلال هذه الفكرة لتمرير بيعة ابنه يزيد، فيردّ عليه عبد الرحمن بن أبي بكر بقوله(١) : إنّك والله، لوددت أنّا نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد.

ثمّ كان من أمر هذا المذهب بعد نشوئه السياسي، أنّ تحوّل إلى مذهب اعتقادي يغرق في الضلال، ويمعن في الفساد، ويغلو في الباطل، حتّى قال قائلهم(٢) : الإيمان عقد بالقلب، وإنْ أعلم الكفر بلسانه بلا تقيّة، وعبد الأوثان، أو لزم اليهوديّة أو النصرانيّة في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله.

ويعلّق أبو زهرة على ذلك بقوله(٣) : وجد مَن المتعقّبين لهذا المذهب مَن يستهين بحقائق الإيمان وأعمال الطاعات، ومَن يستهين بالفضائل واتّخذه مذهباً له كلّ مفسد مستهتر، حتّى لقد ذكر فيه المفسدون، واتّخذوه ذريعة لمآثمهم، ومنهلاً لمفاسدهم، ومسايراً لنيّاتهم الخبيثة، وصادف هوى أكثر المفسدين.

ولعلّ ما يزيد فكرتنا عن المرجئة وضوحاً ذكر قول مرجئي وراد عليه، فهذا ثابت قطنة أحد شعراء بني اُميّة وأحد عمّالهم بخراسان، يقول(٤) :

نرجي الأمور إذا كانت مشبّهة

ونصدق القول فيمن جار أو عندا

ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً

من الناس شركاً إذا ما وحّدوا الصمدا

____________________

(١) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة ١ : ٢١٠ - بيروت - دار الأضواء : ١٩٩٠ م.

(٢) هو قول: أبي محرز جهم بن صفوان.

(٣) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، مرجع سابق : ١٢٢.

(٤) الأصفهاني، الأغاني، مرجع سابق : ٢٦٢.

٢٢٤

وهذا عون بن عبد الله، وهو مرجئي سابق ثمّ تاب، يقول:

فأول ما أفارق غير شك

أفارق ما يقول المرجئونا

وقالوا مؤمن من آل جور

وليس المؤمنون بجائرينا

وقالوا مؤمن دمه حلال

وقد حرّمت دماء المؤمنينا

وممّا يسترعي الانتباه بشدّة في تناولنا لبدعة الإرجاء كما أرادها الاُمويّون وفقهاؤهم، أنّها تُطبق لصالحهم فقط، وليس لمعارضيهم في إرجاء ذنوبهم من نصيب. فأهل السلطان وحدهم هم المعنيّون بإرجاء كبائرهم إلى يوم القيامة، وأمّا مَن ينتقدهم وإنْ من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكفّر ويُحل دمه عاجلاً.

ألمْ يحدث ذلك مع حجر بن عدي أنْ قتله معاوية لمجرّد إنكاره سبّ عليّعليه‌السلام على المنابر؟ وما أسرع ما أعدّ له فقهاء معاوية شهادة حكموا فيها بكفر حجر كفرة صلعاء!

ثمّ ألمْ يقتل الناس بالظنّة على يد عامل معاوية زياد؟ ثمّ إنّ بني اُميّة لمْ يكونوا ليدخروا وسعاً، أو يدعوا فرصةً دون أنْ يهتبلوها لإحكام سلطانهم وشدّ وثاق اُمرتهم على الناس، مهما يكن الباب الذي يلجون منه، والطريق الذي يسلكون.

فكما أنّهم لجأوا إلى الإرجاء ليفوتوا على الناس الحكم عليهم، بزعمهم أنّ الإيمان ما وقر في القلب دون أنْ يصدقه العمل، فكذلك وجدوا في القول بالجبر رداءاً لهم يقيهم شرّ النقد لأفعالهم.

وقوام هذا المذاهب نفي الفعل حقيقةً عن العبد وإضافته إلى الله، فلا خيرة إذاً للعبد في أفعاله، بل هو مجبور على إتيانها، وبالتالي فأفعال بني اُميّة مقدّرة أصلاً، ومَن يحاول الاعتراض عليها يكن كافراً بقضاء الله.

٢٢٥

يتّضح ذلك مباشرةً من قول معاوية لعبد الله بن عمر، عندما أراده ليُبايع ابنه يزيد، فيقول(١) : يا عبد الله بن عمرو، قد كنت تُحدّثنا أنّك لا تُحبّ أنْ تبيتَ ليلةً وليس في عنقك بيعة جماعة، وأنّ لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذّرك أنْ تشقَّ عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم وأنْ تسفكَ دماءهم، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم.

وما أنْ استهلّ معاوية دولة بني اُميّة بالجبر حتّى فشا فيهم وصار مذهباً. يقول أبو زهرة(٢) : ولكنّا نجزم بأنّ القول بالجبر شاع في أوّل العصر الاُموي وكثر حتّى صار مذهباً في آخره.

ثمّ يُورد خطاب عبد الله بن عبّاس لجبريّة أهل الشام: أمّا بعد، أتأمرون الناس بالتقوى، وبكم ضلّ المتّقون؟ وتنهون الناس عن المعاصي، وبكم ظهر العاصون؟ يا أبناء سلف المنافقين وأعوان الظالمين وخزان مساجد الفاسقين، هل منكم إلاّ مفترٍ على الله، يجعل أجرامه عليه سبحانه، وينسبه علانيّةً إليه.

ثمّ يُورد رأي الحسن البصري: ومَن لمْ يُؤمن بالله وقضائه وقدره فقد كفر، ومَن حمّل ذنبه على ربّه فقد كفر.

وأنت تجد أحد التطبيقات المباشرة لهذا المذهب في الحادثة المروعة التي قُتل فيها أحد ملوك بني اُميّة، وهو عبد الملك بن مروان واحداً من المختلفين معه، وهو عمرو بن سعيد بن العاص. إذ(٣) صالح عبد الملك عمراً واستدعاه لقصره، ثمّ فتك به وأدخله تحت سريره، فدخل عليه أحد فقهائه - وهو قبيصة بن ذؤيب

____________________

(١) الإمامة والسياسة، المرجع السابق.

(٢) تاريخ المذاهب، مرجع سابق : ١٠٤.

(٣) الطبري، مرجع سابق ٦ : ٦٩، وابن قتيبة، مرجع سابق ٢ : ٣٤.

٢٢٦

الخزاعي - فأبصر رجل عمرو تحت السرير حينما سأله عبد الملك رأيه في عمرو، فأسرع الفقيه بقوله: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين. ثمّ نصح عبد الملك بأنْ يلقي رأس عمرو إلى رجال عمرو، وكانوا أربعة آلاف يحيطون بقصر عبد الملك، وأنْ يطرح عليهم الدنانير مع الرأس فيتشاغلوا بها عن صاحبهم، ففعل. ثمّ أخرج لهم هاتفاً يُنادي: إنّ أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق، والأمر النافذ.

إنّ هذه القصّة وحدها ترينا كيف يُمكن أنْ تجتمع كلّ النقائص في آنٍ معاً، فأمير المؤمنين الاُموي يُحيك مؤامرة فيصالح عمراً ظاهراً وهو يبطن نقضه، ثمّ هو يستأمنه ليغدر به. وفي ذلك يقول ابن الحنفيّة - عندما بلغه الخبر -: [( فَمَن نَكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَى‏ نَفْسِهِ ) (١) ، يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته ]. ولمّا طلب عبد الملك من امرأة عمرو كتاب الصلح الذي عقده له، أجابت رسوله بقولها: ارجع، فأعلمه أنّ ذلك الصلح معه في أكفانه، ليُخاصمك عند ربّه(٢) .

ثمّ إنّك ترى كيف اتّخذ فقهاء بني اُميّة دينهم نفاقاً للسلاطين، فما أنْ أبصر قبيصة رجل عمرو المقتول حتّى أسرع بالإشارة على عبد الملك أنْ يقتله، فيمدحه عبد الملك بقوله: ما علمناك إلاّ ناصحاً أميناً. ثمّ هو يُشير عليه بأخبث مشورة: أنْ يلقي لأصحاب المقتول رأسه ومعها الدنانير، فيزيد الفقيه الملك خبثاً على غدر.

ولكن الأغرب من كلّ ذلك ما آل إليه حال الناس - دعك من السلطان وفقهائه - فقد جاؤوا يمنعون صاحبهم، فإذا بهم لا يُعيرون مقتله اهتماماً تشاغلاً بجمع الدنانير! وهكذا عمّت البلوى.

____________________

(١) سورة الفتح : ١٠.

(٢) الكامل، مرجع سابق ٤ : ٨٩.

٢٢٧

ولك أنْ تتوقّف طويلاً عند تلك العبارة العجيبة مبنى ومعنى: أمير المؤمنين يقتل بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ! الحقّ عند بني اُمية هو ما يصلح لسلطانهم، وإنْ تمّ بإلصاق التهم بالله بلا حرج.

يعلّق جولد تسيهر على ذلك بقوله(١) : إنّهم كانوا يعلمون تماماً أنّ أُسرتهم كانت غير محتملة من الزهاد، أي: من هؤلاء الذين يملكون رقاب العامّة بسبب طهارة قلوبهم. وإنّهم لمْ يكونوا يجهلون أنّهم في رأي الكثير من رعاياهم مُختلسون وصلوا إلى السلطان بوسائل قهريّة شديدة، وأعداء لآل النبيعليهم‌السلام ، وقتلة أشخاص مقدّسين، ومنتهكون للأماكن المقدّسة الطاهرة.

إذاً لو أنّ عقيدة عملت تماماً لإمساك الاُمّة بالعنان، وصرفتها عن الثورة عليهم وعلى ممثّليهم، لكانت عقيدة الجبر. هذه العقيدة التي ترى: أنّ الله قد حكم أزلاً أنْ تصل هذه الأُسرة إلى الحكم، وأنّ ما يعملون ليس إلاّ أثراً أو نتيجةً لقدر إلهي محكم، من أجل ذلك كان حسناً جدّاً لهم ولديهم أنْ تتأصّل هذه الأفكار في الشعب.

* * *

____________________

(١) العقيدة والشريعة، مرجع سابق : ٨٦.

٢٢٨

النظام الاُموي والعصبيّة القبليّة

معلوم أنّ الإسلام جاء مساوياً بين الناس وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، ونظر إليهم على أنّهم سواسية كأسنان المشط، ولمْ يضع إلاّ معياراً وحيداً لتمايزهم، وهو التقوى. فلمْ يعرف فضلاً لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أحمر.

والإسلام أرسى قاعدة وحيدة أصيلة للانتماء بين الناس، تسبق ما عداها من صلات وانتماءات ثانويّة. فليست القاعدة هي المواطنة ولا القوميّة ولا المصلحة المشتركة، ولا الأصل العرقي ولا حتّى قرابة الدم، وإنّما هي العقيدة. فإذا ما وُجد رباط العقيدة في الأساس، أضحى لبعض الروابط الاُخرى دلالاتها الخاصّة النابعة من رباط العقيدة ذاته. وهذا بالطبع لا ينفي بل يؤكّد وجوب شمول العلاقات الإنسانيّة عامّةً بقواعد: العدل وحسن المعاملة وسماحة المعايشة. فتلك أيضاً منطوقات قواعد العقيدة، ولكنّا نتحدّث تحديداً عن الانتماء.

وقد بيّن لنا القرآن حقيقة هذه القاعدة في كثير من آياته، فيقول الله تعالى:( إِنّ الذينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالذينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (١) .

____________________

(١) سورة الأنفال : ٧٢.

٢٢٩

وضرب الله تعالى لنا الأمثلة على جميع صور القرابة القريبة، وأنّها لا تُغني من العقيدة شيئاً: في البنوة، وفي الأبوّة، وفي الزوجية:

( وَنَادَى‏ نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الحقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (١) .

( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٢) .

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلّا عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلما تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ ) (٤) .

وقد وعى المسلمون الأوائل هذه الحقيقة بما لمْ يدع في نفوسهم أدنى شكّ في فحواها، وإنّ نظرةً واحدةً في وقعة واحدة كوقعة بدر لكفيلة بإظهار هذه الحقيقة واضحةً لا لبس فيها، فهذا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة يشهد مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مصارع أبيه عتبة، وعمّه شيبة وأخيه الوليد، وهذا مصعب بن عمير يمرّ بأخيه أبي عزيز بن عمير، وهو أسير في يد رجل من الأنصار، فيقول: شد يديك به؛ فإنّ اُمّه ذات متاع، لعلّها أنْ تفتديه منك(٥) .

____________________

(١) سورة هود : ٤٥ - ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ١٢٤.

(٣) سورة التوبة : ١١٤.

(٤) سورة التحريم : ١٠.

(٥) الطبري، مرجع سابق ٢ : ٤٦٠.

٢٣٠

ثمّ ألاَ تدلّنا هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى مدينة إلى المعنى العميق لحقيقة الانتماء، فقد آذاه قومه وفيهم عشيرته، ومنهم بعض قرابته القريبة وتربّصوا به وأرصدوا له واستعدّوا عليه، بينما انتصر بقوم غير القوم وقبائل غير القبيلة.

إذاً حارب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قومه بغير قومه، وأحلّت له دماء قومه وأموالهم، بل إنّ بلده وهو الحرام أحلّ له يوم الفتح.

ولو أنّ مقاييس أخرى كالمواطنة وغيرها طُبّقت، لاتّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأشنع التهم، وهو ما تجده واضحاً في أقوال المشركين من قوم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الأقربين، الذين فزعوا من هذا الدين الجديد بمفاهيمه المستحدثة، وأحدها مخالفة ما شبّوا عليه من اعتقاد جازم في الأواصر بينهم بالمفهوم القِبَلي. مثال ذلك ما حدث عندما تحيّر القوم في وصف القرآن، فاجتمع نفر من قريش يتدارسون ما يفعلون كيداً لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألاّ يتّصل بقبائل العرب في الموسم، فقال الوليد بن المغيرة(١) : إنّ أقرب القول فيه لأنْ تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. ومثاله كذلك قول عتبة بن ربيعة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم وجده في المسجد(٢) : يابن أخي، إنّك منّا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم. وعندما التقى الجمعان يوم بدر، استفتح أبو جهل على نفسه، فقال(٣) : اللهمّ، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة.

____________________

(١) سيرة ابن هشام، مرجع سابق ١ : ٢٧٠.

(٢) المرجع السابق : ٢٩٣.

(٣) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٢ : ٤٤٩.

٢٣١

إذن ليست الأرض ولا القوم، ولا القرابة، ولا الدم بمنتجة رباطاً إلاّ العقيدة أوّلاً، وتلك هي نظرة الإسلام، وغيرها من مفاهيم الجاهليّة، فكيف كانت رؤية وسياسة بني اُميّة؟

عمد معاوية منذ البدء، وضمن خُطّته لإحكام الملك لنفسه ولتوريثه بنيه إلى إحياء القبلية، واستنفارها بعد الجهد الهائل الذي بذله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لإماتتها. وقد كانت خُطّته تلك متعدّدة المستويات وإنْ تلازمت معاً، ونحن نستعرضها أوّلاً ثمّ نُقيم الأدلة التي قادتنا إليها ثانياً:

تمييز قريش من سائر العرب.

تمييز معاوية ورهطه من قريش.

التفرقة بين قبائل العرب.

التفرقة بين العرب بعامّة والعجم.

تمييز قريش:

أوّل ما يُقابلنا في هذا الباب الحديث الذي رواه معاوية ذاته، ومفاده: أنّ الأئمّة من قريش. جاء في البخاري في باب مناقب قريش: حدّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: كان محمّد بن جبير بن مطعم يحدّث أنّه بلّغ معاوية، وهو عنده في وفد من قريش: أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان. فغضب معاوية فقام فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يتحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأولئك جهّالكم، فإيّاكم والأماني التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين.

٢٣٢

وهنا لا بدّ من وقفة نستوضح فيها هذا المفهوم الذي انبرى له معاوية:

١ - هبّ معاوية غاضباً بمجرد ذكر الحديث دون تثبت من صحّته، ودون تروّ ليستوعب ما يسمع، ودون تحوط ألاّ يقع في إثم إنكار، ولكنّه سرعان ما أصدر أحكامه قاطعة فرمى محدّث الحديث بالجهل، وطعن في الحديث بأنّه من صنع الأماني.

وهكذا كان شأن معاوية شأن كلّ المستبدّين بالسلطة بغير حقّ، فهو على استعداد للتغافل عن نقد وتجاوزات الرّعية وإنْ طالته. وطالما لمْ تجاوز حدود القول حتّى يوصف بالحليم، وهو يصل مَن أراد وإنْ من بيت المال حتّى يُوصف بالكريم، وهو لا يعير اهتماماً لإتيان المنكرات حتّى ليُعطّل الحدود عمّن أراد على ما رأينا، إلاّ أنْ يقترب أحد ولو من بعيد من المنطقة الحرام: السلطان.

وإذا كان معاوية قد أنكر الحديث الذي رواه عبد الله وهو من تابعيه، أفلم يحدّثه كذلك خليله أبو هريرة بقوله - ورواه البخاري في باب ذكر قحطان - قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« لا تقوم الساعة حتّى يخرج رجلٌ من قحطان يسوق الناس بعصاه » .

٢ - أوّل ما يستفاد من الحديث - حال صحّته - أنّ هناك شرطاً لا بدّ من توفّره كي تصحّ إمامة قريش، وهو: ما أقاموا الدين. فإن غاب هذا الشرط، فلا إمامة إذاً في قريش، وإنّما قد تكون في قحطان أو في غيرها.

ويعلّق السندي في حاشيّته على البخاري بقوله: استدلاله - معاوية - بحديث أنّ هذا الأمر دليل عليه لا له؛ لأنّ تقييد ما: أقاموا الدين. يشعر أنّ هذا الأمر لا يبقى فيهم حين تركهم مراعاة الدين.

٣ - هذا الحديث: الأئمّة من قريش. غير مقطوع بصّحته، وقد ردّه إمام

٢٣٣

الحرمين الجويني بقوله(١) : ذكر بعض الأئمّة أنّ هذا الحديث في حكم المستفيض المقطوع بثبوته، من حيث إنّ الاُمّة تلقّته بالقبول. وهذا مسلك لا أوثره، فإنّ نقلة هذا الحديث معدودون، لا يبلغون مبلغ عدد التواتر. والذي يوضّح الحقّ في ذلك، أنّا لا نجد من أنفسنا ثلج الصدور واليقين المبتوت بصدر هذا من فلق في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذاً لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة. ثمّ يقول: ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب. وممّن نفى كذلك اشتراط القرشيّة، القاضي أبوبكر الباقلاني من كبار الأشاعرة.

٤ - احتجّ أهل السنّة بحديث أبي بكر لسعد بن عبادة يوم السقيفة، بقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : قريش ولاة هذا الأمر. وهو ما ذُكر في مسند أحمد.

وما يجعلنا نشكّ في صحّة حدوث هذا الاحتجاج، أو رواية المسند، تذكر أنّ سعداً أجاب أبابكر عند ذكره الحديث بقوله: صدقت. بينما يذكر الطبري(٢) : أنّ عمر بن الخطّاب حثّ الناس على قتل سعد في مستهلّ مبايعة أبي بكر بقوله: اقتلوه قتله الله!

ثمّ لمّا أراد سعد على المبايعة قال: أمَا والله، حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومَن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وأيمْ الله، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم، حتّى أعرض على ربّي، وأعلم

____________________

(١) الجويني، غياث الاُمم في التياث الظلم، تحقيق د. عبد العظيم الديب : ٨٠، ط ٢ - القاهرة - مطبعة نهضة مصر : ١٤٠١ هـ.

(٢) مرجع سابق ٣ : ٢٢٢.

٢٣٤

ما حسابي. ثمّ يذكر: فكان سعد لا يُصلّي بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلمْ يزل كذلك حتّى هلك أبو بكررحمه‌الله .

وذكر ابن الأثير(١) : لمْ يُبايع سعد أبا بكر ولا عمر، وسار إلى الشام فأقام بحوران إلى أنْ مات.

٥ - لمْ يُحدّث أن اجتمعت الاُمّة على مفهوم هذا الحديث، أو تلّقته بالقبول - كما ذكر الجويني - فقد قال بغير ذلك جمهور المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة، أنّهم اعتبروا الإمامة جائزة في كلّ من قام بالكتاب والسنّة، قرشيّاً كان أو عربيّاً أو ابن عبد.

وذهب الضراريّة، إلى أنّه إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنّة، فالواجب أنْ يقوم الحبشي؛ لأنّه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة(٢) .

ولمْ يصب ابن حزم في بيانه بشأن هذه المسألة، لمّا ذكر اتّفاق السنّة والشيعة على أنّ الإمامة لا تجوز إلاّ في قريش، فذلك تعميم مخلّ بحقيقة المسألة، فللشيعة مفهوم آخر، سنتناوله إنْ شاء الله لاحقاً.

٦ - نصوص سواسيّة الناس وتفاضلهم بالتقوى تعارض المفهوم القبلي لحديث: الأئمّة من قريش. ولعلّ أقرب ما يُذكر بخصوص هذه المسألة، ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما تداعى المهاجرون والأنصار كلّ إلى فئته. وذكره البخاري في باب ما يُنهى من دعوة الجاهليّة [ حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ]:« دعوها، فإنّها خبيثة » .

٧ - هناك إشكاليّة من نوع آخر تتعلّق بتحديد قريش المختصّة بالإمامة، فابن حزم(٣) يذكر: أنّ الجمهور على أنّ الإمامة لا تجوز إلاّ في قريش خاصّة، منَ كان

____________________

(١) أُسد الغابة، مرجع سابق ٢ : ٣٥٦.

(٢) ابن حزم، الفصل في الملل، مرجع سابق ٤ : ١٥٢.

(٣) المرجع السابق.

٢٣٥

من ولد فهر بن مالك، وأنّها لا تجوز فيمَن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك، وإنْ كانت اُمّه من قريش، ولا في حليف، ولا في مولى.

بينما يُورد البغدادي اختلاف النسّابين في قريش على النحو التالي(١) :

أ - هم: ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

ب - هم: ولد إلياس بن مضر، وبذلك تدخل التميميّة في قريش.

ج - هم: ولد مضر بن نزار، وبذلك تدخل قيس عيلان في هذه الجملة.

ثمّ هناك تقسيم آخر يُورده ابن عبد ربّه(٢) :

- قريش الظواهر: نزلوا حول مكّة وليست لهم، وهؤلاء هم: بنو الحارث وبنو محارب، ابني فهر بن مالك.

- قريش البطاح: وهم ساكنوا بطحاء مكّة.

ويذكر ابن عبد ربّه كذلك، أنّ أصل كلمة قريش من: التقريش، بمعنى: التجميع؛ ذلك أنّ قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب، جمع ولد النضر بن كنانة من كلّ أوب إلى البيت، فسُمّوا: قريشاً. وسُمّي قصي: مجمعاً. وفيه قِيل:

قصي أبوكم من يسمى مجمعاً

به جمع الله القبائل من فهر

وذلك يعني: أنّ هناك بُعداً آخر في تحديد قريش، إضافة إلى صريح النسب، وهو البُعد المكاني، لمّا جمعهم قصي حول البيت؛ ولكن هذا التحديد لمْ يرد قيداً في تحديد النسّابين، على ما أورده ابن حزم أو البغدادي.

____________________

(١) أصول الدين، مرجع سابق : ٢٧٧.

(٢) العقد الفريد، مرجع سابق ٣ : ٧٠.

٢٣٦

ونحن إذا تفحّصنا شجرة أنساب كنانة، لوجدنا أنّها تضّم العديد من البطون، ولا يُعرف سبب محدّد لحصر الإمامة - على ما ذهب جمهور أهل السنّة - في ولد فهر.

٨ - قِيل: إنّ سورة إيلاف قريش تخصيص لهم بالفضل، فقد قال الله تعالى:( لإيلاف قُرَيشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هذَا الْبَيْتِ * الذي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ ) (١) .

وذكر المفسّرون: أنّ تلك نعمة أنعمها الله على سكان مكّة؛ لعظمتهم عند الناس، لكونهم سكّان حرم الله )(٢) . وربّما يفهم من ذلك صحة اعتبار البعد المكاني في تحديد قريش، كما فُهم من قبل من كلام ابن عبد ربّه.

ولكن فضل الله عليهم بالنعم لا ينهض دليلاً على وجوب حصر الإمامة فيهم لمَن أراد تعليل الحكم به، فضلاً عن كون هذا الفضل ابتلاء لهم كما قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ويل لكم قريش، لإيلاف قريش! » . ومعلوم كيف كانت قسوة قريش في حربها للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وللدعوة الجديدة أشدّ من غيرها من أحياء العرب.

ولا يوزن بميزان واحد مع الإيمان كونهم سكّان حرم الله والقائمين على عمارته وصيانته وسقاية حجيجه ورفادتهم، فقد قال الله تعالى:( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ شَاهِدِينَ عَلَى‏ أَنْفُسِهِم بِالْكُفْر ِ ) (٣) .

( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعمّارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ) (٤) .

____________________

(١) سورة قريش : ١ - ٤.

(٢) تفسير ابن كثير ٤ : ٥٥٣.

(٣) سورة التوبة : ١٧.

(٤) سورة التوبة : ١٩.

٢٣٧

فإذا كان ذلك حال قريش قبل الدعوة، وحال غالبيّتها في مستهلّ الدعوة، فقد تنبّأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بهلاك اُمته بأيدي بعض قريش، جاء في البخاري: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« هلاك اُمّتي على يدي غلمة من قريش » .

٩ - الالتباس في تحديد قريش تزيد من تعارض مفاهيمه، نصوص تعارض ما ذهب إليه ابن حزم، على أنّه رأي جمهور أهل السنّة من كون الإمامة لا تجوز إلاّ في قريش، ولا تجوز في الحليف والمولى، فقد قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الولاء لحمة كلحمة النسب » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« ابن أخت القوم ومولى القوم منهم » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قريش والأنصار وجهينة، ومزينة وأسلم وغفار وأشجع مواليّ، ليس لهم مولىً دون الله ورسوله » .

١٠ - إلى هنا ويبدو أنّ المسألة قد زادت التباساً وأبعدت في الغموض، وما جعلها كذلك في الواقع هو دوران آراء السلف من أهل السنّة حول مفهوم قبلي بحت، يستغرق في تعقب قريش، ويستفرغ الجهد في بحث بطونها، بما يتعارض ومفهوم الإسلام النافي بحسم لمفاهيم القبليّة الجاهليّة، حتّى إنّ أحد الباحثين المحدثين حار في ذلك بقوله(١) : يبدو من العجيب حقّاً، أنْ يكون الإسلام قد أصرّ على وجوب تحقيق شرط النسب، وخصّ قبيلة مُعيّنة هي قريش بهذا الامتياز، وحصر فيهم الأمر.

____________________

(١) د. ضياء الريّس، النظريّات السياسيّة والإسلاميّة، مرجع سابق : ٢٩٩.

٢٣٨

شجرة أنساب كنانة(١) :

____________________

(١) عن أطلس تاريخ الإسلام، مرجع سابق.

٢٣٩

ولكن ابن خلدون يأتينا بتفسير لاشتراط القرشيّة باعتبار المقصد الشرعي منه، وهو اجتماع كلمة الاُمّة دون المزاحمة والخلاف، وما يضمن ذلك - من وجهة نظره - هو شوكة العصبيّة المتوفّرة في قريش دون سائر العرب. يقول ابن خلدون(١) : إنّ الأحكام الشرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها، ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي وقصد الشارع منه لمْ يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو في المشهور، وإنْ كانت تلك الوصلة موجودة والتبرّك بوصلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو في المشهور، وإنْ كانت تلك الوصلة موجودة والتبرّك بها حاصلاً، لكن التبرّك ليس من المقاصد الشرعيّة كما علمت، فلا بدّ إذاً من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيّتها.

وإذا سبرنا وقسّمنا لمْ نجدها إلاّ اعتبار العصبيّة التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملّة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها؛ وذلك أنّ قريشاً كانوا عُصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشرف، فكان سائر الناس يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم، فلو جُعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم.

وواضح من كلام ابن خلدون، أنّه أمعن في اعتماد المفهوم القبلي المؤسّس على العصبيّة وشوكتها، وكأنّه يتحدّث عن مجتمع لا صلة له بالإسلام، وإنْ كسا تفسيره بحلّة المقصد الشرعي.

والجواب على بطلان ما ذهب إليه ابن خلدون من عدّة وجوه:

____________________

(١) المقدمة، مرجع سابق : ١٦٢.

٢٤٠