أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87772
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87772 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يقول أحمد أمين(١) : ولمّا ولي الاُمويّون الخلافة عادت العصبيّة إلى حالها كما كانت في الجاهليّة، وعاد النزاع في الإسلام بين القحطانيّة والعدنانيّة، فكان في كلّ قطر عداء وحروب بين النوعين، واتّخذوا في كلّ صقع أسامي مختلفة، ففي خراسان كانت الحرب بين الأزد وتميم، والأوّلون يمنيون والآخرون عدنانيون، ومثل ذلك في الأندلس، ومثل ذلك في العراق.

استردّت إذاً الجاهليّة بناءها على جميع مستوياتها على يد معاوية وصحبه، ولمْ تزل تُمكّن لنفسها تمكيناً بمضيّ الزمن. وقد جرى أمر الدنيا على أنّ العطب إذا أصاب جسماً - ولو في جزء منه - استفحلّ ما لمْ يتدارك بالعلاج في حينه، وكلّما مضى الزمن استعصى العلاج، بينما الجسم الصحيح يحتاج إلى الجهد الدائب لصيانته، أي: أنّ المرض يتفاقم بينما الصحّة تتآكل.

وهذا ما حدث في أمر الجاهليّة التي عادت بمعاوية مستخفيةً أوّل الأمر، ثمّ ما لبست أنْ أعلنت سفورها بجلاء وبلا حياء، وبلا مبالاة لأمر هذه الاُمّة، حتّى ابتعثت العداوات القديمة، كتلك التي كانت بين الأوس والخزرج بغرض تفريق وحدة كلمة الأنصار. يذكر الأصفهاني(٢) : كان طويس(٣) ولعاً بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، وكان يُريد بذلك الإغراء، فكلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيان، فغنّى فيه طويس إلاّ وقع فيه شيء، فكان يُبدي السرائر ويُخرج الضغائن.

وكان من سنّة معاوية تلك، أنْ صار للفخار بين النزاريّة واليمانيّة مجاله الواسع، كلّ يهجو الآخر ويفاخر بقومه، واُستبدلت أغراض الشعر من إيمان

____________________

(١) فجر الإسلام، مرجع سابق : ٧٩.

(٢) الأغاني، مرجع سابق ٣ : ٤٠.

(٣) طويس: مغنّي مخنّث بالمدينة في العهد الاُموي.

٢٦١

وحماسة للجهاد إلى المجون وتعصّب القبليّات حتّى لتتعقّب الأجيال قول كلّ فيزداد رسوخاً. حدث أنْ زاد الكميت - توفّي عام ١٢٦ هـ - عن النزاريّة معرّضاً باليمانيّة:

وجدتُ الله إذ سمّى نزاراً

وأسكنهم بمكّة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات

وللناس القفا ولنا الجبينا

وما وجدت نساء بني نزار

حلائل أسودين وأحمرين(١)

فلمْ يزل الأمر مهتاجاً حتّى يرد دعبل الخزاعي - توفّي عام ٢٤٦ هـ - هجاء الكميت بهجاء(٢) :

فإن يك آل إسرائيل منكم

وكنتم بالأعاجم فاخرينا

فلا تنس الخنازير اللواتي

مسخن مع القرود الخاسئينا

بأيلة والخليج رسوم

وآثار قدمن وما محينا

وما طلب الكميت طلاب وَتر

ولكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار أن قومي

إلى نصر النبوة فاخرينا

ويذكر ابن عبد ربّه(٣) في المفاخرة بين يمن ومضر: أنّ هشام بن عبد الملك بن مروان طلب من خالد بن صفوان، أنْ يقول في اليمانيّة، فقال: وما أقول لقوم يا أمير المؤمنين، هم بين حائك برد، وسائس قرد، ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد، وملكتهم امرأة، وغرقتهم فأرة، فلمْ يثبت لهم بعدها قائمة.

____________________

(١) يعرّض باليمانيّة لتتابع الحبش والفرس عليهم.

(٢) المسعودي، مروج الذهب، مرجع سابق ٣ : ٢٤٥.

(٣) العقد الفريد، مرجع سابق ٣ : ٧٨.

٢٦٢

التفرقة بين العرب وأهل البلاد المفتوحة وظهور الشعوبيّة

كان موقف الإسلام حاسماً في هذه القضيّة، يلخّصه قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى » . إلاّ أنّ السيرة الفعليّة تجاه أهل البلاد المفتوحة كان يشوبها الكثير ممّا يناقض المعيار الإسلامي الخالص. وأوّل ما يُلاحظ في تلك السيرة إطلاق وصف: الموالي(١) عليهم أجمعين، وشيوع وصف الهجين على أبناء الأعجميّات من آباء عرب، بما تحمله تلك الأوصاف من غمزات التحقير والازدراء.

ثمّ تعدّى الأمر مجرد إطلاق الأوصاف المزريّة، إلى السلوك العملي الذي يتّسم بالتمييز العنصري الشديد البالغ أوجه في عهد بني اُميّة. يذكر ابن عبد ربّه(٢) : دعا معاوية الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال: إنّي رأيت هذه الحمراء - يعني: الروم والفرس - قد كثرت، وأراها قد قطعت عليّ السلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أنْ أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق، فما ترون؟

____________________

(١) شاع استعمال الموالي، بمعنى: المعتقين من الرقّ. ونقل أحمد أمين عن الزيعلي قوله: وسَمّي العجم موالي؛ لأنّ بلادهم فُتحت عنوة بأيدي العرب. فجر الإسلام : ٨٩.

(٢) العقد الفريد، مرجع سابق ٣ : ١٣٠.

٢٦٣

تلك إذا كانت عقيدة معاوية، فما أبعدها عن صحيح الدين.

فهو يُسمّي غير العرب حمراء تحقيراً، أوَ لمْ يعرف من الصحابة بلال الحبشي وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي؟

وهو يرى في كثرتهم - بفضل الله - مشكلاً يؤرقه، فلم إذاً كان الفتح الإسلامي للبلاد؟

وهو يرى أنْ يحلّ مشكلته بأنْ يقتل بكلّ بساطة نصفهم، فأيّ مستند من دين أو حتّى عرف جاهلي يبيح له دماءهم؟

ويرى أنْ يبقى على النصف الآخر منهم، لا لشيء إلاّ لخدمة السادة العرب في الأعمال الحقيرة، أفلا يذكرنا ذلك على الفور بسلوك المستكبرين من الدول الاستعماريّة والجائرة في العصر الحديث؟

وهكذا أرسى معاوية ضمن ما أرسى من بدع، سنّة التفرقة العنصريّة حتّى داخل مجتمع المُسلمين الواحد.

وسار على منواله من بعده ورثة حكمه، بحيث صارت تلك التفرقة أحد معالم سياسة بني اُميّة.

يقول أحمد أمين(١) : ومع أنّ الإسلام يدعو إلى أنّ المسلمين كلّهم سواء، فقد كان العرب وخاصّة في الدولة الاُمويّة، ينظرون إليهم نظرةً فيها شيء من الازدراء، ممّا أدّى إلى كراهية الموالي للاُمويّين(٢) .

ويذكر أبو زهرة في بحثه عن أسباب اختلاف الاُمّة أنّ العصبيّة العربيّة كانت

____________________

(١) فجر الإسلام، مرجع سابق : ٩٠.

(٢) آراء أحمد أمين يوشبها كثير من الاضطراب، فبعد أنْ أورد رأيه السابق تراه يعلّق على ما قاله عمر بن الخطاب من استعاذته من الموالي، بقوله: نعم، إنّه استعاذ بالله، وحقّ له أنْ يستعيذ منهم ومن كلّ الموالي ونسلهم، فقد كانت لهم عصبيّة سياسيّة غير العصبيّة العربيّة وضدها.

٢٦٤

أهمّ هذه الأسباب(١) : هذه من أسباب الخلاف، بل هي جوهر الخلاف الذي فرّق أمر الاُمّة.

وإليك بعضاً من الأمثلة(٢) تصوّر كيف فشت تلك التفرقة، بحيث أضحت نمطاً من السلوك معتاداً:

كانوا يقولون: لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى.

كانوا لا يكنّونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلاّ بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصفّ معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب.

وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، وإنْ أطعموا المولى لسنّه وفضله وعلمه وأجلسوه في طريق الخباز؛ لئلا يخفى على الناظر أنّه ليس من العرب. ولا يدعونهم يُصلّون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإنْ كان صبيّاً.

وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنّما يخطبها إلى مواليها من العرب، فإنْ رضي زوج وإلاّ ردّ، فإنْ زوّج الأب والأخ بغير رأي مواليه فُسخ النكاح، وإنْ كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح.

هناك واقعة يرويها ابن عبد ربّه(٣) ولا بدّ من إمعان النظر فيها، لما تصوّره من غلبة مفهوم التفرقة العنصريّة وشيوعه العام، بحيث غلب على أحكام الشريعة لدى الناس، إذ بلغ الأمر أنْ اُستشكل على عربي له أخ صريح النسب العربي وأخ آخر هجين، ومات أبوه عن تركة لهم، فذهب إلى القاضي ليسأله كيف يقسّم المال، فأجابه القاضي: فالمال بينكم أثلاثاً. فدُهش العربي، وقال للقاضي: ما أحسبك

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، مرجع سابق : ١٢.

(٢) العقد الفريد، مرجع سابق : ١٣٠.

(٣) المرجع السابق : ١٣٣.

٢٦٥

فهمت عنّي، إنّه تركني وأخي وهجيناً، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟! فغضب العربي لمّا أصرّ القاضي على قوله.

ولو أنّ أحداً ذكر لك ما سبق على أنّّه كان على عهد الرومان في سالف زمان الوثنيّة لاستنكرته، ولو ذُكر أنّه من صنع نبلاء العصور الوسطى الأوروبيّة النصرانيّة لزدت ازدراء، ولو أُخبرت أنّه كذلك فعل النازيّون في العصر الحديث، لارتضيت في نفسك ما حاق بهم، فكيف حدث كلّ ذلك في مجمع يُوصف بالإسلام؟!

لقد آتت سياسة بني اُميّة ثمرها الحنظل في خلق ذهنيّة عامّة، وتعميق شعور جمعي بالعنصريّة العربيّة. والعجب بعد ذلك، كلّ العجب - ويبدو أنّ عجبنا في هذا البحث لا نهاية له - ممّن يدين الاتّجاه الذي يطلق عليه: الشعوبيّة. فلا تُطلق هذه الكلمة حتّى اليوم إلاّ مقرونة بالاستنكار، وإنْ أُريد إدانة شخص واتّهامه في قوله، قِيل: إنّه كان شعوبيّاً!.

كتب ابن عبد ربّه في كتاب ( اليتيمة في النسب وفضائل العرب )(١) فصلاً بعنوان: قول الشعوبيّة وهم أهل التسويّة. وأورد فيه نُبذاً من كتاب ابن قتيبة ( تفصيل العرب )، ومنها قوله: إنّ العرب إذا أرادت أنْ تذمّ قوماً، قالت: سواسيّة كأسنان الحمار!.

ويقول أحد المحقّقين المحدثين(٢) : الشعوبيّة هي فرقة تنكر تفضيل العرب على غيرهم، وتحاول الحطّ من قدرهم، وتطالب بالتسويّة بين الشعوب!.

____________________

(١) العقد الفريد، مرجع سابق ٣ : ١٢٣.

(٢) شرح الأغاني ٤ : ٤٠٤.

٢٦٦

ولقد رأيت توّاً كيف كان يُعامل المسلمون من غير العرب، فكان ردّ الفعل الطبيعي لتلك المعاملة استنفار هممهم للذود عن ذواتهم، ورفض تلك التفرقة العنصريّة التي لم يأتِ بها دين، فكانت جريرتهم الكبرى في عرف بني اُميّة ومَن اتّبع سنّتهم، أنْ قال هؤلاء بالتسوية بين المسلمين.

وطالما اُستبعد الدين وعادت النزعة الجاهليّة، فلمْ تُعد الناس سواسيّة كأسنان المشط - لا كأسنان الحمار - كان من الطبيعي إذاً أنْ يلوذ العجم بحضارتهم السالفة، يستمدّون منها أسباباً لمغالبة مغالاة العرب.

يقول شاعر العرب(١) :

ما بال هذي العجم تحيا دوننا

إن الغريب لفي عمّى وخسار

ويقول شاعر العجم(٢) :

إنّما سمي الفوارس بالفر

س مضاهاة رفعة الأنساب

فاتركي الفخر يا أُمام علينا

واتركي الجور وانطقي بالصواب

واسألي إن جَهِلت عنا وعنكم

كيف كنا في سالف الأحقاب

إذ نربي بناتنا وتدوسو

ن سَفاهاً بناتكم في التراب

* * *

____________________

(١) العقد الفريد، المرجع السابق : ١٢٦.

(٢) إسماعيل بن يسار، الأغاني، مرجع سابق ٤ : ٤٠٣.

٢٦٧

الباب الرابع: خروج الحُسينعليه‌السلام

٢٦٨

الخروج من المدينة إلى مكّة

ما أنْ هلك معاوية عام ٦٠ هـ حتّى ورث الملك ابنه يزيد؛ تحقيقاً لولاية العهد التي عقدها معاوية، وأخذ البيعة له أثناء ملكه.

وما أنْ استقرّ يزيد على دست الملك، حتّى أقلقه هؤلاء الذين امتنعوا عن متابعة أبيه في أخذ البيعة له. يذكر الطبري(١) : ولمْ يكن ليزيد همّة حين ولي إلاّ بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة، إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته، وأنّه ولي عهده بعده والفراغ من أمرهم، فكتب إلى الوليد(٢) :

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة.

 أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محموداً ومات برّاً تقيّاً، والسّلام.

وكتب إليه في صحيفة كأنّها أذن فأرة: أمّا بعد، فخذ حُسيناًعليه‌السلام وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا، والسّلام.

فاستشار الوليد مروان بن الحكم، فأشار عليه بقوله(٣) : فإنّي أرى أنْ تبعث

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٣٨.

(٢) هو: الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامله على المدينة، وكان أمير البصرة في ذلك الوقت عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى مكّة عمرو بن سعيد بن العاص.

(٣) المرجع السابق : ٣٣٩.

٢٦٩

السّاعة إلى هؤلاء النفر، فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإنْ فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإنْ أبوا قدّمتهم فضربت أعناقهم قبل أنْ يعلموا بموت معاوية.

فأرسل الوليد إلى الحُسينعليه‌السلام ، وعبد الله بن الزبير أنْ يأتيا من فورهما. فجمع الحُسينعليه‌السلام أهل بيته ومواليه ليمتنع بهم إنْ دخل دار الوليد فغُدر به، ودخل الحُسينعليه‌السلام ، فسأله الوليد ومروان البيعة ليزيد، فقال الحُسينعليه‌السلام :« أمّا ما سألتني من البيعة، فإنّ مثلي لا يُعطي بيعته سرّاً، ولا أراك تجتزئ بها منّي سرّاً دون أنْ نظهرها على رؤوس الناس علانيّة » . قال: أجل. قالعليه‌السلام :« فإذا خرجت إلى الناس، فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس، فكان أمراً واحداً » . فقبل منه الوليد ورفض مروان، وحثّ مروان الوليد على ضرب عنق الحُسينعليه‌السلام إنْ لمْ يُبايع فوراً، فوثب الحُسينعليه‌السلام قائلاً لمروان:« يابن الزرقاء أنت تقتلني، أمْ هو؟! كذبت والله وأثمت ».

وخرج الحُسينعليه‌السلام ، وأزمع المسير إلى مكّة في بنيه وإخوته وبني أخيه وجلّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة. فلمّا سار بليل نحو مكّة، قالعليه‌السلام :( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) . ولمّا أتى مكّة، قالعليه‌السلام :( وَلما تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (٢) . وكان خروجه من المدينة لليلتين بقيتا من شهر رجب عام ٦٠ هـ.

وأمّا عبد الله بن الزبير فخرج، ومعه أخوه جعفر عائذاً بمكّة. وأمّا عبد الله بن عمر فمكث بالمدينة مجيباً الوليد، أنّه إذا بايع الناس بايع معهم، فتركوه لما كانوا لا يخافونه.

وقد روى الطبري(٣) أنّ ابن عمر وابن عبّاس بايعا يزيد.

____________________

(١) سورة القصص : ٢١.

(٢) سورة القصص : ٢٢.

(٣) الطبري، المرجع السابق : ٣٤٣.

٢٧٠

الاستحلال الأوّل للحرم:

عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة في رمضان عام ٦٠ هـ، وولّى بدلاً منه عمرو بن سعيد بن العاص، وأمره ببعث جيش لمقاتلة عبد الله بن الزبير بمكّة.

وقد نصح غير واحد لعمرو ألاّ يغزو مكّة الحرام، كلّهم يذكّره بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّما أذن الله لي في القتال بمكّة ساعة من نهار، ثمّ عادت كحرمتها ». فما كان جواب عمرو إلاّ أنْ قال لشيخ ذكّره: نحن أعلم بحرمتها منك أيّها الشيخ.

أنفذ عمرو بن سعيد أمر يزيد، فبعث عمرو بن الزبير على رأس جيش، ليقاتل أخاه عبد الله بن الزبير بمكّة، وكان عبد الله ممتنعاً بمكّة ومَن معه ممّن آزره، وكانوا يُصلّون وحدهم ولا يُصلّون بصلاة والي يزيد على مكّة، ومَن معه مسّ هواهم في يزيد.

والتقى الجمعان بمكّة الحرام، وعلى رأس الجمعين الأخوان: عبد الله بن الزبير ممتنعاً عن بيعة يزيد في جمع، وفي الجمع الآخر عمرو بن الزبير على رأس جيش يزيد، فهزم عبد الله عمراً، ثمّ أخذه فأقاده ممّن ضربه حتّى مات عمرو تحت السياط، وكان عبد الله قد أطلق على أخيه عمرو: الفاسق المستحلّ لحرمات الله.

أمر الكوفة:

كان النعمان بن بشير الأنصاري والياً على الكوفة من قبل معاوية، فجعل الكوفيّون يتشاورون فيما بينهم، وأرسلوا كتبهم إلى الحُسينعليه‌السلام يوثقون فيها

٢٧١

بيعتهم له، وأنّهم مفارقون للنعمان ولي يزيد حتّى إنّهم لا يحضرون الجمعة معه، وأنّهم في انتظار قدومه عليهم.

فلمّا جاءت الكتبُ الحُسينعليه‌السلام ، بعث ابن عمّه مُسلم بن عقيل إلى الكوفة ليخبره عن كتب أمر الكوفيين، وما أنْ دخل مُسلم الكوفة حتّى جاءه القوم فرادى وجماعات يُبايعونه ببيعة الحُسينعليه‌السلام ، فأرسل إلى الحُسينعليه‌السلام ببيعة اثني عشر ألفاً، وطلب منه القدوم.

في هذا الوقت أشار سرجون الرومي النصراني مولى معاوية وكاتم سرّه، على يزيد بعزل النعمان لضعفه وتولية عبيد الله بن زياد والي البصرة على الكوفة أيضاً.

وما أنْ قدم عبيد الله الكوفة حتّى دسّ مولى له بين أنصار الحُسينعليه‌السلام وأعطاه مالاً ليزعم أنّه جاء من حمص بالشام ليُؤازر الحُسينعليه‌السلام ويبايعه. فانخدع القوم ودلوه على مكان مُسلم ببيت هانئ بن عروة، فرجع إلى عبيد الله فأخبره الخبر.

استدعى عبيد الله هانئاً، وأبرز له مولاه الدسيسة فأيقن هانئ الخدعة، فضربه عبيد الله وشجّه وحبسه، فلمّا علمت مذحج - قبيلة هانئ - بالخبر أحاطت بقصر عبيد الله، فأخرج لهم شريحاً القاضي زاعماً كذباً: أنّ هانئاً بخير وأنّه يُشاوره عبيد الله، فانصرف القوم.

وما أنْ علم مُسلم بن عقيل بخبر هانئ حتّى نادى بشعاره، فاجتمع له أربعة آلاف مقاتل حتّى أحاطوا بقصر عبيد الله، إلاّ أنّه كان قد احتاط لأمره من قبل، فجمع عنده وجوه أهل الكوفة وزعماء القبائل، ليرشوهم ويمنّيهم، فخرجوا وأشرفوا من القصر على المحيطين به؛ ليخذلوهم ويصرفوهم عن مُسلم، فما زالوا بهم حتّى إذا أتى المساء وجد مُسلم نفسه وحده.

٢٧٢

وانتهى أمر الكوفة بأسر مُسلم بعد أنْ أمّنه عبد الرحمن بن محمّد الأشعث، فأمر عبيد الله بضرب عنق مُسلم وإلقاء جثّته من أعلى القصر، وقتل هانئ بن عروة وصلبه.

خروج الحُسينعليه‌السلام إلى الكوفة:

لمّا كان يوم التروية لعام ٦٠ هـ، طاف الحُسينعليه‌السلام بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ثمّ قصّ شعره وحلّ من عمرته، وتوجّه تلقاء الكوفة ومَن معه من الناس، بينما توجّه الحجيج إلى منى.

وكان الحُسينعليه‌السلام قد التقى أثناء خروجه الأخير بكثيرين ألحّوا عليه إلحاحاً ألاّ يخرج، وقد تعددت أسباب هؤلاء المشيرين بعدم الخروج؛ فمنهم ناصح مشفق من غدر أهل العراق، ومنهم حذّر من سطوة بني اُميّة، ومنهم مَن خبر غلبة الدرهم والدينار على المبدأ لدى الكثيرين من أهل العصر، ومنهم مَن تاقت نفسه للتخلّص من الحُسينعليه‌السلام ليخلو له الجوّ فيدعو لنفسه ولكن ينصح مداراة، ومنهم مَن زعم أنّ خروجه شقاق ونزع ليده من الطاعة وخروج عن الجماعة.

وكان من هؤلاء: عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر على اختلاف أسبابهم.

وتراوحت إجابة الحُسينعليه‌السلام لهؤلاء بين بيان حجّته والاكتفاء بالشكر على النصح، وبيان أنّها رؤية رآها ولا يستطيع الإفصاح عنها، وإعلام البراءة من عمل بني اُميّة وأنّ لهم عملهم وله عمله.

ومضى الحُسينعليه‌السلام في طريقه حتّى لقيه مَن أخبره بمتقل رسوله مُسلم بن عقيل بالكوفة ومعه هانئ بن عروة، وأنّهما جرّا من أرجلهما بالأسواق سحلاً،

٢٧٣

فاسترجع وأبان الأمر لأصحابه، وخلّى بينهم وبين رغبتهم في الاستمرار في المسير أو التفرّق، فتفرّق عنه الكثيرون لمّا استشعروا إدبار الأمر، وأنّهم إنّما اتبعوه لظنّهم غلبته.

وما أنْ وصل الحُسينعليه‌السلام إلى مشارف القادسيّة حتّى لقيه جيش ابن زياد، ألف فارسٍ على رأسهم الحرّ بن يزيد، والحُسينعليه‌السلام يُريد أنْ يمضي في طريقه والحرّ يمنعه من المسير، قائلاً: إنّه لا يدعه حتّى ينفذ أمر ابن زياد بإقدامه الكوفة ولقائه. فترادا القول حتّى تراضيا على أنْ يُساير الحرّ الحُسينعليه‌السلام في طريق لا تدخله الكوفة ولا ترجعه إلى المدينة، حتّى يُكاتب الحرُّ ابن زياد ويعلم رأيه.

ثمّ بعث ابن زياد بجيش على رأسه عمر بن سعد بن أبي وقّاص في أربعة آلاف مقاتل - بعد أنْ عهد ابن زياد لعمر بولاية الرّي إنْ هو كفاه الحُسينعليه‌السلام - وأمر ابن زياد عمر أنْ يحول بين الحُسينعليه‌السلام وأصحابه وبين الماء وألاّ يذوقوا منه قطرة، وأنْ ينزلوا على حكم ابن زياد ويُبايعوا يزيد، وإلاّ فليُقاتلهم.

ونشب القتال بعد أنْ أعذر الحُسينعليه‌السلام إليهم، بين جيش يزيد وقوامه أربعة آلاف، وبين جماعة الحُسينعليه‌السلام وقد زوت إلى اثنين وسبعين منهم أربعون راجلاً، وخلفهم في الخيام نساء آل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم زينب بنت عليّعليه‌السلام ، وسكينة وفاطمة ابنتي الحُسينعليه‌السلام ، وفيهم عليّ زين العابدين يرقد عليلاً.

وتحفل كتب التاريخ والمقاتل بتفصيلات الأهوال والفظائع التي لابست القتال، فأنت تقرأ عن التحرق ظمأ من نساء آل البيتعليهم‌السلام والأطفال، فضلاً عن الشيوخ والرجال بينما يحلؤهم جيش يزيد، في الوقت الذي يرتوي من النهر بجانبهم الكلاب الضالة وخنازير النصارى.

ثمّ هذه الأطفال تُذبح أمام أعين اُمّهاتهم، ومنهم: عبد الله بن الحُسينعليه‌السلام الرضيع الذي يسدّد له أحدهم سهماً فيذبحه في حجر أبيه.

٢٧٤

وهذه بنات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تنتهك حرمة أخبيتهنّ لينتهبوا متاعهنّ، حتّى تنازع المرأة عن ثوبها فتغلب عليه وينتزع عن ظهرها.

ثمّ هذا هو الحُسينعليه‌السلام يُقتل ويُذبح، فينتدب عمر بن سعد عشرة من رجاله ليطؤوا الحُسينعليه‌السلام ميّتاً بطناً وظهراً.

وتُساق نساء بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك على الأقتاب بغير وطاء حاسرات، كأنّهم سبايا الشرك إلى ابن زياد في الكوفة ومنها إلى يزيد بدمشق، يتقدّم موكبهم رؤوس الحُسينعليه‌السلام وأصحابه على الرماح.

ويتكرّر في مجلس يزيد ذات المشهد الذي وقع في مجلس ابن زياد: رأس الحُسينعليه‌السلام ملقىً أمام كلٍّ، وكلٌ ينكث ثغر الحُسينعليه‌السلام بقضيبه، وحوله نساء آل البيتعليهم‌السلام باكيات معولات، ولا يعدم كلّ مجلس من صحابي، لا يعترض إلاّ على البعث بثغر الحُسينعليه‌السلام .

فكذلك فعل أبو برزة الأسلمي في حضرة يزيد، مثلما فعل زيد بن أرقم في حضرة ابن زياد، ذلك باقتضاب خبر خروج الحُسينعليه‌السلام ، فماذا يعني هذا الخروج؟

أسباب الخروج:

يحتاج درس خروج الحُسينعليه‌السلام إلى فهم غير متعجّل، لا مانع فيه من الإطالة وتستحبّ معه الرؤية، بل تجب فيه الأناة أبعد الأناة. هاهنا نتتبّع أسباب الخروج ونطلبها في كلّ مظانها كلّما أمكن ذلك، ونحاول تلمّس هذه الأسباب لدى أصحابه، ولدى من دعا بالخروج في عصره وإنْ لمْ يكن من أصحابه، حتّى تكتمل لنا معالم الصورة كاملة، فنراها وكأنّنا عايناها.

فأمّا الحُسينعليه‌السلام ، فأوّل ما يَعيننا على فهم خروجه فهمه هو الشخصي لمعنى

٢٧٥

الإمامة. يقول الحُسينعليه‌السلام في كتابه إلى أهل الكوفة الذين راسلوه مبايعين وداعين له بالقدوم(١) :« فعلمري ما الإمام، إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله » .

ثمّ يبسط الحُسينعليه‌السلام أسباب دعوته في كتابه إلى رؤوس الأخماس بالبصرة، وإلى أشرافها في نسخة واحدة، هذا نصّها(٢) :« أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله على خلقه، وأكرمه بنبوّته، وأختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكنّا أهله وأولياؤه وأوصياؤه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحرّوا الحقّ فرحمهم الله وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أهدكم سبيل الرشاد، والسّلام عليكم ورحمة الله ».

ونحن نستخلص من هذا النصّ عديداً من الأمور:

١ - استهلّ الحُسينعليه‌السلام كتابه بالتذكير بفكرة تتعلّق بأساس الإيمان، فإنّ الله يصطفي ويختار مَن يشاء من خلقه لمَا شاء من أمره، ومدار الإيمان على التسليم المطلق لمَا أراده الله ورسوله، دونما سؤال:( لاَ يُسْئَلُ عمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) (٣) ،

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٥٣.

(٢) المرجع السابق : ٣٥٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢٣.

٢٧٦

وكذلك فلا خيار مع قضاء الله ورسوله:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) .

وكأنّي بالحُسينعليه‌السلام بهذا الاستهلال يضع ابتداء الأساس الذي يقوم عليه الخطاب، بما لا يدع مجالاً لممارٍ فيما يلي من محدّدات الخطاب، وهو استهلال بلاغي يحسم الأمور من أقرب طريق بالحجّة الشرعيّة(٢) .

٢ -« وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه، وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس » . وهنا يحدّد الحُسينعليه‌السلام موقعه تحديداً دقيقاً، فهو الإمام الواجب الطاعة. وقد سبق مناقشة أحقيّة عليّعليه‌السلام في خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما أثبتناه بالمقاربة الرياضيّة - وخلصنا إلى أنّ كلّ الطرق تُؤدّي إلى عليّعليه‌السلام ولو بمنطق المنازعين، وهو ما نظنّ أنّ الحُسينعليه‌السلام أعاد تأكيده في هذا الجزء من الخطاب.

فإنْ قال قائل: هب أنّ ذلك يثبت في حقّ عليّعليه‌السلام ، فهل ينسحب على الحُسينعليه‌السلام ؟

____________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) مبدأ اختصاص بعض الخلق بفضل دون بعض مقرّر باختيار الله، ففضّل بعض الناس على بعض، واختصّ بعضهم بالنبوّة والكتاب، وفضّل بعض النبيّين على بعض، وفضّل بعض الأماكن على بعض: كالحرمين والمسجد الأقصى والوادي المقدّس، وفضّل بعض الأوقات على بعض كشهر رمضان، واختصّ ليلة القدر منه بشرف إنزال القرآن، واختصّ يوم الجمعة بساعة إجابة.

 وكذلك اختصّ الله أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بفضل خاصّ، يقول الله تعالى:( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . سورة الأحزاب : ٣٣. كما أنّ كتاب الله وأهل بيت النبيعليهم‌السلام متلازمان، طبقاً لحديث الثقلين الذي رواه مسلم والترمذي وغيرهما، واللفظ للترمذي:« إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .

٢٧٧

والجواب من عدّة وجوه:

فأوّلاً: قد حدّد الحُسينعليه‌السلام ذاته - في كتابه المذكور من قبل، إلى مكاتبيه من أهل الكوفة - شروط الإمامة بما لا يختلف عليه أحد:« العامل بالكتاب الآخذ بالقسط، الدائن بالحقّ الحابس نفسه على ذات الله » . وهذه كلّها تتوفّر في الحُسينعليه‌السلام ، وإنْ أمكن انطباقها على غيره.

وثانياً: لمْ يحدث في ذلك الوقت، أنْ رأى أحد من منكري جور نظام بني اُميّة أهليّة في نفسه للتصدّي للإمامة غير الحُسينعليه‌السلام ، وحتّى عبد الله بن الزبير لمْ يختر من الناس، وخاصّة من الكوفة والبصرة والمدينة.

وثالثاً: وهو الأكثر أهميّة، دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للتمسّك بكتاب الله وعترته أهل بيته، أنّهما متلازمان ولا يفترقان، كما جاء في حديث الثقلين، وأنّ شرط عدم ضلال الناس التمسّك بهما معاً.

فإنْ كانت الشروط العامّة للإمامة يُحتمل انطباقها على الحُسينعليه‌السلام وغيره، فقد خُصّصت بهذا الحديث، ولا يُترك المؤكّد للمحتمل.

ورابعاً: فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - رواه الترمذي وابن ماجة، وأحمد والحاكم -:« حُسين منّي وأنا من حُسين، أحبّ الله مَن أحبّ حُسيناً، حُسين سبط من الأسباط » .

والسبط لغةً: واحد الأسباط، وهو - عند ابن سيده - ولد الابن والابنة. والأسباط - عند ابن الأعرابي -: خاصّة الأولاد والمصاص منهم. وذكر ابن منظور(١) : أنّ السبط من اليهود كالقبيلة من العرب. ونُقل عن الزجّاج قول بعضهم: السّبط القرن الذي يجيء بعد قرن.

____________________

(١) لسان العرب ٧ : ٣١٠، ط ٣ - بيروت - دار صادر : ١٩٩٤ : م.

٢٧٨

وقال الله تعالى:( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (١) . ذكر القرطبي في تفسيرها: الأسباط من السّبط، بمعنى: التتابع.

وذكر ابن كثير قول الزمخشري في الكشاف وتابعه الرازي: الأسباط حفدة يعقوب. وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب أثنا عشر رجلاً، أولد كلّ منهم اُمّة من الناس.

وإذا عدنا للنصّ:« حُسين سبط ». بعد استعراض تلك المعاني، فلا يُمكن فهمه على أنّ السبط حفيد، وإلاّ كان لغواً - حاشى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولا يبقى إلاّ معنى التتابع، أي: استمرارية التوفّر على حفظ الرسالة. فهو وجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أصل واحد، أي: سبط - شجرة واحدة -، وهو ما عناه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله:« حُسين منّي وأنا من حُسين » . كما أنّ الأسباط من أصل واحد، يعقوب.

ولا يُبعد فهم ابن منظور للحديث عن هذا المعنى، إذ يقول: الحُسينعليه‌السلام سبط من الأسباط، أي: اُمّة من الاُمم في الخير، فهو واقع على الاُمّة، والاُمّة واقعة عليه.

وهل من مزيد بعد حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للحسن والحُسينعليه‌السلام ، ودعائه لله أنْ يحبّهما؟

روى البخاري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله:« اللهمّ، إنّي أحبّهما فأحبّهما » . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« هما ريحانتاي من الدنيا » .

٣ -« فاستأثرعلينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك المستحقّ علينا ممّن تولاّه » .

____________________

(١) سورة البقرة : ١٣٦.

٢٧٩

وقد بسطنا الحديث عن أحداث سقيفة بني ساعدة، وكيف اُستبعد عليّعليه‌السلام ، ثمّ ما كان من القول الغريب الذي قاله عمر بن الخطاب لعبد الله بن عبّاس: إنّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم. وكأنّ قريشاً موكول إليها تحديداً أين تجعل الرسالة، وفيمَن تكون الخلافة.

ويؤكّد الحُسينعليه‌السلام هنا أنّه رغم علمهم بحقّهم، بل واجبهم:« المستحقّ علينا » . إلاّ أنّهم أحبّوا العافية للاُمّة وآثروا الصبر(١) ، خاصّة وقد كانوا يمارسون دورهم في تثبيت الدعوة وحفظ السنّة، والتوجيه والإرشاد، ولا أدلّ على ذلك من تنبيه عليّعليه‌السلام على مواطن الزلل زمن أبي بكر، والفتاوى الصحيحة في الأقضية زمن عمر، والنصح المتكرّر لعثمان والسفارة بينه وبين الثوّار عليه، واشتراك الحُسنينعليهما‌السلام في المغازي بنيّة الجهاد في سبيل الله.

وأمّا أنْ تصل الأمور إلى ما وصلت إليه على أيدي بني اُميّة، فهذا ما لا يُمكن السكوت عنه.

٥ -« وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أهدكم سبيل الرشاد ».

وهنا نأتي إلى لبّ القضيّة وسبب الخروج، فلا استئثار القوم أخرجه،

____________________

(١) يُعيد الحُسينعليه‌السلام هنا تأكيد ما سبق أن بيّنه عليّعليه‌السلام في خطبته الشقشقيّة بخصوص الخلافة، فيقول:« أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ - يعني أبا بكر - وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ؟! يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ - يعني عمر بن الخطاب - » . نهج البلاغة، مرجع سابق ١ : ٨٤.

٢٨٠