أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87773
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87773 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحجّ المتعة أنْ تحرم بعمرة من الميقات في أشهر الحجّ: شوال وذي القعدة وذي الحجة، على أنّ أهلك غير حاضري المسجد الحرام، فإذا انتهيت من عمرتك قصّرت فيحلّ لك كلّ ما حرّم، حتّى تحرم بحجّ يوم التروية من نفس العام، وعليك أنْ تذبح ما قدرت عليه من الهدي وأقلّه شاة.

والمتعتان ثابتتان بالسنّة، ووردت فيهما أحاديث كثيرة منها: عن جابر بن عبد الله: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. رواه مسلم.

وعن الحسنعليه‌السلام : أنّ عمر أراد أنْ ينهى عن متعة الحجّ، فقال له اُبي بن كعب: ليس ذاك لك قد تمتعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولمْ ينهنا عن ذلك، فأضرب عن ذلك عمر. رواه أحمد.

وعن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمْ ينزل قرآن يحرّمه ولمْ ينه عنها حتّى مات قال رجل برأيه ما شاء. رواه البخاري.

وذكر ابن كثير(١) قال البخاري، يقال: هذا الذي قال برأيه ما شاء، إنّه عمر، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرّحاً به أنّ عمر كان ينهى الناس عن التمتع.

كان النهي عن العمرة في أشهر الحجّ من سنن الجاهليّة، كما جاء بحديث ابن عبّاس الذي رواه البخاري: كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرّم صفراً ويقولون إذا بَرَا الدّبر - برأت ظهور الإبل من الترحال - وعفا الأثر

____________________

(١) تفسير ابن كثير، مرجع سابق ١ : ٢٣٤.

٣٦١

وانسلخ صفر حلّت العمرة لمَن اعتمر، قدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه صبيحة رابعة - يوم الأحد - مهلّين بالحجّ فأمرهم أنْ يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أيّ الحلّ؟ قال:« حلّ كلّه ».

* * *

ولك أنْ تتساءل ما الذي حدا بعمر أنْ يُحيد عن الكتاب والسنّة في أمر محكم غير مشتبه، ولا خلاف فيه إلى سنّة من سنن الجاهليّة؟!

يذكر ابن كثير قول الزهري(١) : بلغنا أنّ عمر قال في قول الله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . من تمامهما أنْ تفرّد كلّ واحد منهما من الآخر، وأنْ تعتمر في غير أشهر الحجّ، إنّ الله تعالى يقول:( الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) .

ويردّ ابن كثير قول عمر ذاك بقوله: هذا القول فيه نظر؛ لأنّه قد ثبت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اعتمر أربع عمرات كلّها في ذي القعدة.

ولكن هذا الأمر في الواقع ليس فيه نظر - كما يقول ابن كثير - فالنظر يُوحي بخضوعه لاحتمال، وهو ليس كذلك بحال، بل يرده باتّاً ما ذكرناه، ويدحضه قطعاً الأحاديث الاُخر المؤكّدة، مثل حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عام حجّة الوداع، فمنّا من أهل بعمرة، ومنّا من أهل بحجّة وعمرة، ومنّا من أهل بالحجّ، وأهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجّ، فأمّا من أهل بالحجّ أو جمع الحجّ والعمرة لمْ يحلّوا حتّى كان يوم النحر. رواه البخاري.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة وخلل بين أصابعه ». رواه أحمد.

____________________

(١) المرجع السابق : ٢٣٠.

٣٦٢

وعن ابن عبّاس قال: لمْ يعتمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ في ذي القعدة. رواه ابن ماجة.

فهذا إذاً كتاب الله تعالى، وهذه إذاً سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل يجوز بعدها لعمر أنْ ينهى من عند نفسه، وهل يجوز بعدها لفقهاء أنْ يحيدوا بالكلم عن مواضعه متأوّلين لعمر بغير سائغ؟!

يقول عمر بن الخطاب: افصلوا بين حجّكم عمرتكم؛ فإنّ ذلك أتمّ لحجّ أحدكم وأتمّ لعمرته أنْ يعتمر في غير أشهر الحجّ. رواه مالك.

ويبرّر ابن كثير: لمْ يكن عمررضي‌الله‌عنه ينهى عنها محرّماً لها، إنّما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجّين ومعتمرين.

ويردّ قول عمر ذاك الذي تأوّل فيه معنى إتمام الحجّ والعمرة قول ولده عبد الله: العمرة في أشهر الحجّ تامّة تقضى، عمل بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل بها كتاب الله تعالى. رواه أحمد.

ويروي الطبري(١) خبر نصيحة عمران بن سوادة لعمر، عندما أراد عمران أنّ يطلعه عمّا عابته عليه الاُمّة بقوله: عابت اُمتّك منك أربعاً، ذكروا أنّك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ، ولمْ يفعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أبو بكررضي‌الله‌عنه ، وهي حلال. فقال عمر: هي حلال، لو أنّهم اعتمروا في أشهر الحجّ رأوها مجزية من حجّهم.

ولكن يردّ هذا القول أيضاً، أنّ أحداً لمْ يقل أبداً إنّ العمرة مجزية من الحجّ، لمْ يحدّث أنْ خلا الموسم من الحجيج على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا على عهد أبي بكر، حتّى تكون هناك سابقة يحتجّ بها عمر مبرّراً لهذا الذي أحدّثه.

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٤ : ٢٢٥.

٣٦٣

وواضح من تعبير عمر في ردّه على عمران أنّه يفترض حالة غير واقعيّة لا سابقة لها: لو أنّهم اعتمروا لرأوها ثمّ إذا به يؤسّس حكماً على هذه الحالة الافتراضيّة التي لمْ تخطر على بال أحد ولمْ يقل بها أحد.

وهل كان احتمال خلوّ البيت من المعتمرين أو الحجيج غائباً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما شرّع دخول العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة؟ أمْ كان ربّك نسياً؟ حاشا لله.

وقد كانت النتيجة الغريبة لنهي عمر ذاك، أن اضطرب الناس، ولكنّهم تابعوه وعملوا به رغم علمهم بمخالفته للكتاب والسنّة!

يروي أحمد في مسنده: أنّ أبا موسى الأشعري، قال - وقد اعتمر في موسم الحجّ -: فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وعمر، فإنّي لقائم بالموسم إذ جاءني رجل، فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. - ويبدو الاضطراب والمتابعة على المخالفة في قول أبي موسى عندئذ - فقلت: أيّها الناس، من كنّا أفتيناه بشيء فليتئّد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا.

وتبلغ أحدوثة عمر مبلغها بظنّ الناس أنّها الأصل الحقّ وغيرها ضلال.

يروي أحمد: قال عروة لابن عبّاس: حتّى متى تضلّ الناس يابن عبّاس؟! قال: ما ذاك يا عرية؟ قال: تأمرنا بالعمرة في أشهر الحجّ.

ويروي أحمد كذلك: أنّ ابن عمر كان يُفتي الناس بالمتعة، فكان الناس يُسائلونه: كيف تخالف أباك؟ حتّى قال لهم: لمَ تحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أفرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحقّ أنْ تتّبعوا سنّته أمْ سنّة عمر؟

ويروي البخاري: أنّ عثمان في خلافته تابع عمراً في منع العمرة في الحجّ، فتصدّى لذلك عليّعليه‌السلام ، وأهلّ بهما جميعاً.

عن سعيد بن المسيب، قال: اختلف عليّعليه‌السلام

٣٦٤

وعثمانرضي الله عنه ، وهما بعسفان في المتعة، فقال عليّعليه‌السلام :« ما تريد إلاّ أنْ تنهى عن أمر فعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله » . فلمّا رأى ذلك عليّعليه‌السلام أهلّ بهما جميعا.

وخالف عثمان أيضاً سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قصر الصلاة بمنىً فأتّمها.

يذكر أنس في الحديث المتّفق عليه: خرجنا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة إلى مكّة، فصلّى ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بها شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً.

وفي لفظ مسلم: خرجنا من المدينة إلى الحجّ. ثمّ ذكر مثله.

ومرّة اُخرى - كما في كلّ مرّة - يجيء المبرّرون ليقولوا إنّ عثمان تأوّل - كما قال ابن العربي في العواصم - وأمّا ترك القصر فاجتهاد.

ثمّ خلف من بعدهم خلف قعدوا للمخالفات على صريح مخالفتها للكتاب والسنّة عملاً بالرأي، ومن هؤلاء تقرأ لابن القيّم الذي لمْ يجد مستنداً لأحدوثة عمر، فلجأ بدوره إلى إنشاء شرعيّة من عنده أسماها: العمل بالسياسة.

فيقول(١) : ومن ذلك اختيار عمررضي‌الله‌عنه للناس إفراد الحجّ، وأنْ يعتمروا في غير أشهر الحجّ، فلا يزال البيت الحرام معموراً بالحجّاج والمعتمرين.

ومن هؤلاء أيضاً ابن أبي الحديد القائل(٢) : إنّ عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا محرّمهما ومعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحجّ، وهذا الكلام وإنْ كان ظاهره منكراً، فله عندنا مخرج وتأويل.

وهنا أيضاً نجد المخرج الذهبي: التأويل.

وقد مرّ بنا توّاً قول عمران بن الحصين في حديث البخاري، تعليقاً على نهي عمر: إنّه الرأي، قال رجل برأيه ما شاء.

____________________

(١) أعلام الموقعين، مرجع سابق ٤ : ٣٧٤.

(٢) نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد، مرجع سابق ١ : ١٨٢.

٣٦٥

إنّ ما سقناه من أمثلة قليلة من كثير(١) حدث نظنّ فيه الغناء دلالةً على القضيّة الخطيرة: أنّ العمل بالرأي في وجود النصوص قديم، وهو ما يقودنا إلى إجابات عمّا عنّ لنا من أسئلة طرحناها من قبل، فأوّلاً: ينجلي غموض ما وراء أحداث سقيفة بني ساعدة. وثانيّاً: يُفسّر لنا لماذا كان هناك اتّجاه عام من السلطة الحاكمة يحثّ على عدم رواية الحديث فضلاً عن كتابته؟

وثالثاً: يبصّرنا بالمنهج المتّبع لدى غالبيّة فقهاء السنّة في استفراغ الجهد في تكلّف انتحال الأعذار؛ لتبرير أفعال السلطة الحاكمة مهما كانت بعيدة عن صحيح النصوص، حتّى لقد ذهبوا في سبيل ذلك إلى كلّ بعيد ومستغرب على ما رأيت. وحتّى إنّهم يخطئون الصحابي - الذي على نفس درجة العدالة بزعمهم - إذا ما عارض صحابيّاً آخر حاكماً. بل إنّ الصحابي الواحد المخطّأ - بسبب معارضته للصحابي الحاكم - تصير أفعاله كلّها مبرّرة بمجرّد حيازته السلطة.

أفضى كلّ ذلك حتماً إلى الاختلاف والتضارب، ثمّ إلى التوهين من أمر الحديث، طالما يعمل بما يخالفه بزعم التأويل، فلا عجب إذاً ممّن وضع الحديث متأوّلاً في غير حياء - على ما أوردناه من قبل - قائلاً إنّما أكذب له لا عليه، أو إنّما أضعه حسبة لله.

والعجيب من هؤلاء الفقهاء وما طبعوا عليه قلوب العامّة، أنّهم في الوقت الذي يبرّرون فيه كلّ مخالفات النصوص - على ما رأينا - بزعم التأويل، ما فتئوا يردّدون حديث: شرّ الأمور محدثاتها. ويزعمون التزامهم بقاعدة: لا اجتهاد مع النصّ.

____________________

(١) راجع: السيّد مرتضى العسكري، معالم المدرستين : ٢ - طهران - مؤسسة البعثة : ١٩٩٢ م.

٣٦٦

بل يزيد العجب إذا رأيتهم يشجبون التأويل بالكلّية، ثمّ إذا بهم يمتدحونه عندما يستخدمونه للتبرير، ولكن على نهجهم. اقرأ ما قاله ابن القيّم في التأويل، بعدما امتدح تأويل عمر في نهيه عن المتعة، تقف على موضع العجب. يذكر ابن القيّم(١) : ويكفي المتأوّلين كلام الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتأويلات التي لمْ يردها، ولمْ يدلّ عليها كلام الله، أنّهم قالوا برأيهم على الله، وقدّموا آراءهم على نصوص الوحي، وجعلوا عياراً على كلام الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأصل خراب الدين والدنيا، إنّما هو من التأويل الذي لمْ يرده الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامه، ولا دلّ عليه أنّه مراده، وهل اختلفت الاُمم على أنبيائهم إلاّ بالتأويل، وهل وقعت فتنة كبيرة أو صغيرة إلاّ بالتأويل، فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلاّ بالتأويل.

وليس هذا مختصّاً بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرّسل لمْ تزل على الاستقامة والسداد حتّى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلاّ ربّ العباد.

____________________

(١) أعلام الموقعين، مرجع سابق ٤ : ٢٥٠.

٣٦٧

الحُسينعليه‌السلام و مناهج التغيير الاجتماعي

٣٦٨

السؤال الأساس: لماذا خُذل الحُسينعليه‌السلام ؟

يمثّل هذا السؤال في الواقع إحدى مشكلات منظومة إشكاليّة الخروج الحُسينيعليه‌السلام ، وهو بدوره يستدعي العديد من المسائل الاُخرى في تشابك غير يسير التفكيك ضمن المنظومة الكلّية، على أنّه يتحدّد - بطبيعة الأمور - من خلال زاوية الرؤية لهذا الخروج، ويستتبع كيفيّة توصيفه.

وبديهي أنّ صياغة السؤال على هذا النحو، تكشف ابتداءً عن انحياز لموقف الخروج، بحيث صار خذلان الحُسينعليه‌السلام في خروجه محلاًّ للاستفهام الأساس. ولا غرابة في ذلك بعدما استعرضنا من قبل أدلّة شرعيّة الخروج.

وهنا تتدافع الأسئلة في افتقارها إلى إجابة:

هل كان خروج الحُسينعليه‌السلام عملاً فرديّاً أمْ نخبويّاً أمْ جماهيريّاً؟ كيف يُمكن توصيف الخروج: تمرّد، انقلاب، ترك للجماعة، ثورة، مأساة، ملحمة ...؟ هل كان مسار الخروج صحيحاً من ناحية استيعاب الظروف المحيطة: المدينة، مكّة، الكوفة؟

تلك في تقديرنا المحدّدات التي يُمكن على أساسها فهم ذلك الخروج الذي يبدو محيّراً، بعدما دللّنا على شرعيّة الخروج على وجه العموم.

٣٦٩

الحالة العامّة حال الخروج:

عكفنا من قبل على التوفّر على تشريح خُطّة ما أطلقنا عليه: الحزب الاُموي في تطوّره عبر المراحل التاريخيّة، منذ كان تجمعاً غير منظم وحتّى صيغ مشروعه النهائي على يد معاوية، عبر ممارسات طويلة امتدّت من الجاهليّة الأولى، ومروراً بالعهد النبويّ وعهد الخلفاء حتّى تجسّد نهائيّاً في نظام ملكي وراثي مستقرّ.

وقد قادنا البحث إلى نتيجة مؤدّاها: أنّ ذلك النظام ذو طبيعة استبداديّة مطلقة، يُبرهن عليها مطابقة حيثيّاته لكافّة محدّدات ومؤشرات النموذج المعياري للنظام الاستبدادي.

كان النظام إذاً بالضرورة مناقضاً لمصالح الغالبيّة، ومستأثراً بما لا يحقّ له من خيرات البلاد، ومتحكّماً في أرزاق العباد، إنْ شاء أعطى وإنْ شاء حبس، وانساحت الحدود - حسب تعبير سيّد قطب - بين مال الحاكم الخاصّ وبيت مال المسلمين، وغرق النظام وحاشيته في الترف، في الوقت الذي عمّق فيه النظام من أبعاد النزعة القبليّة، وألّب القبائل بعضها على بعض، وفرّق بين العرب ومواطني البلاد المفتوحة، كلّ ذلك في أجواء من القهر البدني والمعنوي، وعدم مراعاة حرمة الدماء، وكبت المعارضة، وقتل على الظنّة والشبهة، مع إشاعة التلبيس والخلط العمد في المفاهيم والمعتقدات، وتشويه مفتعل وفي إصرار لأطهر الرموز الإسلاميّة.

إنّ كلّ ذلك كان يعني، أنّ التناقضات بين النظام والجماهير كانت صارخةً وحادّة بما كان كفيلاً بإحداث ثورة شاملة تأتي على النظام من الجذور، ولكن ذلك لمْ يحدث، فماذا حدث؟

٣٧٠

هل كانت الكوفة معقلاً للثورة؟

تحفل كثير من كتب التاريخ بمثل هذا الوصف للكوفة، فهل كانت كذلك حقّاً؟ وهل كانت هناك بؤر ثوريّة اُخرى بخلاف الكوفة؟ وهل كان هناك مناخ سائد قابل لدعم الثورة إنْ هي نشبت، أو تقبّلها، أو تحمّلها؟

إنّك إنْ استعرضت حال الناس يومئذ في المراكز ذات الفعاليّة المؤثّرة في الدولة الإسلاميّة، لوجدتهم منقسمين على النحو التالي:

موقف النخبة:

عبد الله بن عمر:

يُنظر إليه تقليديّاً على أنّه مثال للتقى والورع والزهد، ولكنّه مهادن دائماً للسلطة، ويتعامل مع المستجدّات بسلبيّة واضحة، تمخّضت دائماً عن إضافة لرصيد النظام الاُموي خصماً من حقّ الجماهير في العدل. وتبدى ذلك بشدّة في موقفه من امتناعه عن مؤازرة عليّعليه‌السلام واعتزاله الصراع ضمن المعتزلين.

ثمّ إنّه لمْ يفعل أكثر من محاولة تخذيل الحُسينعليه‌السلام عن الخروج، وبايع يزيد مثلما فعل من بعد في تخذيل أهل المدينة عن ثورتهم، بادّعاء لزوم بيعة يزيد في عنقه.

عبد الله بن عبّاس:

أشار على الحُسينعليه‌السلام بعد الخروج. ولكي نتعرّف على حقيقة موقفه فلننظر في خطابه للحُسينعليه‌السلام الذي يُوجز في الآتي، كما روى الطبري(١) :

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٨٣.

٣٧١

أعيذك بالله من ذلك، إنّما دعوك أهل العراق للحرب والقتال، لا آمن عليك أنْ يغرّوك ويكذّبوك، ويخالفوك ويخذلوك، أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك. لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، إنْ أبيت إلاّ الخروج فسر إلى اليمن وتبث دعاتك، فإنّي أرجو أنْ يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

ولنا على هذا الموقف عدّة ملاحظات:

- مجمل كلام ابن عبّاس ينحصر في تخوّفه على الحُسينعليه‌السلام كشخص.

- لمْ يتعرّض ابن عبّاس مطلقاً للقضيّة التي نذر الحُسينعليه‌السلام لها نفسه، فلمْ يذكر ظلم بني اُميّة، ولا حقوق المسلمين، وتعمّد إغفال أو تعمّد عدم التورّط في مجرّد مسّ أمر ساعتئذٍ، وهو مبايعة يزيد على الخلافة، ومدى أحقيّته في ذلك.

- كأنّي بابن عبّاس لمْ يرَها إلاّ صراعاً على الحكم مجرّداً، يبدو ذلك من قوله للحُسينعليه‌السلام : أقررت عين ابن الزبير، يأتيك الذي تحبّ في عافية.

- نزع ابن عبّاس نفسه كلّية من القضيّة، فخاطب الحُسينعليه‌السلام من الخارج، وكأنّه أمر لا يخصّ المسلمين جميعاً وهو منهم، وإنّما كأنّه أمر يخصّ الحُسينعليه‌السلام وحده، وبالتالي فإنّه يقف موقف الناصح له من بعد.

والمتأمّل لهذا الموقف يستطيع بيسر أن يرى اتّساقه وما آل إليه حال ابن عبّاس، فبعدما أبلى بلاءً حسناً نصرةً لإمامه عليّعليه‌السلام منذ بداية خلافته وحتّى قُبيل وفاته، إذا به يتراجع القهقرى عندما أحسّ إدبار الدنيا عن عليّعليه‌السلام ،

٣٧٢

فأقدم على نزح بيت مال البصرة - وكان عامل عليّعليه‌السلام عليها - ليذهب في حراسة أخواله بني هلال بن عامر(١) ليستأمن بمكّة، ثمّ كان من أمره من بعد أنْ بايع يزيد في أمان.

محمّد بن الحنفيّة:

شخصيّة يكتنفها غموض شديد، ولا يقلّ سلبيّة عن سابقيه، ولا يكاد يخرج خطابه للحُسينعليه‌السلام عن خطاب ابن عبّاس، بل هو أنكد وأمرّ، إذ لمّا أبان له الحُسينعليه‌السلام عن عزمه المسير، قال(٢) : فانزل مكّة، فإنْ اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإنْ نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي ....

وهذا كلام أقلّ ما يُقال فيه: أنّه مُثير للّوعة والأسى على فقدان الناصر من أقرب المقرّبين، ولكنّه في ذات الوقت عندما يُضاف إلى كلام ابن عبّاس - ودعك من ابن عمر - فإنّه يدلّ دلالةً واضحةً على تغافل لا يُمكن أنْ يُوصف إلاّ بأنّه عمدي عن صلب القضيّة، بمحاولة حصرها في كونها قضيّة شخصيّة خاصّة بالحُسينعليه‌السلام .

وعندما يصرف ابن عبّاس وابن الحنفيّة القضيّة عن وجهها الحقّيقي على ذلك النحو، فإنّهما بذلك يكونان قد ضمّناها مبرّرهما بعدم المشاركة وانخلاعهما منها.

نرى أنّ وصف ذلك الموقف بالتغافل العمدي حقّ، لمّا كان لا يُمكن اعتبارهما غير واعيين بلبّ القضيّة، ذاك أنّ أحدهما كان مستشاراً لعليّعليه‌السلام وعامله

____________________

(١) المرجع السابق : ١٤٢.

(٢) المرجع السابق : ٣٤٢.

٣٧٣

ومشاركه في حروبه كلّها، وأمّا الآخر فصاحب راية عليّعليه‌السلام في الجمل والنهروان، وذلك فضلاً عن قرابتهما القريبة بما تعني من معايشتهما الكاملة لكافّة تفصيلات القضيّة.

وربما كان ذلك الموقف أحد الأسباب التي حدت بالحُسينعليه‌السلام إلى كتابة كتابه إلى محمّد بن الحنفية، وفيه قوله الشهير:« إنّي لمْ أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي ».

أفتراهما كانا على غير علم بحقيقة دواعي الخروج؟ أمْ تراهما قد طال بهما العهد، فركنا إلى الدّعة، فاختارا لنفسيهما ما أبى الحُسينعليه‌السلام على نفسه؟ أمْ ترى أصحاب الحُسينعليه‌السلام أكثر وعياً منهما؟

استعد مقالات(١) هذه الثلّة أهوال الهيعة، ترى الفرق واضحاً بين الموقف المتقدّم للمجاهد الواعية بأبعاد قضيّته والثائر النقيّ، وبين مدّعي الحكمة الجوفاء والمستعيض بالقول عن الفعل ساعة الفعل.

يقول زهير بن القين مخاطباً جيش يزيد قُبيل نشوب القتال في كربلاء: نذار لكم من عذاب الله نذار! إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملّة واحدة، ما لمْ يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة، إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنّكم

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق : ٤١٩ وما بعدها.

٣٧٤

لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.

ويقول مسلم بن عوسجة الأسدي: أنحن نخلّي عنك، ولما نعذر إلى الله في أداء حقّك؟! أمَا والله، حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولو لمْ يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

ويقول سعيد بن عبد الله الحنفي: والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله، لو علمت أنيّ أُقتل ثمّ أُحيا، ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذر، يفعل ذلك بي سبعين مرّةً ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

عبد الله بن الزبير:

صاحب مشروع سياسي مناقض في أصوله للقضيّة الحُسينيّة وإنْ اشترك معها في مناهضة النظام الاُموي، ولكن انطلاقاً من أسبابه الخاصّة المتعلّقة بمشروعه القِبلي المتعصب القائم على الامتياز القرشي، والمنحصر في أسبقيّة حقّ المهاجرين وانسحابه على أبنائهم.

وهو ذو شره قديم للسلطة انعكس في تأجيجه الصراع وتعميقه الخلاف على عليّعليه‌السلام منذ بداية خلافته، حتّى إنّه عندما استرجعت السيّدة عائشة في مسيرها إلى حرب الجمل لمّا نبحتها كلاب الحوأب، وتذكّرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، أقسم ابن الزبير كذباً، أنّها ليست الحوأب، كيما تستمرّ الحرب(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٤ : ٤٦٩.

٣٧٥

وعندما ذكّر عليّعليه‌السلام أباه الزبير يوم الجمل بالله، وقِيل بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« لتقاتلنه وأنت له ظالم » ، استذكر الزبير، وأقسم على ترك الحرب، فإذا ابنه عبد الله يستحثّه على مواصلة الحرب والتكفير عن يمينه والعودة للقتال(١) .

ولمْ تكن حقيقة طموحات عبد الله غائبة عن الحُسينعليه‌السلام أو عن غيره، فقد دعا الحُسينعليه‌السلام إلى الخروج إلى الكوفة لمّا أطلعه الحُسينعليه‌السلام على عزمه، فقال عبد الله مستحثّاً: أمَا لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها.

والملاحظ أنّ قول ابن الزبير يختلف عن أقوال الثلاثة السابقين، إذ أنّ دعواه في ظاهرها تتّفق ودعوى الحُسينعليه‌السلام من حيث تحقّق ظلم بني اُميّة ووجوب الخروج عليهم والامتناع عن بيعة يزيد، ولذلك فلا يُمكنه التحدّث بمثل كلامهم، وإلاّ كان موقفه بلا معنىً.

إلاّ أنّ ابن الزبير يعلم أنّ وجود الحُسينعليه‌السلام حائل لا محالة بينه وبين إدراك مراده، فإنّ الناس لا تعدله به؛ ولذلك فإنّ متابعته الحُسينعليه‌السلام على الخروج تحقّق عدّة أهداف في آن معاً، فهو أوّلاً: لمْ يخذّل الحُسينعليه‌السلام بل يُظاهر الناس بأنّه مؤيّد لكلّ خارج على ظلم الاُمويّين. وهو ثانياً: يتخلّص من مزاحمة الحُسينعليه‌السلام له في الحجاز. ثمّ هو ثالثاً: يرمي عدوّه الرئيسي ذا الشوكة - الاُمويّين - ويشاغله بالحُسينعليه‌السلام في العراق ريثما يمكّن لنفسه في الحجاز.

ولو لا أنّ هذه الاعتبارات كانت واضحة في ذهن الحُسينعليه‌السلام ، وأنّ منظور الخروج عنده يختلف كلّية عنه عند ابن الزبير، لكان السؤال الطبيعي الذي لا بدّ أنْ يطرح نفسه: لماذا لمْ تتوحّد جهودهما معاً ضدّ العدوّ المشترك؟

____________________

(١) المرجع السابق : ٥٠٢.

٣٧٦

فمن المفترض أنّ التناقض الرئيسي كان قائماً بينهما وبين نظام بني اُميّة، وكانت تناقضهما في العلن ثانويّاً، فكان من المنطقي أنْ تتحد قواهما الثوريّة في تلك اللحظة، ولو باتّباع اتّفاق مرحلي ( تكتيك ) ضدّ العدو الرئيسي، حتّى ولو كان هذا الاتّفاق في أضعف صوره على أساس جبهوي، مع الحرص على إخماد مظاهر التناقض الثانوي إلى حين بروزها التلقائي، ولكن بعد أنْ يكون الهدف المشترك قد تحقّق بشكل حاسم.

إنّ إجابة هذا السؤال متضمّنة بوضوح في موقف ابن الزبير إزاء الحُسينعليه‌السلام ونصيحته له، فهو لمْ يكن على استعداد للاتّفاق مع الحُسينعليه‌السلام بالذّات، وإنْ كان قابلاً للتحالف مع آخرين بشرط ضمان إحكام قبضته، على ضبط حركة ووتيرة هذه العلاقة حسبما يشاء. ويدلّ على ذلك تعليق الحُسينعليه‌السلام على نصيحة ابن الزبير بقوله(١) :« ها! إنّ هذا ليس شيء يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أنْ أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لمْ يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجت منها لتخلوَ له » .

وهو ما ذهب إليه أبو برزة الأسلمي - فيما رواه البخاري في كتاب الفتن - بقوله في ابن الزبير: وإنّ ذاك الذي بمكّة، والله، إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا.

ولا يظنن أحد أنّ استفهامنا عن سبب عدم طرح الاتّفاق الجبهوي ببعيد، فإنّ ذلك ما حدث فعلاً مع طرف آخر في الصراع وهم الخوارج، ولكن الخوارج غير الحُسينعليه‌السلام ، فهم من جانب قوّة بأس وذوو عزيمة، وينطوون على كره شديد للنظام الاُموي، فضلاً عن كونهم لا يرون رأي شيعة عليّعليه‌السلام بل أكفروه، وهم من

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٨٣.

٣٧٧

جانب آخر لا يلقون قبولاً من عامّة المسلمين، وذلك يعني إمكان استفادة ابن الزبير من الجانبين معاً، فيُفيد من شوكتهم إلى المدى الذي يراه، وفي الوقت ذاته يظلّون ورقةً قابلةً للحرق في أيّة لحظة. وعلى هذا تحالف ابن الزبير مع نافع بن الأزرق وأصحابه، وقاتلوا معه جيش يزيد، ثمّ تفارقا.

ويسوق المؤرّخون(١) سياقاً غير مقنع لسبب الافتراق، إذ يذكرون: أنّ الخوارج تذاكروا فيما بينهم من بعد، أنّه ربما كان ابن الزبير مخالفاً لهم في رأيهم وعلى غير طريقتهم، فسألوه فجأةً عن رأيه في عثمان بن عفّان وهم يعلنون منه البراءة، فلمّا أعلن ابن الزبير تولّيه عثمان، تبرّأ كلّ فريق من الآخر وافترقوا.

وأغلب الظنّ أنّ ما حدث كان تراضي الطرفين على التغافل عن أوجه الخلاف فيما بينهما في البداية، حتّى إذا ما حانت اللحظة المناسبة وفق حسابات كلّ طرف، أشهروا وجه الخلاف حين شعر كلّ فريق أنّ مصلحته في تلك اللحظة فضّ الاتّفاق. وممّا يُعزّز هذا الرأي، أنّ ذلك الخلاف لمْ يقع إلاّ حين مات يزيد، وحسب كلّ فريق أنّها الفرصة الملائمة للعمل لحسابه الخاصّ، فافتعل الخوارج استذكارهم الفجائي لموقف ابن الزبير وأبيه المناديين: يا لثارات عثمان.

ورجع ابن الزبير عن إعطائهم الرضا الذي أعطاهم من قبل، وكان قد أكّد عند مقدمهم الأوّل أنّه على رأيهم من غير تمحيص.

وقد أثبتت الأيّام دوماً أنّ لعبة التحالفات المؤقتة بين فرقاء لا يجمعهم نسق قيمي واحد ينعكس في رؤية شاملة، لا تُجدي شيئاً في سبيل إحقاق حقّ وإبطال

____________________

(١) المرجع السابق : ٥٦٤.

٣٧٨

باطل، وإنّما هي تليق بطلاب دنيا لا طلاب عدل؛ ذلك أنّ الأوّلين هم خرجوا في الآخرين لا يزيدوهم إلاّ خبالاً، ولأوقعوا خلالهم يبغونهم الفتنة.

وقد حارب ابن الزبير بالأمس عليّاًعليه‌السلام ، باشتراك وتمويل بني اُميّة في حرب الجمل، فكانت نتيجتها رصيداً مضافاً إلى رصيد معاوية المتربّص بالشام. فلا يتوقّع منه اليوم أنْ يُؤازر الحُسينعليه‌السلام على مشروع قاتله عليه بالأمس، إلاّ أنْ يُحقّق له نفعاً، ولكنّ منفعته اليوم هي التخلّص من الحُسينعليه‌السلام ، فليُؤازره إذاً بالكلام، ويدفعه وحده إلى قتال يزيد، ثمّ يُبكيه بعد مقتله.

وقد جاءت الأيّام من بعد، فلقي الهاشميّون على يد ابن الزبير وعمّاله، من العنت والإحصار والشدّة ما لا يقلّ عمّا لاقوه على أيدي بني اُميّة، حتّى ترك ابن الزبير ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كراهةً في الهاشميّين، وحتّى لمْ يجد قتلة الحُسينعليه‌السلام (١) ، وعلى رأسهم: عمر بن سعد، ومحمّد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، ملجأ عندما طُوردوا إلاّ مصعب بن الزبير أخا عبد الله وعامله على البصرة.

وحين أراد عبد الله بن يزيد عامل ابن الزبير على الكوفة، تخذيل التوّابين عن ملاقاة جيش الشام، قال زعيم التوّابين سليمان بن صرد(٢) : لا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلاّ ضلالاً. بما يعنيه ذلك من فطنة أنصار الحُسينعليه‌السلام لحقيقة الدور القائم به ابن الزبير.

شيوخ صفّين:

وصفّين أعني بها المرحلة والموقف بكامله لا المعركة وحدها، فلقد كانت مرحلة بما اشتملت عليه من حرب وما انتهت إليه من تحكيم وما تلاه من

____________________

(١) الدينوري، الأخبار الطوال، مرجع سابق : ٣٠١.

(٢) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٥٩٢.

٣٧٩

تداعيات، حتّى كان التخاذل الأعظم بمعسكر النخيلة وعودة عليّ يائساً من قومه حتّى رحمه الله بأشقى هذه الاُمّة، ثمّ ما كان بعد ذلك من نكوص عن حرب معاوية استمراراً في التخاذل حتّى خلص الأمر لمعاوية في النهاية.

أسفرت مفرزة صفّين في معسكر عليّ عن تصنيف لفئات الناس لما يزل قائماً حتّى خروج الحُسينعليه‌السلام ، بل أحسبه كذلك في كلّ عصر وحتّى آخر الزمان:

فئة ممتازة ذات وعي كلّي، الفكرة لديها واضحة وضوحاً لا لبس فيه، تحيط علماً بأبعاد قضيتها إحاطة شمول.. وعلى يقين من أمرها لا شك فيه، ولكنها كالعهد بها دائماً قليلة العدد، فإن غالبية الناس على غير ذلك، وقد جاء القرآن بثبوت ذلك، فقال الله تعالى:

( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (١) .

( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (٣) .

وهذه الفئة تضمّ أمثال: عمّار بن ياسر وحجر بن عدي، والأشتر وعمرو بن الحمق.

وفئة ثانية: تنطوي على إخلاص وحسن نيّة، ولكن يلتبس عليها أمر الحقّ، فتحتاج أنْ تستوثق منه، وتفتقر في ذلك إلى من يُعينها على إدراكه، فإذا ما استوثقت لحقت بالفئة الأولى أو كادت، ومن هؤلاء: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ولا أراني مخطئاً ألحقت بهذه الفئة كثيراً من الخوارج.

____________________

(١) سورة البقرة : ٢٤٣.

(٢) سورة الأعراف : ١٨٧.

(٣) سورة هود : ١٧.

٣٨٠