أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87764
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87764 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وارتكسَ مَن ارتكس، ونكصَ مَن نكص، فلمّا دانت ساعة المواجهة وجد الداعين له هم الذين يحاربونه، ولقي الأنصار المفترضين هم الذين يقاتلونه، بلا أدنى مشكلة لديهم، وبلا مواربة ولا حياء.

إذاً خدعتنا مقولة الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. وأشعرتنا خطأً أنّ هناك انفصاماً لدى القوم، وهو غير صحيح، نتيجة عدم استشعارهم أصلاً أزمة فيما يقترفون.

لا بدّ إذاً من البحث عن تفسير آخر أكثر إقناعاً لمَا حدث.

لعلّنا نجد في تحليل شخصيّة الجماعة ما عساه يهدينا إلى إجابة. ونقول: إنّ الجماعة - كما الفرد - تتكوّن شخصيته من عناصر عدّة لا انفصال بينها في الواقع، ولكنّها في علاقات تبادليّة وتخضع لتنظيم خاصّ هو الذي يميّز شخصيّة عن أخرى، وبذا فإنّ الذات الشخصيّة هي في النهاية تنظيم ينتظم علاقات بين عناصر بشكل خاصّ.

وكذلك الجماعة، ليست مجرّد تراكم بشري، أي: ليست حاصل الجمع الحسابي للأفراد، وإنّما هي نظام ذو ذات مفترضة(١) تكمن حيويّتها في كونها وعاءً لتفاعلات ( ديناميّة ) وتبدلات تماثليّة بين الأشخاص.

وهكذا فإنّ الشخص لا يعيش في فراغ، ولا يسلك في استقلال، كونه يعيش في جماعة، بل إنّ هناك شبه تطابق بين سمات شخصيّة أعضاء الجماعة والسمات العامّة للجماعة، وهو ما تؤكّده الدراسات الحديثة، منها: نظرية كاتل ( Cattel ) في الشخصية العامّة للجماعة (Group Syntality Theory )(٢) .

____________________

(١) ديدية أنزيو، الجماعة واللاوعي، ترجمة د. سعاد حرب : ٦ - القاهرة - الكتاب للنشر : ١٩٩٠ م.

(٢) ما رفن شو، ديناميّات الجماعات، ترجمة د. مصري حنورة ودّ. محيي الدين أحمد : ٤٣، ط ٢ - القاهرة - دار المعارف : ١٩٩٦ م.

٤٠١

والسمات العامّة للجماعة - بما تتضمنه من علاقات تبادلية - دالّة في متغيّر أساسي يتعلّق بناموس الثقافة بمحتواه الواسع والمتضمن للقواعد النظريّة، ونسق القيم، والخبرات التطبيقيّة المتراكمة، والتقاليد المتبعة، ومكتسبات المواجهات في المواقف المختلفة.

كلّ تلك العناصر تعمل على مهل وتترسخ، وتترسّب في مخزن عميق واسع هو ما أسماه يونج ( Jung ) باللاوعي الجماعي(١) .

علينا إذاً أنْ نفتّش في هذا المخزن العميق، لعلّنا نجد ضالتنا تلك التي تجعل الأشخاص يقترفون الاثام دونما شعور بإثم، ويأتون بأكبر الكبائر وكأنّها لمْ تبلغ حدّ الصغائر. والمشكل في كلّ ذلك أنّهم ليسوا بمغيّبين، وإنّما مدركون لمعنى الخطيئة، وواعون بحدّ الكبيرة.

لا أظنّ أنّه من العسير على أحد أنْ يضع يده مباشرةً على السبب، إنّه في كلمة واحدة: التبرير ( Rationalisation )، فذلك ما مارسه الناس على مرّ الأزمان، ويمارسونه اليوم، وعلى امتداد الأرض.

والتبرير(٢) هو التمويه على الباطل بما يشبه الحقّ، هو عقلنة الضلال، هو إضفاء الشرعيّة على المحرّمات، وهو الحيلة الدفاعيّة التي يلجأ إليها لخداع الذات - قبل الأغيار - بغرض التنصّل من الالتزامات، ونفياً للقيم والضوابط بليها هي ذاتها لحساب المتعارض معها من مصالح وأهواء.

وأنت لا تغلو إنْ قلت: إنّ أخطر ما أصاب دولة الإسلام وأصابها في مقتل، هو تلك الحيلة الخداعيّة التبرير، فلمْ يعيها عدوّ خارجي، ولا توالت عليها

____________________

(١) د. علي زيعور، مذاهب علم النفس : ٢٦٦، ط ٥ - بيروت - دار الأندلس : ١٩٨٤ م.

(٢) أصول علم النفس، مرجع سابق : ٥٦٠.

٤٠٢

كوارث طبيعيّة، وإنّما فتك بها ذلك المرض العضال الذي باكرها، ولم يزل بها ناهكاً قواها حتّى أسقطها وهي بعد لمْ تزل في المهد.

تلمح البداية الأولى في مخالفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو حيّ في قضيّة بعث أسامة، وفي عدم الانصياع لأمره بموافاته بدواةٍ وكتاب ليكتب للأمة، ثمّ توالت التبريرات في السقيفة، ثمّ على يد الخلفاء الثلاث، مثل قضية: خالد ومالك على يد أبي بكر، ومخالفة النصوص المحكمة على يد عمر، والانحراف المالي والإداري في عهد عثمان، ثمّ موبقات معاوية حتّى كانت كارثة كربلاء.

وفي مجتمع ساد فيه نظام شديد المركزيّة كالمجتمع الإسلامي الأوّل، تتّضح فيه المشابهة بين نظام الدولة والسلطة الأبويّة - بالمصطلح الفرويدي - بما يعينه ذلك من مسايرة غير منطقيّة وإذعان وولاء وطاعة غير معقولة للسلطة، حتّى وإنْ لمْ تفِ تلك السلطة بشرط الطاعة الحاسم وهو الإشباع، فهاهنا تعمل عملها العلاقات الغير المرئيّة من التقليد والعادة.

فلمّا مُورس التبرير وبتكرار من السلطة الأبويّة، وعلى مدى طويل نسبيّاً - بالنظر إلى مجتمع إسلامي وليد لمْ يتمثّل بعد واقعيّاً محدّداته النظريّة - انساب هذا المدرك من علٍ، وتخلّل خلايا المجتمع، وصار أحد مكوّنات اللاواعي الجماعي، ليستحضر في أوقات الأزمات، ويستظهر في أنماط السلوك الطفليّة تجاهها.

لا يحسبنّ أحد أنّ هذا التحليل غلوّ في تقدير القوّة النفسيّة، فإنّ أشدّ الناس إلحاحاً على التفسير ( السوسيولوجي ) للظواهر يتّفقون وهذه النتيجة، فالنظريّة الماركسيّة(١) تُؤيّد فكرة أنّ الإذعان للسلطة تعتمد على العادات والتقاليد

____________________

(١) د. اُوسبورن، الماركسيّة والتحليل النفسي : ١٤٣، ط ٢، ترجمة د. سعاد الشرقاوي - القاهرة - دار المعارف : ١٩٨٠ م.

٤٠٣

والقبول النفسي لسيطرة طبقة ما، نتيجة عمليات التربيّة الموجّهة والتطبيع الاجتماعي والتدعيم.

لنتذكّر المثل الصارخ على ما نقول فيما أسلفنا بيانه، عن حادثة قتل عمّار بن ياسر في صفّين على يد جيش معاوية، وتحقّق قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« تقتلك الفئة الباغية » . فماذا قال معاوية؟

قال: إنّما قتله الذين دفعوا به للقتل.

أفتراك تعجب إذاً عند سماعك أقوال قاتلي الحُسينعليه‌السلام إبّان المعركة(١) :

يقول شمر بن ذي الجوشن: يا حُسينعليه‌السلام ، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة.

ويقول عبد الله بن حوزة: يا حُسينعليه‌السلام ، أبشر بالنار.

ويقول عليّ بن قريظة: يا حُسينعليه‌السلام ، يا كذاب ابن الكذاب.

ويقول عمرو بن الحجّاج لأهل الكوفة: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين، وخالف الإمام.

وأنت تلاحظ الغلوّ والإسراف والفحش في تلك الأقوال للحُسينعليه‌السلام : أبشر بالنار، الكذاب ابن الكذاب، المروق من الدين. ويبلغ الغلوّ مداه بالفعل، ليس اكتفاءً بقتل الحُسينعليه‌السلام ، وإنّما بالتمثيل به بجز رأسه، والإصرار على دكّه بطناً وظهراً بسنابك الخيل. وتلك أيضاً خصيصة بارزة للتبرير: الغلوّ في سوقه، تأكيداً لحاجة في النفس إمعاناً في الزيف وخداع الذات، وكأنّه يُؤكّد لنفسه أنّه صاحب قضيّة جديرة بالاستغراق فيها.

ثمّ إنّك إنْ بحثت عن مبرّر التبرير، لوجدت فوراً المصلحة الشخصيّة المباشرة ذات المدى الواسع، لتشمل كلاًّ حسب طاقته، فهذا عمر بن سعد بن

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٤٢٤ وما بعدها.

٤٠٤

أبي وقّاص قائد قاتلي الحسينعليه‌السلام وصحبه، يمنيه عبيد الله بن زياد ولاية الري، إنْ كفاه الحسينعليه‌السلام . وهذا أحد القتلة وهو مروان بن وائل، يقول: كنت في أوائل الخيل ممّن سار إلى الحسينعليه‌السلام ، فقلت: أكون في أوائلها لعلّي أُصيب رأس الحسينعليه‌السلام ، فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد. ولكن سنان بن أنس جعل لا يدنو أحد من الحسينعليه‌السلام إلاّ شدّ عليه مخافة أنْ يغلب على رأسه، حتّى ذبحه واحتزّ رأسه، ثمّ أتى به فسطاط عمر بن سعد منادياً بأعلى صوته:

أوقر ركابي فضةً وذهبا

أنا قتلت الملك المحجّبا

ولمّا دفع الرأس إلى خولي بن يزيد ليذهب به إلى عبيد الله بن زياد، فبات به ليلته في بيته، قال لامرأته: جئتك بغنى الدهر.

وهكذا استظهرت المصلحة القريبة الوقتيّة والمباشرة العمياء حيلتها تلقائيّاً من مخزونها اللاواعي، وهي التبرير، وصاغته في قالب يناسب نمط المرجعيّة السائد اسميّاً وهو الدين، فكان التبرير هو: المروق من الدين بمخالفة الإمام.

ونحن نُعيد التأكيد على أنّ قولنا: تلقائيّة استخراج الحيلة إنّما يعني أنّه لو لا السوابق التاريخيّة الممارسة طويلاً من السلطة والراسخة في الأعماق، ما كان يُمكن لهذه التلقائيّة أنْ توجد، وما كان يُمكن سوق التبرير بمثل هذه البساطة الشديدة، مرّةً اُخرى: لمْ يتح لهذا الدين المستكمل نظريّاً أنْ يُمكّن له في أرض الواقع بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أيضاً نجحت السلطة في اللجوء إلى استثارة أشكال التفكير الطفليّة لدى الكتلة الشعبيّة للإبقاء على إذعانها - وهو ما أريد لها كذلك منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - بالتعامل مع عوامل الاهتزاز، في بنائها النفسي من مخاوف وقلق وأطماع وتردّد، يتّضح ذلك من خطّة عبيد الله بن زياد في تفريق الآلاف

٤٠٥

من أصحاب مسلم بن عقيل مبعوث الحُسينعليه‌السلام إلى الكوفة، إذ لمّا أحاطوا بقصر ابن زياد، جمع الأشراف في قصره وقال لهم: أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول خروج الجنود من الشام إليهم.

فما كان إلاّ أنْ انفضّ الناس من حول مسلم، وبقي وحيداً يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب(١) . إذاً كان أهل الكوفة يناصرون الحُسينعليه‌السلام على حرف، وبذا خُسر آخر رهان لإحداث التغيير.

لمْ تكن القاعدة على مستوى الوعي الذي يُؤهلها للانفلات ممّا اعتادت عليه، فضلاً عن الطموح لاستشراف مستقبل أفضل، بالإضافة إلى استشراء الخراب في الأعماق بنائها الداخلي. يقول فان فلوتن(٢) : لمْ يكن إخلاص العرب من أهل الكوفة لآل البيت بريئاً من جهاد كثيرة.

ويذكر أيضاً: أنّهم كانوا يقولون في الكوفة: مَن أعطانا الدراهم قاتلنا معه. يدلّ على ذلك هذا البيت:

ولا في سبيل الله لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم

وهكذا تضافرت عوامل تحقّق الحدث - الكارثة: كربلاء - من سيطرة النخبة القبليّة التقليديّة وهي قيد قبضة الحاكم ذي السيطرة الماديّة والنفسيّة، إلى قاعدة شعبيّة متهرّئة مردت على الإذعان، إلى انحسار الوعي والنضج في فئة قليلة

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٧١.

(٢) فان فلوتن، السادة العربيّة والشيعة والإسرائيليّات في عهد بني اُميّة : ٧٠ - ٧٥، ط ٢ ترجمة: د. حسن إبراهيم، محمّد زكي إبراهيم - القاهرة - مكتبة النهضة المصريّة : ١٩٦٥ م.

٤٠٦

للغاية كان من المفترض أنْ تكون الطليعة عن طريق تعظيم فاعليّتها في محيطها، ولكنّها تمتّعت بمثاليّة لمْ يدعمها في الغالب حنكة ومراس.

على أنّ أخطر ما أسفر عنه هذا الحديث الجلل هو ذلك التشوّه الشديد الذي أصاب الشخصيّة العامّة للجماعة، فلا هي تمثلت قيم الإسلام بتغليب الحقّ على الهوى، ولا هي التزمت حتّى مقتضيات الحميّة الجاهليّة كما اُسلم وخُل هانئ بن عروة المستغيث بقبيلته، وما من مغيث.

لقد أضحينا بإزاء مسخ شديد التشوّه، تُحار في توصيفه على وجه الدّقة، مجتمع يرفع راية الدين، وسلطة تستمدّ شرعيّتها من هذه الراية، واُناس يدّعون الورع حتّى الزهد، وفقهاء يخيل لك أنّهم من الحيطة والحذر لدينهم حتّى تراهم يتدارسون حكم دم البرغوث يصيب الثوب، وشعائر تُقام في كلّ مكان، وجيوش تنطلق في الاتجاهات الأربعة باسم الفتح

ومع كلّ هذا تجد نفوساً منطوية على نفاق لا تعرف له مثيلاً، وخنوعاً وإذعاناً يترفّع عنهما العبيد، وعبادة للدرهم والدينار تأبّت نفوس الجاهليّين عن مثلها، وقهراً وجبروتاً من سلطة غاشمة تنافس أعتى نظم الاستبداد على مرّ التاريخ.

والجميع متواطئون على الضلال، سواء الذين ولغوا مباشرةً في دماء الأبرياء أو الذين كانوا شهوداً عليهم دون حراك، فكان أنْ اقترفوا ما تتصاغر إزاءه فظائع الرومان من قبل أو التتار من بعد، القتل والذبح والتهافت على فصل الرؤوس والطواف بها على أسنّة الرماح في البلدان، وسلب ودكّ الجثث بسنابك الخيل، والهجوم على النساء، وحتّى الأطفال وفيهم الرضع لمْ يُسلموا من القتل، كعبد الله الرضيع بن الحسينعليه‌السلام وفيمَن يُفعل كلّ هذا في اُناس خرجوا مصلحين لمّا اُعوج من أمر هذه الاُمّة ليردّوها إلى الجادّة، ناهيك عن كونهم عترة رسول هذه الاُمّةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته وحرمه.

٤٠٧

ومن هنا تتّضح حقيقة هذا الدين، إنّه ليس مجرّد معتقدات خبيئه في الصدور، ولا مجرّد شعائر تقام فرديّاً أو اجتماعيّاً، فكلّ ذلّ يتصوّر حدوثه، ومع ذلك تجد مجتمعاً فاسداً، ولكن هذا الدين - بالدرجة الأولى - هو النظام، الذي يسود المجتمع ويتخلّل علاقاته كلّها، ويُعيد صياغة الإنسان على مثال أمثل نماذجه.

والذين تصوّروا(١) انخلاع الإنسان الجاهلي كلّية من جاهليّته على عتبة إسلامه أخطأوا التقدير؛ إذ ذلك هو المفترض حدوث فقط لو مُكّن للنظام أنْ يتمثّل الدين في الواقع، فتكون البيئة صالحة وكافية لحماية وصيانة هذه النفسيّة الجديدة من التردّي، ولكن ذلك لمْ يحدث، بل وئد النظام وهو بعد لمْ يزل في المهد. يعبّر عن ذلك أبو الأعلى المودودي(٢) معلّلاً استشهاد الحسينعليه‌السلام : بأنّه حدث تغير في مزاح وهدف ودستور الدولة، ممّا فرض فرضاً على سليل النبوّة الخالصة التصدّي للانحراف الخطير ولو كلّفه حياته.

وبمثل ذلك التصوّر الذي يعبّر عن حسن نيّة لا إدراك، قال أحد الباحثين حديثاً(٣) : حصل انقلاب جذري في ذهنيّة ووجدان العرب، فعوضاً عن أنْ يبقى العربي فرداً يذوب في القبيلة داخل اتّصال اُفقي، صار شخصاً يشعر بشخصيّته في ذاتها، ويتّصل عمودياً بكائن مطلق.

____________________

(١) سبق بيان رأي سيّد قطب في: معالم في الطريق.

(٢) أبو الأعلى المودودي، لماذا استشهد الإمام الحسينعليه‌السلام : ٩ - القاهرة - المختار الإسلامي.

(٣) د. محمّد عزيز الحبابي، الشخصانيّة الإسلاميّة : ٢٣ ط ٢ - القاهرة - دار المعارف : ١٩٨٣ م.

٤٠٨

ولكن فات هذا الباحث أيضاً أنّ هذا الاتّصال العمودي الذي قال به - وهو حقاّ هدف الدين - لا يتمّ في فراغ، كما أنّ قوّته تتوّقف على الوسط المحيط الذي يجب أنْ يتمتّع بخاصيّة تحجيم قدرة الشوشرة إلى أدنى حدّ لها، وبذا تتعاظم قدرة الاتّصال، وبالتالي يبدو مردوده في وضوح ونقاء السلوك.

إنّ استهداف الدين لهذا الاتّصال العمودي المباشر بالله، يعني البِناء الداخلي النموذجي للشخصيّة بتضمينها القوّة المحركّة الكامنة التلقائيّة، أو البوصلة الداخليّة ذاتيّة التحديد للاتّجاه المتوافق مع مستهدفات الدين، باعتبار الاتّجاه هو ذلك الأسلوب المنظّم والمتّسق في التفكير والشعور، وردود الأفعال تُجاه النفس وتُجاه الجماعة. ولكن هذه البوصلة الداخليّة شأنها شأن البوصلة الطبيعيّة قد ينحرف مؤشرها بتواجدها داخل مجال خارجي ذي قوّة مغايرة.

ولكن ما حدث من انحراف كان أخطر بكثير من وجود مجال خارجي أدّى إلى انحراف المؤشر الداخلي؛ إذ حدث فقد للاتّجاه المعياري الأصلي، فسهل بعدئذ توجيه المؤشر حيثمّا أُريد له.

لقد طرح نظام الخلافة - منذ البدء - ممارساته كبديل للاتّجاه المعياري، فكان الارتباك الأوّل، ثمّ توالت من بعده الممارسات، وتراكمت بما أفقد الاتّجاه الأصلي عبر عمليات التنشئة الاجتماعيّة المتطلّبة مطاوعةً مطلقةً، في ظلّ سياق اجتماعي ثقافي ضاغط، يوحد بين السلطة في كامل استبدادها والله، بحيث أصبح نقد السلطة أو مجرّد إسداء النصح لها اجتراء على الدين ذاته يبيح الدم.

وهكذا تقولبت المعيارية في ممارسات السلطة التي أضحت هي مصدر الشرعيّة، وحُشد لها ما أمكن من أسانيد مزيّفة لتعضدها، على غرار حديث:

٤٠٩

أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم. وكان قد تمّ حصر نطاق السلطة أصلاً منذ البداية فيما عبّر عنه معاوية بقوله(١) : ثمّ ارتضى له - رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثمّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلاّ عليهم.

فلما كانت ممارسات السلطة قد أضفي عليها مثل هذه القدسيّة، وكانت هذه الممارسات تنطوي على آليات التبرير، وكان المطلوب المطاوعة الشعبيّة المطلقة، كانت النتيجة إذاً الحال التي وجد عليها القوم ساعة كربلاء.

يذكر ابن كثير في تفسير موقف الأحبار والرهبان في سورة التوبة:

وهل أفسد الدين إلاّ الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٤ : ٣٢٠.

٤١٠

أخطر أفعال الشيخين: اللاّيقين المعرفي - الذرائعية

مرّت على البشر حقب طويلة قبل أنْ يُدرك نفر منهم - من خلال البحث الجادّ والمجتهد ألاَ يُحمّل بمعقّبات مؤثرات داخليّة أو خارجيّة - مدى غرور الإنسان في وهمه إمكانه إدراك اليقين بوسائله الخاصّة.

فمنذ فجر الفلسفة اليونانيّة وحتّى عهد قريب اختلف البشر في درجة يقين مصادر المعرفة، وقد ردّوها إلى ثلاثة: الحسّ، والعقل، والحدس، بتنويعاتها وتداخلاتها المختلفة، إلاّ أنّ العصر الحديث كان أكثر العصور جرأة في ادّعائه امتلاك الحقيقة، لمّا وصل إليه العلم الطبيعي ( الفيزيوكيميائي ) من تنظيم وتقنين، ظنّ معه أنّه عصر الحقيقة النهائيّة التي اعتبروا نيوتن رائدها، حتّى قال أحد العلماء الكبار وهو لابلاس: إنّ نيوتن لمْ يترك شيئاً لأحد غيره ليأتي به.

تمخّض هذا الاعتقاد عن نسق معرفي كاد أنصاره ينصبونه مقدّساً جديداً لا يجوز نقده، وإلاّ رُمي ناقده بالتخلف، لمّا عدّوه عنوان العلم، أو هو العلم وحده وما عداه جهل بدائي. هذا النسق المعرفي يتلخّص في عناصر أساسيّة هي: الاستقراء، العلّية، اطراد الطبيعة، الضرورة بما يعني كلّ ذلك من تصوّر لكون آلي ( ميكانيكي ) حتمي.

ولكن جاءت كشوف العلم المعاصر لتهدّ ذلك النسق من أساسه، عن طريق مفاهيم النسبيّة، والكوانتم (  Quantum )، والطبيعة الموجيّة للمادّة بما أظهر

٤١١

فشل الميكانيكا ( الكلاسيكيّة ) في تفسير طبيعة الأجسام المتناهيّة الصغر، فكان أنْ حلّت محلّها معادلات شرودنجر ( Schrodinger ) بما يعرف بالميكانيكا الموجيّة أو ميكانيكا الكوانتم (wave or quantum mechanics).

ولعلّ أخطر مبادئ العلم المعاصر هو ذلك الذي يُنسب إلى هايزنبرج ( Heisenberg )، والمعروف بمبدأ اللاحتميّة أو عدم اليقين أو عدم اتعين (Uncertainty principle )(١) ، والذي يعني عدم إمكانيّة التحديد الدقيق لكلّ خواص أيّ نظام طبيعي في آنٍ معاً.

قاد ذلك إلى استبدال القوانين الحتميّة ( الكلاسيكية ) بنظريّات الاحتمال، وبالتالي أضحت التفسيرات، وبدورها التنبّؤات التي يقدمها العلم المعاصر احتماليّة وليست يقينيّة بحال.

وهكذا قدمت ( الإبستمولوجيا ) المعاصرة مفاهيم جديدة، سقطت معها مفاهيم العلّة والاطراد في الطبيعة، فالترابط بين الأحداث احتمالي وليس علّيّاً، وليست هناك قوانين ثابتة، بل فرضيّات قد تكون ناجحة، وأنّ المقدّمات المحتملة تُؤدّي إلى نتائج محتملة وليست مؤكّدة، وأنّ الاستقراء كمصدر للمعرفة اليقينيّة - كما يتصوّره البعض - هو تصوّر ساذج، لا يمتّ للعلم بصلة، لمّا كان مرتكزه الأساسي هو تلك القفزة التعميميّة التي لمْ يستطع أحد أنْ يقدّم لها تبريراً منطقيّاً فيما عرف بفضيحة الفلسفة (philosophy )(٢) حتّى إن أرسطو أبا

____________________

(١) (for all physical systems - not limited to electrons in a metal - there is always an uncertainty in the position and in the momentom of a particle and the product of these two uncertainties is of the order of magnitude of plank's constant.(

(٢) د. يمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانيّة : ١٨١، ط ٢ - القاهرة - دار الثقافة : ١٩٩٦ م.

٤١٢

المنطق لمْ يستطع تجاوز أشكالها، فالقول بالبرهان المنطقي الأرسطي يتضمّن لزوميّة النتيجة، وهي بدورها مؤسّسة على صدق المقدّمات، ولكن كيف؟ كلّ مقدّمة مبنيّة على معرفة سابقة أوّليّة، ولكن أرسطو لا يقول بوجود مبادئ فطريّة في العقل البشري، وبالتالي فليس هناك إلاّ الاستقراء، ولكنّه بدوره يقوم على معطيات الوقائع الجزئيّة وهي لا تُفيد العلم الكلّي. وهنا لمْ يجد مناصاً من مقولة مبهمة سمّاها: تكثيف الواقع التجريبي(١) بما يحدث معه حدس عقلي مباشر، يكون هو المعرفة الكلّية السابقة.

وفي تراثنا من أوقع نفسه في عدم الاتّساق مثل ابن تيميّة(٢) الذي يتشدّد في تقرير الاستقراء رامياً غيره بالتهافت، ظاناً أنّه يذب بذلك عن الدين، سالكاً في ذلك سبيل ابن رشد.

ولكنّك تجد في التراث أيضاً فكرة ( التجويز ) الأشعريّة، والتي هي عينها خلاصة ما انتهت إليه ( الإبستمولوجيا ) المعاصرة من احتماليّة النتائج المناقضة لفكرة العلّية والضرورة والاطّراد.

ولقد طرح الدين الإسلامي - وكلّ الأديان - المبادئ المحوريّة التي تقوّم البِناء المعرفي للإنسان، وأساسه أنّ اليقين مصدره الله وحده:( وَإِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ ) (٣) .( إِنّ هذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ ) (٤) ، وأنّ المعرفة الإنسانيّة مهما بلغت، فلا

____________________

(١) د. محمّد عابد الجابري، بنية العقل العربي : ٣٨٣، ط ٣ - بيروت - مركز الدراسات الوحدة العربيّة : ١٩٩٠ م.

(٢) د. محمّد سيّد الجليند، نظريّة المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان : ١٨٧، ط ٢ - القاهرة - مطبعة التقدّم : ١٩٨٥ م.

(٣) سورة الحاقّة : ٥١.

(٤) سورة الواقعة : ٩٥.

٤١٣

تعدو أنْ تكون قاصرة ومحدودة، سواء في ذلك المعرفة العقليّة الذاتيّة أو المعرفة المختصّ بها البعض من قبل الله. وهل أدلّ على ذلك من علم طائر الهدهد بما لمْ يعلمه نبي الله سليمان:( فَقَالَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) (١) ؟

وهل أدلّ على ذلك من مغزى خبر موسى والخضر، فيما قصصه القرآن في سورة الكهف، فحكم موسى بالظاهر، ولكن أراد الله أنْ يعلّمه ويعلّمنا أنْ وراء الظاهر علماً يقينيّاً لا يُدرك بوسائل الإنسان المحدودة؟

وهنا تسقط دعوى حجّية العقل في الحكم، تلك الدعوى التي تبنّتها بعض الفرق الإسلاميّة كالمعتزلة، بتقريرهم التحسين والتقبيح العقليينِ، والله تعالى يقول:( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (٢) . ويقول:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (٣) .

ولأبي زهرة تعليق على تلك المسألة(٤) : العقل عند جمهور الفقهاء ليس له أنْ يشرع الأحكام، ولا يضع التكليفات. وليس معنى ذلك أنّه لا مجال لعمله، بل إنّ له عملاً، ولكنّه ينطلق في عمله حيث يطلقه الله سبحانه وتعالى، ذلك أنّ التكليفات الإسلاميّة يتعلّق بها الثواب والعقاب، وهما أمران يتولاّهما العليم الحكيم يوم القيامة، وما كان الله تعالى ليعذّب أحداً على عمل لمْ يبيّن له طلبه فيه، ولذا قال تعالى:( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى‏ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) .

____________________

(١) سورة النمل : ٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢١٦.

(٣) سورة يوسف : ٤٠.

(٤) اُصول الفقه، مرجع سابق : ٦٨.

(١) سورة الإسراء : ١٥.

٤١٤

ويقول البغدادي(١) في بيان ما يُعلم بالعقل وما لا يُعلم إلاّ بالشرع: وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يُعرف إلاّ من طريق الشرع، فإنْ أوجب الله عزّ وجلّ على عباده شيئاً بخطابه إيّاهم بلا واسطة أو بإرسال رسول إليهم وجب، وكذلك إنْ نهاهم عن شيء بلا واسطة أو على لسان رسول حُرّم عليهم، وقبل الخطاب والإرسال لا يكون شيء واجباً ولا حراماً على أحد.

إذاً الأصل هو النصّ، إذ هو وحده مصدر اليقين وما عداه فظنّ، وما كان ظنّاً فهو يحتمل الخطأ والصواب. وأيّ محاولة لاستخدام العقل في أمر الدين فهي باطلة، أنّها افتئات على الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإذا جاز جدلاً - وهو لا يجوز - استعمال الرأي في أحد الفروع بادّعاء معرفة العلل أو غيرها، فما بالك بالنصّ المحكم؟

ها هنا تحديداً وقع التبديل الكارثي.

لقد كانت محدثات عمر بن الخطاب أخطر انقلاب على أسس اليقين المعرفي الديني، وقد سبق مناقشة بعض مظاهر هذا الانقلاب سواء في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من بعده، مثل:

- التذمر لتولية أسامة بن زيد إمرة البعث إلى الروم بعلّة حداثته.

- التلكّؤ في إنفاذ أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ببعث جيش أسامة حتّى إغضابهصلى‌الله‌عليه‌وآله حال مرضه.

- مخالفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في إمرة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، والحيلولة دون توليته.

- إبطال سهم المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة، طبقاً لمنطوق الآية، بزعم عمر أنّ الإسلام قد عزّ.

____________________

(١) أصول الدين، مرجع سابق : ٢٤.

٤١٥

منع العمرة وقت الحجّ، بادّعاء توفير الرواج لمكّة على مدار العامّ.

تلك التي لمْ يجد ابن القيّم سنداً شرعيّاً لعمر فيها فسمّاها: ( العمل بالسياسة ) كما سبق ذكره.

إنّ الخطر الجوهري في إقحام الرأي الشخصي في الشرع يكمن - إضافة إلى جريرته الدينيّة - في نقض اُسس البِناء المعرفي الإسلامي، بما أسلمه إلى حالة هلاميّة تتعايش فيها المتناقضات، بما لا تستطيع معها الإمساك بشيء البتّة.

يقول الله تعالى:( يَا أَيّهَا الذينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

ويورد ابن كثير في تفسير هذه الآية الأقوال التالية:

ابن عبّاس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة.

مجاهد: لا تفتاتوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم.

ويقول الله تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٢) .

فيقول ابن كثير: وذلك أنّه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي ولا قول.

والقاعدة الفقهية المستقرّة تنصّ على أنّه: لا اجتهاد مع النص. ولا يفتأ خواص المسلمين وعوامهم يهتفون: الاتّباع وليس الابتداع.

ومع كلّ هذه النصوص والقواعد تجد من يقول بكلّ بساطة: إنّه العمل بالسياسة. وكأنّ شيئاً لا يناقض شيئاً.

____________________

(١) سورة الحجرات : ١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.

٤١٦

تكاملت مع تلك المحدثات العمريّة بالأساس، وما أعقبته من آثار ترسّبت في الذهنية العامّة، صورة لا تقلّ خطراً عنها، وتلك هي الحادثة العظمى على عهد أبي بكر - ضمن ما سمّي بحروب الردّة - وصاحبها خالد بن الوليد، لمّا قتل مالكاً فيما أسلفنا مناقشته تفصيلاً.

إنّ التحليل النهائي لتلك الحادثة، يكشف عن المنهج الذرائعي الذي ساد الموقف وقتئذ وأمضاه الخليفة. فقد تصدرت الحاجة العمليّة للدولة، وتقهقرت الأُسس القيميّة في موقف تناقضي شامل لمّا كانت هذه الأُسس هي المبرّر الوحيد للدولة.

إنّ شموليّة هذا التناقض تحوي - أيضاً ما يبدو أنّه عدم يقين بالله، وعدم استيعاب للدروس القاسيّة التي مرّ بها المسلمون على عهد نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله . فهل كان هناك ظرف أقسى من بدر؟ كان المسلمون فيه أقلّ عدداً وعدّة. وهل كان هناك أشدّ من اجتماع الأحزاب حتّى بلغت القلوب الحناجر؟ لقد كان حقيقاً بهؤلاء إذاً إدراك أنّ الدين لا يتوقّف نصره على سيف خالد ذي الخطايا.

تجمّعت هذه العوامل معاً لتُعيد صياغة العقليّة والنفسيّة الجمعيّة على نمط مغاير لمَا أُريد لها من هذا الدين، فكان أن أفضت إلى وضعية غير مهيكلة وملتبسة، ومفتقدة للاتساق المنطقي، وقابلة لأنْ تكونَ مسرحاً تتعايش فيه المتناقضات والمتنافرات في جوار معاً، وكأنّها تعكس وضعاً طبيعيّاً لا غرابة فيه.

قاد ذلك بالضرورة إلى مجتمع يسوده التشوّه، ويجد أفراده في نظامهم غير المتّسق منبعاً يتّسع لسلوكيّات متناقضة، ويستمدّون منه تلقائيّاً - وبلا عناء - آلياتهم للتبرير، وتلك كانت حالة المجتمع ساعة كربلاء.

٤١٧

الطاعنون على الدين يحتجّون بأفعال عمر:

خلصنا ممّا سبق إلى سيادة وضعية مستحدثة سمتها الأساسيّة الانفصال والتجاوز التناقضي، وقد حدث ذلك على مستويين:

المستوى الأوّل: وهو المستوى الحادّ والجريء كلّ الجرأة، أعني الانقلاب الأساس على يد عُمر بإهدار النصّ.

المستوى الثاني: وهو تمذهب أو أدلجة النصوص، بإسقاط الحاجات النفعيّة عليها، وليها لتحميلها ما لا تحتمل عبر آليات التأويل - التبرير -.

والمستوى الثاني في الواقع، ما كان يُمكن له أنْ يُوجد لولا الانقلاب الأوّل الذي أفسح له الطريق واسعاً، ممّا أباح لكلّ امرئ أنْ يضمّن أهواءه ورغباته نصّاً، بل صار النصّ الواحد مستنداً للرغبات على اختلافها، ممّا أفقد المرجعيّة المعياريّة مضمونها، فانعكس ذلك في بينات سياسيّة واقتصادية واجتماعية مفارقة كلّ المفارقة لبنية كلّية إسلاميّة رشيدة.

أدّى ذلك الخلط - ضمن ما أدّى - إلى فتح مداخل الطعن واسعاً على البنيّة الأساسيّة، باعتبار أنّ سلطة السلف تمثّل مرجعاً شرعيّاً. وبذلك ساعد فقهاء التراث الطاعنين على الدين في طعنهم، لمّا اعتبروا مصادر التشريع تتضمّن مذهب الصحابي وفتواه، وممارسات السلطة في عهدها الأوّل بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يقول الجابري(١) : بما أنّ التنافس كان على مدوّنة من الألفاظ محصورة محدودة - القرآن والحديث - وبما أنّ كلّ صاحب مقالة وصاحب مذهب كان يطلب المصداقيّة والمشروعيّة لآرائه ومذهبه بجعلها مضمنة في الألفاظ والعبارات نفسها، فإنّ

____________________

(١) بنية العقل العربي، مرجع سابق : ٥٦٢.

٤١٨

ما كان يحدث هو أنّ اللفظ الواحد أو العبارة الواحدة كانت تضمّن آراء مختلفة من مذاهب متباينة متناقضة كان يُدعى لها جميعاً أنّها المراد من اللفظ. من هنا صار اللفظ يحمل من المعاني عن طريق التأويل والمماثلة ما لا يُمكن حصره، وصار من الجائز أنْ يكون المراد منه هذا المعنى أو ذاك أو ذلك.

ويأتي أدونيس(١) بوصفه الساخر للحضارة الإسلاميّة باعتبارها ( حضارة نصيّة ) تثير إشكالات كثيرة ذات بواعث ذاتيّة وموضوعيّة، وهي في النهاية قراءة أيديولوجيّة على النحو التالي:

[ أ - تقتضي القراءة الأيديولوجيّة العمل للفوز بالسلطة، من أجل تعميم حقائقها حقائق القراءة.

ب - تصبح المعرفة سلطة، والسلطة معرفة: تتماهى الحقيقة مع القوّة.

ج - هذه القراءة الأيديولوجيّة السياسيّة، تُثير بالضرورة قراءة أو قراءات اُخرى.

د - يصبح النصّ الديني مكاناً لحرب القراءات - التأويلات -. أعني مكاناً لحرب السلطات، من حيث أنّ القراءة الأيديولوجيّة تحوّله إلى وسيلة للتغلب والسيطرة.

هـ - يسوغ العنف بوصفه جزءاً من هذه القراءات - السلطات -، وبوصف كلّ من هذه أنّها تمثّل الحقّ وتتطابق مع الإرادة الإلهيّة، ومن حيث أنّها تبعاً لذلك تفسّر كلّ تعارض معها على أنّه تعارض مع الحقّ.

و - توصلنا هذه القراءات المتصارعة إلى عالم مُغلق تتحرك فيه عقائد أو مذاهب كلّ منها عالم مُغلق بدوره.

____________________

(١) أدونيس، الثابت والمتحول ١ : ٢٥، ط ٧ - بيروت - دار الساقي : ١٩٩٤ م.

٤١٩

ز - وبما أنّ قراءة النصّ الديني - الإسلاميّة دينيّة - دنيويّة بحسب الفهم السائد، نُدرك كيف يتبادل المقدّس والدنيّوي موقعيهما، وكيف يصبح العنف نفسه، في بعض الحالات، دينيّاً أو مقدّساً].

ولكي تكتمل الصورة عن طرح أدونيس، فيجب أنْ نذكر أنّه يكتب هذا وفي خلفيته قناعته بما حدث يوم السقيفة من مخالفة إرادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - والتي هي إرادة إلهيّة - نتيجة الأهواء، فيقول(١) : تجمع الأخبار المأثورة بمختلف رواتها وصيغها، على أنّ النبيّ أراد قبيل موته أنْ يعهد بخلافته لشخصّ يختاره هو بنفسه، لكن هذه الإرادة لمْ تتحقّق.

وأمّا أوضح الأمثلة على ما نقول، فذلك مثال نصر أبو زيد(٢) - صاحب مقولات: ( تاريخيّة النصوص )، و( القرآن منتج ثقافي )، و( التحرّر من سلطة النصوص ) - الذي لمْ يستطع الرّد على ناقديه إلاّ بالاحتجاج بأفعال عمر بن الخطاب، فيقول(٣) : ما الرأي في عدم انصياع عمر بن الخطاب لبعض أوامر القرآن الكريم، وممارسات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في إعطاء المؤّلفة قلوبهم نصيبهم من الزكاة، والمنصوص عليه في القرآن نصّاً لا يحتمل التأويل؟

وهو لا يرى لناقدية مخرجاً من مأزقهم الذي يضعهم فيه تساؤله السابق إلاّ بالتسليم، بأنّ سلطة النصوص سلطة مضافة، وليست ذاتيّة.

____________________

(١) المرجع السابق : ١٦١.

(٢) أستاذ بكلية الآداب - جامعة القاهرة - أثار ضجّة بآرائه، وصدر حكم قضائي بالقاهرة عام : ١٩٩٤ م، بالتفريق بينه وبين زوجه لارتداده عن الدين.

(٣) د. نصر أبو زيد، التفكير في زمن التكفير : ١٤٢، ط ٢ - القاهرة - مكتبة مدبولي : ١٩٩٥ م.

٤٢٠