أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87756
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87756 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ كان أنْ استنّت هذه السنّة لمّا آلَ الحكم إلى الوارثة على يد الاُمويّين وعُمل بها من بعدهم، وكأنّها أمر مقرّر وعلم على كلّ نظام للحكم فيما تلا من عصور، كالدولة العبّاسيّة والأيوبيّة والطولونيّة إلى آخر تلك الدول في العصر الحديث، كالصفويّة والعثمانيّة.

والاُمويّون - كما ترى في سلسلة النسب - ينتسبون إلى اُميّة بن عبد شمس، وهو أخو هاشم والمُطلب ونوفل، وهم جميعاً بنو عبد مُناف.

وكما علمنا من قبل - حين دراسة أنساق القرابة - أنّه قد يحدث افتراق بين الأسر في أحد مستويات انقسام سلاسل النسب عند تميز بعضها بمزيّة خاصّة، أو حدوث تطوّر مفاجئ لمكانتها الاجتماعيّة، أو نتيجة لقوّة اقتصاديّة حادثة، وكذلك كان الأمر في حالة بني عبد مناف.

حدث أنْ أصابت قريشاً سنة جدب، فانتدب لها هاشم نفسه، فرحل إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق فقدم به مكّة، فأمر به فخُبز له ونحر جزوراً، ثمّ اتّخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز، فسمّاه قومه: هاشماً، أنْ كان أوّل من هشم الثريد لقومه بمكّة وأطعمه(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، المرجع السابق ٢ : ٢٥١.

٦١

(سلسلة عبد شمس بن عبد مُناف)

٦٢

ويُحدّثنا الطبري: أنّه ما كان أثر ذلك الصنيع في نفس اُميّة بن عبد شمس ابن أخي هاشم، إلاّ حسداً له وتقوّلاً عليه ونيلاً منه، حتّى لقد دعاه للمنافرة، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي على خمسين ناقة تنحر ببطن مكّة والجلاء عن مكّة عشر سنين. فلمّا نفّر، - أي فضّل - الكاهن هاشماً، أخذ هاشم الإبل ونحرها وأطعمها مَن حضره. وخرج اُميّة إلى الشام، فأقام بها عشر سنين فكانت كما قِيل: أوّل عَداوة بين هاشم واُميّة.

فتلك مروءة ونجدة وغوث في جانب، وذلك امتناع - رغم المال - وحسد ومباغضة في جانب آخر.

ويُحدّثنا الطبري - كذلك - عن منافرة اُخرى بين عبد المطلب بن هاشم - وقد آلت إليه الرفادة والسقاية - وبين حرب بن اُميّة. ومثلما قضى الحكم المرتضى من كليهما لهاشم على اُميّة، فكذلك قضى حكمهما لعبد المطلب على حرب.

ونحن نعلم من أخبار عبد المطلب، أنّه هو الذي تصدّى لملاقاة أبرهة في حملته على مكّة عام الفيل، فلمّا لمْ يستطع ردّه سلماً، هرول إلى الكعبة متعلقاً بها مناشداً ربّه: أنْ امنع حماك. ونعلم من أخباره أيضاً، أنّه قد نذر: لئن وُلد عشرة نفر ثمّ بلغوا معه حتّى يمنعوه، لينحرنّ أحدهم لله عند الكعبة، فلمّا تمّ له ما تمنّى، لمْ يرتضِ التحلّل من الوفاء بنذره حتّى أجبره قومه على الفداء طِبقاً لشرعهم.

فكانت لعبد المطلب إذاً السقاية والرفادة، وهي بذل وعطاء قبل الشرف والسؤدد، وكان خروجه لأبرهة وهو النيابة عن الاُمّة في الملمات والشعور بالمسؤوليّة، وكان إصراره على الوفاء بالنذر وإلاّ الفداء، وهذا هو الالتزام وتفضيل القِيم على المصالح.

٦٣

ثمّ نظرة إلى عبد الله بن عبد الملطب، ذلك المُفتدى من الذبح، يخرج به أبوه - فيما يرويه الطبري - ليزوّجه، فيمرّ به على كاهنة من خثعم، يقال لها: فاطمة بنت مر. فتدعوه إلى نفسها زنىً على أنْ تُعطيه مئة من الإبل، فيتعفّف عبد الله قائلاً: (فأمّا الحرام فالممات دونه)(١) .

ثمّ أمعن النظر إلى فعل اُميّة بن عبد شمس، ذلك الذي يقول فيه المقريزي(٢) :

(وصنع اُميّة في الجاهليّة شيئاً لمْ يصنعه أحد من العرب، زوّج ابنه أبا عمرو بن اُميّة امرأته في حياة منه). وأبو عمرو هذا كان - كما روى الهيثم بن عدي في المثالب، ونقله الأصفهاني(٣) - عبداً لاُميّة اسمه: ذكوان فاستلحقه.

وأمر آخر يحتاج أيضاً إلى كثير من التبصّر: تحالف بني عبد شمس ونوفل دون أخويهم هاشم والمطلب؛ ذلك أنّ المطلب قدم مكّة من يثرب مردفاً ابن أخيه عبد المطلب - وكان قد رُبّيَ في أخواله من بني عدي بن النار بيثرب - ليقفه على ملك أبيه هاشم ويسلّمه له، فعرض له عمّه نوفل عند أخواله من بني النجار حتّى انتصف، فما كان من نوفل إلاّ أنْ حالف بني عبد شمس على بني هاشم كلّهم(٤) .

فالمطلب يأبى إلاّ أنْ يردّ على ابن أخيه حقّه، بينما يتحالف نوفل وبنو عبد شمس على بني هاشم أنْ انتصر أحدهم لحقه.

____________________

(١) تاريخ الطبري، المرجع السابق : ٢٤٤.

(٢) المقريزي، النزاع والتخاصم فيما بين بني اُميّة وبني هاشم : ٤٢، القاهرة، دار المعارف : ١٩٨٨ م.

(٣) تاريخ الأصفهاني، المرجع السابق ١ : ١٥.

(٤) الطبري، المرجع السابق : ٢٤٩.

٦٤

فلا عجب إذاً أنْ يتخلّف بنو نوفل وبنو عبد شمس عن حلف شعاره:

(ألاّ يقرّوا ببطن مكّة ظالماً)، وذلك هو حلف الفضول المتألّف من بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة(١) .

وتزخر كتب التاريخ بتلك المقابلات بين بني هاشم وبني اُميّة، فمنهم مَن يغلو فيجعل الفضائل كلّها في جانب والرذائل كلّها في جانب آخر، ومنهم مَن يحاول أنْ يقتصد إيثاراً للسلامة والحيطة - كما يظنّها - لا قناعة بالحقّ، فيُعدّد مزايا كلّ دون العيوب، ومنهم المداهن للسلطان، ولو على دينه فيجعل بني اُميّة عمود الأمر كلّه حتّى لقّب مهدي آخر الزمان بالسفياني، فبهم يفتتح وبهم يختتم، ومنهم مَن يمتد بالمفاضلة إلى الصفات الجسديّة البحتة، مثل: جعل بهاء الطلعة وطول القامة، وقوة البنيان في جانب، وعكس هذه الصفات الشكليّة في جانب آخر.

والغلوّ قد يدفع قائلاً بعدم صدق تلك المقابلات، إذ قلّما يحدث ذلك في الحياة، فلمْ يعهد الناس أبداً خيراً خالصاً ولا شرّاً خالصاً، وإنّما مزاج بين هذا وذاك.

وقد يقول قائل آخر: إنّ هذه أخبار تحتمل الوضع، خاصّة وقد دوّنت في عهد متأخّر وفي ظلّ استقرار الدولة الإسلاميّة، ممّا جعل البعض يلتمس الثواب - بفرض سلامة المقصد - في إثبات الفضل لأسلاف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يرى في ذلك بأساً ولو كانوا في الجاهليّة، أو أنّها تلوّنت - شأنها في ذلك شأن التاريخ الإسلامي كلّه - بظلال السلطة الحاكمة، مثلما فعل معاوية حين أرصد القصاص لاختلاق روايات تنسب الفضل لبعض الصحابة، مع الحطّ

____________________

(١) ابن الأثير، المرجع السابق ١ : ٥٧٠.

٦٥

من مكانة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، حتّى سنّ لعن عليّ وبنيهعليهم‌السلام على المنابر(١) ؛ ومثلها تملّق الدولة العبّاسيّة بالتهافت على تجميع مثالب الاُمويّين.

وقد يرى آخر مثل هذه المقابلات، بأنّها نوع من التكفير داخلته المعتقدات الأسطوريّة، ومثال ذلك ما أورده الطبري(٢) :

(قِيل إنّ عبد شمس وهاشماً توأمان، وإنّ أحدهما وُلد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحّيت عنها، فسال من ذلك دم فتُطيّر من ذلك، فقِيل: تكون بينهما دماء)(٣) .

إنّنا ونحن بصدد محاولة دراسة جذور المشكلة، لا نستطيع أنْ نغفل هذه الآراء، ولكن علينا أنْ نأخذ كلّ خبر بحذر، وأنْ نلزم أنفسنا بمنهج نقديّ يحلّل الخبر في ظلّ ظروفه وملابساته وعلاقاته، لنتمكّن من توقيع إحداثيّاته المكانيّة والزمانيّة والاجتماعيّة التوقيع الصحيح، حتّى يتشكّل في النهاية المسار الموضوعي المُقنع للمشكلة ككلّ.

إزاء ذلك، فإذا كنّا قد أوردنا بعض المقابلات بين بني هاشم وبني اُميّة، فإنّنا نُريد أنْ نؤكّد على بعض الأمور الهامّة:

إنّ ذلك لا يعني مُطلقاً اعتماد منهج البعض في تفسير الحوادث الجسام التي مرّت بها الاُمّة الإسلاميّة، وردّها حصراً إلى النزاع بين حيّين من العرب، بل بين

____________________

(١) فشت هذه السنّة في أهل الشام حتّى ضرب الناس النسائي حتّى القتل بدمشق، إنْ لمْ يجد فضلاً لمعاوية يذكره.

(٢) الطبري، المرجع السابق ٢ : ٢٥٢.

(٣) يعلّق د. حسينعليه‌السلام مؤنس (محقّق: كتاب النزاع والتخاصم، للمقريزي) على ذلك بإيراده ما ذكره بوزورث في ترجمته الإنجليزّية للكتاب: من أنّ العداوة بين الأخوة التوائم موضوع متوارد في الأدب الشعبي العالمي. ثمّ يُضيف: أنّ ذلك يستند إلى ما ورد في العهد القديم عن العداوة بين عيسى ويعقوب ابني إسحاق.

٦٦

أبناء عمومة واحدة قريبة ومباشرة، فإنّما الأمر أجلّ من ذلك وأخطر، ولعلّ في وصفنا السابق للجماعة الاّمويّة بالحزب، دلالة على أنّ الأمر أمر منهج وسياسات ومصالح وقوى متصارعة، ينتظمها حزبان بأوسع معاني الحزبيّة، ولمْ يكن الصراع أبداً وقفاً على جماعتين قرابيّتين.

- رغم التأكيد على ما سبق، إلاّ أنّ عديداً من الظروف قد تجمّعت لتبلور في النهاية محورين للصراع: كان بنو هاشم من ناحية، وبنو اُميّة من ناحية اُخرى علمين عليه، وأنّ تبلور هذين المحورين لمْ يكن وليد الإسلام، بل تؤكّد أحداث التاريخ أنّ ذلك تأتّى من خلال تراكمات على مدى طول من السنين، ضاربة بجذورها فيما قبل الإسلام.

كما أنّ هذين المحورين شكّلا مراكز استقطاب لغيرهم ممّن شاركوهما الاهتمامات نفسها، بحيث اتّسعت الدائرتان حول المحورين لغير الهاشميّين ولغير الاُمويّين.

إنّ النواة الأولى للحزبين وُجدت بدايتها في ظلّ الجاهليّة، كبداية بسيطة تدور حول الاختلاف في الممارسات والسلوكيّات في تمثلّها للفضائل العامّة، ثمّ أخذت تتحدّد شيئاً فشيئاً مع مضي الزمن حتّى أخذت شكلها النهائي في ظلّ التباعد والتقارب من نسق القِيم الممثّل لعصب النظام الإسلامي.

وكما ذكرنا من قبل، فإنّ بداية الافتراق بين الجماعات القرابيّة في سلسلة نسب واحدة تحدث عند تميّز إحداها بمزيّة خاصّة، وهذا ما حدث في حالتنا هذه عند اجتماع القوم على إعطاء السقاية والرفادة إلى هاشم وإلى بنيه من بعده دون بني عبد شمس. ثمّ تعاقبت الأحداث وتراكمت المواقف، بحيث تعمّق اتّجاه بني هاشم نحو التّمسك بالقِيم في اطّراد متّصل، بينما تأكّد اتّجاه بني اُميّة نحو الحرص على المصالح، كأسبقيّة أولى من مُجمل اهتماماتهم.

٦٧

وتكشف الدراسات ( النفسية - الاجتماعيّة ) الحديثة(١) أنّ هناك عدّة محدّدات لاكتساب القِيم وتمثلها. ومن هذه المحدّدات الأسرة وتوجّهاتها التي تشكّل الإطار المرجعي لأفرادها، ومن خلالها ينمو الميثاق الأخلاقي لديهم، ولا يعني ذلك أنّ هذا المحدّد يحتم نتائج معيّنة تترتّب عليه بالضرورة، ولكن يعني أنّ تمحور الأسرة حول نسق للقِيم يوفّر شرطاً تصبح تنشئة أفرادها معه أدعى للاستمساك به، ولعلّ في قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين - كما أورده البخاري -:(أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المُطلب) إشارة إلى استدعاء كلّ عوامل أصالة القِيم ساعة الشدّة.

وممّا يؤكّد هذا المعنى - أيضاً - حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما أورده البخاري -:(تجدون النّاس معادنَ، خيارُهم في الجاهليّة خيارُهم في الإسلام) .

ومن هنا يُفهم توحيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين بني هاشم وبني المطلب - كما جاء في البخاري - (إنّما بنو هاشمٍ وبنو المطلبٍ شيءٌ واحدٌ) ؛ بينما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما ذكره الحاكم في حديث صحيح على شرط الشيخين - (شرُّ قبائلَ العربِ بنو اُميّةٍ وبنو حنيفة وثقيف) .

وهناك علاقة أخرى بين القِيم وطبيعة العمل المُمتهن(٢) ، فالمهنة تعدّ محدّداً آخر لاكتساب القيم والاستعداد لتمثلّها، ودرجة قبول الامتثال لها - كلّ ذلك باعتبارها متغيّراً مستقلاً - وهذا المحدّد يُمكن التعويل عليه في تفسير نتائج العلاقة السابقة، آخذين في الاعتبار أنّ هناك علاقات تفاعل تبادليّة بين المحدّدات جميعاً.

____________________

(١) د. عبد اللطيف محمّد خليفة، ارتقاء القيم : ٨٨، الكويت، عالم المعرفة : ١٩٩٢ م.

(٢) المرجع السابق : ٩٩.

٦٨

وتفصيل ذلك في موضوعنا: أنّ بني اُميّة كانوا أصحاب مال، أتاهم من اتجارهم لأنفسهم بأنفسهم واتجارهم لغيرهم، ومن ثمّ رسخ فيهم خلق التجار كما عهد في مثل ظروفهم. وقد مرّت بنا حين دراسة الاقتصاد الجاهلي أساليب التجارة الشائعة وقتئذ، والتي داخلها كثير من الغشّ والغرر والرّبا، ممّا رسخ في نفوس ممارسيها معايير المصلحة والمنفعة والكسب، كمعايير مُعتبرة وغايات مُستهدفة حائزة على الدرجة الأولى من سُلّم الاهتمامات.

وقد يقول قائل: إنّ من بني هاشم أيضاً مَن كان يتجر لنفسه ولغيره، وبذلك يصدق عليهم - أيضاً - ما ذهبنا إليه في حقّ بني اُميّة، ولكن بنو هاشم التزموا السقاية والرفادة من موقع ديني، والتصدّي لهذا الموقع يعني التزام المُثُل والترفّع عن الدنايا والتحلّي بالمروءة، فضلاً عن أنّه يعني البذل والعطاء، وقد عرفنا من قبل إطعام هاشم لقومه، وحفر عبد المطلب زمزم سقاية للحاجّ.

وهذه الصفات بالطبع مغايرة لأخلاق الاحتيال على الكسب والمراوغة والمساومة؛ ولعلّ في إيراد قول ابن خلدون في ذلك غناءً عن الإطالة في بسط هذه الفروق. يقول ابن خلدون(١) : (خُلق التجار نازلة عن خُلق الأشراف)، ذلك أنّه يرى صفات التاجر: (جريئاً في الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة).

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً ما علمناه من سيرة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة زواجه من خديجة، أو أوّل ما لفت انتباهها إليه أمانته في اتّجاره لها، وهذا يدلّ على أنّها صفة لمْ تكن من الشيوع، بحيث لا تلفت النظر إلى مَن يلتزمها.

____________________

(١) المقدّمة، المرجع السابق ١ : ٣٣٠.

٦٩

هذه الفروق بين بني هاشم وبني اُميّة يُوجزها عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، بقوله(١) :« هم أكثرُ وأنكرُ وأمكرُ، ونحن أفصحُ وأصبحُ وأسمحُ » .

ولعلّ ما اهتدى إليه العقّاد(٢) - في تقصّيه لأسباب هذا الصراع - في إيجازه الأمر في كلمتين:

(أريحيّة ومنفعة)، إنّما يدلّ على ما استدللنا عليه من قبل، من أنّ الصراع كان قائماً بين اتّجاهين، يتمحور أوّلهما حول نسق من القيم يؤمن بها ويحاول ترسيخها، ويسعى لغرسها وتأكيدها لدى الآخرين. وأمّا ثانيهما فيعتمد النفعيّة له مذهباً.

فأمّا الأوّل فرائده الحقّ، وأمّا الثاني فرائده المصلحة، والحقّ يسع الجميع والمصلحة تضيق بصاحبها، وتلك هي سمة الصراع في كلّ مراحله.

وربما كانت هذه السمة أظهر ما تكون على عهد عليّعليه‌السلام ومعاوية. وفيها يقول العقّاد: (كان كفاحاً بين الإمامة الدينيّة والدولة الدنيويّة)(٣) .

وهو عين ما ارتآه طه حسين، إذ يقول(٤) : (كان عليّعليه‌السلام يدبّر خلافة، وكان معاوية يدبّر مُلكاً).

بل إنّ المستشرق جولد تسيهر لم يشكّ في الفرق البيّن بين حكم بني اُميّة وحكم الخلافة، بقوله(٥) : (وممّا لا ريب فيه، أنّ بني اُميّة لمْ يكونوا متديّنين ولا متظاهرين بالتّقوى. وكانت حياتهم في بلاطهم وبين حاشيّتهم لا تُحقّق من كلّ الوجوه ما كان ينتظره الأتقياء من رؤساء الدولة الإسلاميّة).

____________________

(١) المقريزي، المرجع السابق : ٧٠.

(٢) عبّاس محمود العقّاد، أبو الشُهداء الحُسين بن عليّ : ١٢، القاهرة، دار الهلال : ١٩٨٦ م.

(٣) المرجع السابق: ١٢.

(٤) طه حسين، الخلفاء الراشدون : ٥٩٣، بيروت، دار الكتاب اللبناني : ١٩٧٣ م.

(٥) جولد تسيهر، العقيدة والشريعة، المرجع السابق : ٧١.

٧٠

وقد بلغ بجولد تسيهر بحثه مبلغاً استبعد معه أنْ تصدر - ولو قوله حقّ - واحدة من أمويّ، وذلك في معرض تعليقه على نصيحة عمر بن عبد العزيز لأحد عمّاله كي يحسنَ سياسة مصره، بقوله: (حصّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم)؛ فيعلّق جولد تسيهر بقوله(١) : (إنّ عمر وحده الذي يُمكن أنْ تصدر عنه هذه الكلمة لأنّها كلمة لا يُمكن أنْ تصدر عن أمويّ).

قوّة الحزب وخُطّته

كان من الممكن أنّ يكون عُنوان هذا الفصل: عضويّة الحزب أو أعلام الحزب أو قيادات الحزب؛ لنتعرّف من خلالهم على طبيعة تكوينه وأثره والفعاليّات المؤثّرة فيه. وقد يبدو ذلك منطقيّاً خاصّةً وقد نعتنا الحزب من قبل بأنّه أمويّ، وبالتالي يكون طبيعيّاً أنْ يتعمّده أشخاص، وأنْ يكون هؤلاء الأشخاص أمويّين، ولكن لمّا كان تحليل المواقف والأحداث التاريخيّة، قد قادنا إلى نتيجة هامّة مؤادّها اعتماد الحزب للنفعيّة له مذهباً كان الأكثر اتّساقاً. والمنطق أنْ نبحث عن كلّ المؤازرين للحزب والمنتمين له، وإنْ لمْ يكونوا أمويّين نسباً؛ فإنّما كان الأمويّون عصب هذا الحزب وعموده الفقري، ولكنّهم لمْ يكونوا الحزب كاملاً. وأوضح مثل لذلك عقيل بن أبي طالب، وقد مرّ بنا كيف مرق من معيّة أخيه عليّعليه‌السلام إلى معاوية، فكيف يُصنّف إذاً عقيل؟

إنّنا نستطيع أنْ نقول: إنّه لمّا غلبت القوّة الاُمويّة نسباً على مقدرات الحزب صار الحزب يتسمّى باسمها، ومن جهة اُخرى فإنّنا نستطيع - أيضاً - أنْ نقول باطمئنان: إنّ الأمويّة بهذا الكيف أضحت عَلماً على مذهب، لمَا جمعت النفعيّة بين الأمويّين نسباً وغيرهم ممّن شاركوهم مذهبهم.

____________________

(١) المرجع السابق : ٤٩.

٧١

ومثلما تفعل دائماً الأحزاب ذات الحنكة في الممارسة، إذ تعتمد لها خُطّة وتتّخذ لنفسها منهجاً، فإنّي أتصوّر - بل أكاد أوقن - أنّ أمرهم كان كالتالي:

- قضيّة أو قضايا عامّة لها قوّتها ووجاهتها يتخفّى الهدف الحقيقي وراءها، وتكون لها ستراً، وبحيث تكون ذات جذب لحشد أكبر قوّة مُمكنة وراءها.

- مرونة كافية للتعامل مع الأحداث المتعاقبة، بحيث يُمكن تعديل وتطوير شكل القضايا المطروحة، بل واستحداث قضايا متجدّدة طِبقاً للظرف المجتاز.

- المرحليّة في إنجاز الأهداف وعدم القفز فوق المعطيات الموضوعيّة للواقع، والامتناع عن الإقدام على سبق الأحداث، وعدم الهرولة للحصول على نتائج في ظلّ ظروف لمْ تنضج بعد.

- العمل على اتّساع القاعدة المؤيّدة للحزب عن طريق:

إشباع القضايا المختارة بحثاً، ودفعها إلى الصدارة دائماً من اهتمامات النّاس.

التعامل مع النّاس طِبقاً لأفضليّاتهم الخاصّة وبِناءً على مآخذهم القريبة.

فعصب الحزب هُم الواعون بالهدف الحقيقي، وبالتالي هُم المنتفعون الأصليّون، وأمّا الآخرون فيهم، إمّا غلب عليهم الظنّ في صحّة القضايا المطروحة، وهؤلاء يضمن تأييدهم عن طريق اعتقادهم هذا، وإمّا قوم آخرون لا يبدون أهميّةً لمدى صحّة القضايا، وإنّما يشرئبّون بأعناقهم إلى كسب قريب، وهؤلاء يجب تغذية طموحاتهم باستمرار وإطماعهم بالمزيد.

- استباحة جميع الوسائل لتحقيق الهدف، مع الحرص دائماً على إخراج الوسائل في صورة مقبولة، والاجتهاد في إيجاد مبرّرات لها بحيث تبدو منطقيّة لدى العامّة.

- إبداء الغلظة واستعمال أقصى درجات الشدّة مع مَن يُصنّفون على أنّهم مُعادون، وذلك إذا سمحت الظروف بذلك؛ إرهاباً لهم ولمَن تحدّثه

٧٢

نفسه بتأييدهم، وذلك مع عدم اليأس ممّن يدورون في فلكهم وفتح الباب دائماً لاستمالتهم.

- اتّباع خُطّة دعائيّة مُحكمة تعتمد على الآتي:

التضخيم من القوّة الذاتيّة لأقصى الحدود والحطّ من قوّة المُعادين، وإشاعة ذلك بين النّاس؛ حتّى تحدث أثرها في الانهيار المعنوي لدى معسكر الخصم، وتخذيلاً لغيرهم عن الانضمام إليهم.

إسباغ المزايا على بعض المؤيّدين ليكونوا نماذج جاذبة وقابلة للاحتذاء، بحيث تطمع غيرهم فيها.

التشكيك الدائم في المفاهيم التي تتمتّع بدرجة من الاستقرار لدى العامّة، والتي يُمكن أنْ تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق أهداف الحزب، بحيث يلتبس أمرها وتفقد استقرارها.

عدم الاقتصار على تصنيف النّاس بين مؤيّدين ومُعادين، فهناك فريق ثالث مُحايد، وهؤلاء - أيضاً - لهم دورهم الذي يُمكن استغلاله، وبالتالي فهؤلاء يُعتبرون قوّة مضافة، ولذا وجب الحفاظ عليهم وعدم استعدائهم.

العمل على اصطناع بؤر تصادميّة متعدّدة مناهضة للمُعادين، بحيث تعمل على إرباكهم وتشتيت قواهم واستنزاف حيويّتهم، ولا يشترط في ذلك أنْ تكون هذه البؤر مؤيّدة، بل قد تكون معادية أيضاً، ولكن دعمها مُفيد مرحليّاً.

العمل على انهيار التماسك الداخلي للمُعادين عن طريق زرع عملاء، أو استمالة من لديه قابليّة الاستعمال، وبحيث يتمكّنون من التوجيه الخفيّ لحركة الأحداث من الداخل مُوهمين بصحّة مسلكهم.

تلك إذن خُطّة مُفترضة نزعم أنّها كانت خُطّة الحزب الاُموي. وعلينا الآن أنْ نخضعها للبحث، ونطابق الأحداث عليها ليتبيّن مدى صحّة افتراضها.

٧٣

الخُطّة والواقع

تزخر كتب التاريخ بالأحداث التي يُمكن إيرادها للتدليل على صحّة افتراضنا السابق، ولكنّنا نتخيّر منها بعضها ذا الدلالة المباشرة على تكوين الحزب، وأهدافه وطبيعة نشاطه على مدى طويل. وإيرادنا لهذه الأحداث على هذا النحو، لا يعني بحال اتّباعنا لمنهج انتقائي متعسّف - كما قد يظنّ البعض - لإثبات صحّة الفرض، وإنّما يحكم هذا الاختيار عدّة اعتبارات تتّصل بطبيعة الأحداث ذاتها، ومدى أهميّتها على المسار العام لحركة التاريخ، ثمّ الأطوار المختلفة التي مرّ بها الحزب، ثمّ طبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الأحداث وغيرها، ممّا يمكّن في النهاية من رصد العلاقات الأساسيّة بين هذه الأحداث مجتمعة.

وربما كان عاصماً لنا من احتمال الزلل إلى الاجتزاء المتعسّف مناقشة الآراء المختلفة - المؤيّدة والمُعارضة - المرتبطة بهذه الأحداث جُملةً وتفصيلاً، وإيراد حجج كلّ بما يضمن نظرة كلّية إلى الموضوع بكامله.

وأوّل ما ينبغي إمعان النظر فيه، خبر تقصّه كتب السير وتقف به على مفتاح لباب رئيسي لهذا الأمر، وسرّ العداء المُستحكم لهذا الدين الجديد، وذاك هو طلب السلطة والرياسة بما يشمله من تحكم في المقدّرات العامّة.

يقول الخبر(١) : إنّ أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلةً ليسمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يُصلّي بالليل في بيته، فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً ليستمع منه، وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتّى إذا

____________________

(١) ابن كثير، البداية والنهاية، المرجع السابق ٣ : ٦٢.

٧٤

أصبحوا وطلع الفجر، تفرّقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً. إلاّ أنّهم عادوا وكرّروا فعلتهم ثلاث ليالٍ متواليات، ثمّ تعاهدوا ألاّ يعودوا لمثلها، فلمّا أصبح الأخنس بن شريق سأل صاحبيه عن رأيهما فيما سمعا، فقال أبو الحكم بن هشام: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطمعنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الراكب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدرك هذه؟ والله، لا نسمع به أبداً ولا نصدّقه).

بينما كان ردّ أبي سفيان: (والله، لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها).

وفي رواية اُخرى عن المغيرة بن شعبة(١) : أنّ أبا جهل قال: (والله، إنّي لأعلم أنّ ما جاء به - يقصد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - حقّ ولكن لا أفعل).

فأبو جهل لمْ يرَ في الدعوة الجديدة إلاّ أنّها مقام فضل لبني عبد مناف لا قبل له به، وذلك رغم أنّ بني عبد مناف وبني مخزوم (جدّ أبي جهل) يشتركون في جدّ واحد هو مرّة بن كعب. وقد كان حريّاً إذن - طِبقاً لمنطقهم ذاك - بأبي سفيان أنْ يسعد بهذا الفضل الذي أصاب أحد بني عبد مناف، ولكن إذا كان أبو جهل قد رآه فضلاً عامّاً لبني عبد مناف، فإنّ أبا سفيان قد رآه فضلاً خاصّاً ببني هاشم دون بني اُميّة - وكلاهما من بني عبد مناف - وهذا ما يأباه أبو سفيان رغم إقراره في ردّه السابق على الأخنس: أنّه قد عرف وفهم ما سمعه من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) المصدر السباق : ٦٣.

٧٥

وأبو جهل وأبو سفيان لمْ يكونا في موقفهما ذاك بدعاً من بين العرب، وإنّما كانت تلك سمة النظام الجاهلي بأكمله كما أسلفنا في بحث أنساقه، لا سيّما نسق القرابة منها، وهنالك توقّعنا أنْ يوطّئ بحث الأنساق لفهم ما يلي من أحداث.

ألمْ ترَ بني عامر يأبون نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنْ يكون الأمر فيهم من بعده.

يروي الطبري(١) :

(إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يُقال له بيحرة بن فارس: والله، لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثمّ قال له: أرايت إنْ تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء ». فقال: لله أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه).

فالأمر إذاً أمر رياسة وسيادة طلباً للجاه وتحقيقاً للمنفعة؛ فأمّا الجاه، فقد عرفت تفاخرهم بكلّ شيء بأنسابهم وسؤددهم وأيّامهم بل تعاظمهم حتّى في المصائب؛ وأمّا المنفعة، فأيّ شيء أقرب لإدراكها والحفاظ عليها من قوّة الحكم؟ فقديماً مثلما هو الأمر حديثاً، وأيّاً ما كان النظام السائد - في ظلّ غياب نسق متكامل للقيم - فإنّ القوّة الاقتصاديّة السائدة تجد تعبيرها المباشر في السياسة، ومن ثمّ تصبح هي القوّة الحاكمة والفعاليّة المؤثّرة في المجتمع، ويصير نظام التشريع سنداً لهذه القوى المهيمنة اقتصاديّاً.

وعلى هذا النحو مضى أمر القوم، فهم يُشرّعون لأنفسهم من عند أنفسهم، ثمّ يلصقون هذه الشرائع بالله، كيْما تكتسب قوّةً وقداسةً، يصبح معها مجرّد التكفير في انتهاكها إثماً يستوجب غضب الله والنّاس جميعاً.

____________________

(١) تاريخ الطبري، المرجع السابق ٢ : ٣٥٠.

٧٦

فقد شرّعت قريش - وبالأحرى شيوخها وكهّانها - شريعة تجعل لله نصيباً من زروعهم وأنعامهم، ونصيباً آخر لشركائهم، ولمْ تكن هذه الأنصبة بالطبع تصل إلاّ إلى هؤلاء المشرّعين والقائمين على تنفيذها.

كذلك حرّموا حرثاً وأنعاماً بأعينها، زعموا أنّهم وحدهم الذين لهم حقّ تحديد مَن يُطعمها، يقول الله تعالى:

( وَجَعَلُوا للّهِ‏ِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذَا للّهِ‏ِ بِزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للّهِ‏ِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى‏ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (١) .

( وَقَالُوا هذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلّا مَن نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٢) .

ثمّ إنّ قريشاً حرّمت على غيرها إنْ هُم أرادوا الحجّ ارتداء ثياب غير مُشتراة من قريش، فإذا حجّوا بها صارت حراماً عليهم، وعليهم أنْ يتركوها لقريش، فإنْ أبوا، فليس أمامهم إلاّ أنْ يطوفوا بالبيت عراياً(٣) .

وهكذا تأتلف سلطة الحكم مع سطوة الكهان مع هيمنة المشرّعين على صعيد واحد من المنفعة.

____________________

(١) سورة الأنعام : ١٣٦.

(٢) سورة الأنعام : ١٣٨.

(٣) ابن كثير، المرجع السابق : ٢٠٩، سيّد قطب، مرجع سابق : ١٣٣.

وكذلك يروي ابن هشام: أنّ قريشاً سمّت نفسها: حمساً لما زعمت غلوّها في التدين، ولذا جعلت لنفسها منزلةً تفوق غيرها من العرب، فابتدعت شريعة الحمس هذه. ابن هشام، السيرة النبويّة ١ : ١٩٩، القاهرة، مؤسّسة علوم القرآن.

٧٧

وبعد، فقد حقّق أبو سفيان - أحد الزعماء المؤسّسين للحزب - ثروة وفرّت له مكانةً عاليةً بين قومه، وانعكست مباشرةً في نفوذ سياسي يحسم الخيارات النهائيّة لمجتمعه، ويتحكّم في مسار أحداثها.

وأبو سفيان ومعه شيبة وعتبة ابنا ربيعة، وكلّهم بنو عبد شمس، شكلّوا وحدهم ربع عدد المؤتمرين من قريش بدار الندوة حين قرّروا قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتفريق دمه بين القبائل.

ولمْ يرتضِ أبو سفيان بأقلّ من عقد اللواء له في حروب قريش للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حدث أنْ استفزّ بني عبد الدار أصحاب اللواء يوم بدر بقوله لهم:

(إنّكم ولّيتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنّما يُؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإمّا أنْ تكفونا لواءنا، وإنّما أنْ تخلّوا بيننا وبينه فسنكفيكموه)(١) .

فكان له ما أراد من قيادة قريش في غزوات أُحد والسويق والأحزاب.

ولقد كان أمراً طبيعيّاً لرجل يتعلّق بالجاه والسلطان والسيادة تعلّق أبي سفيان أنْ يوغر صدره، ويحفظ قلبه ما يراه من طاعة وانقياد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله له. استمع إليه وهو يحاور زيد بن الدثنة عندما أمسكوا به في مكّة وقدّموه ليقتلوه، فيحاول أبو سفيان انتزاع كلمةً من زيد لعلّها تشفي غليله، فيقول له(٢) : (أنشدك الله يا زيد، أتُحبّ أن مُحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنّك في أهلك؟ قال: والله، ما أحبّ أن محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكة تُؤذيه، وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحداً يُحبّ أحداً كحبّ أصحاب محمّدٍ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). ثمّ قدّم زيد فقُتل.

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٢ : ٥١٢.

(٢) المرجع السابق : ٥٤٢.

٧٨

ثمّ تمعّن وقفة أبي سفيان متعجباً أشدّ التعجب من أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة لقاء أبي سفيان بهرقل، حين استدعاه ليعرف منه أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيعلّق هرقل بعد مقالة طويلة قائلاً:

(ليغلبن على ما تحت قدميّ هاتين، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه)؛ فيعجب أبوسفيان لمقالة هرقل قائلاً: (فقمت من عنده وأنا أضرب بإحدى يدي على الاُخرى وأقول: يا لعباد الله! لقد أمِرَ - عظُم - أمر ابن أبي كبشة - يعرّض بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - أصبحت ملوك بني الأصفر - الروم - يهابونه في مُلكهم وسلطانهم)(١) .

وكما لمْ يرَ أبو سفيان في حربه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنّ الأمر أمر ملك وسيادة، فكذلك كانت رؤيته له حين دخل الإسلام طليقاً ضمن المؤلّفة قلوبهم. فعندما أقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعشرة آلاف من المسلمين لفتح مكّة، حذّر العبّاس أبا سفيان ومن معه ألا قبل لهم اليوم بالمسلمين، وأردفه مُجيراً له إلى معسكر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك لمْ يَنطق لسانه بشهادة: أنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بشقّ الأنفس، وبعد أن حذّره العبّاس تحذيره الأخير: (ويلك! تشهد شهادة الحقّ قبل والله أنْ تضرب عنقك).

إلاّ أنّ أبا سفيان وقف بعدها ليشهد دخول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، فلمْ يرَ في نفسه ذلك اليوم إلاّ ما رآه بالأمس، فخاطب العبّاس قائلاً: (يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً) فردّ عليه العبّاس قائلاً: (ويحك! إنّها النبوّة)(٢) .

____________________

(١) الأصفهاني، مرجع سابق ٦ : ٣٦٤.

(٢) الطبري، مرجع سابق ٣ : ٥٤.

٧٩

ثمّ إنّ أبا سفيان ظلّ على هذا النحو حتّى مع قدم عهده بالإسلام، فكان لسانه لا يَقوى دوماً على طي ما تخفي نفسه، وكان يكشف عن حقيقة دخائله في كثير من المواقف التي يُوردها المؤرّخون، ويستدلّون بها على عدم إخلاصه الإسلام. وممّا ذكره الأصفهاني(١) في هذا الباب ما رواه عن عبد الله بن الزبير، إذ يقول: (لمّا كان يوم اليرموك خلّفني أبي، فأخذت فرساً له وخرجت فرأيت جماعة من الخفاء فيهم أبو سفيان بن حرب، فوقفت معهم، فكانت الروم إذا هزمت المسلمين، قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر. فإذا كشفهم المسلمون، قال أبو سفيان:

وبنو الأصفر الكرام ملو

ك الروم لم يبق منهم مذكور

فلمّا فتح الله على المسلمين حدّثت أبي، فقال: قاتله الله! يأبى إلاّ نفاقاً، أو لسنا خيراً له من بني الأصفر؟ ثمّ كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: حدّثهم. فأحدّثهم، فيُعجبون من نفاقه).

ويُروى أنّ أبا سفيان قال - لمّا وُلي أبوبكر:

وأضحت قريش بعد عز ومنعة

خضوعاً لتيم لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به

وما زال منها فائزاً بالرغائب

وعندما ولي عثمان الخلافة، دخل عليه أبو سفيان، فقال: يا معشر بني اُميّة، إنّ الخلافة قد صارت في تيم وعدي حتّى طمعت فيها، وقد صارت إليكم فتلقّفوها بينكم تلقّف الكرة، فو الله، ما من جنّة ولا نار.

____________________

(١) المرجع السابق ٦ : ٣٧٠.

٨٠