أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 87778
تحميل: 8396

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87778 / تحميل: 8396
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإذا لمْ تصحّ هذه الأخبار عند البعض، وخاصّة تذبذبه بين الروم والمسلمين في وقعة اليرموك(١) - كما أسلفنا - فإنّ الأمر الذي لا مراء فيه أنّه لطول عهده بالكبر والفخر والخيلاء والسيادة في قريش، لمْ يتخلَّ يوماً عمّا في نفسه من هذه الصفات، ولمْ يبرأ منها بدخوله الإسلام.

وقد علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك في نفسه، فأجاب العبّاس يوم الفتح أنْ يجعل لأبي سفيان شيئاً بين قومه، بأنْ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« مَن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن » (٢) . ثمّ عدّه من المؤلّفة قلوبهم عسى أنْ يلين قلبه ويستجيب بهذا التألّف. ومع هذا لمْ يتحرّج من ذكر ما ظنّه منّاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتذكيره بمنزلته، فيقول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : (إن هو إلاّ أنْ تركتك فتركتك العرب، فما انتطحت جماء ولا ذات قرن).

____________________

(١) يروي الطبري: أنّ أبا سفيان كان يحثّ المسلمين في وقعة اليرموك. المرجع السابق ٣ : ٣٩٧.

ويروي البعض: أنّه قد حسن إسلام أبي سفيان بدليل اشتراكه في غزوة حنين، إلاّ أنّ ابن هشام يروي، أنّه قال ساعة انهزام المسلمين أوّل الأمر: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته. ابن هشام، المرجع السابق ٢ : ٤٤٣.

(٢) يُذكر أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدّد ثلاثة خيارات للطلقاء، كي يأمنوا على أنفسهم دخول المسجد أو دخول دار أبي سفيان أو إغلاقهم أبوابهم على أنفسهم، ولعلّ في ذلك تمييزاً لدخائلهم، فمَن لمْ يدخل المسجد ومَن لمْ يُغلق بابه على نفسه، فهو لمْ يأمن على نفسه إلاّ باللياذ بأبي سفيان، فكان كمَن لاذ به.

(٣) الأصفهاني، المرجع السابق ٦ : ٣٥٩.

٨١

السيطرة على النظام

عندما تأكّد نجاح النظام الجديد في بسط سلطانه وتيقّن استقراره، ودخلته الناس أفواجاً ودانت له العرب أقواماً، هنالك نظر الحزب إلى نفسه وتلفّت حوله، فهاله ما رأى.

رأى نفسه ذا سجل حافل بالعداء والكيد للنظام، وليس لهم من فضل واحد يُذكر لهم، فعلموا أنّ السبق قد فاتهم، وأنّ ما فاتهم كثير، ثمّ تلفّتوا حولهم فإذا بغيرهم قد تضخمت سجلاتهم إسهاماً في تأسيس النظام والذود عنه بعد أن بذلوا دماءهم، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فقدّمتهم سابقاتهم، وأصبح مستضعفو الأمس هُم الأئمة اليوم والوارثين.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعلن بما لا لبس فيه(١) :

« يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة، وتعظمها بالآباء، النّاس من آدم، وآدم خُلق من تراب ». ثمّ أعلن الميزان الجديد:( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

فقد سدّت إذن جميع السبل، وبقي واحد فقط ليرتادوه، الانصياع للنظام الجديد وإحناء الرأس؛ عسى أنْ يُصيبوا بمسالمته ما لمْ يُدركوا بعدائه.

____________________

(١) الطبري، المرجع السابق ٣ : ٦١.

(٢) سورة الحجرات : ١٣.

٨٢

انظر إلى أبي سفيان يأتي مهتاجاً عند استخلاف أبي بكر فيقول: (والله، إنّي لأرى عجاجةً لا يُطفئها إلاّ دم، يا آل عبد مناف، فيم أبوبكر من أموركم، أين المستضعفان؟ أين الأذلان عليّعليه‌السلام والعبّاس؟ أبا حسن، اُبسط يدك أبايعك)، فيزجره عليّعليه‌السلام قائلاً له:(إنّك والله، ما أردت بهذا إلاّ الفتنة) (١) .

فلمّا أُخبر أنّ أبابكر قد استخلف ابنه، قال: وصلته رحم!.

ثمّ تفحّص مُوجز الخُطّة كما تصوّرها أبو سفيان وامرأته هند، ينصحان بها ابنهما معاوية لمَا قدم من الشام بعد أنْ استعمله عمر عليها. قالت هند(٢) :

(يا بني، إنّه قلّما ولدت حرّة مثلك وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببتَ ذلك أمْ كرهته).

ثمّ قال أبو سفيان:

(يا بني، إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا عنهم، فرفعهم سبقهم، وقصرنا فأُخّرنا، فصرنا تباعاً وصاروا قادة، وقد قلّدوك جسيماً من أمرهم فلا تخالفنّ أمرهم، فإنّك تجري إلى أمد لمْ تبلغه، ولو قد بلغته لتنفّست فيه).

قال معاوية:

(فتعجّبتُ من اتّفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ).

ومعاوية لمْ تُفارق ذاكرته منذ صغره نبوءة كاهن اليمن لاُمّه هند: (لتلدين مَلكاً يُقال له معاوية)(٣) .

____________________

(١) الطبري، المرجع السابق ٣ : ٢٠٩.

(٢) ابن عبد ربّه، العقد الفريد ١ : ٢٢، بيروت، دار ومكتبة الهلال : ١٩٨٦.

(٣) تزوّجت هند قبل أبي سفيان برجل اسمه، الفاكه بن المغيرة، فاتّهمها بالزنى، فتحاكموا إلى كاهن باليمن فلمّا عرضت عليه برأها، وقال لها: انهضي غير رسحاء ولا زانية، ولتلدين مَلكاً. فحرصت على الطلاق من الفاكه وتزوّجت أبا سفيان. السيوطي، المرجع السابق : ١٩٨.

٨٣

ومعاوية ذاته هو الزاعم: (مازلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ملكت، فأحسن)(١) . وعلى هذا النحو مضت الخُطّة قدماً، ووجدت طريقها للتنفيذ مسترشدة بمبادئ هند وأبي سفيان:

إحناء الرأس، حتّى يتمّ التسلل والتغلغل داخل النظام على مهل.

إظهار الرضا دوماً بأوامر الحاكم، ولو على كُره.

عدم المخالفة أبداً لمحاولة تعويض ما فات.

التذكر الدائم للهدف النهائي، ففيه التهوين لما قد يلحقك في طريقه: (إنّك تجري إلى أمد لمْ تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه).

ولمْ يمضِ وقت طويل، ولمْ يكن من المُمكن أنْ يطول دون أنْ يُؤتي الغرس نتاجه. فلمْ يشأ الحزب أنْ تفلت لحظة دون اغتنام، أو تُتاح فُرصة بلا اهتبال، فلا فراغ اليوم، ولا متّسع لأيّ ما من شأنه تعكير صفو العلاقات الجديدة مع النظام، ولا توقف مطلقاً عند أيّ من قراراتها ولو على غير الهوى مؤقتاً، فإنّما الحقّ هو الصالح، والصالح هو النافع، والنافع اليوم هو إثبات الولاء لتعويض ما فات والتأهّب لما هو آتٍ، خاصّة والنظام الجديد سمته الرّحمة والعدل، ورحمته اتّسعت لجبّ ما قبل الإسلام، وعدله اقتضى الأخذ بالظاهر.

ولما تزل تلك هي عين الفلسفة النفعيّة ( البراجماتيّة ) حتّى اليوم.

وإليك، فانظر كيف تغلغل الحزب داخل النظام على مهل، حتّى جاءت اللحظة الحاسمة التي نضجت فيها الظروف تماماً لاحتياز السلطة كاملةً؛ فهذا بيان بالعمّال والاُمراء ممّن ينتمون إلى الحزب حتّى كان الانقضاض النّهائي:

____________________

(١) السيوطي، المرجع السابق : ١٩٥.

٨٤

٨٥

وهكذا مهّد الحزب لنفسه ومكّن لأوتاده ونصب راياته، فغلب على أخطر أمصار الدولة، ولمْ يتبقَ إلاّ مخاض ميلاد الدولة الاُمويّة خالصة.

انظر إلى أبي سفيان بن حرب يقف على قبر حمزة، فيقول:

(رحمك الله أبا عمارة، لقد قاتلناك على أمر صار إلينا).

ورُوي أنّ الأمر لمّا أُفضي إلى عثمان بن عفّان، أتى أبو سفيان قبر حمزة فركله برجله، ثمّ قال:

(يا حمزة، إنّ الأمر الذي كنت تُقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم، وكنّا أحقّ به من تيم وعدي)(١) .

وعندما آلت الخلافة إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، واجه موانع منيعة ُشيّدت على طول السنين، حالت دون أنْ يُعيد الأمر إلى ما كان قد حارب عليه، وكما شيّده أوّل مرّة، فقد كان الظرف غير الظرف، والرعيّة غير الرعيّة، والنظام غير النظام.

فكانت النتيجة المعروفة والمعدّ لها سلفاً، أنْ غلب معاوية ومعه رهطه من بني اُميّة وحزبه من غير بني اُميّة على الدولة الإسلاميّة في خبر طويل، وصراع مرير تقصّه علينا كتب التاريخ.

على أنّ ما يُعنينا من هذا التاريخ - في بحثنا هذا - هو كيف غلب الحزب على السلطة؟ وما هي سيرته في البلاد؟ ثمّ آثار هذا الحزب على نظام الدولة ككلّ؟

ويحسن بنا هنا أنْ نتعرّف على سيرة هؤلاء من قريب، فلعلّنا نُجيب على السؤال المُحيّر الأوّل، والذي حار فيه المقريزي بقوله(٢) :

(ما بعدَ عليّعليه‌السلام من بُعد، سبب أخذ بني اُميّة الخلافة).

____________________

(١) المقريزي، المرجع السابق : ٨٤.

(٢) المرجع السابق : ٧١.

٨٦

سيرة الحزب من قريب حتّى عهد معاوية

رغم أنّ الحزب قد تمكّن من الغلب على الكثير من مواقع السلطة منذ البداية، إلاّ أنّ ممارساته الواضحة المتوائمة مع طبيعة أغراضه ومنهجه لمْ تفصح عن نفسها جليّاً إلاّ في عهد عثمان. ونقول بجلاء الإفصاح نظراً؛ لأنّه كانت هناك شواهد وبوادر تنبئ بها فيما سبق عهد عثمان، وقد كانت قمينة بلفت الأنظار إليها.

فكان أدعى بأصحاب النظر استجلاؤها قبل جلائها، إلاّ أنّا نترك تفاصيل هذا الأمر لموضعه من البحث.

ولندع أحد المعاصرين للأحداث يروي لنا كيف كانت بداية تمكّن الحزب الفعالية، وشيوع سياساته، وظهور أعلامه، كتب الأشتر إلى عثمان - فيما نقله البلاذري في أنساب الأشراف - يقول:

(من مالك بن الحارث إلى الخليفة المُبتلى الخاطئ، الحائد عن سنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.

أمّا بعد، فقد قرأنا كتابك، فَانْه نفسك وعمّالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين، نسمح لك بطاعتنا.

وزعمت أنّا قد ظللنا أنفسنا، وذلك ظنّك الذي أرداك فأراك الجور عدلاً

٨٧

والباطل حقّاً. وأمّا محبتنا، فأنْ تنزغ وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خِيارنا، وتسييرك صلحاءنا، وإخراجك إيّانا من ديارنا، وتوليتك الأحداث علينا، وأنْ تُولّي مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة، فقد رضيناهما، واحبس عنّا وليدك وسعيدك ومَن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله. والسّلام).

فهذه إذاً صحيفة اتّهام للخليفة، وبيان بمطالب المعارضة في أحد الأمصار الهامّة للدولة الإسلاميّة، وهي الكوفة.

فصحيفة الاتّهام - كما ترى - تتبلور في الآتي:

الظلم والعدوان من الخليفة ونوّابه.

قلب الحقائق والتلبيس على الناس.

التنكيل بالمعارضة حتّى النفي من الديار.

عدم أهليّة وصلاحيّة اُمراء الخليفة.

إيثار الهوى على المصلحة.

محاباة الأقارب على الرعيّة.

وأمّا مطالب المعارضة، فتنحصر في الآتي:

التزام الحكم بالقرآن والسنّة.

عدل الحكّام، وإلاّ فلا طاعة.

كفالة حرية وأمان المعارضة.

توافر الأهليّة للحكم في الولاة.

حقّ الرعيّة في اختيار مَن يحكمها.

وإذاً كان هذا هو الحال في الأمصار، فكيف كان في عاصمة الدولة المدينة؟

٨٨

يُحدّثنا الطبري(١) أنّ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعوا لمّا كثَّر النّاس على عثمان، ونالوا منه، وانتدبوا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ليكلّمه.

ذهب عليّعليه‌السلام إلى عثمان قائلاً له:

(النّاس ورائي، وقد كلّموني فيك والله، ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم، وما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رايت وسمعت، وصحبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنّك أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رحماً، ولقد نلت من صهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما لمْ ينالا، ولا سبقاك إلى شيء.

فالله الله في نفسك! فإنّك والله، ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة.

تعلم يا عثمان، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى، فأقام سنّةً معلومةً، وأمات بدعةً متروكةً، فوالله، إنّ كلاً لبيّن، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البُدع لقائمة لها أعلام، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر، ضلّ وضُلّ به، فأمات سنّة معلومةً، وأحيا بدعةً متروكةً، وإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: « يُوتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه من نصير ولا عاذر، فيُلقى في جهنّم ».

وإنّي أُحذّرك الله، وأُحذّرك سطوته ونقماته، فإنّ عذابه شديد أليم. وأُحذّرك أنْ تكون إمام هذه الاُمّة المقتول، فإنّه يُقال: يُقتل في هذه الاُمّة

____________________

(١) المرجع السابق ٤ : ٣٣٧، أحداث سنة ٣٤ هـ.

٨٩

إمام، فيُفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركهم شِيعاً، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً).

فهذا إذاً اضطراب وقلق وتململ، ثمّ معارضة وبداية تمرّد، ثمّ فتنة معمية، ثمّ صراع رهيب لمّا يزل، كما - توقّع عليّعليه‌السلام - حتّى اليوم.

ولم تكن البداية في كلّ ذلك إلاّ عندما بدأت سياسة الحزب الأموي تأخذ طريقيها للتنفيذ الفعلي، إذ تسلّل أوّلاً إلى مواقع السلطة، ثمّ شرع في الغلب على جميع مقدرات الدولة، إلى أنْ ملك نهائيّاً على يد معاوية.

فكيف كانت سياسته حينما وصل إلى هذا الحدّ؟

تعالَوا نقرأ معاً رأي أحد النقّاد وهو الجاحظ؛ لنقف على مُوجز هذه السياسة. يقول الجاحظ(١) :

(... استوى معاوية على المُلك، واستبدّ على بقيّة الشورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة غصباً قيصرياً، ولم يعدّ ذلك أجمع الضلال والفسق.

ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا، حتّى ردّ قضية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجتماع الاُمّة أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وأنّه إنّما كان بها عاهراً، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكّفار.

____________________

(١) الجاحظ، رسالة في بني اُميّة، ملحقة بنهاية كتاب التنازع والتخاصم للمقريزي، المرجع السابق : ١٢٤.

٩٠

وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس جحد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهور، والسنن المنصوبة.

وسواء في باب ما يستحقّ من الإكفار جحد الكتاب وردّ السنّة إذ كانت السنّة في شهرة الكتاب وظهوره، إلاّ أنّ أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشدّ. فهذه أوّل كفرة كانت من الاُمّة. ثمّ كانت فيمَن يدّعي إمامتها والخلافة عليها).

* * *

ولعلّك تلاحظ معي هُنا ملاحظة هامّة للغاية، تلك هي اشتراك خطاب الجاحظ هذا وخطاب الأشتر ذاك في نصوص اتّهام تكاد تكون متطابقة في الجنس، وإنْ اختلفت في درجت القوّة والعنف، ذاك أنّ معاوية انتقل بأفعاله إلى طور آخر من العلانيّة بلا مُبالاة ولا مُراعاة، بعد أنْ كانت تُؤتى على استحياء أوّل مرّة.

فقد كان اتّهام الأشتر لعثمان بالظلم والعدوان، فأضحى الاتّهام لمعاوية لا بالفجر وإنّما بالكفر. وقد كانت في الأولى إمامة وخلافة، فصارت في الثانية مُلكاً قيصريّاً، وغصباً كسرويّاً.

وكانت في الأولى تنكيلاً بالمعارضة، فأضحت على يد معاوية قتلاً (حجر بن عدي وصحبه على سبيل المثال).

وكانت في الأولى حيدة عن الأحكام تأوّلاً، فغدت ردّاً مكشوفاً وجحداً ظاهراً للكتاب والسنّة.

وظلّت سمة مشتركة واحدة كما هي، وهي إلباس الحقّ بالباطل، وأقلّه إطلاق عام الجماعة على عام الفرقة والقهر.

* * *

٩١

النظام الاُموي

٩٢

الحقّ وحُجيّة الرجال

تدعونا المشابهات السابقة - من وجهة نظر المعارضة كما أوردناها - بين الممارسات الأولى للحزب، وكيف تغلغلت عناصره داخل النظام الإسلامي ابتداءً من عهد الخلافة الأوّل إلى أنْ انتهى به المطاف إلى الاستيلاء الكامل عليه إلى محاولة الفحص الدقيق لطبيعة هذا النظام حتّى نتمكّن من توصيفه توصيفاً موضوعيّاً، وتحديد سمات نموذجه، خاصّة وقد استعرضنا من قبل سمات النموذجين: الجاهلي والإسلامي، بما يمكّن في النهاية من رصد موقعه النسبي من كلا النموذجين.

على أنّ الأمر المؤكّد أنّ دراسة هذا النظام تختلف كلّ الاختلاف عن دراسة سابقَيه، نظراً للخلاف التاريخي العريض في كلّ جزئيّاته، بل إنّ كلّ جزئية فيه يُعدّ مشكلاً قائماً بذاته، يتطلّب مكابدة خاصّة لتحقيقه.

وما رأيك في خلاف بدأ فأحدث أوّل قتال في التاريخ بين مسلمين ومسلمين، ثمّ ما لبث أنّ انتظم عامّة المسلمين، ثمّ ظلّ يستهلكهم القرون تلو القرون، ولمّا يضع بعد أوزاره؟

ثمّ ما رأيك في خلاف مشبّه يُحار فيه الحكيم، ويتململ منه الراسخ حتّى لتتدافع فيه الأسئلة المشكلة دون الظفر بجواب حاسم؟

إنّك إن تابعت أحداث تلك الفترة، لهالك ما تحويه من مواقف متناقضة، ومشاعر متغيّرة، وأفعال مبرّرة وغير مبرّرة، وردود أفعال متوقعة وغير متوقعة، حتى ليلتبس عليك أمرك، ويختلط عليك فكرك.

٩٣

لذلك فإنّ الأمر يحتاج إلى كثير من التروّي حتّى يدرك المرء أيّ طريق يسلك، وأيّ فريق يؤيّد، وأيّ مذهب يتبع، فنحن بإزاء فتنة لمْ يُبعد مَن أطلق عليها: الفتنة الكبرى.

والناس في ذلك، بطبيعة تكوينهم وما جُبلوا عليه، وبالنظر إلى ما اكتسبوه من معارف، وما توّفر لديهم من وعي، وما يدفعهم من مصالح، وما يستثيرهم من مطامح، فهم أقسام وطوائف.

فمن الناس مَن كان سلوكه في الحياة يسيراً في بساطة ما يؤدّيه من عمل، فلا يعمل فكراً ولا يجهد ذهناً، وحسبه استقضاء حاجاته من قريب. يشغلون أنفسهم بغير مشاغلهم المباشرة، ولا يمدّون أبصارهم أبعد من محيطهم اللضيق، تتوفّر فيهم العاطفة وتندر بينهم الفكرة، فهم بعد متحمّسون وليسوا بواعين، يُسلّمون قيادهم لغيرهم بمجرّد تهييج مشاعرهم واستثارة عواطفهم، ولذا فهم مطمع الطامعين، ومحلّ تنافس المغامرين، وهؤلاء هُم غالبيّة القوم.

ومن الناس من انطوت أضلاعه على صلابة إرادة وقوّة نفس، ثمّ أُوتي عزماً يستعلي به على شهواته، ويستعينه في أزماته، يجابه هواه في حزم، ويعمل رأيه في مضاء، تتجاذبه القِيم والمُثُل العُليا، وتتنافر نفسه من رذائل الدنيا حتّى ليصير وقيمه وكأنّهما شيء واحد، جلاء الفكرة لديه يجعل أفعاله عفويّة في غير تردّد، وتمكّن العقيدة من روحه يورثه الإقبال حيث الناس تدبر، وهؤلاء هُم الندرة النادرة.

وبين هؤلاء وهؤلاء صنوف من الناس وصنوف، تتفاوت حظوظهم من سمات كلّ، إلاّ أنّ أخطرهم جميعاً فئة مردوا على النفاق، ظاهرهم غير باطنهم لا تعلمهم، إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإنْ يقولوا تسمع لقولهم، وهُم ألدّ الخصام، يحرّفون الكَلم عن مواضعه، لا ينتابهم حياء، ولا يعرفون وفاء.

٩٤

لا يرقبون في أحد إلاّ ولا ذمّة، يجعلون رزقهم أنّهم يكذبون، وفي ظاهر الحقّ هُم يمترون، اتّخذوا دينهم هُزواً مطيّة لمطامعهم، وتشبّثوا بالباطل سبيلاً لنوال أغراضهم، وهؤلاء ليسوا بالقلّة، وقد جرى أمر الدنيا أنّها قد تمدّ لهم في أسبابها فيحقّقوا نجاحاً ولكن بمقاييسهم، تجدهم سدنة كلّ سلطان، وجلاوزة كلّ طغيان.

فلمّا كان هذا ما جرى عليه أمر النّاس وتلك سنن الخلق، كان من العسير - بل من أشدّ العسر - تقنين السلوك البشري، ذاك أنّ الفرد الواحد قد تعتوره أطوار مختلفة، تماثل في اختلافها سمات تلك النماذج جميعاً. ومن هنا يصبح من أشدّ الخطأ تعميم توصيف نهائي للفرد، إلاّ بعد دراسة مُجمل موقفه ومعرفة دوافعه، والوقوف على سلوكه في الظروف المختلفة، وهو ما يجعل مهمّة البحث عن حقيقة الأحداث، وحقيقة الرجال شاقّة، أيّما مشقّة.

وإلاّ كيف تفسّر لنفسك - على سبيل المثال - سلوك صحابي - والصحابة كلّهم عدول حسبْما يرى علماء الجرح والتعديل - يأتي فعلة، تشكل بمقاييس كلّ السابقين واللاحقين جريمة خيانة عظمى؟!

ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عزم على فتح مكّة، أمر بالتجهيز، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« اللهمّ، غمْ عليهم خبرنا ». إلاّ أنّ حاطب بن أبي بلتعة - وكان رجلاً من المهاجرين حليفاً لعثمان وشهد بدراً - بعث بكتاب إلى أهل مكّة يخبرهم الخبر، فأطلع الله رسوله على أمر حاطب، وأنزل فيه قرآناً:

( يَا أَيّهَا الذينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُوْا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) .

____________________

(١) سورة الممتحنة : ١.

٩٥

فبعث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام والزبير والمقداد ليأتوا بالمرأة التي أرسلها حاطب بكتابه قبل أن تصل إلى قريش، فلمّا أتوا بها، قال عمر: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربنّ عنقه، فكفّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمر بعد أنْ ناقش الرجل واستمع لقوله، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) :

« لعلّ الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنّة - أو- قد غفرت لكم » .

فأنت ترى أنّ حاطباً صحابي عايش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ هو من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وتحمّل مشقّة الهجرة وقسوة الغربة، ثمّ هو جاهد وشهد بدراً وضمن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الجنّة.

فأنت تتوقع منه إذاً سلوكاً بعيداً عن الشبهة على الأقلّ، فما بالك بفعل هو خيانة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمؤمنين بحسب وصف عمر؟

فقد يأتي الصحابي إذاً بالخطأ، والخطأ الخطير، بل قد يقع في الضلال كما قال الله تعالى في أوّل سورة المُمتحنة:( وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ ) (٢) . وبها استحقّ حاطب أنْ يستأذن عمر في ضرب عنقه، وهو لمْ يفلت من توقيع العقوبة عليه بعلّة أنّه بدريّ - كما رأى بعض العلماء(٣) - وإنّما لأسباب أبداها حاطب وقدّرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم كونها لمْ تلغِ توصيف الفعل ذاته، على أنّه خيانة وضلال عن سواء السبيل، وهذا هو ما فهمه الصحابة

____________________

(١) البخاري، باب المغازي، ابن كثير، تفسير سورة المُمتحنة.

(٢) سورة المُمتحنة : ١.

(٣) لا يعني ذلك إطلاق الأفعال أو إباحة الأعمال، وإنّما - كما ذكر ابن قيّم الجوزيّة - يعني: أنّ البدريّين وكذلك كلّ مَن بُشّر بالجنّة قد اختصّوا بهذه المنّة، ولكن - كما ذكره الحافظ في الفتح - البشارة المذكورة تتعلّق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها. ابن قيّم الجوزيّة، الفوائد : ١٦، بيروت، دار الكتب العلميّة : ١٩٧٣ م.

٩٦

من هذه البشارة، وآية ذلك أنّ عمر - إبّان خلافته - أقام حدّ الخمر على قدامة بن مظعون الجمحي، وهو الصحابي الذي هاجر الهجرتين وأحد شهود بدر، ثمّ عزله عن إمارة البحرين.

وإذا ثبت وقوع الخطأ الخطير من الصحابي البدريّ المُبشّر بالجنّة، فأيسر منه إذاً وقوعه ممّن ليس بدريّاً وممّن ليس مُبشّراً بالجنّة.

فهذا خالد بن الوليد ينكر عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قتله جزيمة، وأخذه أموالهم بغير الحقّ، فيرفع يديه إلى السماء ويقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« اللهمّ، إنّي أبرأ إليك من فعل خالد » .

وهذا الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي - أخو عثمان لاُمّه - وكان له أيضاً صحبة، تثبت بحقّه خطيئتان، أمّا أولاهما فهي إتيانه الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث بعثه مصدقاً إلى بني المصطلق، فعاد وأخبر أنّهم ارتدّوا ومنعوا الصدقة، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من يتيقّن له من الأمر فثبت كذبه، وفيه أنزل الله قرآناً:

( يَا أَيّهَا الذينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى‏ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة الحجرات : ٥.

ثبت نزول هذه الآية في الوليد بن عقبة بعدّة طرق، منها:

أ - ذكر ابن الأثير: قال ابن عمر: (لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت، أنّ قوله عزّ وجلّ:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) [ سورة الحجرات : ٦ ]. أُنزلت في الوليد بن عقبة). أُسد الغابة في معرفة الصحابة ٥ : ٤٥١.

ب - جمع ابن أبي حاتم الرازي طُرق رواية خبر نزول هذه الآية في الوليد، كالتالي: حديث عمر بن سعد العوفي، عن عمّه، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاس

=

٩٧

وأمّا ثانيتهما، فهي حين ولاّه عثمان بن عفّان على الكوفة بعد عزله سعد بن أبي وقّاص عنها، فكان أنْ شرب الخمر في حضور سماره، فشهد عليه الشهود، فأقام عثمان عليه الحدّ(١) .

على أنْ أكثر الخطايا هولاً وأشدّها نُكراً، وما ليس بعدها من ذنب يُؤتى، فتلك هي وقعة الكفر بعد الإيمان.

____________________

= حديث عبد الرحمن، من حديث الحجّاج بن حمزة، من حديث شبابة، من حديث ورقاء، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

حديث عبدالرحمن، من حديث أبيه، من حديث هشام بن خالد الدمشقي، من حديث ابن إسحاق، من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.

حديث عبد الرحمن، من حديث أبيه، من حديث عبدالعزيز بن منيب، من حديث أبي معاذ النحوي، عن عبيد بن سليمان، عن الضحّاك. كتاب الجرح والتعديل ١ : ٦.

ج - ذكره النيسابوري في أسباب نزول الآية.

د - جمع ابن كثير في تفسير عدّة روايات للخبر، وقال: وقد رُوي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار بن أبي ضرار، والد ميمونة بنت الحارث اُم المؤمنينرضي‌الله‌عنهما . قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن سابق، حدّثنا عيسى بن دينار، حدّثني أنّه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي، ثمّ روى القصّة.

وهذا يثبت خطأ ابن العربي في محاولة تشكيكه في صحّة هذا الخبر، كما يثبت تهافت محقّق كتابه: محبّ الدين الخطيب. وقد خطّأه في ذلك مخرّج أحاديث الكتاب في ذات الطبعة. ابن العربي، العواصم من القواصم : ١٠٤، القاهرة، دار الكتب السلفيّة : ١٤٠٥.

 (١) لمْ يستطع ابن العربي أنْ يدفع التهمة عن الوليد إلاّ بقوله: وأمّا حدّه في الخمر، فقد حدّ عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله، وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة. العواصم من القواصم، المرجع السابق : ١٠٦.

٩٨

وممّن مَن كاتب للوحي بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذاك هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفّان من الرضاعة، والذي استعمله عثمان بعدئذٍ والياً على مصر، وقد أسلم قبل الفتح وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ارتدّ مشركاً(١) وصار إلى قريش بمكّة، فكان يقول لهم: إنّي أصرف مُحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أُريد، كان يُملي عليّ: عزيز حكيم. فأقول: أو عليم حكيم.

فلمّا كان يوم الفتح، أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله ضمن من سمّاهم وإنْ تعلّقوا بأستار الكعبة، إلاّ أنّ ابن سعد فرّ إلى عثمان بن عفّان فغيّبه طويلاً، ثمّ أتى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليستأمنه، فصمت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله طويلاً، ثمّ قال:« نعم » . فلمّا انصرف عثمان، قال رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لمَن حوله:« ماصمتّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم، فيضرب عنقه » . فقال رجل من الأنصار: فهلاّ أو مأت إليّ يا رسول الله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّ النبيّ لا ينبغي أنْ يكون له خائنة الأعين » (٢) .

* * *

نخلص من كلّ ما سبق إلى نتيجة مؤدّاها أنّ الصحابة وإنْ تميّزوا على مَن تلاهم بشرف الصحبة، وسبقوا غيرهم بفضل الجهاد فاستحقّوا بذلك المنزلة الرفيعة، إلاّ أنّنا نكون غير منصفين إذا ما أطلقنا هذا على عمومه، وإنّما لا بدّ من التمحيص، وهم بعد ناس من النّاس ليسوا بمعصومين - وهذا هو المجمع عليه-، وطروء الأحداث عليهم جائز، ووقوعهم في الخطأ مُحتمل، ومنهم من اقترف الذنوب، ومنهم من اعتورته الأطوار.

____________________

(١) ابن هشام، المرجع السابق ٣ : ٤٠٩.

(٢) ابن الأثير، أُسد الغابة، المرجع السابق ٣ : ٢٥٩.

٩٩

فليس كلّهم سار سيرةً واحدةً طوال حياته، ولا كلّهم حمل نفسه على الجادّة حتّى مماته. وهذا هو عين ما رأوه في أنفسهم، فقد قال ابن أبي مليكة(١) : أدركت أكثر من خمسمئة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كلّ منهم يخشى على نفسه النفاق؛ لأنّه لا يدري ما يُختم له.

ومن المأثور عن عمر بن الخطاب قوله: إنْ رأيتم فيّ اعوجاجاً، فقوّموني. ومن المشهور عنه قوله - في قصّة المُغالاة في المهور -: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وعمر نفسه الذي تمنّى آخر حياته أن يُصحح بعض سيرته في المال، فقال(٢) : لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسّمتها على فقراء المهاجرين.

ولنتدبّر قول الله تعالى لنبيّه داوودعليه‌السلام :

( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ الناس بِالحقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الذينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (٣) .

وإذا كان الأمر كذلك، فلنا الحقّ إذاً في مناقشة أمورهم في غير تردّد، وألاّ نتحرّج فيما لم يكن موضعاً لتحرّجهم، ولكن علينا أيضاً واجب نلزم به أنفسنا، ولا يغيب عن أذهاننا، وهو أنّ نحتاط أشدّ التحوّط، وأنْ ندقّق أشدّ التدقيق في نقد أخبارهم وتحقيق أحداثهم.

وأيّاً ما كانت النتائج التي يسفر عنها البحث، فاليقين أنّ الحقّ ثابت

____________________

(١) البغدادي، أصول الدين ٣ : ٢٥٣، بيروت، دار الكتب العلميّة : ١٩٨١.

(٢) الطبري، المرجع السابق ٤ : ٢٢٦.

(٣) سورة ص : ٢٦.

١٠٠