الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42386
تحميل: 8721

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42386 / تحميل: 8721
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أ - أن يتكتّمَ ويتحرَّج في الطلب، ويتّخذ أشرفَ الأسباب إلى الاقتراض مثلاً، وأحفظها لكرامته.

ب - أن يختارَ من الناس مَن يحفظُ عليه ماءَ وجهه وكرامتَه، وقد وفَّرَ علينا الإمامُ الحسينعليه‌السلام وعلى السائل عناءَ البحث عمّن يحفظ ماءَ وجهه وكرامته؛ حيث دلاّه على ثلاثة؛ إمَّا ذي دِين، أو مروّة، أو حسَب.

ثالثاً: جمع الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) إلى الكرم كفايةَ السائل، فلم يُعطِه نصفَ المبلغ مثلاً وقال له اطلبْ نصفَه الآخر من غيري، بل أعطاه ما يسدّ به دَينَه، ثمَّ زاد على ذلك بأن وهبَه خمسَمئةِ دينارٍ اُخرى يتوسَّع بها، ويُوسِّع بها على عياله؛ فالـمَدينُ لا بدَّ أن يكون عيالُه في ضائقة، ويستعين بها على ما بعد الدَّين؛ لكي لا يستدينَ مرَّةً اُخرى.

ثمَّ لا يفوتنا أنَّ الرجلَ حينما قدِم إلى الإمام الحسين (سلام الله عليه) كأنّه كان قد نوى سؤالَ حاجته، فلمَّا أرشده الحسينعليه‌السلام إلى صيانةِ وجههِ عن بذلة المسألة، ورفعِ حاجته في رقعة، كتب الرجلُ يسألُه أن يُكلِّمَ دائنَه في أن يُمهلَه إلى حين السعةِ والميسرة، ولم يكتبْ له في رقعته أن هبني ما أحتاجه وهو خمسُمئةِ دينار.

وكأنّه قد تعلَّم الدرس سريعاً، وكأنَّ الإمامَ الحسينعليه‌السلام قد كافأه على ذلك؛ بأن أكرمَه بما يقضي به دَينَه، وكافأه بخمسمئةِ دينارٍ اُخرى على حسن تعلّمه للدرس الأخلاقيّ، وهو صيانه الوجه عن بذلة المسألة، فصانَ وجهَه عن مطالبةِ الدائن، وعن المسألة في المستقبل، ووفّىعليه‌السلام بما وعدَه بأن يُؤتيَه ما يسرّه، وكان ما يسرّه قضاء دينه، والسعة في المستقبل.

فكان إلى كرم الحسينعليه‌السلام التكريم والمكافأة والرحمة؛ لأنَّ

٨١

الـمَدينَ يشعرُ بالذلِّ، ويشعر بالقلق غالباً.

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :«لا تزال نفسُ المؤمن معلَّقةً ما كان عليه دَين» (1) .

وقال الإمام عليٌّعليه‌السلام :«إيَّاكُمْ والدَّين؛ فإنَّه هَمٌّ بالليل، وذُلٌّ بالنهار» (2) . هذا في الدَّين، أمَّا في المعيشة فيقول نبيُّ الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنَّ النفسَ إذا أحرزتْ قُوتَها استقرَّتْ» (3) .

وقد جادَ الإمامُ الحسينعليه‌السلام على هذا الرجل السائل بالرحمة حين رفع عنه دَينَه، وأمَّنَ له قُوتَه للمستقبل، وكلُّ هذا كان مع الموعظة.

ذلك الكرمُ المعنويّ، فسلامُ الله عليك يا أبا عبد الله، يابن رسول الله، أيُّها الغصنُ الأشمُّ العاطر من الشجرةِ النبويّة والدوحة الهاشميّة.

2 - السخاء مع حفظ ماء الوجه

ولا يخفى على اللبيب أنَّ السائل إذا كان ذا عزَّةٍ وكرامة لا يهون عليه أن يبذلَ ماءَ وجهه إلاّ إذا اضطُرَّ لذلك، ووجدَ ذا دينٍ أو مروءةٍ أو حسب، فينهض إليه يعرض حاجته، فتتعثّرُ قدماه بأذيال الحياء، وتتردّد خطاه فيقوم بدافع الفاقة والضائقة، ويُحجم اُخرى بدافع العزّة والإباء، ثمَّ لا يجدُ بُدَّاً من أن يُعرِبَ عن حاجته وهو يُحسُّ أنّه باعَ ماء وجهه ولا يدري ماذا سيشتري به؟

أيحصَلْ على ما يفكّ به ظنكَه، أم يرجعُ خائباً محروماً وقد ذهب ماءُ وجهه في

____________________

(1) علل الشرائع - للشيخ الصدوق / 528 - الحديث الخامس.

(2) من لا يحضره الفقيه - للشيخ الصدوق 3 / 111 - الحديث 467.

(3) الكافي 5 / 89 - الحديث الثاني.

٨٢

غير موضعه؟

هذا ما يجول في خاطر السائل، أمَّا مَن يقْدمُ على ريحانةِ المصطفى أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) فإنَّه لا يَرجِعُ إلى أهله وعياله إلاّ بالعطاءِ موفوراً، وبالكرامةِ محفوفاً، قد قضى الحسينُعليه‌السلام له حاجتَه، ونفّسَ كربتَه، ويسّر عُسرتَه، وحلَّ ضائقتَه بكرمه الغزير. وكلُّ ذلك يحظى به السائلُ عنده مع حفظ ماء الوجه، يشتريه بالتكريم ممّنِ اضطُرَّ إلى بيعه.

أعطى السائلَ الذي أتى إليه ألفاً، فأخذ ينقدها، فقال الخازن: بعتَنا شيئاً؟

قال السائل: ماءَ وجهي.

فقال الحسينعليه‌السلام :«صَدَق، أعطِه ألفاً وألفاً وألفاً؛ (الأوّل)لسؤالِك، (الألف الثاني)لماءِ وجهك، (الألف الثالث)لأنّك أتيتنا» (1) .

وأعطاه رجلٌ قطعةً، فقال له الإمامُ الحسينعليه‌السلام :«حاجتُك مقضيّة» ، قبل قراءتها، فقيل له: هلاّ رأيتَ ما فيها.

قال:«يسألُني الله عن وقوفه بين يدَيّ حتّى أقرأها» (2) .

وفي روايةٍ اُخرى: قيل له: يابنَ رسولِ الله، لو نظرتَ في رقعته ثمَّ رددتَ الجوابَ على قدْرِ ذلك.

فقال:«يسألُني الله تعالى عن ذُلِّ مَقامِه بين يدَيّ حتّى أقرأَ رقعتَه» (3) .

أيُّ تقوى هذه! وأيُّ عاطفةٍ شفّافةٍ تلك! إنَّه الحسين سبطُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورث عن جَدِّهِ الأخلاقَ العظيمة، فحظيَ منه الناس

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 22.

(2) المصدر نفسه.

(3) القطرة 2 / 231، الحديث العشرون نقلاً عن زهر الربيع - للسيّد نعمة الله الجزائريّ.

٨٣

بالكرمِ الـمُكْرِم، وبالعطاء والتكريم، وبالجود والكرامة.

ويبلغُ شرفُ السخاءِ عن الإمام الحسينعليه‌السلام أنَّ سائلاً يتوهَّمُ فيأتي الحسينَ يظنُّه الحسنَ أخاه (سلام الله عليهما)؛ لأنّه كان قد وعدَه بمكافأة، فلم يفشله، ولم يخيّبْه، ولم يكشف له توهّمَه، وإليك الرواية بتفاصيلها كما ينقلُها الخوارزميّ(1) ، حيث يقول:

خرج الحسنعليه‌السلام إلى سفرٍ، فمرَّ براعي غنم، فنزل عنده فألطفه وبات عنده، فلمَّا أصبح دلّه على الطريق، فقال له الحسنعليه‌السلام :«إنّي ماضٍ إلى ضيعتي ثمّ أعود إلى المدينة». ووقّت له وقتاً وقال له:«تأتيني به» .

فلمّا جاء الوقتُ شُغل الحسنُ بشيءٍ من اُموره عن قدوم المدينة، فجاء الراعي وكان عبداً لرجلٍ من أهل المدينة، فصار إلى الحسين وهو يظنُّه الحسنَ، فقال: أنا العبدُ الذي بتَّ عندي ليلةَ كذا، ووعدتَني أن أصيرَ إليك في هذا الوقت.

وأراه علاماتٍ عرَف الحسينُ أنّه الحسن، فقال الحسينُ له:«لمَنْ أنت يا غلام؟».

فقال: لفلان.

فقال:«كم غنمُك؟» .

قال: ثلاثمئة. فأرسل إلى الرجل فرغّبه حتّى باعه الغنمَ والعبدَ، فأعتقه ووهبَ له الغنمَ؛ مكافأةً لما صنع مع أخيه، وقال:«إنَّ الذي باتَ عندك أخي، وقد كافأْتُكَ بفعلِكَ معه» (2) .

أيُّ خلُقٍ هذا! حَفِظَ به ماءَ وجهِ العبدِ إذ جاءه متوهّماً بعد أن ظنَّ أنَّه الحسنُعليه‌السلام ، فكافأه أصالةً عن نفسه الشريفة، ونيابةً عن أخيه، ولم يردَّه لتوهّمه. وقد أحسنَ المكافأةَ أيّما إحسانٍ؛ بأن أعتقه، واشترى له غنماً كثيرة فيتحرّر بذلك من رقِّ العبوديّة لذلك الرجل، ومن رقِّ سؤال الناس

____________________

(1) وهو من علماء السنّة.

(2) كتابه المعروف (مقتل الحسين عليه السّلام) 1/ 153.

٨٤

والحاجة الـمُحرجة؛ فيكفّ يدَه ولسانَه عن السؤال، ولا يبذل ماءَ وجهه للناس.

وهو (سلام الله عليه) شجّع على الإحسان لأنّه يُحبّه، وكافأَ عليه ليسودَ المعروف ولا ينقطعَ سبيلُه، وأكرمَ القادمَ عليه وإن كان متوهّماً؛ فحفِظ عليه ماءَ وجهه؛ فبذلك جمع إلى السخاءِ الماديّ السخاءَ المعنويّ، وردَّ الغلامَ العبدَ إلى أهله حُرَّاً مكرَّماً، مسروراً مطمئنَّاً، قد رُفع عنه همُّ العيش وذلَّةُ الرقِّ والعبوديّة للناس.

وليس عجيباً أن يصدر ذلك من رجلٍ ورث أكرمَ الخلْق محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنَّما العجيبُ حقَّاً أن يُبخَلَ على هذا الكريم بقطرةِ ماء بعد أن أجهده القتال أمام الآلافِ المؤلّفة من جيش عمر بن سعد، وقد قال له الشمر: لا تذوقه حتّى تَرِدَ النار! وناداه رجل: يا حسين، ألاَ ترى الفراتَ كأنّه بطونُ الحيّات؟ فلا تشرب منه حتّى تموتَ عطشاً(1) ! من هوان الدنيا على الله إذ يشتدّ العطشُ بالكريم، فيحول بينه وبين الماءِ لئيم!

وقد عُرف الإمام الحسين (سلام الله عليه) بصدقات السرّ. يقول العالم الشيخ جعفر التستريّ (رضوان الله عليه) في جملةِ خصائص الحسينعليه‌السلام : ومنها الصدقات، فقد تحقّقتْ منه خصوصيّةٌ فيها ما سُمعتْ من غيره؛ وذلك أنّه رأَوا في ظهره يومَ الطفِّ ثفنات(2) ، فسُئل السجّادُ ولدُهعليه‌السلام عنها، فقال:«إنَّ ذلكَ ممّا كان ينقلُه في الليلِ على ظهرِه للأرامل والأيتام».

قال الراثيّ:

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين - لأبي الفرج الأصبهانيّ / 47.

(2) جمع ثفنه، ما في ركبة البعير وصدره، من كثرةِ مماسّة الأرض.

٨٥

وإنَّ ظَهراً غدا للبِرِّ ينقلُه

سرّاً إلى أهله ليلاً لَمكسورُ(1)

أجل، فذلك الظهر لا أدري كم هوتْ عليه سيوفُ الغدر، وطعنتْ به رماحُ الكفر حتّى مزّقتْه وكسّرته كما كسّرتْ...! كسّرتْ ذلك العاتقَ الشريفَ الذي حمل إلى الجياع والمساكين، والأطفال واليتامى والأرامل ما يسدّون به جَوعتَهم، ويحفظون به ماءَ وجوههم.

قد ضربوا عاتقَه الـمُطَهَّر

بضربةٍ كبا لها على الثَّرى(2)

ذلك بعد أن جمع الإمام الحسينعليه‌السلام إلى الكرم الرحمةَ الرقيقة، والاُبوَّةَ الشفيقة، والسترَ على ذُلِّ المحتاجين، والكرامةَ على مَن يشعُر بعار السؤال حتّى أنسى القادمينَ عليه أنّهم سائلون؛ لجميلِ ما أكرمهم به، وطيبِ ما قابلهم به.

جاء أعرابيّ إلى الحسينعليه‌السلام فقال: يابنَ رسول الله، قد ضمنتُ دِيةً كاملةً وعجزتُ عن أدائها، فقلتُ في نفسي: أسألُ أكرمَ الناس، وما رأيتُ أكرمَ مِن أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال الحسينعليه‌السلام :«يا أخا العرب، أسألك عن ثلاثِ مسائل؛ فإن أجبتَ عن واحدةٍ أعطيتُك ثلُثَ المال، وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتُك ثلُثَي المال، وإن أجبتَ عنِ الكلِّ أعطيتُك الكلّ» .

فقال الأعرابيّ: يابن رسول الله، أمِثلُكَ يسألُ مثلي وأنتَ من أهل العلمِ والشرف؟!

فقال الحسينعليه‌السلام :«بلى، سمعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: المعروف بقدْرِ المعرفة» .

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 23، وفي رواية المناقب 4 / 66:«هذا ممّا كان ينقل الجرابَ على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين» ، كما روى ذلك شعيب بن عبد الرحمن الخزاعيّ.

(2) من المقبولة الحسينيّة - للشيخ هادي كاشف الغطاء / 56.

٨٦

فقال الأعرابيّ: سَلْ عمّا بدا لك، فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك، ولا قوَّةَ إلاّ بالله.

فقال الحسينعليه‌السلام :«أيُّ الأعمالِ أفضل؟».

فقال الأعرابيّ: الإيمان بالله.

فقال الحسينعليه‌السلام :«فما النجاةُ مِن الهَلَكة؟».

فقال الأعرابيّ: الثقة بالله.

فقال الحسينعليه‌السلام :«فما يزين الرجل؟».

فقال الأعرابيّ: علمٌ معه حِلْم.

قال:«فإن أخطأه ذلك؟».

فقال: مالٌ معه مروّة.

قال:«فإن أخطأه ذلك؟».

فقال: فَقْرٌ معه صبر.

فقال الحسينعليه‌السلام :«فإن أخطأه ذلك؟».

فقال الأعرابيّ: فصاعقةٌ تنزل من السماء وتُحرقه؛ فإنَّه أهلٌ لذلك.

فضحك الإمام الحسينعليه‌السلام ورمى له بصُرّةٍ فيها ألفُ دينار، وأعطاه خاتمَه وفيه فصٌّ قيمتُه مئتا درهم، وقال:«يا أعرابيّ، أعطِ الذهبَ إلى غرمائك، واصرفِ الخاتمَ في نفقتك».

فأخذ الأعرابيّ ذلك وقال:( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار 44 / 196، عن جامع الأخبار / 381 ح1069، والآية في سورة الأنعام / 124. ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 155، ونزهة المجالس - للشيخ عبد الرحمن بن عبد السلام الصنوريّ الشافعيّ البغداديّ 2 / 233، والتفسير الكبير - للفخر الرازي 2 / 198.

٨٧

وهنا تعالوا نتوقّف عند هذه الرواية لنرى ماذا كان غيرُ الكرم الحسينيّ؟

أوّلاً: إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام أنسى الأعرابيّ مسألتَه وحاجتَه، فارتفع حَرَجُه، وذهبتْ عنه ذلّتُه. وليس ذلك فحسب، فإنَّه (سلام الله عليه) غيَّر جَوَّ المسألة والحاجة والطلب إلى جوِّ السؤال والجواب والعلم، فإذا بالأعرابيّ يجدُ نفسَه أمامَ عالِمٍ يُريد أجوبةً منه، وإن تظاهر ذلك العالِمُ أنَّه يُحبّ أن يسمع إجاباتِ المسائل الثلاث، حتّى تساءل الأعرابيّ متعجّباً: يابن رسول الله، أمثْلُك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟!

وهذا يدلُّ على أنَّ الأعرابيّ لم يشعرْ أنَّه في جوِّ امتحان، إنَّما في جوٍّ علميّ تُطرح فيه الأسئلة ويُطلبُ منه ما ينفع المستمعين؛ فأجاب على أيِّ الأعمال أفضل، وما النجاة من الهلكة؟ وكان السؤال الثالث: ما يزينُ الرجل؟ فأجاب: علْمٌ معه حِلْم.

ويبدو أنَّ الأسئلة الثلاثة قد انتهت، إلاّ أنّنا نرى أنَّ أسئلةً اُخرى قد طُرحتْ بصيغةٍ متتابعة، وهي: فإن أخطأه ذلك؟ وإذا لم تكن أسئلة فهي تفريعات على السؤال الثالث. ولم نسمع من الأعرابيّ اعتراضاً على تجاوز السؤال الثالث إلى الرابع فالخامس فالسادس، أو قُلْ إن شئتَ: على التفريعات الإضافيّة الثلاثة للسؤال الثالث، إنَّما مضى يُجيب وكأنّه نسيَ أنّه قد جاءَ بحاجةٍ، وهي قضاءُ ديةٍ كاملةٍ في عاتقه؛ ممّا يدلُّ على أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) قد خلقَ له جَوَّاً آخرَ ذهب فيه عن الأعرابيّ ما قد أحرجه من السؤال في قضاءِ حاجته.

ودليلٌ بيِّنٌ على ذلك أنَّ السؤال الأخير قد أجاب عليه بجملةٍ دعتِ الحسينعليه‌السلام يضحك، فكان جوَّ إخاءٍ ومفاكهة، ومفاكهةُ الإخوان من الأخلاق الفاضلة، لا سيّما إذا كانت معقولةً لا إسرافَ فيها، وجاءت مُذهبةً للهمّ، مزيلةً

٨٨

للتعبِ والعناء.

ثانياً: جعل الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) عطاءَه للأعرابيّ بصيغة مكافأةٍ علميّة لا بصيغةِ صدقةٍ على سؤال، وهذا أحفظُ لماءِ الوجه، وأكرم للرجل الوجيه الذي يحمل في صدره علماً.

ثالثاً: من خلال المباحثة العلميّة النافعة يستفيد القارئ أنَّ الحسينعليه‌السلام يشجّع على العلم، ويدعو إلى ذكر الله، وقد استطاع أن يُظهرَ علمَ الأعرابيّ. وأقول: علم الأعرابيِّ؛ لأنَّ الإمامَ الحسينعليه‌السلام أقرَّ على أجوبته، فهي صحيحة بالنسبة لأمثاله على أقلِّ الفروض، ولو كانت خطأً لردَّ عليها. ولم يخلُ اللقاءُ أو المجلس من ذكرٍ لله تعالى، ومن استفادةٍ علميّة للحاضرين إذا كان هناك مَن حضر.

رابعاً: كان من كرم الإمام الحسينعليه‌السلام أن زاد الأعرابيّ على حاجته، فأعطاه مبلغ الدية، ووهبَه خاتمَه لينفق ثمنه على ما يحتاجه، وبهذا يجمع الإمام الحسين (سلام الله عليه) إلى السخاء حفظَ ماءِ الوجه، والتذاكرَ في العلم، والعطاء بما يزيد على السؤال؛ فلعلَّ سائلاً يخجل أن يطلب أمرين: مبلغَ الدية مثلاً، وما يستعين به على حاجاته ونفقات عياله. وقد كفاه الإمام الحسينعليه‌السلام الأمر الثاني؛ فأعطاه خاتمَه من غير أن يسألَه ذلك. فسلامٌ عليك يا سليلَ النبوَّة ووريث الإمامة.

ولعلَّك استأنستَ بالرواية، وقد يحدوك الاستئناسُ إلى أن ترجعَ إليها تقراُها ثانيةً، لكنّي - وإن كنتُ لا أقف في طريق رجعتك إليها - أدعوك إلى أن

٨٩

تقرأ الرواية من قلم الفخر الرازيّ(1) ، حيث كتب في تفسيره المعروف (التفسير الكبير)(2) :... أعرابيٌّ قصد الحسين بن عليّ (رضي الله عنهما) فسلّم عليه وسأله حاجةً، وقال: سمعتُ جدَّك يقول:«إذا سألتُم حاجةً فاسألوها من أحدِ أربعة؛ إمَّا عربيّ شريف، أو مَولىً كريم، أو حامل القرآن، أو صاحب وجهٍ صبيح»؛ فأمَّا العرب فشرفتْ بجَدِّك، وأمَّا الكرمُ فبدأ بكم وسيرتكم، وأمَّا القرآنُ ففي بيوتكم نزل، وأمَّا الوجهُ الصبيح فإنّي سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:«إذا أردتُم أن تنظروا إليَّ فانظروا إلى الحسنِ والحسين» .

فقال الحسينعليه‌السلام :«ما حاجتُك؟» .

فكتبها على الأرض، فقال الحسينعليه‌السلام :«سمعتُ أبي عليّاً يقول: قيمةُ كلِّ امرىءٍ ما يُحسنه. وسمعتُ جَدِّي يقول: المعروف بقدر المعرفة. فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنتَ في جوابِ واحدةٍ فلك ثلُثُ ما عندي، وإن أجبتَ عنَ اثنتينِ فلك ثلُثا ما عندي، وإن أجبتَ عن الثلاث فلك كلُّ ما عندي، وقد حُمل إليَّ صُرَّةٌ مختومةٌ من العراق».

فقال: سلْ، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله.

فقال:«أيُّ الأعمالِ أفضل؟».

فقال الأعرابيّ: الإيمان بالله.

قال:«فما نجاةُ العبدِ من الهلكة؟».

فقال الأعرابيّ: الثقة بالله.

قال:«فما يَزينُ المرء؟» .

____________________

(1) هو من مشاهير علماء السنّة.

(2) التفسير الكبير 2 / 198، طبع مصر.

٩٠

فقال الأعرابيّ: علْمٌ معه حلْم.

قال:«فإنْ أخطأه ذلك؟» .

قال: فمالٌ معه كرم.

قال:«فإنْ أخطأه ذلك؟».

قال: ففقْرٌ معه صبر.

قال:«فإنْ أخطأه ذلك؟» .

قال: فصاعقةٌ تنزل من السماء فتحرقه.

فضحك الحسينعليه‌السلام ورمى بالصرّة اليه.

3 - السخاء مع الحياء

والحياء صفةٌ معروفةٌ عند أهل البيت (سلام الله عليهم)؛ إذ هم أشدُّ الناسِ حياءً من الله تعالى، وكلّما أرادوا أن يُعطوا خالط عطاءهمُ الحياء؛ لأنّهم (صلوات الله عليهم) يستقلّون هباتِهم، وقد عزفتْ نفوسهم عن حطامِ الدنيا، ورجَوا للناس أن تُقضى حوائجُهم، ولولا خشية الإسراف لبذلوا ما يبهتُ له السائل؛ إذ مروّتُهم أعلى ممّا يطلبهُ الناسُ ويحتاجونه.

جاء رجلٌ إلى الإمام محمّد الجوادعليه‌السلام فقال له: أعطنِي على قدْرِ مروّتِك.

فقالعليه‌السلام :«لا يَسَعُنِي» .

فقال: على قدْري.

قالعليه‌السلام :«أمَّا ذا فَنَعَم. يا غلامُ، أعطِه مئتَي دينار» (1) .

وإذا كان في المرء حياءٌ فإنَّك تنتظرُ منه خصالاً طيّبةً اُخرى؛ لأنَّ النبيّ

____________________

(1) كشف الغمّة 2 / 289.

٩١

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّينُ والرأفةُ والمراقبةُ لله في السرِّ والعلانية، والسلامةُ واجتنابُ الشرِّ، والبشاشةُ والسماحة، والظفرُ وحُسنُ الثناء على المرءِ في الناس...» (1) .

فإذا قدِم سائلٌ على أهل البيتعليهم‌السلام سارعوا إلى قضاءِ حاجته؛ يستحون أن يرَونَ على وجهه ذُلَّ المسألة وانكسارَ السائل، ويستحون أن يُؤخِّروه، أو يُعطوه دونَ ما يأمُل، أو دونَ حاجته. فإذا كان السائل ممّن هو أهلٌ للعطاء أكرموه وزادوا في إكرامه؛ حياءً منهم أن يردّوه بقضاءِ حاجته وحسب.

رُويَ أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام الحسنعليه‌السلام وسأله حاجة، فقال له الإمام:«يا هذا، حقُّ سُؤالِكَ إيَّايَ يَعظُمُ لَدَيَّ، ومعرفتي بما يجب تكبرُ عَلَيَّ، ويدي تعجزُ عن نيلِكَ بما أنت أهلُه، والكثيرُ في ذاتِ الله (عزَّ وجلَّ) قليل، وما في مُلكي وفاء بشكرك؛ فإن قبِلتَ منّي الميسور، ورفعتَ عنّي مؤونةَ الاحتيالِ والاهتمام لما أتكلّفُه مِن واجبِك، فعلتُ» .

فقال الرجل: يابنَ رسولِ الله، أقبَلُ القليل، وأشكرُ العطيّة، وأعذرُ على المنع.

فدعا الحسنعليه‌السلام بوكيله، وجعل يُحاسبُه على نفقاتِه حتّى استقصاها، فقال:«هاتِ الفاضلَ من الثلاثمئةِ ألفِ درهم» . فأحضر خمسينَ ألفاً.

قال:«فما فُعل بالخمسمئة دينار؟» .

قال: هي عندي.

قال:«أحضِرْها».

فأحضرها، فدفع الدراهمَ والدنانيرَ إلى الرجل وقال:«هاتِ مَن يحملُها» .

فأتاه بحمّالين، فدفع الحسَنُ إليهم رداءَه لكراءِ الحمل، فقال له مَواليه: والله، ما عندنا درهم.

____________________

(1) تحف العقول / 20.

٩٢

فقالعليه‌السلام :«لكنّي أرجو أن يكونَ لي عند الله أجرٌ عظيم» (1) .

وجاء بعضُ الأعراب، فقال الإمام الحسنعليه‌السلام :«أعطوهُ ما في الخزانة».

فقال الأعرابيّ: يا مولاي، ألاَ تركتَني أبوح بحاجتي، وأنشرُ مِدحتي؟!

فأنشأ الإمام الحسن (سلام الله عليه):

نحن اُناسٌ نوالُنا خضِلُ

يرتع فيه الرجاءُ والأملُ

تجود قبل السؤالِ أنفسُنا

خوفاً على ماءِ وجهِ مَن يَسَلُ(2)

هكذا هم أهلُ البيت (سلامُ الله عليهم)، يجودونَ قبل السؤال، ويزيدون على طلب السائل، ومع ذلك فإنَّ أوجُهَهم النورانيّة يجلّلُها الحياء حالَ الإعطاء، في حين يُنتظَرُ مِن المعطي أن يشعرَ بالفخر والعزّة إذا أرادَ أن يعطي.

يقول الشيخ التستريّ وهو يعدّد خصائصَ الإمام الحسينعليه‌السلام : ومنها العطاءُ للسائلين، فلهعليه‌السلام خصوصيّةٌ، وهي الحياء عند العطاء؛ فالناسُ تعرضُ لهم حالةُ ردِّ السائل، وهوعليه‌السلام له حالاتٌ عجيبة تعرضُ له عند سؤالِ أحد، فتراهعليه‌السلام يرقُّ على السائلِ لحاجته حين يُريد أن يُعطيَه سُؤْلَه، وتراهُ يرقُّ على السائل بسبب الذُّلِّ العارضِ له حين إعطائه له، لا لفقرِه واحتياجِه وصعوبةِ ذلك، بل لأجلِ السائل وحيائه(3) .

وكأنّه يُريد أن يقول: إنَّ الحسينعليه‌السلام كان إذا رأى السائلَ رقَّ

____________________

(1) مطالب السؤول 2 / 10، الفصول المهمّة / 139. أمّا الخوارزميّ فيذكر ذلك للحسينعليه‌السلام ، راجع مقتل الحسينعليه‌السلام 1 / 153.

(2) أعيان الشيعة 4 / 109 - القسم الأوّل.

(3) الخصائص الحسينيّة / 21 - 22.

٩٣

لحاله، واستحيا من حيائه.

وفدَ أعرابيٌّ إلى المدينة فسألَ عن أكرمِ الناس بها، فدُلَّ على الحسينعليه‌السلام ، فدخل فوجدَه مصلّياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخبِ اليومَ مَن رجاكَ ومَن

حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحلَقَهْ

أنتَ جوادٌ وأنتَ مُعتمَدٌ

أبوكَ قد كانَ قاتلَ الفسَقَهْ

لولا الذي كانَ مِن أوائلِكمْ

كانتْ علينا الجحيمُ منطبقهْ

فسلّم الحسينُعليه‌السلام وقال:«يا قنبر، هل بقيَ مِن مالِ الحجاز شيء؟» .

قال: نعم، أربعةُ آلافِ دينار.

قال:«هاتها؛ فقد جاءَ مَن هو أحقُّ بها منّا» .

ثمّ نزععليه‌السلام بُرْدَيهِ ولفَّ الدنانيرَ فيها، وأخرجَ يدَه مِن شقِّ البابِ حياءً مِن الأعرابيّ، وأنشأ:

خذْها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلمْ بأنّي عليكَ ذو شفقَهْ

لو كان في سيرِنا الغداةَ عصاً

أمستْ سمانا عليكَ مندفِقَهْ

لكنَّ رَيبَ الزمانِ ذو غِيَرٍ

والكفُّ منّي قليلةُ النفَقَهْ

فأخذها الأعرابيُّ وبكى، فقال له الإمامُ الحسينعليه‌السلام :«لعلَّكَ استقللْتَ ما أعطيناكَ!» .

قال: لا، ولكنْ كيف يأكلُ الترابُ جُودَكَ(1) ؟!

بكى الأعرابيّ لاحتماله أن يأكلَ الترابُ جُودَ الحسينعليه‌السلام ، وليتَه رأى كيف أكلتِ السيوفُ والرماحُ جسَدَه في ساحةِ الطفِّ حين اجتمع اللئام على الكريم ابنِ الكرام، فأَعملوا في ذلك البدنِ القُدسيّ سيوفَ الحقد والكفر، ورماحَ الخُبثِ والغدر، وسهامَ الجُبنِ والنفاق،

____________________

(1) المناقب 4 / 66، تاريخ مدينة دمشق - لابن عساكر 4 / 324، أوردها بصورة اُخرى.

٩٤

حتّى وقفتْ اُختُه العقيلة زينبعليها‌السلام على ذلك الجسد المبضّع، فشكتْ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان من القوم، قائلة: يا محمّداه! صلّى عليك مليكُ السماء، هذا حسينٌ مُرمَّلٌ بالدماء، مقطَّعُ الأعضاء(1) .

والحسين (سلام الله عليه) ذلك الكريمُ السخيّ الذي جاء بما عنده؛ فأشبع الجياع، وسقى العطاشى وجفناه يرتدّانِ عن حياءٍ ألاّ يردّ سائلاً إلاّ بما يسرُّه، وبما لم يرجُه مِن عطاءٍ وافر، فإذا ظمئ في كربلاء قال له أعداءُ الله: لا تذوق الماء، ولا تشرب منه حتّى تموتَ عطشاً! وأبَوا أن يسقوه.

يا ليتَ لا عذِبَ الفراتُ لواردٍ

وقلوبُ أبناءِ النبيِّ ظِماءُ(2)

وبدلَ أن يُسقى الماء سُقيَ الرماحَ؛ رماحَ اللُّؤْم، وفي هذا يقول الشريف الرضيّ:

يا رسولَ الله لو عاينتَهمْ

وهمُ ما بين قَتْلٍ وسبا

من رميضٍ يُمنع الظِّلَّ ومِنْ

عاطشٍ يُسقى أنابيبَ القنا(3)

4 - السخاء مع الرأفة

فالإمامُ الحسين (سلام الله عليه) قد أضفى على الاُمَّةِ اُبوّتَه الحانية؛ حيث مسح على رأسها بيدِه الشفيقة، وحباها بعواطفه الرقيقة، واختلط ذلك بكرمِه وجوده، فكان السائلُ عنده يغتبط بلطف الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) وعطفه عليه أكثر ممّا يفرحُ بالأموال والهدايا؛ لأنّه يُحسّ أنَّ في عطاء الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) زينب الكبرىعليها‌السلام / 110.

(2) من قصيدة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(3) ديوان الشريف الرضيّ 1 / 44.

٩٥

رحمةً وحناناً. وهو (سلام الله عليه) على سرّ أبيه عليٍّعليه‌السلام الذي قال فيه أبو الطفيل: رأيتُ عليّاًعليه‌السلام يدعو اليتامى فيُطعمُهم العسَل، حتّى قال بعضُ أصحابه: لَودَدْتُ أنّي كنتُ يتيماً(1) .

وكذا الإمامُ الحسين (عليه السلام)، أنِسَ السائلون عنده برأفته أكثرَ من اُنسِهم بدراهمه ودنانيره، وطابتْ أنفسُهم بكرم أخلاقه أكثر ممّا طابتْ بكرم يده؛ إذ وجدوه محبّاً للخير، باذلاً في ذلك جهدَه، مقرناً به لطفَه وحنانَه وعطفَه.

وقد كان في عطائه قضاءُ حاجةِ الـمُضطرّ، وتنفيس كُربةِ المكروب، وإغاثةُ الملهوف، وإحقاق الحقّ وبذل المال في محلّه، وإدخال السرور على المهموم، وفكّ العسر عن المغموم. وكان من عطفه على الناس أن توسّطَ في نيل ما يحتاجونه حتّى لدى الفاسقين.

دخل الحسينعليه‌السلام على معاويةَ يوماً وعنده أعرابيٌّ يسأله حاجة، فأمسكَ معاويةُ وتشاغل بالحسينعليه‌السلام ، فقال الأعرابيّ لبعضِ مَن حضر: مَن هذا الذي دخل؟ قالوا: الحسينُ بنُ عليّ. فقال الأعرابيُّ للحسينعليه‌السلام : أسألُك يابنَ بنتِ رسولِ الله لـمّا كلّمتَه في حاجتي.

فكلّمَه الحسينعليه‌السلام في ذلك فقضى حاجتَه، فقال الأعرابيّ:

أتيتُ العبشميَّ فلم يَجُدْ لي

إلى أنْ هزّه إبنُ الرسولِ

هو ابنُ المصطفى كرماً وجوداً

ومِن بطنِ الـمُطهّرةِ البتولِ

____________________

(1) بحار الأنوار 41 / 29 عن المناقب 1 / 290.

٩٦

وإنَّ لهاشمٍ فضلاً عليكم

كما فضْلُ الربيعِ على الـمُحُولِ

فقال معاوية: يا أعرابيّ، أعطيكَ وتمدحُه؟!

فقال الأعرابيّ: يامعاوية، أعطيتَني مِن حقِّه، وقضيتَ حاجتي بقوله(1) .

وكان مِن حبِّ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) للخير والرحمة أن كافأ عليهما؛ فقد رُوي عنهعليه‌السلام أنّه قال:«صحَّ عندي قولُ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضلُ الأعمالِ بعد الصلاة إدخالُ السرور في قلب المؤمنِ بما لا إثمَ فيه. فإنّي رأيتُ غلاماً يواكلُ كلباً، فقلتُ له في ذلك، فقال: يابنَ رسول الله، إنّي مغمومٌ أطلبُ سروراً بسروره؛ لأنَّ صاحبي يهوديٌّ اُريد أنْ اُفارقه».

فأتى الحسينُ إلى صاحبه بمئتي دينارِ ثمناً له، فقال اليهوديّ: الغلامُ فداءٌ لخُطاك، وهذا البستانُ له، ورددتُ عليك المال.

فقالعليه‌السلام :«وأنا قد وهبتُ لك المال» .

قال: قبلتُ المالَ ووهبتُه للغلام.

فقال الحسينُعليه‌السلام :«أعتقتُ الغلامَ ووهبتُه له جميعاً» .

فقالتِ امرأته: قد أسلمتُ ووهبتُ زوجي مهري.

فقال اليهوديّ: وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار(2) .

فما أن رأى الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) هذا الغلام يواكل الكلب ويطلب سروره بسرور كلبه حتّى بادر إلى إكرامه والشفقة عليه؛ بأن ذهب إلى صاحبه اليهوديّ ليشتريَه منه و يحرّره.

والرواية مؤنسة ولا تتأخّر في الدخول إلى قلب كلّ طيّب، وقد نحدّث أنفسنا أن نعود عليها نطالعها من جديد، لكنّي - وإن كنتُ اُحبُّ ذلك - لا أجد بأساً أن نسمع الرواية من أخطب خوارزم على تفصيل فيها، حيث قال:

____________________

(1) المناقب 4 / 81.

(2) المناقب 4 / 73.

٩٧

قال الحسنُ البصريّ: كان الحسينُ بن عليّ سيّداً زاهداً، ورعاً صالحاً، ناصحاً حسن الخلق، فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام له اسمه (صافي)، فلمّا قرب من البستان رأى الغلامَ قاعداً يأكل خبزاً، فنظر الحسينعليه‌السلام إليه، وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه، وكان يرفع الرغيفَ فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجّب الحسين من فعل الغلام، فلمّا فرغ الغلام من أكله قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللهم اغفرْ لي واغفر لسيّدي، وباركْ له كما باركت على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقام الحسين وقال:«يا صافي» .

فقام الغلامُ فزعاً وقال: يا سيّدي وسيّد المؤمنين، إنّي ما رأيتك، فاعفُ عنّي.

فقال الحسينعليه‌السلام :«اجعلني في حلٍّ يا صافي؛ لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك» .

فقال صافي: بفضلك ياسيّدي وكرمك، وبسؤددك تقول هذا!

فقال الحسينعليه‌السلام :«رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل النصف الآخر، فما معنى ذلك؟» .

فقال الغلام: إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل، فأستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، فأنا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معاً.

فبكى الحسينعليه‌السلام وقال:«أنت عتيق لله، وقد وهبت لك ألفَي دينار بطيبةٍ من قلبي» .

فقال: إن أعتقتني فأنا اُريد القيام ببستانك.

فقال الحسينعليه‌السلام :«إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل، فأنا قد قلت: دخلتُ بستانك بغير إذنك، فصدّقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافاً لك، وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك» .

فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك فأنا قد

٩٨

سبّلته لأصحابك وشيعتك(1) .

فأغدق الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) على الغلام لطفه ورحمته ومكافأته، وشجّعه على روح العطف، وأعطاه درساً بليغاً في الأخلاق بانَ أثرُه لساعته؛ إذ أصرَّ الغلام بعد أن علم بعتقه أن يُقيم في بستان الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحين علم بأنَّ البستان هبة له جعله سبيلاً لأصحاب الحسين (سلام الله عليه).

ومن الرواية نستشفّ كأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد ضمَّ إلى سخائه حياءً من الغلام ألاّ يُكرمه على خصلةٍ فيه طيّبة، كما ضمَّ إليه رأفة بالغلام فلم يتركه إلاّ على حالٍ ميسورة بعد أن جعل عطاءه له مكافأةً على خلقٍ كريم.

وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام 2 / 43 ح154، عن الحسين بن عليّعليه‌السلام أنّه دخل المستراح فوجد لقمةً ملقاة، فدفعها إلى غلامٍ له فقال:«يا غلام، اذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت».

فأكلها الغلام، فلمّا خرج الحسين بن عليّعليهما‌السلام قال:«يا غلام، أين اللقمة؟».

قال: أكلتها يا مولاي.

قال:«أنت حرٌّ لوجه الله تعالى» .

قال له رجل: أعتقته يا سيّدي؟!

قال:«نعم، سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مَن وجد لقمةً ملقاةً فمسح منها أو غسل ما عليها، ثمّ أكلها، لم تستقرَّ في جوفه إلاّ أعتقه الله من النار».

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام 1 / 153.

٩٩

5 - السخاء مع المكافأة العالية

إنّ الإسلام دين الإنسانيّة والخير والمحبة، وقد دعا الناسَ إلى أسباب السّلام والمودّة والتعارف. ومن دعواته الأخلاقيّة أن حثَّ الناسَ على مكافأة أهل المعروف، فقال النبيُّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَن آتاكم معروفاً فكافئوه، وإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا الله له حتّى تظنّوا أنّكم قد كافأتموه» (1) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«أطل يدك في مكافاة مَن أحسن إليك، فإن لم تقدر فلا أقلَّ من أن تشكره» (2) .

ودعا الإسلام إلى تعظيم أهل المعروف وتشجيعهم؛ ليسود الخير في الاُمَّة، وتشيع الاُلفة والتعاون والتكافل بين الناس. وقد أنزل الله أهل المعروف في الآخرة منزلةً رفيعة؛ إذ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» (3) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً:«أوّل مَن يدخل الجنّة المعروف وأهله، وأوّل من يرد علَيَّ الحوض» (4) .

فلهم الفضل؛ إذ جاؤوا بما يحبُّ الله تعالى من الأفعال الحسنة، ولهم الفضل؛ إذ سبقوا إلى الخير؛ لذا ينبغي مكافأتهم. قال الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام :«المعروف غلٌّ، لا يفكُّه إلاّ مكافأة أو شكر» (5) .

هكذا يشعر أهل الحياء والعزّة إذا اُسدي إليهم معروف، حيث يرونه غلاّ لا يتحمّلونه حتّى يفكّوه بالمكافأة، والمكافأة الحقيقيّة ما فاقتِ المعروف

____________________

(1) كتاب الزهد / 31، الحديث 79.

(2) غرر الحكم / 64.

(3) الكافي 4 / 29، الحديث الثالث.

(4) الكافي 4 / 28، الحديث 11.

(5) الدرّة الباهرة / 34.

١٠٠