الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42322
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42322 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الذي قُدِّم لهم. ففي قوله تعالى:( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ، قال الإمام الكاظمعليه‌السلام :«جرت في المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر؛ مَن صُنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتّى ترى فضلك؛ فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء» (1) .

وفي وصايا أمير المؤمنينعليه‌السلام وحكمه:«إذا حُيّيت بتحيّة فحيّ بأحسن منها، و إذا اُسديتْ إليك يدٌ فكافِئْها بما يُربي عليها، والفضل مع ذلك للبادئ» (2) .

وبما أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم أكثر الناس حياءً وعزّة، وإباءً وكرامة، فقد بادروا إلى مكافأة أهل المعروف بما يُربي ويغطّي عليه؛ سموّاً من عند أنفسهم، وتشجيعاً للإحسان وحسن الصنيعة، وإكراماً لأهل الفضل والخير.

وقد عُرف الكرم الحسينيّ فيما عُرف به بالمكافأة إليه، حتّى لم يُطق بعضهم ذلك، فسأل الإمامَ الحسينعليه‌السلام عن ذلك مستغرباً. روى أبو جعفر المدائنيّ في حديث طويل: خرج الحسن والحسينعليهما‌السلام وعبدالله بن جعفر حجّاجاً، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعض الشعاب خباءً رثّاً وعجوزاً، فاستسقوها فقالت: اطلبوا هذه الشويهة.

ففعلوا، واستطعموها فقالت: ليس إلاّ هي، فليقم أحدكم فليذبحها حتّى أصنع لكم طعاماً. فذبحها أحدهم، ثمَّ شوت لهم من لحمها فأكلوا وقيّلوا عندها، فلمّا نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا؛ فإنّا صانعون بك خيراً. ثمّ رحلوا.

____________________

(1) تحف العقول / 291.

(2) نهج البلاغة - الحكمة 62.

١٠١

فلمّا جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً، ثمّ مضت الأيّام فأضرّت بها الحال، فرحلت حتّى اجتازت بالمدينة، فبصر بها الحسنعليه‌السلام فأمر لها بألف شاة، وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولاً إلى الحسينعليه‌السلام فأعطاها مثل ذلك، ثمّ بعثها إلى عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك(1) .

وروي أنّ عبد الرحمن السلميّ علّم ولد الحسينعليه‌السلام الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه (أي أعطى الحسينُ عبدَ الرحمن السلميّ) ألفَ دينار، وألف حُلّة، وحشا فاهُ درّاً، فقيل له في ذلك، فقال:«وأين يقع هذا من عطائه؟» (2) ، يعني تعليمه لولده. وفي رواية أنّهعليه‌السلام قال:«أين يقع هذا من حقّه؟» (3) .

فقد كان (سلام الله عليه) أشدَّ الناس وأحرصهم على مراعاة الحقوق، وإكرام أهل المعروف حتّى غطّى فضلُه فضلَهم، وجاد بما لا يُتوقّع؛ إذ تجاوز المثْل، وفاق المكافأة.

قال أنس بن مالك: كنت عند الحسينعليه‌السلام فدخلت عليه جارية، فحيّتْه بطاق ريحان، فقال لها:«أنتِ حرّة لوجه الله» .

يقول أنس: فقلت له: تجيئك بطاقةِ ريحان لا خطر لها(4) فتُعتقها!

قال:«كذا أدّبنا الله، قال الله: ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) ، وكان أحسن منها عتقها» (5) .

وأين العتق من طاقة ريحان؟! لكنّه الحسين رجل الكرم والتكريم، وصاحب العطاء والمكافأة، وقد أبت نفسه الزكيّة أن يكافئ هذه

____________________

(1) المناقب 1 / 311.

(2) المناقب 1 / 66.

(3) الخصائص الحسينية / 21.

(4) أي لا قيمة لها.

(5) كشف الغمة 2 / 206، والفصول المهمة / 159، ووسيلة المآل - لباكثير الحضرميّ / 183، والآية في سورة النساء / 86.

١٠٢

الجارية المؤدّبة إلاّ بالعتق.

وروى مسعدة قال: مرّ الحسين بن عليّ على مساكين قد بسطوا كساءً لهم وألقوا عليه كِسراً، فقالوا: هلمَّ يابن رسول الله. فثنى وركه وأكل معهم، وقال:«إنَّ الله لا يحبُّ المستكبرين» (1) . ثمّ قال:«قد أجبتكم فأجيبوني» .

قالوا: نعم يابن رسول الله.

فقاموا معه حتّى أتوا منزله، فقال للجارية:«أخرجي ما كنت تدّخرين» (2) .

والآن تعالَوا نقرأ الرواية نفسها بقلم الشيخ الخوارزميّ، حيث كتبها هكذا: كان الحسين يجالس المساكين ويقرأ:«إنّ الله لايحبّ المتكبّرين» (3) .

ومرّ على صبيان معهم كسرة، فسألوه أن يأكل معهم فأكل، ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال:«إنّهم أسخى منّي؛ لأنّهم بذلوا جميع ما قدروا عليه، وأنا بذلت بعض ما أقدر عليه» (4) .

فإذا طابت نفوسنا للرواية تعالوا نقرأها بقلم ابن عساكر هذه المرّة، حيث كتبها في تاريخه بهذه العبارات: مرّ الحسين بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء. فنزل وقال:«إنّ الله لا يحبّ المتكبّرين» . فتغدّى معهم، ثمّ قال لهم:«قد أجبتكم فأجيبوني» .

قالوا: نعم.

فمضى بهم إلى منزله، فقال للرباب:«أخرجي ما كنت تدّخرين» (5) .

____________________

(1) لعلّ هذه عبارته (سلام الله عليه)؛ لأنّ نصّ الآية( إنّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) كما في سورة النحل / 23، أو أنّ الراوي أخطأ في نقله للآية.

(2) تفسير العياشيّ 2 / 257، وتنبيه الغافلين - للشيخ نصر بن محمّد السمرقنديّ الحنفيّ / 66.

(3) وهذه أيضاً عبارتهعليه‌السلام ؛ إذ ليس لدينا آية بهذا النصّ.

(4) مقتل الحسينعليه‌السلام 1 / 155.

(5) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ مدينة دمشق / 151، الرقم 196.

١٠٣

وبعد أن أحطنا بالرواية على نصوصها الثلاثة تعالوا نتصوّرها ونتصوّر ما فيها من المعاني الكريمة، فهي:

أوّلاً: حكت تواضع الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ إذ نزل وقد كان راكباً، واستجاب لمساكين فقراء، أو لصبيان كانوا جالسين، وهو الذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه إمام، وسيّد شباب أهل الجنة. ومَن لا يعرف الإمام الحسين (سلام الله عليه) وهو ابن الشرف الأسمى؟! ولكنّه سرعان ما استجاب لمساكين أو صبيان كانوا مغمورين بين الناس.

ثانياً: حكت الروايات الثلاث رحمة الإمام الحسينعليه‌السلام بالفقراء والمساكين، وحبّه لهم، فما كان منه بعد أن رآهم على تلك الحال حتّى بادر إلى رفع الحرج عنهم، وإغداقهم بالعطاء الوافر.

ثالثاً: باستجابتهعليه‌السلام لهم يكون قد دارى حياءهم حيث رأوه، فكان لا بدّ أن يدعوه على كساء نُثرت عليه كسرات خبز. فلكي لا يُحرجوا كان ما أسرع أن لبّى دعوتهم بتواضعه، فلم يشعروا بثلمة في شخصيّتهم، أو حرمان في حياتهم. وكيف يشعرون بذلك وقد جالسهم ريحانة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وأكل معهم، وكأنّه واحد منهم؟!

رابعاً: كانت استجابته (سلام الله عليه) لدعوتهم مقدّمة وعذراً لإكرامهم؛ فقد حفظ عليهم ماء وجوههم بأن لبّى دعوتهم؛ حيث رأوا أنفسهم قد أطعموه فلم يتحرّجوا بعد ذلك أن يستجيبوا لدعوته، ويقبلوا عطاءه. فلو لم يستجب لهم لما سمح لهم حياؤهم بأن يستجيبوا له.

وهكذا التمس لهم العذر باستجابتهم بأن استجاب لهم، فشجّعهم على قبول عطائه حين قبِل عطاءهم، وهذه خصلة السخيّ. قال

١٠٤

الإمام الرضاعليه‌السلام :«السخيّ يأكل من طعام الناس ليأكل الناس من طعامه، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه» (1) .

خامساً: لقد أعان الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) اُولئك المساكين على الكرم مع قلّة يمينهم؛ إذ لم يكن لديهم إلاّ كسيرات، ولكنَّ الجُود ما كان عن قلّة، والاستجابة تحقّق كرم الداعي، وهو القائل:«مَن قَبِل عطاءك، فقد أعانك على الكرم».

سادساً: أعطاهم الإمام الحسين (سلام الله عليه) ما كان يدّخره أهله، وبذل لهم ما جمعه عند عياله، فكان منه السخاء والجود والكرم.

سابعاً: كان منه المكافأة، حيث أعطى اُولئك المساكين ما لم يكونوا يحلمون به أو يرجونه من الطعام والكساء وإن كانوا قد قدّموا له كسيراتٍ من خبز؛ ذلك لأنّه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولأنّه المكافئُ أهلَ المعروف، وقد رأى (سلام الله عليه) دعوتهم له معروفاً، فكانت رحمته وعزّته قد دعتاه إلى أن يغدق عليهم مكافأته العالية.

ولكنْ، هل كافأ الناس إمامهم الحسينعليه‌السلام كما كان يكافئُهم ويُكرمهم، وقد قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة؛ المكرم لذرّيّتي مِن بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في اُمورهم عندما اضطُرُّوا إليه، والمحبُّ لهم بقلبه ولسانه» (2) ؟!

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً:«مَن صنع إلى أحد من أهل بيتي يداً كافأتُه به يوم القيامة» (3) .

____________________

(1) الكافي 4 / 41 ح10.

(2) أمالي الطوسي 1 / 376.

(3) الكافي 4 / 60 ح8.

١٠٥

وجاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:«إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أيّها الخلائق، أنصتوا فإنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله يكلّمكم. فتنصت الخلائق، فيقوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول: يا معشر الخلائق، مَن كانت له عندي يد أو منّة أو معروف فليقم حتّى اُكافئه.

فيقولون: بآبائنا وأمّهاتنا! وأيّ يدٍ، وأيّ منّة، وأيّ معروف لنا! بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق.

فيقول لهم: بلى، مَن آوى أحداً من أهل بيتي، أو برَّهم، أو كساهم من عُري، أو أشبع جائعهم فليقم حتّى اُكافئه.

فيقوم اُناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله تعالى: يا محمّد، يا حبيبي، قد جعلتُ مكافأتهم إليك، فأسكِنْهم من الجنّة حيث شئت».

قال:«فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحتجبون عن محمّد وأهل بيته عليهم‌السلام » (1) .

ولكنَّ القوم ما تركوا الإمام الحسينعليه‌السلام ليستقرّ في المدينة المنوّرة قرب قبر جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كتب يزيد إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة أن يأخذ له البيعة من أهل المدينة عامّة، ومن الحسينعليه‌السلام خاصّة، فأبى الإمام الحسين (سلام الله عليه) قائلاً له:«إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، مُعلِن بالفسق، ومثْلي لا يُبايع مثْله» (2) .

وظلّ مروان بن الحكم يضغط على الوليد أن يلحّ على الحسينعليه‌السلام ويجبره

____________________

(1) مَن لا يحضره الفقيه 2 / 36 ح154.

(2) الإرشاد / 183.

١٠٦

على البيعة حتّى اضطُرّعليه‌السلام إلى السفر إلى مكّة المكرّمة، وفي مكّة أنفذ يزيدُ عمرَو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ وأمّره على الحاجّ، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسينعليه‌السلام أينما وُجد(1) . فعزمعليه‌السلام على الخروج من مكّة قبل إتمام الحجّ، واقتصر على العمرة؛ كراهيّةَ أن تستباح به حرمة البيت(2) .

وتمضي الأحداث حتّى تكون واقعة الطفّ المفجعة، حيث يُقتل الإمام الحسينعليه‌السلام هو وأهل بيته وإخوته وأبناؤه، وتُسبى عياله، فيقادون مأسورين مقيّدين إلى الكوفة ثمّ إلى الشام، تاركين جسد عميد الاُسرة الهاشميّة الحسينعليه‌السلام مقطّعَ الأوصال، مسلوب العمامة والرداء.

جاء (بجدَل) فرأى الخاتم في إصبعه، فقطعه وأخذ الخاتم، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وأخذ الحللَ الرحيلُ بن خيثمة الجعفيّ وغيره، ثمّ كان ما كان من قطع الرؤوس، وحرق الخيام، وإرعاب الأطفال اليتامى والنساء الأرامل، وأسْر اُسرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال له الله تعالى:( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) .

وهؤلاء قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما بين مقتول ومأسور، فكان هذا من القوم مكافأتَهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما بذل من نفسه المقدّسة من جهد وعناء لأجل هدايتهم، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن يؤدّوا أجر ذلك لا بالأموال، بل بمودّة قربى المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :

ليس هذا لرسول الله ي

اُمّة الطغيان والغيّ جزا

____________________

(1) بحار الأنوار 45 / 99.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 177.

(3) سورة الشورى / 23.

١٠٧

جُزروا جزْر الأضاحي نسلَه

ثمّ ساقوا أهله سوق الإما

وها هو الحسين (سلام الله عليه) أخصُّ قرباه يُقتل أبشع قتلة، ويُفَرّق بين رأسه الشريف وبدنه الطاهر؛ ليُحمل ذلك الرأس في البلدان شماتةً وتشفّي بعد أن نادى عمر بن سعد: ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيلَ صدرَه وظهره.

فقام عشرة(1) ، حتّى قال أسيد بن مالك لعبيد الله بن زياد:

نحن رضضنا الصدرَ بعد الظهرِ

بكلِّ يعبوبٍ شديد الأسرِ

فأمر له ابن زياد بجائزة(2) .

ولم ينته الأمر إلى هنا، فقد دعا يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ووضعه أمامه في طست من ذهب(3) ، ثمّ أخذ القضيب وجعل ينكث ثغر الحسينعليه‌السلام (4) .

ولمّا نظر مروان بن الحكم إلى رأس الحسينعليه‌السلام قال:

يا حبّذا بردُك في اليدينِ

ولونُك الأحمر في الخدّينِ

كأنّه بات بعسجدَينِ

شفيتُ نفسي من دم الحسينِ

وعندما كان يزيد جالساً في منظرةٍ على (جيرون) ورأى عائلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا، ورؤوس ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أطراف الرماح، نعب غراب، فأنشأ يزيد يقول:

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 6 / 161، والكامل - لابن الأثير 4 / 33، ومروج الذهب - للمسعوديّ 2 / 91، والخطط المقريزيّة 2 / 228، والبداية والنهاية - لابن كثير 8 / 189.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام 2 / 39.

(3) مرآة الجنان - لليافعيّ 1 / 135.

(4) مجمع الزوائد - لابن حجر 9 / 195، والفصول المهمة / 205، والفروع - لابن مفلّج الحنبليّ 3 / 549، والصواعق المحرقة - لابن حجر / 116، والاتحاف بحبّ الأشراف / 23، والآثار الباقية - للبيرونيّ / 331، إضافة إلى تاريخ الطبريّ، والكامل، وتذكرة الخواصّ / 148 ومصادر اُخرى.

١٠٨

لمّا بدت تلك الحمولُ وأشرقت

تلك الرؤوسُ على شفا جيرونِ

نعب الغراب فقلت قلْ أو لا تقلْ

فلقد قضيتُ من الرسول ديوني(1)

ومن هنا حكم ابن الجوزيّ، والقاضي أبو يعلى، والتفتازانيّ، وجلال الدين السيوطيّ بكفر يزيد ولعنه.

قال الآلوسيّ في تفسيره (روح المعاني)(2) : أراد يزيد بقوله: (فلقد قضيتُ من الرسول ديوني ) أنّه قتلَ بما قتله رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر؛ كجدّه عتبة وخاله وغيرهما، وهذا كفر صريح.

أجل، هكذا كافؤوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قرباه وذرّيّته، فعادت اللائمة عليهم شديدة، والتوبيخ غليظاً.

جيء بعليّ بن الحسين على بعير ضالع، والجامعة في عنقه، ويداه مغلولتان إلى عنقه، وأوداجه تشخب دماً، فكان يقول:

يا اُمّةَ السوء لا سقياً لربعكمُ

يا اُمّةً لم تُراعِ جَدَّنا فينا

لو أنّنا ورسولَ الله يَجمعُن

يومُ القيامةِ ما كنتم تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عاريةً

كأنّنا لم نشيّدْ فيكمُ دِينا

وقد أجاد الشاعر حيث قال:

مهلاً بني حربٍ فما قد نالن

فبعينِ جبّارِ السما لم يُكتمِ

فكأنّني يوم الحساب بأحمدٍ

بالرُّسل يَقْدم حاسراً عن معصمِ

____________________

(1) صورة الأرض - لابن حوقل / 161.

(2) روح المعاني - للآلوسي 26 / 73 في ظلّ الآية( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) . سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله / 22.

١٠٩

ويقولُ ويلكمُ هتكتُم حُرمتي

وتركتُم الأسيافَ تنطفُ من دمي

أمِنَ العدالةِ صونُكم فتَياتِكم

وحرائري تُسبى كَسبي الدَّيلمِ

كما أجاد الشريف الرضيّرحمه‌الله حيث قال:

والماء تُورده يعافير الفل

وكبود أطفالي ظِماءٌ تضرمُ

تالله لو ظفرتْ سراةُ الكفر في

رهطي لما ارتكبوا لذاك المعظمِ

وخطبت زينبعليها‌السلام في أهل الكوفة، فقالت: ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبدٍ لرسول الله فريتم، وأيَّ كريمة له أبرزتم، وأيَّ دم له سفكتم، وأيَّ حرمة له انتهكتم(1) ؟!

وفي قصر يزيد قال السجّاد عليّ بن الحسينعليه‌السلام :«أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد، فأتكلّم بكلامٍ فيه لله تعالى رضاً، ولهؤلاء أجر وثواب؟».

فأبى يزيد، وألحَّ الناس عليه، وما زالوا به حتّى أذِنَ له، فخطبعليه‌السلام خطبةً بليغة جاء فيها:«أيُّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي.

أيُّها الناس، أنا ابن مكّة ومِنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، وخير من طاف وسعى، وحجّ ولبّى، أنا ابن مَن حُمل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى، فكان من ربّه قابَ قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى...» ، وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما زال يقول: أنا، يعرّف نفسه، ويذكّر الناس حتّى ضجّوا بالبكاء، وخشي يزيد الفتنة، فأمر المؤذّنَ أن يؤذّن، فلمّا وصل المؤذّن إلى أشهد أنّ محمّداً رسول الله،

____________________

(1) أمالي الطوسيّ، وأمالي ابن الطوسيّ، واللهوف، ومثير الأحزان - لابن نما، والاحتجاج، والمناقب.

١١٠

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام للمؤذّن:«أسألك بحقّ محمّد أن تسكت حتّى اُكلّم هذا». والتفتعليه‌السلام إلى يزيد وقال له:«هذا الرسول العزيز الكريم جَدُّك أم جدّي؟ فإن قلتَ: جدُّك، علم الحاضرون والناس كلُّهم أنّك كاذب، وإن قلت: جدّي، فلِمَ قتلتَ أبي ظلماً وعدواناً، وانتهبت ماله، وسبيت نساءه؟! فويلٌ لك يوم القيامة إن كان جدّي خصمَك!» .

فصاح يزيد بالمؤذّن: أقِمْ للصلاة.

فوقع بين الناس همهمة، وصلّى بعضهم وتفرّق الآخر(1) .

وما زالت توبيخات البيت النبويّ تقرع رؤوس الظالمين؛ فقد وقفت زينب (سلام الله عليها) تخاطب يزيد في قصره ومجلسه: أمن العدل يابن الطلقاء، تخديرُك حرائرَك وإماءك، وسَوقُك بنات رسول الله سبايا...؟! إلى أن قالت له: وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظَ فوه أكبادَ الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يُستبطأ في بغضنا أهلَ البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟!

ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم:

لأهلّوا واستهلّوا فرح

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكثها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ... حتّى بلغت إلى قولها (سلام الله عليها) له:

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام 2 / 69.

١١١

فوالله، ما فريتَ إلاّ جلدَك، ولا حززتَ إلاّ لحمَك، ولَترِدَنَّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحمّلتَ من سفك دماء ذرّيّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمُّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم،( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) . وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خصيماً...(1) .

ولمّا توجّهت اُمُّ كلثوم بنت الإمام عليّعليه‌السلام إلى المدينة عند عودتها من كربلاء والشام، جعلت تبكي وتقول:

مدينةَ جدّنا لا تقبلين

فبالحسَراتِ والأحزانِ جِينا

ألا فاخبر رسول الله عنّ

بأنّا قد فُجعنا في أخينا

وأنّ رجالنا في الطفّ صرعى

بلا روسٍ وقد ذَبحوا البنينا

وأخبرْ جدَّنا أنّا اُسرن

وبعد الأسر يا جدُّ سُبينا

ورهطك يارسولَ الله أضحَو

عرايا بالطفوف مسلَّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعو

جنابك يا رسول الله فينا(2)

وخرجت بنت عقيل بن أبي طالب في جماعة من نساء قومها حتّى انتهت إلى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلاذت به وشهقت عنده، ثمّ التفتت إلى المهاجرين والأنصار تقول:

ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم

يومَ الحسابِ وصدقُ القول مسموعُ

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 6 / 226، والبداية والنهاية 8 / 195.

(2) المنتخب - للطريحي / 499، المجلس العاشر من الجزء الثامن.

١١٢

خذلتمُ عترتي أو كنتم غيب

والحقُّ عند وليّ الأمر مجموعُ

أسلمتُموهم بأيدي الظالمين فم

منكم له اليوم عند الله مشفوعُ

ما كان عند غداة الطفّ إذ حضرو

تلك المنايا ولا عنهنّ مدفوعُ(1)

وكانت اُختها زينب تندب الإمامَ الحسينعليه‌السلام بأشجى ندبة، وتقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيُّ لكمْ

ماذا فعلتم وأنتم آخِرُ الاُممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقَدي

منهم اُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي(2)

6 - السخاء مع العناء

فقد يكرم المرء إخوانه حينما لا يُجهده الكرم، وقد يسخو على ذويه حينما يجد سعة في ذات يده، أمّا السخاء الحسينيّ فهو لا يُحدّ بهذا ولا ذاك؛ فقد بذل الإمام الحسين (سلام الله عليه) أمواله في سبيل الله، وأنفقها على الفقراء

____________________

(1) أمالي ابن الشيخ الطوسيّ / 55.

(2) مثير الأحزان - لابن نما / 51، واللهوف / 96، والكامل 4 / 36.

١١٣

طاعةً لله، وقرن ذلك بعناء وجهد لم يرج بهما إلاّ مرضاة الله، فكانعليه‌السلام يفزع إلى نجدة الملهوف، وإغاثة المضطرّ، وقضاء حاجة المحتاج، يبذل في ذلك طاقته...

قال شعيب بن عبد الرحمن الخزاعيّ: وُجِدَ على ظهر الحسين بن عليّ يوم الطفّ أثر، فسألوا زين العابدينعليه‌السلام عن ذلك، فقال:«هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين» (1) .

وقد عُرف (سلام الله عليه) كما هو ديدن أهل البيتعليهم‌السلام بصدقات السرّ، أو صدقات الليل؛ فحمل ظهره الشريف ما يحتاجه الأيتام والأرامل والفقراء في وقت يستسلم الناس للنوم، ويتمدّدون للراحة. ولا شكّ أنّ في ذلك عناءً، ولكنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام أبى سخاؤه إلاّ أن يكون مع العناء والنفس الساخن من التعب والمشقّة، ومع هذا لم يتركه القوم يموت موتة مريحة حتّى جعلوه يعاني في دفع السيوف والرماح عن نفسه المقدّسة.

فبعد أن كان (سلام الله عليه) يسقي الأرامل واليتامى والمساكين، ويحمل قِرَبَ الماء على ظهره لهم خلّفت عليه ثفنات، لم يُسقَ قطرة ماء قبل أن يُقتل، بل قال له الشمر: لا تذوقه حتّى ترد النار. وقال له رجل: ألا ترى الفرات كأنّه بطون الحيّات، فلا تشرب منه حتّى تموت عطشاً.

وحينما سقط على الأرض قال له رجل آخر: لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها.

فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام :«أنا أرد الحامية! وإنّما أرد على جدّي رسول الله، وأسكن معه في داره، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشكو إليه ما

____________________

(1) المناقب 4 / 66.

١١٤

ارتكبتم منّي وفعلتم بي» . فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الله لم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً(1) .

أجل، هكذا ارتكبوا من صاحب السخاء الذي قرنه بالعناء، فأعملوا في جسده المقدّس كلّ سيف ورمح ونبل حملوه في أيديهم الخبيثة الآثمة.

فهوى بضاحية الهجير ضريبةً

تحت السيوف لحدِّها المسنونِ

وبها نعاه الروحُ يهتف منشد

عن قلبِ والهةٍ بصوتِ حزينِ

أضمير غيبِ الله كيف لك القن

نفذت وراء حجابِه المخزونِ

وتصكُّ جبهتَك السيوفُ وإنّه

لولا يمينُك لم تكن ليمينِ

والسُّمر كالأضلاع فوقك تنحني

والبِيض تنطبق انطباقَ جفونِ

وقضيت نحبك بين أظهرِ معشرٍ

حُملوا بأخبث أظهرٍ وبطونِ(2)

7 - السخاء مع سعة الصدر والوفاء

لقد عُرف أهل البيت (سلام الله عليهم) بسعة الصدر، والوفاء بالعهد، واستقبال كلّ حاجة وقضائها مهما كانت؛ لأنّ سماحتهم لا تقف عند حدّ، فهم يبذلون ما يسعهم حتّى لينصرف سائلهم مرفوعاً ثقله، مكشوفاً غمُّه؛ إذ هم أكرم الناس وأجودهم.

سُئل هشام بن عبد الملك عن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وقد تنحّى الناس حتّى استلم الحجر الأسود؛ هيبةً له: مَن هذا؟

فقال هشام: لا أعرفه؛ لئلاّ يرغب أهل الشام فيه وقد رأوا أنّه لم يقدر على الاستلام من الزحام.

فقال

____________________

(1) مثير الأحزان - لابن نما / 39.

(2) ديوان السيّد حيدر الحليّرحمه‌الله .

١١٥

الفرزدق، وكان حاضراً: لكنّي أعرفه.

فقال الشاميّ: مَن هو يا أبا فراس؟

فأنشأ قصيدته ارتجالاً:

يا سائلاً أين حلّ الجود والكرمُ

عندي بيانٌ إذا طلاّبُه قدِموا

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه

والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العلَمُ

هذا الذي أحمدُ المختار والدُه

صلّى عليه إلهي ما جرى القلـمُ

إذا رأتْه قريش قال قائلُه

إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

ما قال لا قطُّ إلاّ في تشهّده

لولا التشهّدُ كانت لاؤه نَعمُ

حمّال أثقالِ أقوامٍ إذا فُدِحو

حلْوُ الشمايلِ تحلو عنده نِعَمُ

كلتا يديه غياثٌ عمَّ نفعُهم

يستوكفان ولا يعروهما عدمُ

سهل الخليقة لا تُخشى بوادرُه

يزينه خصلتانِ الحلْمُ والكرمُ

١١٦

لا يُخلف الوعدَ ميموناً نقيبتُه

رحبُ الفِناء أريبٌ حين يعترمُ

إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمّتَهم

أو قِيل مَن خير أهل الأرضِ قيل همُ

لا يستطيع جوادٌ بعد غايتهم

ولا يدانيهمُ قوم وإن كرموا

يأبى لهم أن يحلّ الذمُّ ساحتَهمْ

خيمٌ كريم وأيدٍ بالندى هضَمُ

لا يقبض العسرُ بسطاً من أكفّهمُ

سيّانَ ذلك إن أثرَوا وإن عُدِمُوا(1)

هكذا كانوا أهل البيتعليهم‌السلام حملة أثقال الناس إذا فدحوا، وكلّ أياديهم غيث يعمُّ الآخرين، لا يخلفون الوعد، ولا يضيقون بأحد، ولا يدانيهم في سخائهم أحد، وهم كرماء إن أقبلت الدنيا عليهم أو أدبرت، إن كانوا في يسر أو حلّ بهم عسر.

فهم (سلام الله عليهم) لا يردّون سائلاً مهما بلغ سؤاله، وعظمت حاجته، وهم لا يقبضون عن يدِ بخلٍ حاشاهم؛ لأنّهم أصحاب النفوس الزاهدة، والقلوب المتوكّلة على الله الرزّاق الغني.

____________________

(1) حلية الأولياء - لابي نعيم 3 / 139، والأغاني - لأبي الفرج الإصبهاني 14 / 75، و19 / 40 طبع الساسي بمصر، وشرح شواهد المغني للسيوطيّ / 249، وخزانة الأدب - للبغداديّ 2 / 513، وكفاية الطالب - للكنجيّ الشافعيّ / 303، وغيرها من المصادر المعروفة.

١١٧

روى الشبلنجيّ الشافعيّ في كتاب (نور الأبصار)(1) أنّه قيل للحسن (رضي الله عنه): لأيّ شيء نراك لا تردُّ سائلاً وإن كنت على فاقة؟

فقال:«إنّي لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأَرُدَّ سائلاً. وإنَّ الله تعالى عوّدني عادة أن يفيض نعمه عَلَيَّ، وعوّدته أن اُفيض نِعَمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة». ثمّ أنشد يقول:

إذا ما أتاني سائلٌ قلتُ مرحب

بمَن فضلُه فرضٌ عَلَيَّ مُعجّلُ

ومِن فضله فضلٌ على كلّ فاضلٍ

وأفضلُ أيّام الفتى حين يُسألُ

وكان الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (سلام الله عليهما) إذا أتاه سائل قال له:«مرحباً بمَن يحمل زادي إلى الآخرة» (2) .

فهم (سلام الله عليهم) يفرحون بالقادم عليهم؛ يسألهم فيقضون دينه، ويفرّجون عن كربته، ولا يبالون كم عندهم وكم يريد سائلهم؛ فقد أعطى رجل سيّدنا الحسينعليه‌السلام رقعة كتب عليها حاجته، فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام :«حاجتك مقضيّة» . قبل قراءتها(3) ، فلا ينظرون إلى ما بقي عندهم بعد عطائهم، بل ينظرون إلى رحمة الله ومرضاته (جلّ وعلا).

قال له مولىً له: والله ما بقي عندنا درهم واحد.

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام قد أكرم رجلاً ذا حاجة بكلّ ما لديه، ثمّ قال:«لكنّي أرجو أن يكون لي بفعلي هذا أجر عظيم» (4) .

والإمام الحسينعليه‌السلام أوسع صدراً من أن ينظر إلى المحتاج أكان من شيعته أم من مخالفيه؛ فاُسامة بن زيد كان من الممتنعين عن بيعة الإمام

____________________

(1) ص 177.

(2) تذكرة الخواصّ / 184.

(3) الخصائص الحسينيّة / 22.

(4) مقتل الحسينعليه‌السلام 1 / 153.

١١٨

عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، لكن تعالوا نرى ماذا كان من ولده الحسين بن عليّعليه‌السلام معه في ضائقته، لِنُنصتْ: عن عمرو بن دينار وهو يروي قائلاً: دخل الحسينعليه‌السلام على اُسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: وا غمّاه!

فقال له الحسينعليه‌السلام :«ما غمُّك يا أخي؟» .

قال: دَيني، وهو ستّون ألف درهم.

فقال الحسينعليه‌السلام :«وهو عليّ» .

قال اُسامة: وإنّي أخشى أنْ أموت.

فقال الحسينعليه‌السلام :«لن تموت حتّى أقضيها عنك» .

قال عمرو بن دينار: فقضاها الحسين قبل موته(1) .

يذكر هذه الرواية العالم الشيخ جعفر التستريّ (رضوان الله عليه) في جملة خصائص الحسينعليه‌السلام ، ويعنونُها بالرقّة، فيقول: ومنها رقّة خاصّة له على أهل الهموم والغموم، حتّى إنّه دخل على اُسامة وهو محتضر ليعوده، فتأوّه اُسامة أمامه وقال: وا غمّاه!

فقالعليه‌السلام :«ما غمُّك؟» .

قال: دَينٌ عَلَيَّ ستّون ألفاً.

فقال:«عَلَيَّ قضاؤه» .

قال اُسامة: اُحبّ أن لا أموت مديوناً.

فأمر الحسينعليه‌السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه(2) .

وبعد هذا لا ينبغي أن نعجب إذا علمنا أنّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) على وفرة ما كان عنده من الأموال استُشهد وهو عليه دَين!...

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«مات الحسن [عليه السّلام] وعليه دين، وقُتل الحسين [عليه السّلام] وعليه دَين» (3) .

وجاء عن الإمام الباقر (سلام الله عليه) قوله:«إنّ الحسين عليه‌السلام قُتل

____________________

(1) المناقب 4 / 65.

(2) الخصائص الحسينيّة / 22.

(3) بحار الأنوار 43 / 321 ح5 عن الكافي وكشف المحجة.

١١٩

وعليه دين، وإنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام باع ضيعةً له بثلاثمئة ألف درهم ليقضي دين الحسين عليه‌السلام وعِدات كانت عليه» (1) .

فلم يُبقِ شيئاً كان عنده، ولا عجب وهو القائل:«الشُحُّ فقر، والسخاء غنى» (2) ، والقائل:«مالُك إن لم يكن لك كنتَ له، فلا تُبق عليه؛ فإنّه لا يُبقي عليك» (3) .

ذلك أنّ الحسين (صلوات الله عليه) مِن عِظَمِ سخائه قد بذل كلّ ما عنده من الأموال، ولم يكتفِ بذلك حتّى استدان وقضى بالدَّين حوائج المحتاجين، ثمّ لم يكتف بذلك؛ لأنّ سخاءه أعلى من ذلك حتّى تعدّى كرمه الأموال، حيث جاد بالأصحاب المخلصين له؛ فقدّمهم لله سبحانه وتعالى بعد أن استأذنوه، وبعد أن قُتل منهم خمسون في الحملة الاُولى، فتقدّم مسلم بن عوسجة وجالدَ أعداء الله، فما انجلت غبرة الاقتتال إلاّ عن مصرعه، فمشى إليه الإمام الحسينعليه‌السلام وقال:«رحمك الله يامسلم» (4) .

وعندما قال الحصين وقد رأى الحسينعليه‌السلام يستعدّ للصلاة، قال: إنّها لا تُقبل(5) . أجابه حبيب بن مظاهر (رضي الله عنه): زعمت أنّها لا تُقبل من آل الرسول وتُقبل منك يا حمار!

ثمّ كان بينهما اقتتال شديد حتّى كاد حبيب أن يقتله، لكنّ أصحابه استنقذوه، فقاتلهم حبيب وقتل منهم على كبره اثنين وستّين رجلاً، حتّى غدر به أعداء الله فقتلوه واحتزّوا رأسه، فهدّ مقتله

____________________

(1) كشف المحجّة لثمرة المهجة - للسيّد ابن طاووس / 125.

(2) لمعة من بلاغة الحسينعليه‌السلام / 104.

(3) الدرّة الباهرة / 24.

(4) تاريخ الطبريّ 6 / 249.

(5) وسائل الشيعة للحرّ العامليّ 1 / 247.

١٢٠