الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42330
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42330 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الظاهر (أي معاوية بن يزيد بن معاوية) أنّه لـمّا وُلّي صعد المنبر فقال: إنَّ هذه الخلافة حبل الله، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحقُّ به منه عليَ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وركب بكم ما تعلمون حتّى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ قُلّد أبي الأمر وكان غيرَ أهلٍ له، ونازع ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقُصف عمره، وانبتر عقِبُه، وصار في قبره رهيناً بذنوبه.

ثمّ بكى وقال: مِن أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وبؤس منقلبه، وقد قتل عترةَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأباح الخمر، وخرّب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها، فشأنكم أمركم. والله لئنْ كانت الدنيا خيراً فقد نلْنا منها حظّاً، ولئن كانت شرّاً فكفى ذرّيّةَ أبي سفيان ما أصابوا منها.

قال ابن حجر: ثمّ تغيّب في منزله حتّى مات بعد أربعين يوماً كما مرّ، عن إحدى وعشرين سنة، وقيل: عشرين، فرحمه الله أنصف من أبيه، وعرف الأمر لأهله.

وقيل: إنّه قُتل كما قُتل معلّمه؛ لاتّهامه بتعليمه الزهدَ بالدنيا.

وهنا بعد هذه الرحلة التاريخيّة الطويلة نقول: إنّ الأخلاق الشرعيّة والسياسيّة، والاجتماعيّة والإنسانيّة كلّها تستدعي لأنْ ينهض الحسين (سلام الله عليه) ليصرخ صرخته التاريخيّة المدوّية في وجه الظلم الذي استفحل فهدّد الدين بالتحريف، وهدّد المسلمين بالقتل المعنويّ، فناموا على قبول الضيم، وانزوَوْا خانعين، وماتت الغيرة والهمّة والشهامة والمروءة والكرامة فيهم حتّى أقرّوا على حكم يزيد، ولم تُسمع منهم كلمة حقّ في وجه سلطانٍ جائر، ولم يُرَ منهم سيفٌ يسلط في وجه أميرٍ ظالم؛ فغضُّوا الأبصار عن جرائم بني اُميّة، وأصمّوا الأسماع عمّا شاع من يزيد وزمرته من الانتهاكات وهتك الحرمات.

١٦١

فكان لا بدّ أن يقوم الإمام الحسينعليه‌السلام لله، وعلى حبّ الله، وطاعة الله، وفي سبيل الله ولو كلّفه ذلك الدماء الزكيّة، والأنفس القدسيّة، وآلام الأسر، وهو يعلم أنّ يزيد هذا لا يتورّع عن انتهاك أيّ حرمة، وارتكاب أيّ جريمة، فبذلك يُثبت للناس أنَّ يزيد كافر، وأنّ الاُمّة متخلّفةٌ عن تكاليفها الشرعيّة، وهذا لم يكن للإمام الحسينعليه‌السلام أن يثبته إلاّ بالدم النبويّ الشريف؛ فعرّضَ بدنه للسيوف والرماح والسهام، وعرّض اُسرته للقتل والسبي ليسلم الدين، ويستفيق المسلمون من أسر الغفلة وحبّ الدنيا والخوف.

وفعلاً افتضح أمر (يزيد) بعد واقعة الطفّ، وبعد تلك المواقف الشجاعة التي ظهرت من الإمام الحسينعليه‌السلام ، حتّى إذا استتبّ له الأمر هجم على المدينة في واقعة الحَرَّة فهتك حُرمة حرَمِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أباح دماءها وأعراضها ثلاثة أيّام؛ فقتل جيشه ألفاً وسبعمئةٍ من الأنصار والمهاجرين، وأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوه الناس، ومن العوامّ عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

هذا ما ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، أضف إلى ذلك النهب والإفساد وأسر المسلمين، وانتُهكتْ ألفُ بنت في هذه المأساة، وحملت (من الزنا) سبعمئةِ امرأة بأولاد الزنا. ثمّ ماج يزيد على الكعبة فهدمها سنة 64هـ بالمنجنيق كما يذكر ابن الأثير في تاريخه (الكامل) 4 / 124.

إنّ الموقف يومذاك قد تطلّب معرفة أمرِ الله وحكْمِه، والحسين (سلام الله عليه) من أهل بيت الوحي، ومستقى العلم. وكذا تطلّب الموقف شجاعةً عالية لا يرقى إليها إلاّ الحسين، ولا يطالها إلاّ سيّدُ شباب أهل الجنّة،

١٦٢

ولا يفوز بها إلاّ سيّد الشهداء من الأوّلين والآخرين.

وقف الإمام الحسينعليه‌السلام أمام مروان بن الحكم وقد دعاه إلى بيعة يزيد، فقال:«إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا بُليتِ الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد. ولقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة محرّمةٌ على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنة. وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق» (1) .

يقول ابن طاووس بعد هذا: والذي تحقّقناه أنّ الحسينعليه‌السلام كان عالِماً بما انتهت حاله إليه، و كان تكليفه ما اعتمد عليه.

ولهذا ندِم مَن تخلّف عن الإمام الحسين (سلام الله عليه)، فقام سليمان بن صرَد الخزاعيّ بثورة التوّابين سنة 65 هـ، وقام بثورة المدينة عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة)، وقام المختار الثقفيّ (رضوان الله عليه) بثورة في الكوفة سنة 66 هـ، وفي سنة 77 هـ ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجّاج بن يوسف وخلع عبدَ الملك بن مروان، وثار سنة 81 هـ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجّاج أيضاً، ثمّ نهض زيد بن عليّ بن الحسين (سلام الله عليهم) بثورةٍ شامخة سنة 122 هـ.

ولم يستقرّ لبني اُميّة قرار حتّى آل سلطانهم إلى الانهيار، فانتصر الإمام الحسينعليه‌السلام نصرين، ونال كلتا الحُسنيين؛ غلبة السيف على الظلم، وغلبة الدم على السيف الظالم، وفاز هو وأنصاره بالشهادة العليا.

ثمّ يعود التاريخ فينحني إجلالاً وإكباراً للشجاعة الحسينيّة التي غيّرت

____________________

(1) اللهوف / 10، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 185.

١٦٣

عوالم في هذا الوجود، وطبّقت شريعة الله على الأرض بأغلى التضحيات، وصرعت رموز الكفر والضّلال والفساد.

قال ابن خلدون: غلط القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسيّ المالكيّ إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم)(1) : إنّ الحسين قُتل بسيف شرعه. غفلةً عن اشتراطِ الإمام العادل في الخلافة الإسلاميّة، ومَن أعدل من الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء(2) ؟!

ثمّ ذكر الإجماع على فسق يزيد، ومعه لا يكون صالحاً للإمامة؛ ومِن أجله كان الحسينعليه‌السلام يرى من المتعيَّن الخروج عليه. وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله؛ لأنّهم يرون أن لا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين، بل قَتْلُه من فعلات يزيد المؤكِّدة لفسقه، والحسين فيها شهيد.

وقال ابن مفلح الحنبليّ: جوّز ابن عقيل وابن الجوزيّ الخروج على الإمام غير العادل، بدليل خروج الحسين على يزيد لإقامة الحقّ. وذكره ابن الجوزيّ في كتابه (السرّ المصون) من الاعتقادات العامّيّة التي غلبت على جماعةٍ من المنتسبين إلى السُّنَّة. ثمّ لو قدّرنا صحّة خلافة يزيد فقد بدرت منه بوادر، وظهرت منه اُمور كلٌّ منها يوجب فسخ ذلك العقد(3) .

وقال الشيخ محمّد عبده: إذا وُجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطّله، وجب على كلّ مسلم نصر الاُولى... ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على إمام الجور والبغي

____________________

(1) ص 232.

(2) مقدّمة ابن خلدون / 254 - 255، عند ذكر ولاية العهد.

(3) الفروع 3 / 548 - باب قتال أهل البغي.

١٦٤

الذي وُلّي أمر المسلمين بالقوّة والمكر (يزيد بن معاوية)، خذله الله وخذل من انتصر له من الكراميّة والنواصب(1) .

وهذا أثبته الإقدام الحسينيُّ المبارك، والشجاعة الحسينيّة الباصرة الداعية على هدىً إلى الجهاد في سبيل الله، والقيام لله، وإحياء الدين، وإماتة البدع، وقطع أيدي الظلمة، ودفع الظالم عن حوزة الدين ومجتمع المسلمين، وإنقاذ عباد الله عن الضلالة والحيرة. وقد بذل (سلام الله عليه) من أجل ذلك الخيرة من أصحابه، والخُلّص من أهل بيته، وفلذات كبده، وكلَّ عزيزٍ عليه، ثمّ نفسه القدسيّة الطاهرة.

وهذه في الحقيقة هي الشجاعة الفذّة الفريدة التي تقع موضع الرضوان الإلهيّ، والقبول الربّانيّ؛ إذ جمعت إلى العلم والمعرفة الهمّةَ والإقدام، وصلاحَ النيّة، وبصيرة الهدف، والجهاد في سبيل الله، ولله.

3 - الدعوة الحقّة

لا نستطيع أن نسمّي الهجوم المباغت على المخالف المخاصم شجاعة، ولا نستطيع أن نسمّي المقابلة الفضّة الغليظة الجافّة للناس شجاعة، كذلك لا نستطيع أن نسمّي تعبئة الأنصار بلا بيان، ودعوة الناس إلى القتال بلا حجّة شجاعة.

إنّما الشجاعة الكاملة ما جمعت إلى الوعي التوعية، وإلى الشهادة بالحقّ إشهاد الملأ عليه، وإلى بلوغ ساحة الحرب إبلاغ الاُمّة بواقعها وتكاليفها. والشجاعة الحقيقيّة ما اتّصفت بالكلمة الموقِظة المنبِّهة المرشدة، المبيِّنة للتكليف الشرعيّ، والرافعة للهمم والعزائم إلى مستوى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

____________________

(1) تفسير المنار - لمحمّد رشيد رضا 1 / 367، في سورة المائدة / 37، و12 / 183 - 185.

١٦٥

والشجاعة الحقّة ما كانت جهاداً باللسان والقلم، فإن تعذّر الإصلاح إلاّ بالسيف فبه. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«ردّوا الحجر من حيث جاء؛ فإنّ الشرّ لا يدفعه إلا الشرّ» (1) . فكنّىعليه‌السلام بالحجر عن الشرّ، وبردّه من حيث جاء عن مقابلة الشرّ بمِثْله، وهو مخصوصٌ بشرٍّ لا يندفع إلاّ بالشرّ(2) .

فالكلمة المرشدة، الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر تدفع الكثير من الشرّ، وتترك الناس على المحجّة البيضاء والحجّة البالغة، وتسقط عن الجاهل والغافل، والمتجاهل والمتغافل، وعن كلّ مُدَّعٍ كلَّ عذر. وهي من الشجاعة؛ إذ يتحلّى المؤمن بالروح الإنسانيّة الداعية إلى الخير والإصلاح باللسان، ويتحلّى بالدليل الواضح والبرهان القاطع الذي يدعوه إلى الإقدام، ويردّ على كلّ شبهةٍ وتردّدٍ وتشكيك.

فالكلمة أوّلاً؛ لأنَّ الهدف ليس انتقاماً، ولا قصداً للقتل مجرّد القتل، ولا نشراً للرعب وفتكاً حاقداً بالمخالفين والضعفاء والأبرياء، إنّما القصد إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، فلا بدّ من الحجّة المقنعة. وهكذا بدأ نبيُّ الهدى والرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله دعوتَه المباركة؛ فبلّغ الناسَ الحقّ، ودعا إلى الخير، ونشَرَ الحكمة، وخاطب الملأ بالحكمة والموعظة الحسنة، حتّى إذا رأى سيوف الشرك والكفر والجاهليّة تُشهر في وجه الإسلام سلّ سيف الدفاع، وقطع رؤوس الفتنة، وهدّد قلاع الأحزاب وفرّقهم عن قصدهمُ الشيطانيّ.

____________________

(1) نهج البلاغة - الحكمة 314.

(2) اختيار مصباح السالكين - لكمال الدين ابن ميثم البحرانيّ / 651، تحقيق الدكتور الشيخ محمّد هادي الأمينيّ.

١٦٦

ومن بعد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله حارب أهلُ البيتعليهم‌السلام على التأويل كما حارب رسول الهدى على التنزيل؛ فدعوا قومهم ما استطاعوا وما وجدوا إلى طاعة الله سبيلاً، حتّى اضطُرّ الإمامُ عليٌّعليه‌السلام إلى دفع المارقين والقاسطين والناكثين بالاحتجاجات الطويلة، فلمّا رأى سيوفهم سُلّت على الإسلام جرّد سيفه ذا الفقار فدفعهم في الجمل وصفّين والنهروان، لا يجد عن ذلك بُدّاً؛ لأنَّ شريعة الله وحال دولة الإسلام أصبحا في خطر، وكذا أنذر وضع الاُمّة بالانحراف.

وجاء الإمام الحسن (سلام الله عليه) فخطب وخاطب، ودعا واستدعى، وبلّغ وبالغ في النصيحة؛ فتخلّف الناس عنه، واتّجهت قلوبهم إلى الدنيا وعيونهم إلى دنانير معاوية. فلمّا دعاهم إلى قتال المنحرفين تململوا وتعلّلوا وتثاقلوا، ثمّ غدروا به وخذلوه وكادوا يقتلونه، حتّى استطاع (معاوية) أن يدسّ له السمَّ القاتل على يد الآثمة (جعدة) فقتله، وأصبحت الاُمّة في محنةٍ حقيقيّة.

وجاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فلم يشرع أمرَه بالسيف، ولم يبدأ الناس بالدعوة إلى الحرب، بل تقدّم لهم بالكلمة المرشدة المدعومة بالدليل العقليّ، والدليل الشرعيّ النقليّ؛ فخاطب العقول والضمائر، وعالج النفوس المنكمشة والقلوب المتحيّرة، وصدع بالحقّ والحقيقة بشجاعةٍ عاقلةٍ هادفة حملها ذلك القائد الهمام بين جنبيه مع حبّ الخير للناس؛ فجمع إلى الوعي التوعية. ومَن أفقه من الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومَن أوضح منه بياناً إذا خطب أو خاطب؟!

وكانت كلماته (سلام الله عليه) تبثّ همّة الجهاد، وتبعث روح الشجاعة في النفوس المخذولة المنهزمة؛ لأنَّ معاوية أنفق بيت مال المسلمين على شراء

١٦٧

الضمائر والذمم، وجرَّ الناس إليه بالترغيب والترهيب، وجنّد لذلك وعّاظ السلاطين، والمحدّثين الوضّاعين، والدنانيرَ الثقيلة التي يسيل لها لعاب كلِّ طمّاعٍ حبّابٍ للدنيا، ضعيف التقوى، متخلخل الإيمان، مستعار الشخصيّة. وليس أدلّ على ذلك من إرسال معاوية إلى (مالك بن الهبيرة السكونيّ) ألف درهم حين بلغه استياؤه من قتل معاوية للصحابيّ الجليل حِجْر بن عدِيّ وأصحابه (رضوان الله عليهم)، فما كان من السكونيّ إلاّ أن أخذ ثمن ضميره وتخلّى عن عزمه على التحرّك بوجه الظلم والفساد(1) .

وأرسل معاوية أموالاً إلى بعض قوّاد جيش الإمام الحسنعليه‌السلام ، فما أسرع أن ركبوا الليل سرجاً للفرار، وتبعهم إلى ذلك آلافٌ من الجند.

ودسَّ معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وإلى حجر بن الحجر، وشبث بن ربعيّ دسيساً أفرد كلَّ واحدٍ منهم بعينٍ من عيونه أنّك إذا قتلت الحسن بن عليّ فلك مئتا ألف درهم، وجندٌ من أجنادِ الشام، وبنتٌ من بناتي.

فبلغ الحسنَعليه‌السلام ذلك، فاستلام(2) ولبس درعاً وكفرها(3) ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يلبث فيه؛ لما عليه من اللاّمة، فلمّا صار في مظلم (ساباط) ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمِل فيه الخنجر، فأمرعليه‌السلام أن يُعدَلَ به إلى بطن (جريحى)(4) .

لقد ظهرت على الناس بوادرُ الميل الدنيويّ الحادّ بشكلٍ شرهٍ

____________________

(1) يراجع في ذلك كتب السيرة، وكذا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

(2) أي: لبس لامته.

(3) أي: غطّاها وسترها.

(4) علل الشرائع / 220 - 221.

١٦٨

ومفضوح؛ فتسابق أصحاب التيّار النفعيّ ليستحوذوا على الإمارات، أو يحصلوا على دريهمات السلطان بعد طول وقوفٍ ذليلٍ على بابه، ولم يَعُدْ هناك مجتمعٌ مستعدٌّ لرفض الباطل أو التصريح بالحقّ، فضلاً عن مواجهة الطغاة.

استأذن زهيرُ بن مظاهر الأسديّ (رضوان الله عليه) الإمام الحسينعليه‌السلام ليدعو عشيرته بني أسد للالتحاق، فأذِنَ له، فكانت نتيجةَ مفاتحته أن غادرتْ عشيرته المنطقةَ بأجمعها، وانسحبت انسحاباً جماعيّاً في تلك الليلة ذاتها(1) ، في حين جنّد عبيد الله بن زياد الآلاف من أهل الكوفة ليضعهم في خطّ بني اُميّة، ويقتل بهم الحسينعليه‌السلام وأنصاره.

وقصّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام معروفة مشهورة، وهي تحكي عن روح الهزيمة، وقد كان مع مسلم أربعة آلاف رجل أخذوا يطوفون قصر الإمارة، وابن زياد في قصره ليس معه إلاّ عدد قليلٌ من الشرطة لا يتجاوزون الثلاثين، فهرب أنصار مسلم جميعاً بالدعاية، فأسرع ابن زياد في قتل مسلم وهانئ بن عروة بعد أن خذلته عشيرته ولم تنقذه من السجن، واقتنعت بالمكيدة القائلة: إنَّ هانئاً حيٌّ لم يُقتل.

ومن هنا نعرف مدى حاجة الناس إلى التوعية العقليّة والروحيّة قبل التقدّم إلى ساحة المعركة، وقد كان للإمام الحسين (سلام الله عليه) في كلّ موقع تذكير ودعوة، وتنبيه وإيقاظ، وتعريف وبيان وتبيين وتفصيل، وإذا تطلّب الأمر خلاف ذلك سمعناه (سلام الله عليه) يوخز الضمائر، ويهتف بالهمم، ويثير العزائم، أو يؤنُّب الجبناء، ويوبّخ المنحرفين، ويعاتب المقصّرين، ويلوم المتخلّفين...

____________________

(1) إبصار العين في أنصار الحسينعليه‌السلام - للشيخ المرحوم مهدي السماويّ / 67.

١٦٩

وهذا ما يقرأه التاريخ عنه من خلال وثائقه التي جمعها لنا في بطون المؤلّفات، تعالوا نطالعها:

من كلامهعليه‌السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

«اعتبروا أيُّها الناس بما وعظ اللهُ به أولياءَه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: ( لَوْلاَ يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ ) (1) ،وقال: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (2) .وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الذين بين أظهُرِهمُ المنكَر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممّا يحذرون، والله يقول: ( فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي ) (3) ،وقال: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ) (4) .

فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه؛ لعلمه بأنّها إذا اُدِّيَت واُقيمت استقامت الفرائض كلّها؛ هيّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة. يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في

____________________

(1) سورة المائدة / 63.

(2) سورة المائدة / 78 - 79.

(3) سورة المائدة / 44.

(4) سورة التوبة / 71.

١٧٠

الحوائج إذا امتنعت من طلاّبها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر. أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصرون! فاستخففتم بحقّ الأئمّة؛ فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتُم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم؛ فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله.

أنتم تتمنّون على الله جنّته، ومجاورة رسله، وأماناً من عذابه! لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته؛ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضّلتم بها. ومَن يعرف بالله لا تكرمون وأنتم بالله في عباده تكرمون! وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون! وذمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله محقورة، والعمي والبُكم والزمّن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعنون، وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون!

وأنتم أعظم الناس مصيبة؛ لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الاُمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ، واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت اُمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمةَ مِن منزلتكم، واستسلمتم اُمور الله في أيديهم؛ يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات.

سلّطهم على ذلك فرارُكم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم؛ فأسلمتم الضعفاء في أيديهم. فمِن بين مستعبَدٍ مقهور، وبين مستضعف على

١٧١

معيشة مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم؛ اقتداءً بالأشرار، وجرأة على الجبّار. في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع؛ فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يدَ لامس. فمِن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ الـمُعيد.

فيا عجباً! وما لي (لا) أعجب والأرض من غاشٍ غشوم، ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان منَّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لِنُريَ المعالمَ مِن دينك، ونظهر الإصلاحَ في بلادك، ويأمَن المظلومون من عبادك، ويُعمَل بفرائضك وسننك وأحكامك؛ [فإن لم] تنصرونا وتنصفونا قوي الظلَمةِ عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم. وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير» (1) .

يقول الاُستاذ أحمد الصابريّ الهمدانيّ معلّقاً على هذه الخطبة الشريفة: وهذه الخطبة العظيمة ممّا يهيّج الباطل العاطل، ويقوّي الضعيف المسامح المماهل في اُمور المجتمع والاُمّة، ويبيّن وظيفة هامّة ومسؤوليّة اجتماعيّة مهمّة لأرباب العلم والفضل، وطبقة العلماء والربّانيّين، ويوجب عليهم أن ينكروا المنكر بفعلهم وقولهم، وأن لا يداهنوا الظلمة حتّى لا تضيع حقوق الضعَفة والعجَزة من الرعيّة، وأن لا يتفرّقوا عن الحقّ ولا يختلفوا في السُنّة.

ويقول الإمامعليه‌السلام :«لو أنّهم أقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) تحف العقول / 171 - 172.

١٧٢

المنكر لاستقامت الفرائض كلّها، وبه يُردّ المظالم، ومخافة الظالم، ويكون مجاري الاُمور بيد العلماء» .

وقد استدلّ بتلك الخطبة لولاية الفقهاء كما أوضحنا ذلك في كتاب الهداية إلى مَن له الولاية(1)(2) .

وروى محمّد بن الحسن أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال لأصحابه بعد أن حمد الله وأثنى عليه:«إنّه قد نزل بنا من الأمر بما قد تَرون، وإنّ الدنيا تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها واستمرّت (3) ،ولم يبق منها إلاّ صبابةٌ كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل. ألاَ ترون إلى الحقّ لا يُعمَلُ به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظالمين إلاّ برماً. إنَّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».

وأنشأ متمثّلاً:

سأمضي فما بالموت عارٌ على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى الرجالَ الصالحين بنفسِه

وفارقَ مَذموماً وخالف مجرما

اُقدِّم نفسي لا اُريد بقاءَه

لتلقى خميساً في الهياجِ عرَمرما

____________________

(1) أدب الحسينعليه‌السلام وحماسته - للاُستاذ أحمد الهمدانيّ الصابريّ / 95.

(2) كتاب ألّفه الاُستاذ أحمد الصابريّ سنة 1373 هـ، وطبع سنة 1383 هـ، يبحث فيه ولاية الفقهاء وكيفيّتها.

(3) أي صارت مُرّة.

١٧٣

فإن عشْتُ لم اُذْمم وإن مِتُّ لم اُلَمْ

كفى بك ذُلاً أن تعيش فتُرغَما(1)

وهذه دعوةٌ صادقة تبيّن تكليف المسلم في ذلك المقطع الزمنيّ الحسّاس، وتوضّح علّة ذلك التكليف، وتثير في المرء نخوة الجهاد في سبيل الله، وتبثّ فيه روح الشهامة والعزّة والإباء.

ولقد أمر الإمام الحسين (سلام الله عليه) بالمعروف وكان في طليعة أهله، ونهى عن المنكر وكان في طليعة المحاربين له؛ بالدعوة إلى إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، فإذا لم تنفع الدعوة، وصُكّت الأسماع دون الكلمة الشجاعة، تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام بالسيف، مقدِّماً عليه نفسَه الشريفة ودمه الزاكي؛ جهاداً في سبيل الله، ودفاعاً عن شريعة الله، ورفعاً للحيف عن عباد الله، وإيقاظاً للمسلمين ممّا لا يرضاه لهم الله.

فجرّد حسام العزّة حتّى الشهادة، ولكنّه لم ينسَ الكلمة التي يكون الناس بعدها ينادَون بها:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) .

خطب الإمام الحسينعليه‌السلام في (البيضة) للحرّ وأصحابه، وقد جعجعوا به إلى ذلك المكان، فقال بعد الحمد والثناء:«أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحِلاً لحرام الله، ناكثاً عهدَه، مخالِفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن

____________________

(1) المناقب 4 / 68، وحلية الأولياء 2 / 539 مع اختلاف يسير، وتحف العقول / 176.

(2) سورة الأنفال / 42.

١٧٤

يُدخله مُدخلَه. ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعةَ الشيطان، وتولَّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وإنّي أحَقُّ بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسول الله.

وقد أتتني كتبكم، وقَدِمَتْ عَلَيَّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم، وأنا الحسين بن عليّ، ابن فاطمة بنتِ رسول الله، ونفسي مع أنفسكم، ووُلْدي مع أهاليكم وأولادكم، ولكم بي اُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلفتم بيعتي، فلَعَمري ما هي منكم بنُكْر؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل. والمغرور من اغترّ بكم؛ فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيّعتُم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» (1) .

إنّ ممّا تحلّت به الشجاعة الحسينيّة الروحَ الإنسانيّة الـمُحِبّة للخير، الحريصة على إنقاذ الناس من الضَّلالة وميتة الجهالة؛ ولهذا قدّم الإمام الحسين (سلام الله عليه) الموعظةَ والتذكير على السيف والنفير، واستجاب لرسائل أهل الكوفة والتي دعته لأن يُقبل عليهم فيكون لهم إماماً وقدوة، وهو يعلم أنّهم الغدرة.

لكنّه جاء إليهم ليقطع عذرَ العاذر، ويخلّف الندم والحسرة في قلب كلِّ متخلّفٍ عنه، ولئلا يقول قائل: لقد خيّبنا إمامُنا حيث دعوناه فلم يستجب، واستنجدناه فلم ينجدنا، ومددنا إليه يد المستغيث فلم يراعنا ولم يغثنا، فيكون لهم الحجّة الظاهرة إذا نكصوا عن الجهاد أو انصاعوا إلى سلطة الجلاّد.

لقد قدِم الإمام الحسين (سلام الله عليه) لتصبح الحجّة ظاهرةً وباطنة، قائمةً

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 3 / 376.

١٧٥

عليهم؛( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ، ولئلاّ يقول أحد: يا رب، لولا أقمت لنا علماً هادياً فنتّبع أوامرَك مِن قبل أن نَذِلَّ ونخزى. فقد عقّب الله تعالى برسله أوصياءَ مستحفَظين، حجّةً منه بالغةً على العباد،( فلله الحجّةُ البالغة... ) (1) .

وقد جاء عن الإمام المهديّ (سلام الله عليه) في دعاء الندبة قوله:«وكلٌّ (أي من الأنبياء عليهم السّلام)شرعتَ له شريعة، ونهجت له منهاجاً، وتخيّرتَ له أوصياءَ [أوصياءَه] مستحفَظاً بعد مُستحفِظ، من مدّةٍ إلى مدّة؛ إقامةً لدينك، وحجّةً على عبادك، ولئلاّ يزول الحقُّ عن مقرّه، ويغلبَ الباطلُ على أهله، ولئلاّ يقول أحدٌ: لولا أرسلتَ إلينا رسولاً منذراً، وأقمتَ لنا علَماً هادياً فنتّبع آياتك من قبل أن نذلَّ ونخزى...» (2) .

ثمّ كان لا بدَّ من الإقدام؛ إذ لا بدّ من الدم؛ حيث الدين في خطر، والاُمّة في سبات، فرأى الحسينعليه‌السلام أن يذهب إلى كربلاء نصرَه الناسُ أم خذلوه، أسلموه أم قتلوه. ولكن رأى أيضاً أن يُدليَ لهم بالنصيحة، ويقيم عليهم الحجّة بل الحُجج، ويذكّرَهم ويحذِّرهم ممّا هم مُقبلون عليه من سخط الله وعظيم غضبه بقتلهم وصيّ المصطفى وريحانته، والثلّة المؤمنة من أهل بيته وأنصاره.

لمّا بلغ عمرَ بن سعد توجّهُ الحسين إلى العراق لحقه وأشار عليه بالطاعة والانقياد، فقال له الحسين:«يا عبد الله، أمَا علمت أنَّ من هوان الدنيا على الله

____________________

(1) سورة الأنعام / 149.

(2) يراجع كتب الأدعية، ومنها: جمال الاُسبوع - للسيّد ابن طاووس، ومصباح الزائر، وتحفة الزائر - للعلاّمة المجلسي.

١٧٦

أنَّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل - إلى قوله -فلم يعجّل الله عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟!» . ثمّ قالعليه‌السلام لعمر:«اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدَعنَّ نصرتي» (1) .

وفي اليوم السابع من المحرّم سنة 61 هـ، وفي ساحة كربلاء أرسل الإمام الحسينعليه‌السلام عمرو بن قرظة الأنصاريّ إلى عمر بن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلٌّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أن يتأخّرَ إلاّ العبّاس وابنه عليّاً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسينعليه‌السلام :«يابن سعد، أتقاتلني؟! أمَا تتّقي الله الذي إليه معادُك؛ فأنا ابن مَن علمت؟! ألاَ تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى».

قال عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داري.

قال الحسينعليه‌السلام :«أنا أبنيها لك» .

قال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

قالعليه‌السلام :«أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي من الحجاز» (2) .

ويُروى أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال لعمر بن سعد:«أعطيك البغيبغة» . وكانت عظيمةً فيها نخلٌ وزرعٌ كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلم يبعها منه(3) ، فقال ابن سعد: إنَّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم

____________________

(1) مثير الأحزان / 29، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 1 / 192 و 193، واللهوف / 13، قال بعض المحقّقين: يبدو أن عمر بن سعد حاور الإمام الحسينعليه‌السلام في هذا الأمر مرّتين؛ أولاهما عند توجّههعليه‌السلام إلى مكّة، والثانية بعد خروجهعليه‌السلام من مكّة متوجّهاً إلى العراق.

(2) مقتل العوالم / 78.

(3) تظلّم الزهراء للسيّد رضي بن نبيّ القزوينيّ / 103.

١٧٧

من ابن زياد القتل.

ولمّا أيس الحسينعليه‌السلام منه قام وهو يقول:«ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً».

قال ابن سعد مستهزئاً: في الشعير كفاية(1) .

وأوّل ما شاهده عمر بن سعد من غضب الله عليه ذهاب ولاية الريّ؛ فإنّه لـمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية (الريّ)، فادّعى ابن سعد ضياعه، فشدّوا عليه بإحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهنّ، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحةً لو نصحتها أبي (سعداً) كنت قد أدّيت حقَّه.

فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددت أنَّ في أنف كلّ رجلٍ من بني زياد خزامةً إلى يوم القيامة وأنَّ الحسين لم يُقتل(2) .

وكان من صنع المختار مع عمر بن سعد أنّه لـمّا أعطاه الأمان استأجر نساءً يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت أنظار المارّة، فصاحب هذا الدار قاتل الحسين، فكيف يكون على داره نساءٌ يبكين الحسين! فضجر ابن سعد من ذلك، وكلّم المختار في رفعهنَّ عن باب داره، فقال له المختار: ألا يستحقّ الحسينُ البكاءَ عليه(3) !

ولمّا أراد أهل الكوفة أن يؤمّروا عليهم عمرَ بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية لينظروا في أمرهم، جاءتْ نساء همدان وربيعة إلى الجامع الأعظم

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي / 245.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 268.

(3) يراجع في ذلك العقد الفريد لابن عبد ربّه - باب نهضة المختار.

١٧٨

صارخاتٍ يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أن يتأمّر! فبكى الناس وأعرضوا عنه(1) .

ولقد تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام بالنصيحة والموعظة والدعوة الحقّة، قدّم كلَّ ذلك قبل أن يتقدّم بالسيف يدافع به عن حُرَم الإسلام المتعرّضة إلى الهتك على أيدي بني اُميّة؛ وبذلك تكون الشجاعة الحسينيّة قد امتازت بأن أصبحت موجِّهةً للناس، كاشفةً عن الحقائق، مرشدةً إلى أداء التكاليف، وهذا من أخلاق الحسينعليه‌السلام ؛ حيث قدّم الكلمة على السيف، والتوعية على القتال، والبيان على القيام، وقد أبى الكثير؛ فنصحهم ووعظهم، وقال لهم في أنفسهم قولاً بليغاً.

4 - الموقف الكاشف

إنَّ الشجاعة الحسينيّة لم تكن مجرّد اصطدام ومواجهةٍ وثبات، ولم تكن خصومة تقصد الغلبة الدنيويّة، إنّما كانت - كما اتّضح لنا - جهاداً باللسان والسيف، وكانت إقداماً ذا هدفٍ رسالي؛ لهذا اقترنت الشجاعة الحسينيّة بالموقف الرساليّ والدليل الشرعيّ؛ فأسفر الإمام الحسين (سلام الله عليه) عن وجهي الحقّ والباطل، وأبان للناس أين هو العدل وأين هو الظلم، وما هو الخير وما هو الشرّ، ومن أحقّ بخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى مع الإغماض عن النصوص النبويّة الشريفة.

عن أبي سلمة قال: حججت مع عمر بن الخطّاب، فلمّا صرنا بالأبطح فإذا بأعرابيّ قد أقبل علينا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنيّ خرجت وأنا حاجٌّ محرِم، فأصبت بيض النعام، فاجتنيتُ وشويت وأكلت، فما يجب علَيّ؟

قال عمر: ما

____________________

(1) مروج الذهب 2 / 105 - في أخبار يزيد.

١٧٩

يحضرني في ذلك شيء، فاجلس لعلّ الله يفرّج عنك ببعض أصحاب محمّد.

فإذا أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قد أقبل والحسينعليه‌السلام يتلوه، فقال عمر: يا أعرابيّ، هذا علي بن أبي طالب، فدونَك ومسألتك.

فقام الأعرابيّ وسأله، فقال عليٌّعليه‌السلام :«يا أعرابيّ، سل هذا الغلام عندك» ، يعني الحسينعليه‌السلام .

فقال الأعرابيّ: إنّما يحيلني كلُّ واحدٍ منكم على الآخر! فأشار الناس إليه: ويحك! هذا ابن رسول الله فاسأله. فقال الأعرابيّ: يابن رسول الله، إنّي خرجتُ من بيتي حاجّاً - وقصّ عليه القصّة -، فقال له الحسين:«ألَكَ إبل؟» .

قال: نعم.

قال:«خذْ بعدد البيض الذي أصبتَ نُوقاً فاضربها بالفحولة، فما فصلت فاهدها إلى بيت الله الحرام».

فقال عمر: يا حسين، النُّوق يزلقن(1) .

فقال الحسين:«يا عمر، إنَّ البيَضَ يمرقن» (2) .

فقال عمر: صدقت وبررت.

فقام عليٌّعليه‌السلام وضمَّ الحسينَ إلى صدره وقرأ:« ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) » (3) .

فأثبت الإمام عليٌعليه‌السلام أنَّ ولده الحسينعليه‌السلام إمامٌ عالِم، يعرف ما جهله (خليفة المسلمين) وتحيّر به ودعا بالفرج عنه، وأثبت الإمام الحسين (سلام الله عليه) - وهو غلام يومذاك - بشجاعته أنَّ الخليفة ليس خليفة، وأنّ المنصب الذي تقمّصه هو منصب الأعلم، فأثبت لهعليه‌السلام أنّه

____________________

(1) في اللغة: أزلقت الحامل أي أسقطت جنينها. والزّليق من الأجنّة: السِّقط.

(2) مرقت البيضة: أي فسدت.

(3) بحار الأنوار 44 / 197 ح12، قال العلامة المجلسيّ في مقدّمة الحديث: روي في بعض مؤلّفات أصحابنا عن أبي سلمة... ثمّ روى الحادثة. أمّا الآية ففي سورة آل عمران / 34.

١٨٠