الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42318
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42318 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الغيرة الحسينيّة

٢٢١

٢٢٢

الغيرة الحسينيّة

الغَيرة أو الحميّة: هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته، وهي من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوّتها(1) . قال أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام :«على قدر الحميّة تكون الشجاعة» (2) . وقال (سلام الله عليه) أيضاً:«ثمرةُ الشجاعة الغَيرة» (3) .

والغيرة هي من شرائف الملكات، وبها تتحقّق الرجوليّة، والفاقد لها غير معدودٍ من الرجال(4) . وهي تعبُّر - فيما تعبّر عنه - عن الاعتزاز بالشرف والكرامة، وعن اليقظة والمروءة والنخوة، وهذه من مثيرات الشجاعة، ومن دواعي رفض العدوان.

ومقتضى الغيرة والحميّة في الدين أن يجتهد المرء في حفظه عن بدع المبتدعين، وانتحال المبطلين، وإهانة من يستخفُّ به من المخالفين، وردّ شبه الجاحدين، ويسعى في ترويجه، ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

____________________

(1) جامع السعادات 1 /265 - باب الغيرة والحميّة.

(2) غرر الحكم / 215.

(3) غرر الحكم / 158.

(4) جامع السعادات 1 / 265.

٢٢٣

ومقتضى الغيرة على (الحريم) ألاّ يتغافل عن حفظِهنّ عن أجانب الرجال، وعن الاُمور التي تُخشى غوائلها، ويمنعهنّ عن جميع ما يمكن أن يؤدّي إلى فسادٍ وريبة.

وأمّا مقتضى الغيرة على الأولاد أن تراقبهم من أوّل أمرهم، فإذا بدأتْ فيهم مخائل التمييز فينبغي أن يؤدَّبوا بآداب الأخيار، ويُعلّموا محاسنَ الأخلاق والأفعال، والعقائد الحقّة(1) .

ولأهميّة الغيرة في حفظ المقدّسات وسلامة الاُمّة وشرف كرامتها جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تؤكّد عليها، وتبيّن فضائلها وتدعو إليها؛ إذ هي خلقٌ من أخلاق الله تبارك وتعالى، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين، والأئمّة الهداة المهديّين (صلوات الله عليهم أجمعين).

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ألاَ وإنَّ الله حرّم الحرام، وحدّ الحدود، وما أحدٌ أغير من الله، ومن غيرته حرّم الفواحش» (2) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً قال:«إنّي لغيور، والله (عزّ وجلّ) أغير منّي، وإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الغيور» (3) .

والغيرة مفصحة عن الإيمان؛ لقول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنَّ الغيرة من الإيمان» (4) . وهي من نتائج القوّة الغضبيّة في الإنسان، قد تُنتج مساوئَ أخلاقيّة كالتهوّر وسوء الظنّ والغضب المذموم، وقد تنتج محاسن أخلاقيّة كالغضب لله تعالى، والشجاعة والعزّة والإباء.

وقد عُرِفَ الإمام الحسينعليه‌السلام بخلق الغيرة على الدين والحريم

____________________

(1) يراجع في تفصيل ذلك وبيانه المصدر السابق.

(2) أمالي الصدوق / 257.

(3) كنز العمال / الخبر 7076.

(4) مَن لا يحضره الفقيه 3 / 381.

٢٢٤

والأولاد، وهو الذي تربّى في ظلّ أغير الناس جدّه المصطفى، وأبيه المرتضى، واُمّه فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم)، وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة، والشرف المؤبّد والكرامة، ونشأ في أهل بيتٍ لم تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها، ولم تلبسهم من مدلَهِمّات ثيابها.

فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان - كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام - لا يصافح النساء، فكان إذا أراد أن يبايع النساء اُتِيَ بإناءٍ فيه ماء فغمس يده ثمّ يخرجها، ثمّ يقول:«اغمسن أيديكنّ فيه فقد بايعتكن» (1) .

أمّا ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) فقد سألها أبوهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً:«أيُّ شيءٍ خيرٌ للمرأة؟» .

فقالت:«أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل» .

فضمَّها إليه وقال:( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) (2) .

وأمّا أمير المؤمنين (سلام الله عليه) فيكفي ما ذكره يحيى المازنيّ حيث قال: كنت جوار أمير المؤمنينعليه‌السلام مدّةً مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فوالله ما رأيت لها شخصاً، ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرّةً عن ذلك، فقال:«أخشى أن ينظر أحدٌ إلى شخص اُختك زينب» (3) .

هذه الخَفِرة عقيلة بني هاشم (سلام الله عليها) كان لا بدّ من أجل إنقاذ الدين، وفضح الجاهليّين أن تخرج إلى كربلاء لتثبت أنَّ بني اُميّة لا يرقبون

____________________

(1) تحف العقول / 457.

(2) المناقب، عن حلية الأولياء - لأبي نعيم، ومسند أبي يعلى، والآية في سورة آل عمران / 34.

(3) زينب الكبرىعليها‌السلام / 22.

٢٢٥

في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمّة، ولا يحفظون حرمةً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث اُسرت بناته في كربلاء، وساقهنَّ أعداء الله في مسيرة وعرة إلى الكوفة، ثمَّ إلى الشام، في حالٍ من الجوع والإعياء، واُسكِنَّ الخرائب مقيّداتٍ بالحبال.

ويأبى ذلك لهنَّ كلُّ غيور لولا الغيرة على الدين؛ حيث لا يُنقذُ الدين إلاّ في موقفٍ يُقتل فيه حزب الله النجباء بيد حزب الشيطان الطلقاء، وتؤسر فيه بنات الرسالة، ويقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع، وحوافر الخيل والضياع في الصحارى. إنَّ كلَّ ذلك من أجل الدين الذي دونه الأنفس وكلُّ عزيز.

ولقد كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أغير الناس على دين الله؛ فأقدم على ما أحجم عنه غيرُه، وقدّم ما بخل به غيره، وقد شهدت له مواقف كربلاء أنّه الغيور الذي لم تشغله الفجائع ولا أهوال الطفّ عن حماسة حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

في يوم العاشر، وبعد أن قُتل جميع أنصار الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته، وقُبيلَ الاشتباك بالآلاف صاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كلّ جانب.

فأتتهعليه‌السلام أربعة آلاف نبلة(1) ، وحال الرجال بينه وبين رحله، فصاح بهم:«يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون».

فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

قال:«أنا الذي اُقاتلكم، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً» .

فقال الشمر:

____________________

(1) المناقب 2 / 223.

٢٢٦

لك ذلك.

وقصده القوم، واشتدّ القتال وقد اشتدّ به العطش(1) ، قيل: وقصده القوم من كلِّ جانب، وافترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع؛ فرقة بالسيوف وهم القريبون منه، وفرقة بالرماح وهم المحيطون به، وفرقة بالسهام والنبال وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب، وفرقة بالحجارة وهم رجّالة العسكر. ازدحم عليه العسكر، واستحرى القتال، وهو يقاتلهم ببأسٍ شديد وشجاعةٍ لا مثيل لها(2) .

وحملعليه‌السلام من نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج، وكان في أربعة آلافٍ، فكشفهم عن الماء، وأقحم الفرسَ الماء، فلما مدّ الحسين يده ليشرب ناداه رجل: أتلتذُّ بالماء وقد هُتكت حرمك؟! فرمى الماء ولم يشرب، وقصد الخيمة(3) .

وفي رواية الشيخ الدربنديرحمه‌الله : فنفض الماء مِن يده، وحملعليه‌السلام على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة.

إنَّ الإمامعليه‌السلام كان سيّد سادات أهل النفوس الأبيّة، والهمم العالية، فلمّا سمع أنَّ المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة كفَّ نفسَه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا؛ فقد سنَّ - روحي له الفداء - لأصحاب الشيم الحميدة والغيرة سُنّةً بيضاء، وطريقة واضحةً في مراعاة الناموس والغيرة(4) .

وهذه خصّيصة شريفةٌ اُخرى من الخصائص الحسينيّة، حيث وقف عليها الشيخ التستري (أعلا الله مقامه) فقال: ومنها: الغيرة بالنسبة إلى النفس، وبالنسبة إلى الأهل والعيال. أمّا

____________________

(1) اللهوف / 67.

(2) إبصار العين - للشيخ السماوي.

(3) مقتل العوالم - للشيخ عبد الله البحرانيّ / 98، ونَفَس المهموم / 188.

(4) في كتابه (أسرار الشهادة) / 411.

٢٢٧

بالنسبة إلى النفس فأقواله في ذلك؛ شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة، وأفعاله الدالّة على ذلك كثيرة، لكن قد أقرح القلبَ واحدٌ منها، وهو أنّهعليه‌السلام لـمّا ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل أو سقط عن فرسه على خدّه الأيمن، فلم تدعه الغيرة للشماتة، والغيرة على العيال لأن يبقى ساقطاً، فقام (صلوات الله عليه)، وبعد ذلك أصابته صدماتٌ أضعفته عن الجلوس، فجعل يقوم مرةً ويسقط اُخرى، كلُّ ذلك لئلاّ يروه مطروحاً فيشمتون.

وأمّا بالنسبة إلى العيال فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه، وقوله: اقصدوني دونهم. ووصلت إلى أنّه صبَّ الماء الذي في كفّه وقد أدناه إلى فمه وهو عطشان لما سمع قول: إنّه قد هُتك خيمةُ حرَمك(1) .

وحينما عاد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى المخيّم ورام توديع العيال الوداع الثاني؛ ليسكّن روعتهم، ويخفّف لوعتهم، ويصبّرهم على فراقه... قال عمر بن سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه مادام مشغولاً بنفسه وحرمه، والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم.

فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتّى تخالفت السهام بين أطناب المخيّم، وشكّ سهمٌ بعض اُزر النساء فدهشنَ واُرعبنَ، وصِحنَ ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحمل عليهم كالليث الغضبان، فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلِّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره(2) .

ورجع إلى مركزه يكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم(3) .

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 37 - 38.

(2) مثير الأحزان - للشيخ شريف آل صاحب الجواهر.

(3) اللهوف / 67.

٢٢٨

بأبي من رسيم ضيماً فأبى

أن يُسام الضيمَ واختار الرّدى

كيف يأوي الضيمُ منه جانب

هو مأوى كلِّ عزٍّ وإبا

فغدا يسطو على جمع العِدى

مثل صقرٍ شدّ في سرب القطا

شبل آسادٍ إذا ما غضبو

زلزلوا الأرض بحملات الوغى(1)

* * *

يلقى كتائبهمْ بجأش طامنٍ

والصدرُ في ضيق المجال رحيبُ

ويرى إلى نحو الخيامِ ونحوِهم

من طرْفهِ التصعيدُ والتصويبُ

للمشرفيّة والسهام بجسمِه

والسمهريّة للجراح ضروبُ

حتّى هوى فوق الصعيد وحان مِن

بدرِ التمام عن الأنامِ غروبُ(2)

ثمّ إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما سقط ولده عليّ الأكبرعليه‌السلام

____________________

(1) من قصيدة للسيّد محسن الأمين في كتابه (الدّر النضيد في مراثي السبط الشهيد) / 5.

(2) للسيد الأمين أيضاً في الدّر النضيد / 26.

٢٢٩

أتاه مسرعاً وانكبّ عليه بعد أن كشف عنه قتَلتَه، فوضع خدَّه على خدّه وقال:«على الدنيا بعدك العفا! يعزّ على جدّك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث فلا يغيثونك!» (1) .

ولمّا ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي رأس القاسم ابن الإمام الحسنعليه‌السلام بالسيف وقع الغلام لوجهه، فقال: يا عمّاه! فأتاه الحسينعليه‌السلام كالليث الغضبان، فضرب عمراً بالسيف فاتّقاه بالساعد فأطنّها(2) من المرفق، وانجلت الغبرة وإذا الحسينعليه‌السلام قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برجلَيه، والحسين يقول:«بُعداً لقومٍ قتلوك! خصمهم يوم القيامة جدُّك» . ثمّ قال:«عزَّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك!» (3) .

وروى بعضهم أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لـمّا اُصيب بالسهام والحجارة، وأعياه نزف الدم، سقط على الأرض لا يقوى على القيام والنهوض. فلبثوا هنيئةً وعادوا إليه وأحاطوا به، فنظر عبد الله بن الحسن السبطعليه‌السلام - وله إحدى عشرة سنة - إلى عمّه وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتدّ نحو عمّه، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها، وجاء إلى عمّه، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يابن الخبيثة! أتضرب عمّي؟!

فضربه، واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة، فصاح الغلام: يا عمّاه! ووقع في حجر الحسينعليه‌السلام ، فضمّه إليه وقال:«يابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير؛ فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين» (4) .

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 6 / 265، ومقتل العوالم / 95.

(2) أي قطعها.

(3) تاريخ الطبريّ 6 / 257، والبداية والنهاية 8 / 186.

(4) تاريخ الطبريّ 6 / 259، واللهوف / 68.

٢٣٠

وأخذه الإعياء فلا تقوى جوارحه من شدّة النزف على أن يجلس.

روى بعضهم أنَّ أعداء الله أرادوا أن يتأكّدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم، فنادوا عليه بأنَّ رحله قد هُتك، فقام وسقط، وحاول النهوض غيرةً على عياله فسقط، وجاهد ذلك ثالثةً فسقط، حينذاك اطمئنّوا أنّه لا يقوى على قيام.

وقد قال في خصائصه (الشيخ التستري): وكانعليه‌السلام حين وقوعه صريعاً مطروحاً يسعى لتخليص أهله ومن يجئ إليه، فهو المطروح الساعي(1) .

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 42.

٢٣١

٢٣٢

الصلابة الحسينيّة

٢٣٣

٢٣٤

الصلابة الحسينيّة

الصبر: خصيصةٌ فاضلة يُعجَب بها الناس ويجلّونها، ويُكْبرون صاحبها، ويتمنّون أنّها فيهم، ولكن قليلٌ هم الذين يحظون بها.

والصبر: خلقٌ ينطوي على معانٍ ساميةٍ رفيعة، منها: الإيمان بالله، والتسليم لقضاء الله، والرضا بأمر الله، والشكر على ما يريده ويحبّه الله. كما يعبّر عن قوّة الجَنان، ورجاحة العقل، وثبات القلب، واطمئنان النفس وهدوئها، ويشير إلى الزهد وحسن التوكّل على الله، والثقة به سبحانه وتعالى، والتصديق بوعده وهو القائل:( يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وفي تعريف الصبر قال علماء الأخلاق: هو ضدُّ الجزع، وهو ثبات النفس، أو هو احتمال المكاره من غير جزع، أو هو قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل؛ أوامرَ ونواهي.

وفي الرواية قال جبرئيلعليه‌السلام في تفسير الصبر: تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء، وفي الفاقة كما تصبر في الغنى، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حالَه عند المخلوق.

وفي رواية: فلا يشكو خالقه عند المخلوق بما يصيبه من البلاء(2) .

وفي بيان أنواع الصبر قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1) سورة الزمر / 10.

(2) معاني الأخبار / 261.

٢٣٥

«الصبر ثلاثة؛ صبرٌ على المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية»(1) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«الصبر صبران؛ صبرٌ عند المصيبة، حسنٌ جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عليك» (2) . وعنه (سلام الله عليه) أيضاً قال:«الصبر صبران؛ صبرٌ على ما تكره، وصبرٌ عمّا تحبّ» (3) .

والصبر يوحي بأنَّ هناك صراعاً ومقاومة، وقتالاً وغلبة، أو أنَّ هنالك طرفَينِ متنازعين، وهناك نتيجة، والصبر هو الذي يحدّد النتيجة. قال الإمام عليّعليه‌السلام :«الإيمان على أربع دعائم؛ على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. والصبر منها على أربع شعب؛ على الشوق، والشفق، والزهد، والترقّب؛ فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومَن أشفق من النار اجتنب عن المحرّمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات» (4) .

والصبر ليس تحمّلاً وحسب، إنّما هو شكرٌ وتسليمٌ لله (جلّ ثناؤه) أيضاً. والصبر ليس مقاومة وحسب، إنّما هو مبادرةٌ للقتال ضدَّ جنود الضلال والتضليل أحياناً. والصبر ليس إمساكاً للنفس عن اقتراف المعاصي وحسب، إنّما هو أيضاً نهوضٌ وعزم على عمل الخير وإتمامه بنيّةٍ سليمةٍ صالحة؛ فهو مقيّدٌ بقوله تعالى:( ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) (5) .

ومن هنا يتمايز الصابرون؛ فمنهم من يتصبّر لوجه الناس، لا عن إيمانٍ أو رضاً أو تسليمٍ لقضاء الله سبحانه وتعالى، ومنهم من يرجو بصبره نوال ثوابه تبارك وتعالى، أو يتحاشى به عقاباً،

____________________

(1) اُصول الكافي 2 / 91 ح 15، باب الصبر.

(2) الكافي 2 / 91 ح 11.

(3) نهج البلاغة - قصار الحكم / 55.

(4) نهج البلاغة - الحكمة 31.

(5) سورة الرعد / 22.

٢٣٦

ولكن منهم مَن يصبر طاعةً لله (جلّ وعلا)، وحبّاً ورضاً وتسليماً لأمره (عزّ وجلّ)، فلا يشكو ولا يضجر ولا يعترض.

والصبر درجات وأنواع، منه صبر العوامّ على وجه التجلّد، وهو لا ثواب عليه؛ إذ لا يكون لله، ومنه صبر الزهّاد والعبّاد لتوقّع ثواب الآخرة وخشية عقابها، ومنه صبر العارفين الذين يتلذّذون بالمكروه؛ لأنّه من عند المحبوب الله (جلّ جلاله)؛ إذ خصّهم به دون الناس فصاروا ملحوظين بشرف نظرته سبحانه، وموعودين بطيّب بشارته،( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) (1) .

والإمام الحسينعليه‌السلام قد أخلص النيّة لله (عزّ شأنه)، وسلّم له أمره، وصبر أيَّ صبر... حتّى قال في زيارته حفيدُه الإمام المهديّعليه‌السلام :«وجاهدت في الله حقَّ الجهاد، وكنت لله طائعاً، ولجدّك محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله تابعاً، ولقول أبيك سامعاً، وإلى وصيّة أخيك مسارعاً، ولعماد الدين رافعاً، وللطغيان قامعاً، وللطُّغاة مقارعاً، وللاُمّة ناصحاً، وفي غمرات الموت سابحاً، وللفسّاق مكافحاً، وبحجج الله قائماً، وللإسلام والمسلمين راحماً، وللحقّ ناصراً، وعند البلاء صابراً...» (2) .

فصبر الحسين (سلام الله عليه) كان جهداً وجهاداً ومجاهدة، وكان معبّراً عن الطاعة المطلقة الخالصة لله سبحانه وتعالى، وعن الشجاعة المذهلة. فالصبر مع أنّه إمساكٌ للنفس عن الجزع هو ثباتٌ على قدم الشجاعة، قال الإمام عليّعليه‌السلام في مجمل غرر حكمه ودرر كلِمِه:«الشجاعة صبر

____________________

(1) سورة البقرة / 155 - 157.

(2) زيارة الناحية المقدّسة، المزار - للشيخ محمّد ابن المشهدي / 501.

٢٣٧

ساعة (1) .الصبر شجاعة» (2) .

وقيل للحسن بن عليّعليه‌السلام : ما الشجاعة؟

فقال:«موافقة الأقران، والصبر عند الطعان» (3) .

ولقد صبر الإمام الحسين (سلام الله عليه) على الطاعات الطويلة، وعن المعاصي الثقيلة، وعلى مصائبَ جمّة، إلاّ أن تُهتك حرماتُ الدين وتهان كرامة المسلمين فذلك ما لم يصبر عليه. وله في جدّه رسول الله المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله اُسوة؛ حيث وقف يوماً فقال:«قد صبرتُ في نفسي وأهلي وعِرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي» (4) . فأنزل الله (عزّ وجلّ):( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) (5) .

وصبر الإمام الحسينعليه‌السلام صبر الحكماء العقلاء حتّى كانت نهضته في موقعها المناسب مكاناً وزماناً؛ فصبر لله، وقام لله (جلّ وعلا). وقد كتب إلى أخيه (محمّد بن الحنفيّة):«فمن قبِلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردَّ عَلَيَّ هذا أصبر حتّى يقضيَ الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين» (6) . حتّى إذا استوجب الأمر أن يصبر على المسير قامعليه‌السلام صابراً كما انتظر صابراً؛ فذهب إلى مكّة ووقف هناك يقول للناس خاطباً:«ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه، موطّناً على لقاء الله نفسَه، فلْيرحل معنا؛ فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله» (7) .

واعترضه في الطريق (أبو الهرم) وسأله: يابن رسول الله، ما الذي

____________________

(1) بحار الأنوار 78 / 11، عن مطالب السؤول.

(2) تحف العقول / 143.

(3) تحف العقول / 163.

(4) الكافي 2 / 88 ح 3 - باب الصبر.

(5) سورة ق / 39.

(6) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 188.

(7) اللهوف / 53.

٢٣٨

أخرجك عن حرَم جدّك؟

فأجابهعليه‌السلام :«يا أبا هرم، إنَّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت، وأخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت...» (1) .

أمّا الذي لم يصبر عليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وهو الغيور، فهو أن يرى بني اُميّة ينزون على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويحكمون بما لم يُنزل الله به كتاباً، ويذلّون عباد الله، ويهينون أولياء الله، ويعودون بالناس القهقرى إلى الجاهليّة الاُولى، ويهلكون الحرث والنسل، ويشيعون الفساد والإفساد، ويسلبون الأموال، ويقتلون الرجال، ويهتكون الأعراض.

فوقف يعلنها ثورةً دونها الأبدان والأنفس والدماء، فقال خاطباً:«ألاَ ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمنُ في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظالمين إلاّ برَماً» (2) .

وأيّ صبرٍ هذا حينما يقْدم المرء على الموت، يرفع إليه قدميه مقْبلاً عليه، راغباً فيه، يراه السعادةَ بعينها؛ ذلك لأنّه لا يستطيع الصبر على ظلم الظالمين، ولا يقوى أن يرى كيف تُهتك مقدّسات الدين!

فصبرَ الإمام الحسينعليه‌السلام حينما كلّفه الله بالصمت، وصبر أيضاً حينما كلّفه سبحانه وتعالى بالسفر إلى كربلاء، وصبر في كلّ موقف بما يقتضيه حكم الله (عزّ وجلّ). ولم يُعرف منه أنّه ضعف في موقفٍ أو حالة، بل كان إذا حدّث الخصوم يريد لهم النصيحة في الله لا إنقاذَ نفسه من سيوفهم، وهو الذي قالها في مكّة على مسامع الملأ:«كأنّي بأوصالي تتقطّعها عسلان

____________________

(1) اللهوف / 62، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 226.

(2) تاريخ الطبريّ 7 / 300، وغيره كثير.

٢٣٩

الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جُوفاً، وأجربةً سُغباً. لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم» (1) .

ولم يقف الحسين (سلام الله عليه) يطلب الحياة من الغدرَة يريد أن يؤجّل بطلبه أجلاً هو يعلمه، حاشاه وهو القائل لاُمّ سلمة (رضوان الله عليها):«إنّي أعلم اليومَ الذي اُقتل فيه، والساعةَ التي اُقتل فيها، وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي. أتظنّين أنّك علمتِ ما لم أعلمْه؟! وهل من الموت بُدّ؟! فإن لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً».

وقال لابن الزبير:«لو كنتُ في جُحْر هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم» .

وقال لعبد الله بن جعفر:«إنّي رأيت رسول الله في المنام وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له» .

وفي بطن العقبة قال لـمَن معه:«ما أراني إلاّ مقتولاً؛ فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني، وأشدُّها علَيَّ كلبٌ أبقع» (2) .

ويفسّر هذا ما أورده المتّقي الهنديّ في (كنز العمّال)(3) ، عن محمّد بن عمرو بن حسين قال: كنّا مع الحسينعليه‌السلام بنهر كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال:«صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كأنّي أنظرُ إلى كلبٍ أبقع يلغ في دماء أهل بيتي». وكان شمر أبرص(4) .

وقد أجاد في وصفه الشاعرُ المسيحيّ (پولس سلامة) في إحدى قصائده التي حواها ديوانه (عيد الغدير)، حيث قال:

أبرصاً كان ثعلبيَّ السِماتِ

أصغر الوجهِ أحمرَ الشعَراتِ

____________________

(1) اللهوف / 53.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للسيّد عبد الرزّاق المقرّم الموسويّ / 65.

(3) ج 7 / 110.

(4) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٤٠