الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42311
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42311 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الساطع، والنجمُ الهادي في غياهِبِ الدُّجى، وأجواز(1) البلدانِ والقفار، ولُججِ البحار.

الإمامُ الماءُ العذْبُ على الظَّماء، والدَّالُّ على الهدى، والـمُنجي من الرَّدى.

الإمامُ النارُ على اليفاع(2) ، الحارُّ لِمَنِ اصطلى به، والدليلُ في المهالك، مَنْ فارقَه فهالِك.

الإمامُ السَّحابُ الماطر، والغيث الهاطل(3) ، والشمسُ المضيئة، والسماءُ الظليلة، والأرضُ البسيطة، والعينُ الغزيرة، والغديرُ والروضة.

الإمامُ الأنيسُ الرفيق، والولدُ الشفيق، والأخُ الشقيق، والاُمُّ البَرَّةُ بالولدِ الصغير، ومَفزعُ العِباد في الداهيةِ النآد(4) .

الإمامُ أمينُ الله في خلْقه، وحُجّتُه على عباده، وخليفتُه في بلاده، والداعي إلى الله، والذابُّ عن حُرُمِ الله.

الإمامُ المطّهَّرُ من الذنوب، والمبرّأُ عن العيوب، المخصوصُ بالعلم، الموسومُ بالحِلْم، نظامُ الدين، وعِزُّ المسلمين...»(5) .

ومصاديقُ هذه الصفاتِ الشريفة كثيرة، يجِدُها المتطلّعُ في الروايات المبيّنةِ لسيرة الأئمّةِ وأخلاقِهم (صلوات الله عليهم)؛ فالتعرّفُ عليهم إذَن يقتضي التعرّفُ على حياتهم بما فيها خواصُّهم وآدابهم. يقول المولى الفيضُ الكاشانيّ (أعلا الله مَقامَه):... إذْ كان للإمامعليه‌السلام أخلاقٌ شريفةٌ ربّانيّة لم يَشْرَكْه فيها سائر الخلْق، وصفاتٌ كريمةٌ موهبيّةٌ خصّه الله بها من دونهم للفرق، ولـمَنْ عرفَه

____________________

(1) جمع الجوز، وهو من كلّ شيء وسطه.

(2) اليفاع: ما ارتفع من الأرض.

(3) الهاطل: المطرُ المتتابع العظيم القطر.

(4) الداهية: الأمر العظيم. والنّآد: العظيمة.

(5) الكافي 1 / 154، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.

٢١

بحقِّه وحقيقتِه، وشيّعه على طريقتِه.

أيضاً آدابٌ وعلامات وخواصٌّ بها امتاز عن سائرِ المؤمنين، واستحقَّ لأَنْ يُحشَرَ مع إمامِه في درجةِ النبيّين، فكان من الواجب على العبدِ بعد معرفةِ الله (عزَّ وجلَّ) وصفاتِه، ومعرفةِ نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخلاقِه أن يعرفَ إمامَ زمانه، وصفاتِه وأخلاقَه المختصّةَ به؛ بأن يعلمَ مَقامَه ومرتبتَه عند الله، ويعرفَ شخصَه من بينِ الخلْق حتّى يتّبعَه، ويقتفيَ أثَرَه، ويُطيعَه في أوامرِه ونواهيه، ويصيرَ من شيعته(1) .

والواقف على أخلاق الأئمّةِ الأطهار عليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام يعرف السرَّ وراءَ تعلّق الناس بهم جيلاً بعد جيل؛ لأنَّ الأخلاقَ الإلهيّةَ المرْضيّة تجلّتْ في شخوصهم بأجلى صورها، وأحمدِ حالاتها، وظهرتْ منهم بأطيبِ معانيها، وأدقِّ مطلوباتها ومقتضياتها؛ ولأنَّ الأخلاق إحسانٌ للآخرين، وبيانٌ للحقِّّ والخيرِ والفضيلةِ، والنفسُ مجبولةٌ على حبِّ ذلك وبُغضِ خلافه.

* قال الإمام جعفر الصادق (سلامُ الله عليه):«طُبعتِ القلوبُ على حبِّ مَنْ أحسنَ إليها، وبُغضِ مَنْ أساءَ إليها» (2) .

وفي روايةٍ اُخرى قالعليه‌السلام :«جُبلتِ القلوبُ على حبِّ مَنْ نفعَها، وبُغضِ مَنْ ضرّها» (3) .

ومَنْ أنفعُ للخلْق مِن النبيِّ وآله (صلواتُ الله عليه وعليهم) وهمُ الهُداةُ أبوابُ الإيمان، وساسةُ العباد، ومصابيحُ الدجى، وكهفُ الورى، والدعاةُ إلى الله، والأدلاّءُ على مرضاةِ الله حتّى قال رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ظلِّ الآية الشريفة:( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ

____________________

(1) المحجّة البيضاء 4 / 173.

(2) مَن لا يحضره الفقيه - للشيخ الصدوق 4 / 301 ح 913.

(3) الكافي 8 / 152 ح 140.

٢٢

شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) (1) :«أفضلُ والدَيكم وأحقُّهما بشكركم محمّدٌ وعليٌّ» (2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أنا وعليُّ بنُ أبي طالب أبَوا هذه الاُمّة، ولَحقُّنا عليهم أعظمُ مِن حقِّ والديهم؛ فإِنَّا نُنقذُهم - إنْ أطاعونا - من النار إلى دار القرار، ونُلحقُهم من العبوديّةِ بخيار الأحرار» (3) .

وقالت فاطمةُ الزهراءعليها‌السلام :«أبَوَا هذه الاُمّة محمّدٌ وعليّ؛ يُقيمانِ أودَهم (4) ، ويُنقذانِهم من العذابِ الدائم إنْ أطاعوهما، ويُبيحانِهمُ النعيمَ الدائم إنْ وافقوهما» (5) .

وقال عليُّ بنُ الحسينُعليهما‌السلام :«إنْ كان الأبَوَانِ إنَّما عظُمَ حقُّهما على أولادِهما لإحسانهما إليهم، فإحسانُ محمّدٍ وعليٍّ عليهما‌السلام إلى هذه الاُمّة أجلُّ وأعظم؛ فهُما بأنْ يكونا أبويهم أحقّ» (6) ؟!

ولم تكنْ أخلاقُ النبيِّ وأهلِ بيته (عليه وعليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام) إحساناً على مَن عاشروهم وتعاملوا معهم فحسب، بل إحسانٌ على الخلْق أجمع؛ حيث كانت سبباً حُجّةً للتعريف بالإمامة، وهي من اُصول الدين، وبالإمامِ وهو عِزُّ المسلمين، وسبباً حُجّةً للتعريف بالدين، وما يريدُ الله تعالى منّا من الأخلاق الفاضلة والصفات الطيّبة.

وكانت أيضاً سبباً حُجّةً للتعلّقِ بهم (صلواتُ الله عليهم)، ولمحبّتهم وولايتهم، وفي ذلك سببُ الرجاء للنجاةِ بهم؛ ذلك لأنَّ النبيَّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قال:«مَن مات على

____________________

(1) سورة النساء / 36.

(2) تفسير الإمام العسكريّعليه‌السلام .

(3) المصدر نفسه.

(4) الأود: العِوج.

(5) تفسير الإمام العسكريّعليه‌السلام .

(6) المصدر نفسه.

٢٣

حبِّ آلِ محمّدٍ ماتَ شهيداً» (1) .

ومن هنا نفهم معنى هذه الأحاديثِ الشريفة:

* قال رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ألاَ اُنبِّئكُم بخياركم؟».

قالوا: بلى يا رسولَ الله.

قال:«أحاسنُكم أخلاقاً، الموطّئون أكنافاً، الذينَ يألفونَ ويُؤلفون» (2) .

فالنبيُّ وآله (صلوات الله عليه وعليهم) إذَاً هم أحاسنُ الناس.

* وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«حُسْنُ الخُلق يثبت المودّة» (3) . وقد ثبتتْ مودّتُه ومودّتُهم (صلوات الله عليه وعليهم) في قلوب الناس هذه القرونَ المتطاولة وإلى ما يشاء الله، وحاشا أن تزول.

* وقال أميرُ المؤمنينعليه‌السلام :«حسنُ الخُلق رأسُ كلِّ بِرٍّ» (4) .

وقال (سلام الله عليه) أيضاً:«مَنْ حسُنتْ خليقتُه، طابتْ عِشْرتُه» (5) .

وها نحن إلى يومنا هذا تطيبُ عشرتُنا معهم (سلامُ الله عليهم)؛ حيث نُحسّ أنّهم يعيشون معنا ونعيش معهم؛ فهم يهدوننا إلى صلاح دنيانا وآخرتنا وسعادتهِما، ونحن نتابعهم بالتصديق والتسليم، والطاعة والمحبّة في الدين، وعلى هذا نَدين.

قال الإمامُ الباقرعليه‌السلام :«وهلِ الدينُ إلاّ الحبّ؟! إنَّ الله يقول: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ ) » (6) .

____________________

(1) تفسير الكشّاف - للزمخشريّ 4 / 220، والتفسير الكبير - للفخر الرازيّ 27 / 165.

(2) بحار الأنوار 71 / 396، عن كتابَي الحسين بن سعيد ونوادره.

(3) تحف العقول عن آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - للشيخ أبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّانيّ، من أعلام القرن الرابع / 38.

(4) غرر الحكم / 167.

(5) اغرر الحكم / 273.

(6) تفسير العيّاشيّ - في ظلّ الآية الشريفة 31 من سورة آل عمران.

٢٤

* وجاء عن مولانا الإمام الصادق (سلام الله عليه) أنّه قال:«إنَّ البِرَّ وحُسْنَ الخلُق يُعمّرانِ الديار، ويزيدانِ في الأعمار» (1) .

وها هي ديارُ النبيّ وأهل بيته (صلواتُ الله وسلامُه عليه وعليهم) عامرةٌ أشرفَ عمران؛ حيث تمتدُّ إليها الأيدي، وتهوي إليها القلوب، وتتلهّف لها الأنفسُ مِن أقاصي البلدان، وتحجّ إليها الأبدان.

وها هي أعمارُهم لا تنقضي، بل تزيد بحُسْنِ الذكْر، وقد جاء عن المصطفى الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قولُه:«لا يزيدُ في العمر إلاّ البِرّ» (2)

وقد كان وآلُه (صلواتُ الله عليه وعليهم) أبَرَّ الناس بالناس، وعرفنا أنَّ بِرَّهم فوق كلِّ برٍّ؛ لأنّه الهدايةُ من الضَّلال، والتوفيقُ إلى مرضاة الله تبارك وتعالى.

جاء عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال:«الذِّكْرُ الجميل أحدُ الحياتين. الذِّكْرُ الجميل أحدُ العُمرَين» (3) .

وأخيراً، لأنّنا نرغبُ في السعادة، ونخشى الشقاء، فلا بدَّ لنا من التمسّكِ بأهل بيت العصمةِ والطهارةعليهم‌السلام ، ومنهم الإمام الحسين (سلامُ الله عليه)؛ فهو مدارُ ما نرغب ونخشى.

* عن عبد الله بن عمر قال: قال رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«بي اُنذرتُم، وبعليِّ بنِ أبي طالبٍ اهتديتُم. وقرأ:( إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) .وبالحسنِ اُعطيتُم الإحسان، وبالحسين تُسعدون، وبه تشقون. ألا إنَّ الحسينَ بابٌ من أبوابِ الجنّة، مَن عانده حرّمَ الله عليه ريحَ الجنّة» (4) .

____________________

(1) بحار الأنوار 1 / 395، عن كتابَي الحسين بن سعيد ونوادره.

(2) الدرّة الباهرة من الأصداف الطاهرة - للشيخ جمال الدين مكّي بن محمّد الجزّينيّ، الملقّب بـ(الشهيد الثاني) / 18.

(3) غرر الحكم.

(4) البرهان في تفسير القرآن - للسيد هاشم البحراني 2 / 281 ح18 عن ابن شاذان.

٢٥

فلكي نُسعدَ بالحسينعليه‌السلام تعالوا نقف متأمّلين خاشعين أمامَ الأخلاقِ الحسينيّة، وتعالوا نمضِ مع الإمام الحسينعليه‌السلام في أخلاقِه النبويّة.

٢٦

الموعظة الحسينيّة

٢٧

٢٨

الموعظة الحسينيّة

قد يتساءل مستغرب: ما العلاقةُ بين المواعظ الحسينيّة والأخلاق؟! أليست المواعظُ والحِكَمُ تُدرجُ في حقل العلوم والمعارف؟

الجواب: نعم، هي كذلك تُدرَجُ في العلوم والمعارف، ولكنْ نتساءل نحنُ في المقابل: أليستِ السُّنَّةُ النبويّةُ المطهّرة قد امتدّتْ بأمر الله سبحانه وتعالى وحكمته ومشيئته في سُنَّةِ أهلِ بيته (عليهمُ السّلام)؟

أليستْ السنّةُ النبويّة على ثلاث صور:

1 - فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

2 - قوله

3 - تقريره؟

ألَمْ يكنْ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الصور الثلاث توجيهاتٌ أخلاقيّةٌ للاُمّة؟ حيث صدرتْ منه أفعالٌ في مكارم الأخلاق، وأقوالٌ في محاسن الأخلاق، وإقرارٌ وتبريكٌ وتشجيع لـمَنْ صدرَ منه خلُقٌ طيّب، أو بانتْ منه صفةٌ أخلاقيّةٌ حميدة.

فالمصطفى الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان كريماً، وكان يدعو إلى الكرم ويشوّق إليه، مبيّناً فضائلَه، ورذائلَ البخل. ويوم جيء بالاُسارى إليه أمر (صلّى الله عليهِ وآلِه) عليّاًعليه‌السلام بضرب أعناقهم؛ إذْ كانوا قد حاربوه وقتلوا المؤمنين، ثمّ أمره بإفرادِ واحدٍ من الأسرى المشركين لا يقتله، فقال الرجل: لِمَ أفردتني من أصحابي والجنايةُ واحدة؟!

فأجابه (صلّى الله عليهِ وآلِه) قائلاً:«إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إليَّ أنّك سخيُّ

٢٩

قومِك، ولا أقتلك».

فقال الرجل: فإنّي أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ الله، وأنّك رسولُ الله.

قال: فقاده سخاؤه إلى الجنّة(1) .

* وجاء عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه اُتي النبيّ (صلّى الله عليهِ وآلِه) باُسارى، فأمر بقتلهم وخلّى رجلاً من بينهم، فقال الرجل: كيف أطلقتَ عنّي من بينهم؟!

فقال:«أخبرني جَبرئيلُ عنِ الله (جلَّ جلالُه) أنَّ فيك خمسَ خصالٍ يُحبُّها الله ورسولُه؛ الغَيرةُ الشديدةُ على حرمِك، والسخاء، وحُسْنُ الخلُق، وصدقُ اللسان، والشجاعة».

فلمّا سمعها الرجلُ أسلمَ وحسُنَ إسلامُه، وقاتل مع رسولِ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) قتالاً شديداً حتّى استُشهد(2) .

* ورأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا أيّوب الأنصاريّ (رضوانُ الله عليه) يلتقطُ نُثارةَ المائدة، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«بُورِكَ لك، وبُوركَ عليك، وبُورك فيك» (3) . فدعا له (صلّى الله عليهِ وآلِه)؛ لأنّه عمِل مستحَبّاً، وكان منه التواضعُ واحترامُ نعمةِ الله (عزَّ وجلَّ).

وأهلُ البيت (سلامُ الله عليهم) كانوا يباركون لِمَنْ تصدُرْ منه بادرةٌ أخلاقيّة إيمانيّة؛ فيومَ عاشوراء التفتَ أبو ثمامةَ الصائدي إلى الشمس قد زالتْ - أي حَلّ وقتُ الظهر -، فقال للحسينعليه‌السلام : نفسي لكَ الفداء! إنّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منك، لا والله لا تُقتَلُ حتّى اُقتلَ دونك، واُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيتُ هذه

____________________

(1) الاختصاص - للشيخ المفيد / 253.

(2) الخصال - للشيخ الصدوق / 282.

(3) مكارم الأخلاق / 146.

٣٠

الصلاةَ التي دنا وقتُها.

فرفع الحسين (سلام الله عليه) رأسَه إلى السماءِ وقال:«ذكرتَ الصلاة، جعَلَكَ الله مِنَ المصلّينَ الذَّاكرين. نعم هذا أوّلُ وقتها، سَلُوهم أن يكفُّوا عنّا حتّى نُصلّي» (1) .

فدعاعليه‌السلام له؛ لأنّه ذكر الصلاةَ في أوّلِ وقتها؛ اعتناءً بها، واهتماماً بطاعةِ الله (عزَّ وجلَّ) كما يُحبّ، وممّا يُحبّه سبحانه الصلاةُ في أوّل وقتها. فالتشجيعُ على الواجبات والمستحبّات والفضائل هو من الأخلاق الحميدة؛ لأنّه سببٌ لأنْ تسودَ السننُ الشريفة والأخلاقُ الكريمة.

ولا يفوتنا أن نقول: إنَّ الإمامةَ هي الامتدادُ الإلهيُّ والشرعيُّ للنبوّة، وبما أنَّ السُّنَّةَ النبويّةَ سُنَّةٌ مطهَّرةٌ معصومة، كذلك سُنّةُ الأئمّةِ الأطياب. فالأخلاقُ عندهم تظهرُ مَرَّةً في صورةِ فعل، ومرّةً اُخرى في صورةِ وعظٍ وإرشاد، ومرّةً ثالثة في صورةِ تقرير.

ثمّ لا ينبغي أنْ يفوتَنا أنَّ الوعظَ هو قول، والقولُ هو من العمل، فكما يكون الاعتداءُ على المؤمنِ البريء بالضربِ حراماً، كذلك شتمُه بالقول حرام، وكما يكونُ الدرهمُ والدينارُ صدقةً، كذلك الكلمةُ الطيّبةُ صدقة، وكما تكون الغلاّتُ والأموالُ زكاةً، كذلك العفو؛ فقد جاء عن الإمام عليٍّعليه‌السلام أنّه قال:«العفوُ زكاةُ القدرة» (2) .

وقد قال رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) يوماً لأصحابه:«أيعجزُ أحدُكم أن يكونَ كأبي ضمضم؟» .

قيل: يا رسولَ الله، وما أبو ضمضم؟

قال:«رجلٌ ممّنْ قبلكم، كان إذا أصبح يقول: اللهمَّ إنّي تصدّقتُ بِعرضي على

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 17.

(2) غرر الحكم / 22.

٣١

الناس عامّة »(1) . فيكون عفوه عن إساءات الناس صدقةً له عليهم.

ومن هنا نفهم أنَّ القولَ هو من الفعل، وإلاّ لَمَا حرّمَ الله تعالى الغيبةَ والنميمة، والكذبَ والبذاء... وهي أقوال، ولَما قال النبيُّ الهادي (صلّى الله عليهِ وآلِه):«إنَّ مَنْ حَسِبَ كلامَه مِن عمله قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه» (2) ، ولَما قال أيضاً:«مَن لم يحسب كلامَه مِن عملِه كثُرتْ خطاياه، وحضر عذابُه» (3) .

إذَاً فإنَّ الكرمَ والغَيرةَ والعفوَ من الأخلاق؛ إذ هي أفعال ومواقف، والدعوةُ إليها باللسان والتشويقُ لها والتشجيعُ عليها كذلك من الأخلاق.

ومن هنا رأينا أهلَ البيت (سلام الله عليهم) لم يكتفوا بدعوةِ الاُمّة إلى الأخلاق الفاضلة من خلال أفعالهم وسيرتهم، إنَّما واصلوا ذلك من خلال وصاياهم وحكمِهم وإرشاداتهم، وتوجيهاتهم ومواعظهم، وهذا أيضاً من الأخلاق الفاضلة؛ لأنَّ الدعوةَ إلى الأخلاق هي من الأخلاق، بل هي كرم؛ لقول الإمام عليّعليه‌السلام في غرر الحكم:«النصيحة من أخلاق الكرام» .

فالقول كالفعل تترتّبُ عليه الآثار؛ طيّبةً حميدة، أو سيّئةً مذمومة؛ كالسرقة والكذب كلاهُما مخرّبانِ للمجتمع وإن كانتِ السرقةُ عملاً والكذبُ قولاً، وكالصدقةِ والسّلام كلاهما ينشرانِ المحبّة في المجتمع وإن كانتِ الصدقةُ فِعْلاً والسلامُ كلاماً.

وهنا نسأل: أليستْ مواعظُ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) تنمّ عن شفقة الحسين (صلواتُ الله عليه) على الاُمّة، ورأفتِه بالمؤمنينِ، ورحمتِه بالناس، وحرصِه عليهم أن يسلكوا سبيلَ الهدايةِ والخير، والفضيلةِ والسّلام، ويتجنّبوا

____________________

(1) مصباح الشريعة - للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام - الباب 70 في العفو / 158.

(2) معاني الأخبار - للشيخ الصدوق / 334.

(3) الكافي 2 / 115.

٣٢

خطُواتِ الشيطان الـمُؤدّيةِ إلى الضلالِ والشرّ، والباطل والفساد؟

أليستْ تدلُّ مواعظُ الإمام الحسينعليه‌السلام على اهتمامه الغيور بأن يوفَّق الناسُ جميعاً إلى الفوز بالسعادتين؛ الدنيويّة والاُخرويّة؟

إذَاً كانت مواعظُه أخلاقاً؛ حيث عبّرتْ عن حالاتٍ أخلاقيّة مِلْؤها الطيبةُ والإنسانيّةُ في أرقى آفاقها؛ فقد نوى خيراً، وعمِلَ خيراً؛ إذ نفع الناس أجيالاً متتابعةً متعاقبة، فكان خيرَ الناس، لا سيّما وقد خلُصتْ نيّتُه لله (عزَّ وجلَّ)، وبرِئتْ من كلّ شائبة وخاطرة، شاردة أو واردة تبتعد عن طلب مرضاةِ الله، أو تقصدُ غيرَ وجه الله.

ولكي نتعرّف على أخلاق الإمام الحسين (عليه أفضلُ الصلاة والسّلام) من خلال مواعظه، وحكمِه وبياناته، تعالوا نطالعْ بعقلٍ متبصّر، وقلبٍ نيّر، وروحٍ متفتّحة هذه الروايات الشريفة، وتلك الجُمَلَ الـمُنِيفة التي تُخبِرُنا عن مواقفَ متعاليةٍ سامقة في دنيا الأخلاق، معبِّرة عن طيبةِ الإمام الحسينعليه‌السلام ، إضافةً إلى تعبيرها عن علمِه الجمّ ومعرفته النورانيّة.

وهنا - وقبل عرض الأخلاق الحسينيّة - يحسُن بنا أن نعرف:

أوّلاً: أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان سلوكُه كلُّه أخلاقاً قويمةً طيّبة، شَهِدَ بذلك العدوُّ والصديق، حتَّى إنَّ مُبغضيه لم يستطيعوا أن يظفروا بشيءٍ يعابُ فيه، بل لم يملكوا إلاّ أن يمدحوه ويُثنوا عليه - والفضلُ ما شهِدتْ به الأعداءُ -، وما كان منهم إلاّ التعبير عن حسدِهم له، وحسدُهم دالٌّ على فضلهِ عليهم.

وهذا التاريخ، رغم تسليطه لأضوائه على الإمام الحسينعليه‌السلام باعتباره شخصيّةً كبيرة لم يدوّنْ عليه إلاّ الفضائلَ والمناقب والمكارم؛ فالأخلاقُ الإلهيّةُ تجسّدتْ فيه فعبّر عنها بشخصه الشريف قبل منطقِه

٣٣

الحكيم؛ لذا جاءت مواعظُه نافعةً أبلغَ النفع، مؤثّرةً أبلغَ التأثير، ليس في زمانه فحسب، بل تعدّتْ حدود القرون والعصور، ثمَّ إنَّها جاءت مفصحةً عن مطاليب الشريعة الإسلاميّة وغاياتها.

ثانياً: اتّسمت أخلاقُ الإمام الحسين (سلام الله عليه) بالحكمة والـمُراعاة، فكانت موزونةً أدقَّ وزن؛ تُراعي الظروفَ الموضوعيّة، وتراعي حالةَ السامع والناظر من حيث مستواه وطبيعته، ومدى استعداده وتقبّله؛ لذا نجدُها أساليبَ مفيدةً في التربية والتوجيه، والإرشادِ والتعليم.

لنتأمّلْ مَثَلاً في هذه الرواية:

* عن الرُّويانيّ أنَّ الحسنَ والحسينعليهما‌السلام مَرَّا على شيخٍ يتوضّأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع؛ يقول كلُّ واحدٍ منهما:«أنت لا تُحسن الوضوء» ، فقالا:«أيُّها الشيخ، كُن حَكَماً بيننا، يتوضّأ كلُّ واحدٍ منّا». فتوضّأا ثمّ قالا:«أيُّنا يُحسِن؟».

قال: كلاكُما تُحسنانِ الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخَ الجاهلَ هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلّمَ الآنَ منكما، وتابَ على يديكما ببركتكما وشفقتكما على اُمّةِ جدِّكما(1) .

أيُّ أخلاقٍ هي! وهما صغيران لم يُحرِجا شيخاً يتوضّأ ولا يعرف كيف ينبغي أن يتوضّأ، فعلّماه دونَ أن يخدشا شعوره!

يقول العالِم الفاضل الشيخ جعفر التُّستَريّ (أعلا الله مَقامه): رأى رجلاً لا يُحسن الوضوء، فأراد أن يُعلّمَه، فاستحى من ذُلِّه حين يتعلّم، فقال لأخيه:«نحن نتوضّأ قُدّامَه، ثمّ نسألُه أيُّ الوُضوءينِ أحسن» . ففعلا ذلك، فقال الأعرابيّ: كِلاكُما تُحسنانِ الوضوء، وأنا

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب - للشيخ الفاضل ابن شهر آشوب 3 / 400.

٣٤

الجاهلُ الذي لا أعرف(1) .

وكأنّهعليه‌السلام رأى الناسَ يملّون النثر، ويأنسون بالشعر، ويستعذبون الكلامَ المقفّى الموزون حتّى ليبقى في ذاكرتهم عقوداً من الزمن، فجاراهم وجاء لهم بالحكم والمواعظ في صيغٍ شعريّة جميلةٍ وواضحة.

فَمِمَّا نُسب إليه ودوّنه التأريخ، قولُه (سلام الله عليه):

إذا جادتِ الدنيا عليكَ فَجُدْ بها

على الناسِ طُّرَّاً قبلَ أن تتفلَّتِ

فلا الجُودُ يُفنيها إذا هي أقبلتْ

ولا البُخلُ يبقيها إذا ما تولَّتِ(2)

هذا في الحثِّ على الجودِ، أمَّا في الاستغناءِ بالله تعالى عن الناس، فقد قالعليه‌السلام :

اغْنَ عَنِ المخلوقِ بالخالقِ

تُغْنَ عنِ الكاذبِ والصادقِ

واسترزقِ الرحمنَ مِن فضلِهِ

فليس غيرُ الله من رازقِ

مَنْ ظنَّ أنَّ الناسَ يُغنونَهُ

فليس بالرحمنِ بالواثقِ

أو ظنَّ أنَّ المالَ مِن كسبِهِ

زلَّتْ به النعلانِ من حالقِ(3)

وقالعليه‌السلام في اللجوءِ إلى الله تعالى:

إذا ما عضّكَ الدَّهرُ

فلا تجنحْ إلى الخَلْقِ

ولا تسألْ سوىْ اللهِ

تعالى قاسمِ الرزقِ

فلو عشتَ وطوّفتَ

مِنَ الغربِ إلى الشرقِ

لما صادفتَ مَن يقْدِ

رُ أن يُسعِدَ أو يُشقي(4)

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة - للشيخ جعفر التستريّ / 22.

(2) تاريخ مدينة دمشق - لابن عساكر 4 / 325.

(3) المصدر نفسه.

(4) كشف الغمّة - للإربليّ 2 / 185.

٣٥

ولمّا زار مقابرَ الشهداء بالبقيع قالعليه‌السلام :

ناديتُ سكّانَ القبورِ فاُسكِتُوا

فأجابني عن صمتِهمْ ندْبُ الحشا

قالتْ أتدري ما صنعتُ بساكني

مزّقْتُ جثماناً وخرّقْتُ الكِسا

وحَشَوْتُ أعينَهم تراباً بعد ما

كانتْ تَأذّى باليسير مِنَ القذا

أمّا العظامُ فإنّني مزّقْتُها

حتّى تباينتِ المفاصلُ والشَّوىْ

قطّعتُ ذا مِن ذا ومِن هذا كذا

فتركتُها ممّا يطولُ بها البِلى(1)

كلماتٌ رشيقة، وعباراتٌ عذبة، ومعانٍ عالية في صورٍ مُؤنسة أثمرتْ عن أبياتٍ واضحةٍ سهْلةِ الحفظ، من شأنها أن تبقى في خاطر السامع تتردّد على ذاكرته حتّى ترسخ قيمُها الأخلاقيّة والعقائديّة فتنعكس سلوكاً صحيحاً، وموقفاً مُحقّاً.

والآن نذهب إلى المنبر الحسينيّ الواعظ، حيث نستمعُ إلى ما يجودُ به علينا من كلماتٍ راشدة، وحِكَمٍ باصرة، ووصايا ذاتِ عبر...

خطب الإمام الحسينعليه‌السلام يوماً فقال:«يا أيُّها الناس، نافسُوا في المكارم، وسارعوا في المغانم... واعلموا أنَّ حوائجَ الناسِ إليكم من نِعَمِ الله عليكم، فلا تملّوا النِّعَمَ فتحور نِقَماً. واعلموا أنَّ المعروفَ مُكْسِبٌ حمْداً، ومعقبٌ أجراً، فلو رأيتُمُ المعروفَ رجلاً رأيتمُوه حسَناً جميلاً يسرُّ الناظرين، ولو رأيتُمُ اللُّؤمَ رأيتمُوهُ سمجاً (2) مشوَّهاً، تنفرُ منه القلوب، وتغضّ دونه الأبصار.

أيُّها الناس، مَن جادَ سادَ، ومَن بَخِلَ رذل. وإنَّ أجودَ الناسِ مَن أعطى

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق - لابن عساكر 4 / 325.

(2) السمج: القبيح والخبيث.

٣٦

مَن لا يرجوه، وإنَّ أعفى الناس مَن عفا عن قُدرة، وإنَّ أوصلَ الناسِ مَن وصلَ مَن قطعَه.

والاُصولُ على مغارسها بفروعها تسمو؛ فمَن تعجّل لأخيه خيراً وجدَه إذا قدِم عليه غداً، ومَن أرادَ الله تبارك وتعالى بالصنيعةِ إلى أخيه كافاه بها في وقتِ حاجته، وصرفَ عنه من بلاءِ الدنيا ما هو أكثرُ منه، ومَن نفّسَ كُربةَ مؤمنٍ فرّج الله عنه كُرَبَ الدنيا والآخرة، ومَن أحسنَ أحسنَ الله إليه، والله يُحبُّ المحسنين» (1) .

قال الإربليّ: هذا الفصلُ من كلامه وإن كان دالاّ على فصاحته، ومُبِيناً عن بلاغته، فإنَّه دالٌّ على كرمِه وسماحتِه وجُودِه، مُخْبِرٌ عن شرفِ أخلاقِه وسيرته، وحُسنِ نيّتِه وسريرتِه، شاهدٌ بعفوه وحلْمِه وطريقته؛ فإنَّ هذا الفصلَ قد جمع مكارمَ الأخلاق، لكلّ صفةٍ من صفاتِ الخير فيها نصيب، واشتمل على مناقبَ عجيبةٍ، وما اجتماعُها في مثْلِه بعجيب.

وجاء في قصار الجمل هذه الحِكَمُ الجميلة:

-«الصدقُ عزٌّ، والكذبُ عجز، والسرُّ أمانة، والجوارُ قرابة، والمعونةُ صدقة، والعملُ تجربة، والخُلقُ الحسَنُ عبادة، والصمتُ زين، والشُّحُّ فَقْر، والسخاءُ غِنى، والرفْقُ لُبّ» (2) .

-«شرُّ خصالِ الملوك الجُبنُ مِنَ الأعداء، والقسوةُ على الضعفاء، والبخلُ عند الإعطاء» (3) .

____________________

(1) كشف الغمّة 2 / 241، 242، والفصول المهمّة - لابن الصبّاغ المالكيّ / 178، ووسيلة المآل - لباكثير الحضرميّ المكّيّ الشافعيّ / 182.

(2) لمعة من بلاغة الحسينعليه‌السلام / 104.

(3) المناقب 4 / 65.

٣٧

- وقالعليه‌السلام لرجلٍ اغتابَ عنده رجلاً:«يا هذا، كُفَّ عنِ الغيبة؛ فإنَّها أدامُ كلابِ النار» (1) .

-«إيّاك وما تعتذرُ منه؛ فإنَّ المؤمنَ لا يُسيء ولا يعتذر، والمنافقُ كلَّ يومٍ يُسيءُ ويعتذر» (2) .

- وقال لابنه عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :«أيْ بُنيّ، إيّاكَ وظُلْمَ مَنْ لا يجدُ عليكَ ناصراً إلاّ الله (جَلَّ وعزَّ)» (3) .

- وقال له رجلٌ ابتداءً: كيفَ أنتَ عافاكَ الله؟

فقالعليه‌السلام له:«السّلام قبل الكلام عافاك الله».

ثمّ قالعليه‌السلام :«لا تأذنوا لأحدٍ حتّى يُسلِّم» (4) .

وقال (سلام الله عليه):«البخيل مَنْ بخِلَ بالسّلام» (5) .

وقال رجلٌ عنده: إنَّ المعروفَ إذا اُسديَ إلى غيرِ أهله ضاع.

فقال الحسينعليه‌السلام :«ليس كذلك، ولكنْ تكونُ الصنيعةُ مثْلَ وابلِ المطر، تُصيبُ البرَّ والفاجر» (6) .

وقال (سلام الله عليه):«مَن قبِلَ عطاءَك فقد أعانَك على الكرم» (7) .

وقال (صلواتُ الله عليه):«صاحبُ الحاجةِ لم يُكرمْ وجهَه عن سؤالك، فأكرِمْ وجهَكَ عن رَدِّه» (8) .

كلمات تنسجم تمامَ الانسجام مع الفطرةِ الإنسانيّةِ السليمة، وتقع على

____________________

(1) تحف العقول / 176.

(2) تحف العقول / 179.

(3) تحف العقول / 177.

(4) المصدر نفسه.

(5) تحف العقول / 179.

(6) تحف العقول / 176.

(7) الدرّة الباهرة / 24.

(8) كشف الغمّة 2 / 208.

٣٨

القلب موقعَ الماءِ البارد في حرِّ الضماء، وعلى العين موقع النور في الليلة الظلماء، وعلى الاُذن موقعَ صوتِ الأب الحنون ينادي ولدَه التائه، أو الاُمّ الرؤوم تلاطف ابنتَها المنكسرة.

كلمات هي للضّالِّ هدايةٌ مُطَمْئِنة، وللحائرِ سبيلٌ سهلة، ولقدِ انتفع مَن أسلمَ قلبه، واعتبرَ مَن صدق عقلُه في البحثِ عن العبرة، واهتدى من رغِبَ حقّاً في الخيرِ وطلبِ الحقيقة.

* ولقد أوصى فامتزج العلم بالاُبوّةِ الحانية، فكان أن قال:«لا تتكلّفْ ما لا تُطيق، ولا تتعرّض ما لا تُدرك، ولا تَعِدْ بما لا تقْدرُ عليه، ولا تُنفقْ إلاّ بقدْرِ ما تستفيد، ولا تطلبْ من الجزاءِ إلاّ بقدرِ ما صنعت، ولا تفرحْ إلاّ بما نلتَ مِن طاعةِ الله، ولا تتناولْ إلاّ ما رأيتَ نفسَكَ له أهلاً» (1) .

وقال (صلواتُ الله عليه):«اُوصيكم بتقوى الله؛ فإنَّ الله قد ضَمِن لِمَنِ اتّقاهُ أن يُحوّلَه عمّا يكره إلى ما يُحبّ، ويرزقَه مِن حيث لا يحتسب، فإيّاكَ أن تكونَ ممّن يخاف على العباد مِن ذنوبهم ويأمنُ العقوبةَ مِن ذنبهِ؛ فإنَّ الله تباركَ وتعالى لا يُخدَع عن جنّتِه، ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاءَ الله» (2) .

لقد فاحتْ تلك الكلمات عن اُبوَّةٍ حانية، وقلبٍ رحيم، وفاضتْ عن صدرٍ مِلْؤه الإيمانُ والتقوى، والمعرفة وحبُّ الخير، وصدرتْ عن فمٍ طاهرٍ زاكٍ طالما قبّلَه رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه)، ولكنَّ أعداءَ الله لم يتورّعوا في

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / 365.

(2) تحف العقول / 173.

٣٩

هتكِ حرُماتِ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيتهعليهم‌السلام ؛ فقد جاء سنانُ بنُ أنس فرأى الإمامَ الحسينعليه‌السلام مطروحاً على رمالِ كربلاء، يشخبُ دماً ممّا أصابه من السهام والأحجار والسيوف، فطعنه في بواني صدره الشريف(1) !

ودعا عمرُ بنُ سعدٍ: ألاَ مَن ينتدب إلى الحسين فيُوطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه؟ فقام عشرة(2) ... فداسوا بخيولهم جسَدَ ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله !

وقُطع الرأسُ الشريف قبل ذلك، ولم تُرعَ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حرمة.

أروحُكَ أم روحُ النبيِّ تَصَعَّدُ

من الأرضِ للفردوسِ والحُورُ سُجَّدُ

ورأسُكَ أم رأسُ الرسولِ على القَنا

بآيةِ (أهل الكهف) راح يُرَدِّدُ

وصدرُكَ أم مستودعُ العلمِ والحِجى

لتحطيمِه جيشٌ من الجهلِ يَعمدُ

وأيُّ شهيدٍ أصلَتِ الشمسُ جسمَه

ومشهدُها مِن أصلِه متولِّدُ

وأيُّ ذبيحٍ داستِ الخيلُ صدرَه

وفرسانُها مِن ذكرِه تتجمّدُ

فلو علمتْ تلك الخيولُ كأهلها

بأنَّ الذي تحت السنابكِ أحمدُ

لثارتْ على فرسانها وتمرّدتْ

عليهم كما ثاروا بها وتمرّدوا(3)

وفي الشام دعا يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ووضعه أمامه في طستٍ من ذهب(4) ، ثمّ أخذ القضيب وجعل ينكثُ ثغرَ الحسينعليه‌السلام (5) ويقول:

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف - للسيّد ابن طاووس / 70.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 161، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 4 / 33، مروج الذهب - للمسعوديّ 2 / 91، الخطط - للمقريزيّ 2 / 288، البداية والنهاية - لابن كثير 8 / 189، إعلام الورى بأعلام الهدى - للشيخ الطبرسيّ 1 / 470.

(3) من قصيدةٍ للسيّد صالح بن العلاّمة السيّد مهدي بحر العلوم.

(4) مرآة الجنان - لليافعيّ 1 / 135.

(5) تاريخ الطبريّ 6 / 267، الكامل في التاريخ 4 / 35، تذكرة خواصّ الاُمّة - لسبط ابن الجوزيّ / 148، الصواعق المحرقة - لابن حجر / 116، الفروع - لابن مفلّج الحنبليّ 3 / 549، مجمع الزوائد 9 / 195، الفصول المهمّة / 205، الخطط المقريزيّة 2 / 289، البداية والنهاية 8 / 192، الاتحاف بحبّ الأشراف - للشبراويّ / 23، وغيرها من المصادر المعروفة.

٤٠