الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42329
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42329 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والمخالفين، ويدعوهم بأخلاقه العظيمة إلى الهداية من الضلال، والنور من الظلمات حتّى عُرف بالعفو والصفح والمواساة، وتطييب الخواطر وجبر القلوب، والمسح بيد الرحمة على رؤوس اليتامى وصدور المحزونين وجراح المكلومين.

ومِن بعده كان وريثه وسبطه الحسين (سلام الله عليه) مقتفياً آثاره الشريفة في كلّ خلُقٍ فاضلٍ كريم؛ فوعظ الناسَ كجدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله لينقذهم من الظلمات إلى النور، ويخلّصهم من شِراك الشياطين، وأسرِ ظلمة السلاطين الذين يأخذون بأيديهم إلى مهاوي الجحيم.

وقد مدَّ سيّد شباب أهل الجنّة (صلوات الله عليه) على الناس يد الرحمة فشمل القاصي والداني، والعدوَّ والصديق، والمخالف والمؤالف؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى بَرٌّ رحيم، وقد دعاه إلى ذلك؛ فأغاث الملهوف، وأدخل على قلب المحزون السرور، وتفقّد المحرومين والمعوزين، وعاد المرضى، ومسح على آلام المحرومين والمظلومين فأبرأها، وعلى عيون المضلَّلين فبصّرها، وعلى آذان المغفّلين فأسمعها كلماتِ الهداية والرشد، وعلى صدر المفجوعين فسكّنها وطمأنها.

وكان من رحمته على المؤمنين أن ذرف عليهم دموعه حزينةً ساخنةً سخيّة، ثمّ شفعها بكلمات هي بلسم العليل، وهديّة الخليل، والماء البارد على جمرة الغليل. فحين اشتدّ بولده عليّ الأكبرعليه‌السلام [العطش] رجع إلى أبيه الحسين (سلام الله عليه) يستريح، فلمّا ذكر له ما أجهده من العطش(1) بكى الحسينعليه‌السلام ، وقال:«وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها».

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين / 47.

٢٦١

ثمّ أخذ لسان ولده فمصّه، ودفع إليه خاتمة ليضعة في فيه(1) . فعاد (عليٌّ) إلى الميدان مبتهجاً بالبشارة حتّى قَتل عدداً كبيراً من أعداء الله.

وبعد أن قُتل عبد الله بن مسلم بن عقيل حمل آل أبي طالب حملةً واحدة، فصاح بهم الحسينعليه‌السلام :«صبراً على الموت يا بني عمومتي، والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم» (2) . وكان النداء الحسينيّ الرحيم يقع على قلوبهم موضعَ الـمُطَمْئِن المسكِّن، فيصبّرهم ويشدّ عزائمهم على الأمر العصيب.

وحين خرج ابن أخيه (القاسم بن الحسن) وهو غلام لم يبلغ الحلُم، نظر إليه الحسينعليه‌السلام واعتنقه وبكى(3) ، نظر إليه وهو بقيّة أخيه السبط الشهيد أبي محمّد الحسن بن عليّعليه‌السلام ، ولولا إصراره على النزال ما أذن لهعليه‌السلام . ولكنَّ هذا الغلام الغيور لم يصبر أن يرى أعداء الله يقتلون أولياء الله، حتّى إذا استشهد قام عمّه على رأسه وقال:«بُعداً لقومٍ قتلوك! خصمُهم يومَ القيامة جَدُّك» . ثمّ قال:«عزَّ والله على عمّك أن تدعوَه فلا يُجيبك، أو يُجيبك ثمّ لا ينفعك!» . ثمّ احتمله فألقاه مع ولده عليّ الأكبرعليه‌السلام (4) .

ورفع طرفه إلى السماء وقال:«اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» (5) .

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 31، مقتل العوالم / 95.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 78، واللهوف / 64، تاريخ الطبريّ 6 / 256.

(3) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 27 ذكر أنّ الحسينعليه‌السلام أبى أن يأذن للقاسم، فما زال الغلام يقبّل يديه ورجليه حتّى أذِن له.

(4) البداية والنهاية 8 / 186، تاريخ الطبري 6 / 257.

(5) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي 2 / 28.

٢٦٢

ولمّا استُشهد أخوه أبو الفضل العبّاس (سلام الله عليه) حضر عنده وبكى عليه.

لقد جاء الحسينعليه‌السلام بهذا الركب القدسيّ من أهل بيته النجباء ليقدّمهم قرابين لله تعالى؛ فداءً لدينه الأقدس، ورحمةً بالاُمّة كي تنتفع بدمائهم، وائتماراً بما يريد الله تعالى ويرضى. وقد قالعليه‌السلام :«شاء الله أن يراني قتيلاً، ويرى النساءَ سبايا».

هذا ما بلّغ به أخاه محمّدَ بن الحنفيّة(1) ، أمّا ما قاله لاُمّ المؤمنين اُمّ سلمة (رضوان الله عليها) فهو:«يا اُمّاه، وأنا أعلم أنّي مقتولٌ مذبوح ظلماً وعدواناً، وقد شاء (عزّ وجلّ) أن يرى حرمي ورهطي مشرَّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً» (2) .

فقدّم الحسينعليه‌السلام كلَّ شيء لله؛ لأجل أن تُسمِع صرختُه آذانَ النائمين والغافلين والذين خدّرتهم الدنيا؛ فبتضحياته تلك استطاع أن يُثبت للاُمّة بأنَّ الخلافة بيد أعداء الإسلام، وأنَّ الدين في خطر، وأنَّ بني اُميّة لا يتورّعون عن تحريف الرسالة المحمّدية، وعن استئصال أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيت الوحي والرسالة، وعن التنكيل بحرم المصطفى وبناته؛ وبذلك عيّن الإمام الحسينعليه‌السلام للاُمّة - رحمةً بها - تكليفها لتنجو بأدائه من غضب الله (عزّ وجلّ).

ومن أجل ذلك قدّم أهل بيته وأصحابه حتّى الطفل الرضيع؛ فتقدّم وهو يتأذّى لعويل الأيامى وصراخ الأطفال، فأمر عياله بالسكوت وودّعهم، وتقدّم يقتل بسيفه أعداء الله حتّى أردى منهم جمعاً كثيراً، ثمّ عاد إلى عياله

____________________

(1) كما ذكر السيّد المقرّم في مقتل الحسينعليه‌السلام / 65.

(2) مدينة المعاجز - للبحرانيّ / 244.

٢٦٣

يودّعهم ثانياً، ويأمرهم بالصبر قائلاً لهم:«استعدّوا للبلاء، واعلموا أنَّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبةَ أمركم إلى خير، ويعذّب عدوَّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة؛ فلا تشكو، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص مِن قدْركم» (1) .

كلمات نزلت منزل الرحمة على النفوس الحزينة، ومنزل الطمأنينة على القلوب الخائفة الوجلة؛ فسكّن بها روعتهنّ، وبلّ غلّتهن. ثمّ التفتعليه‌السلام إلى ابنته سكينة فرآها منحازةً عن النساء، باكية معولة، فوقف عليها مصبّراً ومسليّاً.

يقول الشيخ التستري: الملاطفة من الآباء مع الأولاد مستحبّ خاصّة، ولتفريح البنات خصوصيّةٌ في الفضيلة. وقد تحقّق ذلك من الحسينعليه‌السلام بأحسن وجوهه، وأراد ذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة، أراد أن يفرّحها بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها، فما تزداد بهذه إلاّ غصّةً وحزناً(2) .

وقيل: فضمّها الحسينعليه‌السلام إلى صدره الشريف، وقبّلها ومسح دموعها بكُمّه، وقال:

سيطول بعدي يا سكينةُ فاعلمي

منك البكاءُ إذا الحِمام دهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعِكِ حسرةً

مادام منّي الروحُ في جثماني

فإذا قُتلتُ فأنتِ أَولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوانِ(3)

ولقد ترك الحسينعليه‌السلام آثار رحمته الأبويّة عليها، فعاشت بعده أكثر من ستّين عاماً لا تنساه، ولا تنسى دروس الصبر والوفاء.

____________________

(1) جلاء العيون - للعلاّمة المجلسي.

(2) الخصائص الحسينيّة / 34.

(3) مقتل أبي مخنف / 132.

٢٦٤

وكذلك ترك على اُخته زينبعليها‌السلام آثاراً من الصبر الجميل حين عزّاها وأوصاها في كربلاء، قائلاً لها:«يا اُختاه، تعزَّي بعزاء الله؛ فإنّ سكّان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البريّة يهلكون» (1) .

فزرع في قلبها الصبر والثبات ورباطة الجأش، فنهضت بأعباء مسؤوليّاتٍ تنوء من حملها الجبال الرواسي، وتحمّلت مصائب وآلاماً تنهدّ لهولها عزائم الرجال الأشدّاء؛ فهي التي شهدت واقعة الطفّ بكلّ مآسيها وفجائعها، ومصائبها ونكباتها، وعانت الجوع والعطش.

وكُلّفت بجمع الأرامل واليتامى، وانتشال الأطفال من تحت حوافر الخيل، وستر العيال في خيمة، والأسر إلى الكوفة والشام مربّطين بالحبال هديةً إلى الطاغية عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية، والسفر إلى المدينة بعد وقوفٍ حزين في كربلاء يوم أربعينيّة أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)؛ تبكي عليه وعلى إخوتها، وولدَيها وأولاد إخوتها، وبني عمومتها والخلّص من الأصحاب الشهداء الأبرار.

وفي المدينة أبلت البلاء الحسن في عرض وقائع فاجعة الطفّ العظمى؛ فألهبت العواطف، وألّبت القلوب، وخلقت ثورةً في المدينة بانت فيما بعد آثارها، فتُرجمت إلى ثوراتٍ انفجرت ضدّ الحكم الاُمويّ حتّى زلزلته ودمّرته.

وهكذا تستحقّ أن توصف بما وصفتها الزيارة الزينبيّة:«سلامٌ على مَن ناصرتِ الحسينَ في جهادِه، ولم تضعفْ عزيمتُها بعد استشهادِه. سلامٌ على قلبِ زينب الصبور، ولسانِها الشكور. سلامٌ على مَن تظافرت عليها المصائبُ والكروب، وذاقت من النوائب ما تذوب منها

____________________

(1) زينب الكبرىعليها‌السلام / 119.

٢٦٥

القلوب. سلامٌ على مَن تجرّعت غصصَ الآلامِ والمآسي، وما لا تقوى على احتمالها الجبالُ الرواسي؛ فأصبحت للبلايا قِبلتَها، وللرزايا كعبتَها. سلامٌ على مَن شاطرت اُمَّها الزهراء في ضروب المحنِ والأرزاء، ودارت عليها رحى الكوارث والبلاء يوم كربلاء. سلامٌ على من عجبت من صبرها ملائكة السماء، سلامٌ على من فُجعت بجدّها وأبيها، واُمّها وبنيها، والخيرة من أهلها وذويها».

ولا نستطيع أن نقول: إنَّ ذلك دون أن تسعفها الرحمة الحسينيّة بالرعاية والتوجيه، وشدِّ القلب على الصبر، والتسليم لله (عزّ وجلّ) والرضا عنه، حتّى إذا قال لها عبيد الله بن زياد: كيف رأيتِ فعْلَ الله بأهلِ بيتك؟ أجابته قائلة: ما رأيتُ إلاّ جميلاً؛ هؤلاءِ قومٌ كتب الله عليهمُ القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لـمَنِ الفلجُ يومئذٍ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة(1) !

ونعود إلى الشيخ جعفر التستريّ لنسمع منه مقالته في الرحمة الحسينيّة، حيث يقول: (باب ردّ العادية وإغاثة اللهيف)، لهعليه‌السلام من هذين المستحبّين ما لم يتحقّق لغيره منذ صارت من المستحبّات؛ فقد ردّ العادية لـمّا صرخن النساء حين الإحاطة بهنّ بأحسن ردّ، فقال لهم:«اقصدوني بنفسي ، يعني اشتغلوا بضربي بالسيوف ورميي بالسهام،واتركوا حرمي» .

وقد أغاث اللهيف لاثنين وسبعين مغيثاً من أصحابه حين كانوا ينادونه إذا صُرعوا ليحضر عندهم، فأغاثهم كلَّهم، وسبعةً وعشرين مغيثاً من أهل بيته.

____________________

(1) اللهوف / 90.

٢٦٦

(باب إدخال السرور على المؤمن، وزيارة المؤمن)، وهما من أفضل الأعمال كما في الروايات، وقد سعىعليه‌السلام في إدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم بتسلياتٍ وملاطفات، وأمر بالصبر ومواعظ نحو ذلك...

(باب عيادة المريض) التي ورد فيها أنَّ عيادة المريض بمنزلة عيادة الله (جلّ جلاله)، ولقد ظهر منه عيادةٌ للمريض والمجروحين حين دعَوه إليهم ليعودهم، فلم يكتفِ بمحض المجيء والجلوس عندهم، بل كان يخصّ بعضهم بملاطفاتٍ خاصّة، وخصوصاً الغرباء منهم؛ كالعبد الأسود، والغلام التركيّ الذي جاء إليه ووجده قتيلاً...(1) .

لقد كان من رحمة الإمام الحسينعليه‌السلام أنّه كان يخفّف آلام المؤمنين، ويشدّ على قلوب أهل الابتلاء برباط الصبر والتوكّل؛ فلمّا نُفي اُبو ذرّ - الصحابيّ الجليل (رضوان الله عليه) - إلى الربذة بأمر عثمان الذي منع الناسَ أن يودّعوه ويشيّعوه، خرج الإمام عليّ وولداه الحسن والحسين (سلام الله عليهم) إلى أبي ذرّ وودّعوه وشيّعوه، وقالوا له كلمات كانت من بينهنّ كلمة الإمام الحسينعليه‌السلام :

«يا عمّاه، إنَّ الله قادرٌ أن يغيّر ما قد ترى، والله كلَّ يوم هو في شأن، وقد منعك القومُ دنياهم ومنعتَهم دينَك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الصبرَ والظفر، واستعذ به من الجشع والجزع؛ فإنَّ الصبر من الدين والكرم، وإنَّ الجشع لا يقدّم رزقاً ولا يؤخّر أجلاً» (2) .

أو في رواية البرقيّ في المحاسن / 353، ح 45، عن أبي عبد الله

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 34 - 35.

(2) الروضة من الكافي - للشيخ الكليني / 207.

٢٦٧

الصادقعليه‌السلام قال:«لما شيّع أمير المؤمنين عليه‌السلام أبا ذرّ، وشيّعه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر (رض)، قال لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : ودّعوا أخاكم؛ فإنّه لا بدّ للشاخص من أن يمضي، وللمشيّع من أن يرجع» .

قال:«فتكلّم كلّ رجل منهم على حياله، فقال الحسين بن عليّ عليه‌السلام : رحمك الله يا أبا ذرّ، إنّ القوم إنّما امتهنوك بالبلاء لأنّك منعتَهم دينَك فمنعوك دنياهم، فما أحوجك غداً إلى ما منعتَهم، وأغناك عمّا منعوك!

فقال أبو ذرّرحمه‌الله : رحمكم الله مِن أهل بيت، فما لي في الدنيا من شجنٍ غيركم، إنّي إذا ذكرتُكم ذكرتُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

عباراتٌ هي بلسمٌ شافٍ لجراحات أبي ذرّ، قوّمتْه وشدّت عزيمته، وصبّرتْه وقوّت شكيمته، فواصل جهاده؛ جهاد الكلمة الحقّة العادلة، لا تأخذه في الله لومة لائم حتّى تُوفّي وفيّاً للإسلام، ناصحاً مخلصاً للمسلمين.

وكتب الإمام الحسينعليه‌السلام إلى عبد الله بن العبّاس حين سيّره عبد الله بن الزبير إلى اليمن(*) :«أمّا بعد، بلغني أنّ ابن الزبير سيّرك إلى الطائف، فرفع الله لك بذلك ذكراً، وحطَّ به عنك وزراً، وإنّما يُبتلى الصالحون. ولو لم تُؤجر إلاّ فيما تحب لقلّ الأجر. عزم الله لنا ولك بالصبر عند البلوى، والشكر عند النعمى، ولا أشمت بنا ولا بك عدوّاً حاسداً أبداً. والسّلام» (1) .

هذه هي الرحمة الحسينيّة، ولكن لنذهب إلى كربلاء لنجدها صوراً تتجاوب معها اللواعج والدموع.

لمّا عرف الإمامُ الحسينعليه‌السلام من أصحابه صدق النيّة والإخلاص

____________________

(*) هكذا وردت العبارة هنا مأخوذة عن الحراني في تحف العقول، وحينما راجعنا المصدر الأساس وجدناها كما نقلها الأخ المؤلِّف، ولكن الغريب أننا لم نجد أي مؤرخ يذكر تسيير ابن الزبير لعبد الله بن العباس أيام الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإنما أجمع المؤرّخون على أن هذا التسيير قد وقع بعد شهادة الإمامعليه‌السلام ، بل بعد ثورة المختار سنة (66) للهجرة؛ وعليه فلا يمكن قبول ما ذُكر. اللهمّ إلاّ إذا قلنا: بأنّ هذا الكتاب هو من الإمام السجادعليه‌السلام لابن عباس، فحينها يمكن تصحيح الرواية على هذا القول.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(1) تحف العقول / 177.

٢٦٨

في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء بأنّه مقتولٌ غداً، وكلّهم مقتولون(1) .

فقالوا بأجمعهم: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟! فدعا لهم بالخير(2) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان، وعرّفهم منازلهم فيها(3) .

ولمّا فرغعليه‌السلام من الصلاة يوم عاشوراء قال لأصحابه:«يا كرام، هذه الجنّة قد فُتحت أبوابها، واتّصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم؛ فحاموا عن دين الله ودين نبيّه، وذُبّوا عن حرم الرسول» .

فقالوا: نفوسُنا لنفسك الفداء، ولَدماؤُنا لدمك الوقاء، فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوءٌ وفينا عرقٌ يضرب(4) .

إنّها الرحمة الحسينيّة تجعل الـمُرَّ شهداً.

وقف جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ أمام الحسينعليه‌السلام يستأذنه، فقالعليه‌السلام :«يا جون، إنّما تبِعتَنا طلباً للعافية، فأنت في إذنٍ منّي».

فوقع جون على قدميه يقبّلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! إنَّ ريحي لَنتن، وحسبي لَلئيم، ولوني لأسود، فتنفّسْ عَلَيَّ بالجنّة ليطيبَ ريحي، ويشرف حسبي، ويبيَّض لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.

فأذِنَ له الحسينعليه‌السلام (5) ، فقتل خمساً وعشرين وقُتل، فوقفعليه‌السلام وقال:«اللّهمَّ بيّضْ وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(1) نَفَس المهموم / 122.

(2) المصدر نفسه.

(3) الخرائج والجرائح - للراونديّ.

(4) أسرار الشهادة / 175.

(5) مثير الأحزان - لابن نما / 33، واللهوف / 61.

٢٦٩

وعرّفْ بينه وبين آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ». فكان مَن يمرّ بالمعركة يشمُّ منه رائحةً طيّبةً أذكى من المسك(1) .

وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهليّ شيخاً كبيراً، صحابيّاً رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع حديثه، وشهد معه بدراً وحنيناً، فاستأذن الحسينعليه‌السلام وبرز شادّاً وسطه بالعمامة، رافعاً حاجبيه بالعصابة، ولـمّا نظر إليه الحسينعليه‌السلام بهذه الهيئة بكى وقال:«شكر الله لك يا شيخ». فقتل على كبره ثمانية عشر رجلاً وقُتل(2) .

ولمّا استُشهد جُنادة الأنصاري جاء ابنه عمرو - وهو ابن إحدى عشرة سنة - يستأذن الإمامَ الحسينعليه‌السلام ، فأبى وقال:«هذا غلامٌ قُتِلَ أبوه في الحملة الاُولى، ولعلَّ اُمّه تكره ذلك» .

فقال الغلام: إنَّ اُمّي أمرتني.

فأذن له فقُتل، فأخذت اُمُّه عموداً، وقيل: سيفاً، فردَّها الحسينُعليه‌السلام إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين وهي تنشئ:

إنّي عجوزٌ في النِّسا ضعيفهْ

خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ

أضربكم بضربةٍ عنيفهْ

دون بني فاطمة الشريفهْ(3)

وقالعليه‌السلام لبشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي:«إنَّ ابنك قد اُسِر في ثغر الريّ» .

فقال بشر: عند الله أحتسبه ونفسي.

فلمّا سمع الحسينعليه‌السلام مقالته قال:«رحمك الله، أنت في حلٍّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك ابنك» .

قال بشر: أكلتني السباع حيّاً إن أنا فارقتك.

فقالعليه‌السلام له:«فأعطِ ابنَك محمّداً هذه الأثواب البرود - وكان معه -ليستيعن بها في فكاك

____________________

(1) مقتل العوالم / 88.

(2) ذخيرة الدارين / 208.

(3) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 22.

٢٧٠

أخيه» . وأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار، وقُتل بشر في الحملة الاُولى(1) .

ولا تقف الرحمة الحسينيّة عند حدّ، فبعد شهادة القاسمعليه‌السلام برز أخوه أحمد بن الحسن، فقاتل حتّى أخذه العطش، فنادى: يا عمّاه! هل من شربة ماء؟

فقال له الحسينعليه‌السلام :«يابن أخي، اصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسقيك شربةً من الماء لا تظمأ بعدها أبداً» (2) .

فرجع الغلام وقاتل صابراً متصبّراً بكلمة عمّه الحسين (سلام الله عليه).

ولمّا سقط الإمام الحسينعليه‌السلام بعد جراحات لا يقوى معها على قيام، نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبطعليه‌السلام ، وله إحدى عشرة سنة، وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتدّ نحو عمّه، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها، وجاء إلى عمّه، فأهوى بحرُ بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يابن الخبيثة! أتضرب عمّي؟!

فضربه، واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد، فإذا هي معلّقةٌ، فصاح الغلام: يا عمّاه! ووقع في حِجر الحسينعليه‌السلام ، فضمّه إليه وقال:«يابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير؛ فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين».

فرمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حجر عمّه.

في حالةٍ كان يجود الحسينعليه‌السلام بنفسه ضمَّ إليه ذلك الغلام، وصبّره بتلك الكلمات التي تُنسي الألمَ وشدّة الموقف. إنّها الرحمة الحسينيّة التي فاضت خيراً وإنسانيّة وكرماً لا على

____________________

(1) العيون العبرى - للسيّد إبراهيم الميانجيّ / 111.

(2) مقتل أبي مخنف / 126.

٢٧١

الإنسان فحسب، بل تعدّته إلى البهائم.

فعند مبارزته اشتدّ به العطش، فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج فكشف جندَه، وكانوا أربعة آلاف، كشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء ليشرب(1) .

وأكثر من ذلك ما رواه الطبريّ، حيث ذكر في تاريخه(2) : فبعد أن طلع عليهم الحرّ الرياحيّ مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده، أو يقْدم به الكوفة، فوقف الحرُّ وأصحابه مقابل الحسين في حَرِّ الظهيرة(3) .

قال الطبريّ: فلمّا رأى سيّدُ الشهداء ما بالقوم (أي الحُرّ وأصحابه) من العطش أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشّفوا الخيل، فسقوهم وخيولَهم عن آخرهم، ثمّ أخذوا يملؤون القصاع والطساس ويُدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت وسُقي آخر حتّى سقوا الخيل كلّها.

وكان عليُّ بن الطعان المحاربيّ مع الحرّ، فجاء آخرَهم وقد أضرَّ به العطش، فقال الحسينعليه‌السلام :«أنخِ الراوية». وهي الجمل بلغة الحجاز، فلم يفهم مراده، فقالعليه‌السلام :«أنخِ الجمل» . ولـمّا أراد أن يشرب جعل الماءُ يسيل من السقاء، فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام :«أخنث السقاء» . فلم يَدْرِ (عليّ بن الطعان) ما يصنع؛ لشدّة العطش، فقامعليه‌السلام بنفسه وعطف السقاء حتّى ارتوى وسقى فرسه(4) .

وهذه هي الرحمة الحسينيّة العجيبة، فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة،

____________________

(1) مقتل العوالم / 98، ونَفَس المهموم / 188.

(2) ج 6 / 226.

(3) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 230.

(4) مقتل الحسينعليه‌السلام - للسيّد المقرّم / 182.

٢٧٢

وبيده الكريمة يقدّم الماء في البيداء المقفرة إلى العطاشى من أعدائه الذين سيشهرون سيوفهم غداً عليه، بل سيبضّعونه بها وهو يعلم ذلك، لكنَّ الرحمة تمنعه من الانتقام منهم وإجراء القصاص قبل الجناية.

وهذا هو الذي أيقظ في الحرّ بن يزيد الرياحيّ حالة الندم والتوبة، متأثّراً برحمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهذا هو الذي جعل الأجيال تحبّ الإمام الحسينعليه‌السلام وتُجلُّه وتقدُّسه؛ لأنّه رجل المكارم، ورجل الأخلاق الفاضلة التي تترفّع ولا تمدّ إلى الناس إلاّ يد رحمة حتّى تشمل الخيول، خيول الأعداء.

قال الشيخ التستري: (باب سقي الماء)، والظاهر أنّه مستحبّ حتّى للكفّار في حال العطش، وللبهائم، وواجبٌ في بعض الأوقات، وأجره أوّل أجرٍ يُعطى يومَ القيامة. وقد تحقّق من الإمام الحسينعليه‌السلام أنواع السقي كلّها حتّى السقي للمخالفين له، والسقي لدوابّهم بنفسه النفيسة، وسقي ذي الجناح، فقال له:«اشرب وأنا أشرب...» .

(باب الإطعام)، وكفى في فضله أنَّ الخلاص من العقبة قد حُمل عليه في الآية الشريفة:( فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) (1) .

قال الإمام السجّادعليه‌السلام :«قُتل ابن رسول الله جائعاً، قُتل ابن رسول الله عطشانَ» (2) .

أجل، فذلك الرجل العطوف الشفيق الرحيم يُقتل، ويُقتل عطشانَ بعد أن سقى الناس حتّى أعداءه، وحتّى البهائم التي ركبوها للكرّ عليه وقتلِه. وذلك الرجل الطيّب الذي طالما أشبع الجياع قُتل، وقُتل ساغباً جائعاً، وكانت يده السخيّة تحمل الطعام والماء كلَّ ليلةٍ إلى الفقراء والمساكين، والأيتام والاُسَرِ

____________________

(1) سورة البلد / 6 - 11.

(2) الخصائص الحسينيّة / 33.

٢٧٣

الأبيّة، حتّى ترك ذلك أثراً على ظهره، فسُئل الإمام زين العابدينعليه‌السلام عن ذلك، فقال:«هذا ممّا كان ينقل الجرابَ على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين» (1) .

إلاّ أنَّ هذا الظهر العطوف قد عملت فيه سيوفُ ورماح وسهام أعداء الله عملَها، ثمّ جاءت خيولهم فداسته. وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين، وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين، وجاد على الناس حتّى العدوّ منهم بالنصيحة والموعظة لم يدّخر من ذلك شيئاً، قد هشّمته السيوفُ وسنابك الخيل.

وذلك الوجه النوريّ المقدّس الذي سجد لله طويلاً، وبكى على آلام الناس طويلاً فُصلِ عن البدن ورُفع على الرمح؛ تشفّياً ونكالاً، ولم يستحِ العدوُّ وقد رأى الحسينَ (عليه السلامُ) يبكي، فسُئل عن ذلك وهو في ساحة الطفّ، فأخبر بأنّه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله، وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته.

لقد كان منهم ما تتفطّر له السماوات وتنهدّ الجبال؛ حيث:

فرى الغيُّ نحراً يَغبطُ البدرُ نورَه

وفي كلِّ عِرقٍ منه للحقِّ فرقدُ

وهشّمَ أضلاعاً بها العطفُ مودَعٌ

وقطّع أنفاساً بها اللطفُ موجَدُ(2)

____________________

(1) المناقب 4 / 66.

(2) من قصيدة للسيّد صالح ابن العلاّمة السيّد مهدي بحر العلوم.

٢٧٤

الخصال الحسينيّة

٢٧٥

٢٧٦

الخصال الحسينيّة

كانت سياحةً ممتعةً في الأخلاق الحسينيّة الشريفة؛ حيث تعرّفنا فيها على بعض فضائل مولانا سيّد الشهداء أبي عبد الله السبط، سيّدِ شبابِ أهل الجنَّة الإمام الحسين بن عليّ، ابن فاطمةَ بنت النبيّ المصطفى (صلوات الله عليهم أجمعين).

ولم يَنتهِ بعدُ ما في أيدينا ممَّا حفِظتْه بطونُ كتبِ المناقب والفضائل والخصائص، ونقله الرواة والمؤرِّخون وكُتَّابُ السير من أهل الإسلام على اختلاف مذاهبهم، وأهوائهم ومشاربهم؛ لذا رغِبْنا أن نَعرض - وبشكلٍ مختصرٍ وعاجل - خصالاً اُخرى للإمام الحسينعليه‌السلام ، وهي:

1 - العَفْوُ الحُسَينِيّ

والعفو هو ضدُّ الانتقام، وهو إسقاطُ ما يستحقُّه من قصاصٍ أو غرامة(1) . وقد وردت في كتاب الله العزيز آيات كثيرة تدعو إلى العفو

____________________

(1) جامع السّعادات 1 / 301 - باب العفو.

٢٧٧

وترغِّبُ فيه، منها قولُه تعالى:( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) (1) ، وقوله (عزَّ مِن قائل):( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (2) ، وقولُه (عزَّ وجلَّ):( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (3) .

أمَّا من الأحاديث فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال:«العفوُ لا يزيد العبدَ إلاَّ عِزَّاً؛ فاعفُوا يُعزَّكمُ الله (4) . مَن عفا عن مظلمةٍ أبدله الله بها عزَّاً في الدنيا والآخرة (5) .عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعثني بها، وإنَّ مِن مكارم الأخلاق أنْ يعفوَ الرجلُ عمَّنْ ظلمَه، ويُعطيَ مَنْ حرمَه، ويَصلَ مَنْ قطعَه، وأنْ يعودَ مَنْ لا يعودُه» (6) .

ورُوي عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أنَّه قال:«العفوُ تاجُ المكارم (7) .شيئانِ لا يوزن ثوابهما؛ العفوُ والعدل» (8) .

وقال (سلام الله عليه):«أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويدُ الله بيده يرفعُه» (9) . كذا قال (صلوات الله عليه):«إنَّما ينبغي لأهل العصمةِ والمصنوعِ إليهم في السلامة أنْ يرحموا أهلَ الذنوب والمعصية، ويكونَ الشكرُ هو الغالبَ عليهم» (10) .

وجاء عنهعليه‌السلام أيضاً قولُه:«إذا قدرتَ على عدوّك فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرةِ عليه» (11) .

____________________

(1) سورة الأعراف / 199.

(2) سورة البقرة / 237.

(3) سورة النور / 22.

(4) جامع السّعادات 1 / 301.

(5) أمالي الطوسيّ 1 / 185.

(6) أمالي الطوسيّ 2 / 92.

(7) غرر الحكم / 32.

(8) غرر الحكم / 199.

(9) نهج البلاغة - الحكمة 20.

(10) نهج البلاغة - الخطبة 140.

(11) نهج البلاغة - الحكمة 11.

٢٧٨

وقوله:«بالعفوِ تنزل الرحمة» (1) .

والإمام الحسينعليه‌السلام هو الملبّي لنداء الله تعالى في كلِّ دعوةٍ إلى خُلُقٍ فاضلٍ حميد، وهو أتقى الناس وأولى منهم بالفضائل، ومنها العفو. وهو العزيزُ النفس والجانب بالعفوِ عن المخطئين، وغير ذلك من مكارمِ الأخلاق حتَّى عفا عمَّن ظلمَه، وأعطى مَنْ حرمه، ووصلَ مَن قطعهُ، وعادَ مَن لم يعدْه.

وقد أقالَ عثراتِ الناس جزاءً على مروءاتهم، ورحمةً بحالهم، وتجاوز بعصمته المقدّسة عن ذنوبهم ومعاصيهم، وكان قادراً أنْ يعاقب فعفا، كجدِّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال لأهل مكّة:«اذهبوا فأنتمُ الطلقاء» ، من بعد ما آذَوه أشدَّ الإيذاء.

وصدرَ عفوه عن مقدرة فكان أحسنَ العافين، وهو القائلعليه‌السلام :«إنَّ أعفى الناس مَنْ عفا عند قدرته» (2) .

روى ابنُ الصبَّاغ المالكيّ: جنى بعضُ أقاربه جنايةً تُوجب التأديب، فأمر بتأديبه، فقال: يا مولاي، قال الله تعالى:( والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .

قالعليه‌السلام :«خلُّوا عنه، فقد كظمتُ غيظي» .

فقال:( وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ) .

قالعليه‌السلام :«قد عفوتُ عنك» .

فقال:( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

قال:«أنتَ حُرٌّ لوجه الله تعالى» . وأجازه بجائزة سَنيّة(3) .

وفي رواية الإربلي في كشف الغمّة(4) : قالعليه‌السلام :«أنتَ حُرٌّ لوجه الله، ولكَ ضِعفُ ما كنتُ اُعطيك».

فكان عفوُ الحسين (سلام الله عليه):

أوَّلاً: مكافئة هنيئة على ذلك الغلام؛ لأنَّه استعانَ بالقرآنِ

____________________

(1) غرر الحكم / 148.

(2) الدرّة الباهرة / 24.

(3) الفصول المهمّة / 159، وسيلة المآل - لباكثير الحضرميّ / 183، والآية في سورة آل عمران / 34.

(4) ص 184.

٢٧٩

الكريم، وخاطب به سيّدَ الأخلاق معوِّلاً على كرمه وعفوه، فلم يُخيّبْه الإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه)، بل صفحَ عنه، ثمّ قدَّمَ له هديَّتينِ؛ الاُولى العتق، وأيُّ هديَّة تلك! والثانية عطاءٌ مضاعفٌ أو جائزةٌ سنيّة يستعين بها على العيش الحرّ الكريم.

فجمع الإمامُ الحسينعليه‌السلام أكثرَ مِن خلُق؛ العفو والتعليم والكرم، وتلك هي أخلاقُه (سلام الله عليه) متعدّدةٌ في الموقف الواحد، متداخلةٌ فيما بينها لا تدري أيّاً منها تُشير إليها.

ثانياً: كان عفوُ الحسينعليه‌السلام تأديباً وإصلاحاً لذلك الغلام، وإعطاءً لفرصةٍ يستدرك بها خطأَه، ويستفيد من رحمةِ الإمام الحسينعليه‌السلام وعفوه وحلمه.

ثالثاً: كان عفوه (سلام الله عليه) عن قدرة شكرَها لله تعالى بالعفوِ عن عباده، وإلاّ كان من حقّهعليه‌السلام أن يعاقب، إلاّ أنَّه اختار العفو بحكمته، وبلطفه ورحمته.

رابعاً: لم يكن عفوُهعليه‌السلام مجرَّد عفو، أي مجرَّد إسقاطِ حقٍّ من قصاص، بل كان إضافةً إلى ذلك صفحاً جميلاً، والصفحُ الجميل في قوله تعالى:( فاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (1) هو العفوُ من غير عتاب كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام (2) ، أو هو كما قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«عفواً مِن غير عقوبة، ولا تعنيف،

____________________

(1) سورة الحجر / 85.

(2) أمالي الصدوق / 45.

٢٨٠