الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42314
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42314 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أميرُ المؤمينن عليٌّعليه‌السلام :«طوبى لِمَنْ شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناس، وتواضع مِن غير منقصة، وجالس أهل الفقهِ والرحمة، وخالط أهلَ الذلِّ والمسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية» (1) .

والآن تعالوا نتأمّل في هذه الرواية لنرى هل تركَ الإمام الحسينعليه‌السلام شيئاً بعد (طوبى)؟

* روى الشيخ نصر بنُ محمد السمرقنديّ الحنفيّ في (تنبيه الغافلين)(2) ، عن سفيان بن مسعر قال: بلغني عن الحسين بن عليّ (رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما) أَنّه مرَّ بمساكينَ وهم يأكلون كسراً لهم على كساء، فقالوا: يا أبا عبد الله، الغداء.

فنزل وقالعليه‌السلام :«إنّه لا يحبّ اللَّهُ المستكبرين» . فأكل معهم، ثمّ قال لهم:«قد أجبتُكم فأجيبوني». فانطلقوا معه، فلمّا أتَوا المنزل قال لجاريته:«أخرجي ما كنتِ تدّخرين» .

ورواها ابو المؤيد الموفقُ بنُ أحمد الخوارزميّ في مقتل الحسينعليه‌السلام (3) بهذه الصورة: كان ( أي الحسينُ بنُ عليّعليه‌السلام ) يجالس المساكين ويقرأ:«إنّ اللَّه لا يحبّ المتكبّرين» (4) . ومرّ على صبيانٍ معهم كسرة، فسألوه أنْ يأكلَ معهم فأكل، ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم.

فلم يشتغل (سلام اللَّه عليه) - حاشاه - بنقصهم بل عيوبهم، وتواضع لهم مِن غير منقصة، بل عن رفعة، وجالسهم وهم أهل الرحمة، وخالطهم وهم أهلُ الفقر والمسكنة، وأنفق عليهم مِن مالٍ جمعه فوضعه في طاعةِ اللَّه سبحانه.

____________________

(1) بحار الأنوار 75 / 119، عن تفسير عليّ بن إبراهيم.

(2) ج 1 / 66 - طبعة القاهرة. والحنفيّ تعني حنفيّ المذهب، وكذا المالكيّ والشافعيّ إذا وردتْ ألقاباً لعلماء ذلك المذهب.

(3) ج 1 / 155 - مطبعة الغري.

(4) هذا نصُّهعليه‌السلام على ما هو منقول، وإلاّ فالآية( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) في سورة النحل / 23.

٣٠١

أضف إلى ذلك أنّه جمع إلى التواضع السخاء، وتلك هي أخلاق سيّدنا الإمام الحسينعليه‌السلام ، متعدّدةً في الموقف الواحد، متداخلةً مع بعضها، حتّى إذا تأمّلْتَها وجدتَها اكثَر مِن خلُقٍ طيّب.

بقيَ شيءٌ واحدٌ لم يكنْ للحسينعليه‌السلام في هذه الرواية، وهو مجالسةُ أهلِ الفقه؛ إذ هو الأفقه، وحيثما حَلّ بين الناس فقّههم بشريعة الإسلام وأخلاقهِ الفاضلة. نعم، جالسَ أخاه الإمام الحسنعليه‌السلام فكان عنده أكثَر المجالسين أدباً؛ حيث أجَلّ له إمامتَه. قال الإمام الباقرعليه‌السلام :«ما تكلّم الحسين بينَ يَديِ الحسن؛ إعظاماً له» .

وقد بادله الإمام الحسن (سلام اللَّه عليه)(1) هذا الأدب، فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيهما:«ابنايَ هذانِ إمامانِ قاما أو قعدا» (2) ؛ ولذا نقرأ في كتاب (التعازي) للسيد الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي: كان الحسنعليه‌السلام يعظّمُ الحسينعليه‌السلام حتّى كأنه هو أسنُّ منه. قال ابنُ عباس وقد سألتُه عن ذلك، فقال: سمعتُ الحسنَعليه‌السلام وهو يقول:«إنّي لأهابُه كهيبةِ أمير المؤمنين عليه‌السلام » (3) .

وبقيت سِمةُ التواضعُ عند الإمام الحسينعليه‌السلام خصلةً واضحة عرفها الناسُ فيه فأجلّوها، وحظيَ بها المؤمنون المخلصون لا سيّما شهداء كربلاء (رضوانُ اللَّه تعالى عليهم).

فساعةَ سقط (أسلم) - وهو مولىً له - في ساحةِ الطفّ شهيداً مشى إليه الإمام الحسين (صلوات اللَّه عليه) بنفسه الشريفة واعتنقه، وكان به رمق، فتبسّم

____________________

(1) المناقب 3 / 400.

(2) بحار الأنوار 43 / 278، عن المناقب.

(3) القطرة 1 / 181 الحديث - 16.

٣٠٢

أسلم وافتخر بذلك ومات. هنيئاً له أنْ حظِيَ بلطف سيّد شباب أهل الجنّة، ورحمته وتواضعه(1) .

وكان للإمام الحسينعليه‌السلام مولىً آخر هو (واضح التركي) (رضوان اللَّه تعالى عليه)، جاهد بين يدي الحسين (سلام اللَّه عليه) وقاتل أعداءَه، فلمّا صُرع على ساحةِ الشرف بكربلاء استغاث بالحسين، فأتاهعليه‌السلام واعتنقه، فقال واضح: مَنْ مثْلي وابنُ رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضعٌ خدَّه على خدي! ثمّ فاضتْ نفسُه الطاهرة(2) .

5 - الوفاء الحسيني

قال تعالى في محكم كتابه المجيد:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) (3) .( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4) .

وفي ظلّ هذه الآية الكريمة قال العلامة المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائي (المفسّر المعروف): يدلّ الكتاب على الأمر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كلَّ ما يصدقُ عليه العقدُ عُرفاً ممّا يلائم الوفاء... وكالعهد الذي يمكّن فيه العاهدُ المعهودَ له مِن نفسه فيما عهِدَه، وليس له أنْ ينقضَه.

وقد أكّد القرآن على الوفاءِ بالعقدِ والعهد بجميع معانيه، وفي جميع مصاديقه، وشدّد فيه كلّ التشديد، وذمَّ

____________________

(1) ذخيرة الدارين / 366.

(2) إبصار العين في انصار الحسينعليه‌السلام / 85، وفي مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 24: كان الغلام التركيّ من مَوالي الحسينعليه‌السلام قارئاً للقرآن عارفاً بالعربية، وقد وضع الحسينعليه‌السلام خدَّه على خدِّه حين صُرع، فتبسّم.

(3) سورة الإسراء / 34.

(4) سورة المائدة / 1.

٣٠٣

الناقضين للمواثيق ذمّاً بالغاً وأوعدهم إيعاداً عنيفاً، ومدح الـمُوفينَ بعهدهم إذا عاهدوا.

وأكّد اللَّهُ سبحانه على حفظ العهد والوفاء به، قال تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ، والآية تشمل العهدَ الفرديّ كما تشمل العهدَ الاجتماعي...؛ لذلك أتى الكتاب العزيز في أدقِّ موارده وأهونها نقضاً بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان، قال تعالى:( بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) ( سورة براءة / 1 - 3) إلى أن قال:( لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ ) (براءة / 10)، وقال:( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (براءة / 12).

وجُملةُ الأمر أنَّ الإسلام يرى حرمةَ العهد ووجوبَ الوفاء به على الإطلاق؛ سواء انتفع به العاهد أو تضرّر بعدما أوثق الميثاق؛ فإنّ رعايةَ جانبِ العدلِ الاجتماعيّ ألزمُ وأوجبُ مِن رعاية أيّ نفعٍ خاص إلاّ أنْ ينقضَ أحدُ المتعاهدينِ عهدَه؛ فللمتعاهد الآخَرِ نقضُه بمثل ما نقضَه، والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه(1) .

وقد وردتْ في شأن الوفاء جملةٌ من الأحاديث الشريفة، منها: قولُ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليوم الآخر فلْيفِ إذا وعد» (2) .

وقولُهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أقربُكم غداً

____________________

(1) تفسير الميزان - للعلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائي 5 / 158 - 160.

(2) تحف العقول / 38.

٣٠٤

منّي في الموقف أصدقُكم للحديث، وأدّاكُم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، وأحسنُكم خلُقاً، وأقربُكم من الناس» (1) .

وقول الإمام عليّ (صلوات اللَّه عليه):«الوفاء حفظُ الذمام. الوفاء حلية العقل وعُنوانُ النُّبل. الوفاء وفورُ الدين وقوّة الأمانة. نعم قرين الصدق الوفاء. أشرفُ الخلائق الوفاء» (2) .

وقولُ الإمام الصادقعليه‌السلام :«ثلاثةٌ لا عذر لأحدٍ فيها؛ أداءُ الأمانةِ إلى البَرّ والفاجر، والوفاءُ للبر والفاجر، وبرّ الوالدين برّينِ كانا أو فاجرين» (3) .

والإمام الحسينعليه‌السلام كجدِّه المصطفى وأبيه المرتضى (صلوات اللَّه عليهما وآلهما)، كان شديدَ الوفاء بالعهود؛ فالنبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي لليهودِ حين عاهدهم حتّى نقضوا عهدَه فحاربهم وأجلاهم بعد واقعة الخندق؛ حيث أغرى (حيُّ بنُ أخطب) زعيمَ بني قريظة كعبَ بنَ أسد وإخوانَه اليهود بنقضِ العهد مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقول بعد ذلك: لا عهدَ بيننا وبينكم ولا عقد.

وكذلك غدر بنو النضير وقينُقاع فأجلاهم رسولُ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة خيبر، وكان أقدر عليهم قبل غدرهم، إلاّ أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أوفى الناس مع الناس، فلمّا غدروا به أدّبهم، ولم يكن راغباً أنْ يبدأهم بقتال.

وبهذا عُرف أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه)، مثال ذلك ما جرى في معركةِ الجمل... قال عبد الله بن عباس:

____________________

(1) أمالي الطوسي 1 / 233.

(2) غرر الحكم / 56، 37، 33، 321، 86.

(3) الخصال / 66.

٣٠٥

فانصرفتُ إلى عائشة وهي في هودجٍ، وقد دُفّف بالدروعِ على جَمَلِها (عسكر)، وكعبُ بن شور القاضي أخذ بخطامه وحولها الأزد وضبّة، فلمّا رأتني قالتْ: ما الذي جاءَ بك يابنَ عباس؟ واللَّهِ لا سمعتُ منكَ شيئاً، ارجع إلى صاحبك ( تعني عليّاًعليه‌السلام ) وقُل له: ما بيننا وبينك إلاّ السيف.

وصاح مَنْ حولها: ارجع يابن عباس لئلاّ يُسفكَ دمُك.

قال ابنُ عباس: فرجعتُ إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فأخبرتُه الخبرَ، وقلت: ما تنتظر؟ واللَّهِ لا يُعطيكَ القومُ إلاّ السيف، فاحملْ عليهم قبل أنْ يحملوا عليك.

فقالعليه‌السلام :«نستظهرُ باللَّه عليهم» .

قال ابنُ عباس: فواللَّه ما رمتُ مِن مكاني حتّى طلع عليّ نشابُهم كأنه جرادٌ منتشر، فقلت: ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم؟! مُرنا ندفعهم.

فقال:«حتّى اُعذرَ إليهم ثانية» . ثمّ قال:«مَنْ يأخذ هذا المصحفَ فيدعوهم إليه وهو مقتول، وأنا ضامنٌ له على اللَّه الجنّة...» (1) .

والحسينعليه‌السلام هو شبلُ ذلك الأسد عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وفرعُ تلك الشجرة النبوية، والدوحةِ الهاشمية، خُلقُه خلقُهم؛ دليلُ ذلك تشابه المواقف: حين التقى جيش (الحرّ) في قرى الطفِّ بجيش الحسينعليه‌السلام قرأ الحرُّ الكتاب على الحسين، فقال لهعليه‌السلام :«دعْنا ننزلْ نينوى أو الغاضريّات أو شفية» .

فقال الحرّ: لا أستطيع؛ فإنّ الرجلَ عينٌ عَلَيّ(2) .

____________________

(1) الجمَل أو النُصرة في حرب البصرة - للشيخ المفيد / 181.

(2) الإرشاد - للشيخ المفيد / 227.

٣٠٦

قال زهيرُ بنُ القين: يابنَ رسول اللَّه، إنَّ قتالَ هؤلاء أهونُ علينا مِن قتالِ مَنْ يأتينا مِن بعدهم، فلَعمري ليأتينا ما لا قِبَلَ لنا به.

فقال له الحسينعليه‌السلام :«ما كنتُ أبدأهُم بقتال» (1) .

ويوم عاشوراء، وكان الإمام الحسينعليه‌السلام قد أمر بحفر خندقٍ خلفَ الخيام وإضرام النار فيه؛ لتتوحّدَ جبهة الحرب، وتُضمنَ سلامةُ الخيام. فأقبل أعداءُ اللَّه يجولونَ حول الخيام فيرونَ النارَ تضطرم في الخندق، فنادى شمر بنُ ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين، تعجّلتَ بالنار قبلَ يومِ القيامة!

فقال الحسينعليه‌السلام :«مَنْ هذا؟ كأنه شمرُ بنُ ذي الجوشن» .

قيل: نعم.

فقالعليه‌السلام :«يابنَ راعيةِ المعزى (2) !أنتَ أَولى بها مِنيّ صلِيّاً».

ورام مسلـمُ بنُ عوسجة (رضوان اللَّه عليه) أنْ يرميَه بسهم فمنعه الحسينعليه‌السلام ، وقال:«أكرهُ أنْ أبدأهم بقتال» (3) .

إنّه الحسين سبطُ المصطفى، وشبلُ المرتضى، ورضيعُ الزهراء، وسليل الوفاء، فما كان مِن عادته أنْ يغدرَ - حاشاه -، ولا أنْ يهمَّ بانتقام إلاّ أنْ يُضطَرَّ إلى دفاعٍ عن حرمة، وإنّما الذي غدر هو خصمُه؛ فذاك معاوية أبرم صلحاً مع الإمام الحسنعليه‌السلام ، ثمّ ما لبثَ قليلاً حتّى وقف على منبر الكوفة ليقول: ألا إنّ كلَّ مالٍ أو دمٍ اُصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكلُّ شرطٍ شرطتُه فتحتَ قدَمَيَّ هاتين(4) .

إلى غير ذلك مِن غدره بالصحابة الصالحين، وخيانته للإسلام

____________________

(1) المنتخب - للطريحيّ / 308.

(2) كأنها إشارة إلى مَنْ جاءتْ به وهي ترعى المعزى.

(3) تاريخ الطبري 6 / 242، والإرشاد / 234.

(4) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 16 / 15.

٣٠٧

والمسلمين، ثمّ جاءَ بعده ابنُه المشهور بفسقه ليواصل الفتْكَ والغدر والخيانة، فلم يتركْ حُرمة لهذا الدين ولا لهذه الاُمّةِ إلاّ هتكها؛ لأنّه ملِك جاءَ كأبيه معاوية ليتأمّر، وقد سمع أهلُ الكوفة معاويةَ يقول لهم مِن على المنبر:... وقد علمتُ أنّكم تصلّون وتُزكّون وتَحجّون، ولكنيّ قاتلتُكم لأتأمّرَ عليكم وعلى رقابكم...(1) .

وهل يُنتَظَر ممّنْ جاءَ بالسيف والإرهاب والغدر ليملك وليتسلط ويُصبح ملكاً أن يُخلص ويفي، وقد قال رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أقلُّ الناس وفاءً الملوك» (2) ؟! وهل يفي مَنْ خان وغدر ليصلَ إلى مركزٍ يستعلي فيه على الناس كمعاوية ويزيد؟! إنهما اُشربوا الغدر، وما أدراكَ ما الغدر؟! إنّه مجانبٌ للإيمان، مخالفٌ للتقوى، مُفصحٌ عن سوءِ الطبع ودناءةِ الخلق.

* عن الإمام عليٍّعليه‌السلام أنَّ رسولَ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له فيما عهد إليه:«وإيّاكَ والغدرَ بعهد اللَّه والإخفار لذمّته؛ فإنَّ اللَّه جعل عهدَه وذمّتَه أماناً أمضاه بين العبادِ برحمته. والصبرُ على ضيقٍ ترجو انفراجه خيرٌ مِن غدرٍ تخاف أوزارَه وتبِعاتِه وسوءَ عاقبته» (3) .

* وقال الإمام عليٌّعليه‌السلام :«إيّاكَ والغدر؛ فإنّه أقبحُ الخيانة. إنَّ الغدورَ لَمُهانٌ عند اللَّه بغدره» (4) . وقال (سلام اللَّه عليه):«الغدرُ شيمةُ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16 / 15.

(2) بحار الأنوار 77 / 112، عن أمالي الطوسي، وكنز الفوائد، ومعاني الأخبار، وغيرها من المصادر المعتبرة.

(3) مستدرك وسائل الشيعة - للميرزا حسين النوري 2 / 250.

(4) غرر الحكم / 76.

٣٠٨

اللئام» (1) . وعنه (صلوات اللَّه عليه):«الغدرُ بكلّ أحدٍ قبيح، وهو بذي القدرةِ والسلطان أقبح» (2) .

* وجاء عن مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال:«لا ينبغي للمسلمين أنْ يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا» (3) .

وقد غدر أهلُ الكوفة مِن بعد أنْ راسلوا الإمام الحسينعليه‌السلام ونكثوا عهودَهم معه، ثمّ أمروا بالغدر وقاتلوا مع الغدرة، وكان (سلام اللَّه عليه) قد أجابهم على رسائلهم - وهي آلاف - بأجوبة عديدة، منها: كتابُه إلى أهل الكوفة بشأن مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وهو:«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى الملأ مِنَ المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد، فإنَّ هانئاً وسعيداً قدِما عَلَيَّ بكتبكم، وكان آخِرَ مَنْ قدِمَ علَيَّ مَن رسُلِكم، وقد فهمتُ كلَّ الذي اقتصصتُم وذكرتُم، ومقالةُ جُلِّكم أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلَّ اللَّه يجمعُنا بكَ على الحقّ والهدى.

وإنّي باعثٌ اليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي مِن أهل بيتي مسلمَ بنَ عقيل؛ فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملأِكم، وذوي الحِجى والفضلِ منكم على مثلِ ما قدِمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم، فإنّي أقدِم إليكم وشيكاً إنْ شاء اللَّه؛ فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكمُ بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسَه على ذاتِ اللَّه. والسّلام»(4) .

فاذا وصل مسلم بنُ عقيل إلى الكوفة استقبله أهلُها أحسنَ استقبال وهو

____________________

(1) غرر الحكم / 15.

(2) غرر الحكم / 47.

(3) وسائل الشيعة - للحر العاملي 11 / 51.

(4) الإرشاد / 210.

٣٠٩

يقرأ عليهم كتابَ الحسينعليه‌السلام فيبكون، ويسارعون إلى مبايعته للحسينعليه‌السلام ، حتّى بلغ سجلُّ المبايعين ثمانية عشر ألفاً، وقيل: بايعه ثلاثون الفاً(1) . وقد كتب مسلم ذلك إلى الحسينعليه‌السلام .

وصلّتِ الآلاف خلفه، وما هي إلاّ سويعات حتّى تفرّق الناسُ حينما سمعوا بقدوم عبيد اللَّه بن زياد، فإذا بمسلم وحيداً يتلدّد في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب، وإنْ هي إلاّ ليلة ويُقتل غدراً في قصةٍ حكتِ البطولَة والفجيعة معا.

وأمّا الكتاب الآخر إلى أهل الكوفة فقد بعثه الإمام الحسينعليه‌السلام مع قيس بن مُسْهِر الصيداوي (رضوان اللَّه تعالى عليه)، وهو:«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى إخوانه المؤمنين المسلمين. سلامٌ عليكم، فإنّي أحمد إليكمُ اللَّهَ الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنَّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحُسْنِ رأيكم، واجتماع ملأكم على نصرنا، والطلب بحقّنا، فسألتُ اللَّهَ أن يُحسنَ لنا الصنع، وأنْ يُثيبَكم على ذلك أعظمَ الأجر.

وقد شخصتُ إليكم مِن مكّةَ يوم الثلاثاء لثمانٍ مضينَ مَن ذي الحجة [يوم التروية]، فإذا قدِم عليكم رسولي فاكتموا أمرَكم وجدُّوا؛ فإنّي قادمٌ عليكم في أيامي هذه إنْ شاء اللَّه تعالى. والسّلام» (2) .

ولم يقابل الإمام الحسينعليه‌السلام حالةَ الغدر بالانزواءِ أو الغدر، بل أقبل شجاعاً شهماً أشمَّ يقطع الصحارى والفيافي إلى كربلاء في مسيرةِ الإخلاص للَّه تعالى، والوفاء مع الناس؛ حيث عاهدهم على المجيء ليقطعَ الأعذار الكاذبة، ويسحق حالاتِ الخنوع والضعف والغدر والخيانة، وليثبّتَ القيمَ الإسلاميّة بدمائهِ الزاكية ودماءِ أهل بيته الأطهار وصحابته الأبرار، ولئلاّ

____________________

(1) تاريخ ابن الوردي 1 / 230.

(2) الحسينعليه‌السلام - لعلي جلال 1 / 196.

٣١٠

يقول أحد: خُذلنا ولم يأتِ إلينا مَنْ دعَوناه، وتخلّف عن إغاثتنا ونجدتنا إمامُنا.

فقد جاء إليهم وقدِم عليهم وفيّاً بعهوده، وإنّما الذي غدر وخذل وتخلّف وخانَ هُمْ؛ فقد كتبُوا إليه ثمّ انقلبوا عليه، يُنكرون ما أرسلوه إليه وهو يحمل رسائلهم في الخرج، ويشهرون سيوفَهم عليه وكان ينبغي أن تنحاز إليه على عدوّهم (يزيد).

وقد ذكّرهم مراراً، وأوخز ضمائرَهم علَّهم يتراجعون عن غيّهم وغدرهم. ففي (البيضة) خطب الحسينعليه‌السلام أصحاب الحرّ، فقال ضمنَ خطبته:«... ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزمُوا طاعة الشيطان، وتركوا طاعةَ الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرامَ اللَّه وحرّموا حلالَه، وأنا أحقُّ ممّنْ غيّر.

وقد أتتني كتبُكم، وقدِمتْ عليَّ رسلُكم ببيعتكم أنّكم لا تُسْلِموني ولا تخذلوني؛ فإنْ أتممتُم علَيَّ بيعتكم تُصيبوا رُشدَكم؛ فأنا الحسينُ بن عليّ، وابنُ فاطمة بنتِ رسول اللَّه، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ اُسوة.

وإنْ لم تفعلوا ونقضتُم عهدَكم، وخلعتُم بيعتي مِن أعناقكم، فلَعمري ما هي لكم بنُكر؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، فالمغرورُ منِ اغترّ بكم؛ فحظَّكم أخطأتُم، ونصيبَكم ضيّعتُم، ومَن نكثَ فأنما ينكث على نفسه، وسيُغني اللَّه عنكم، والسّلام عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته» (1) .

ولم يغترَّ الإمام الحسينعليه‌السلام بأهل الكوفة، وكيف يغترّ وقد غدروا قبل ذلك بأبيه وأخيه وابن عمّه مسلم بن عقيل؟! لكنّه كان قادماً على الشهادة التي بها حياة الدين، وعازماً على إحياء القيم والأخلاق والمبادئ

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 229، والكامل 4 / 21.

٣١١

الإسلاميّة بالدماء، وهو الذي أعلنَ عن مقتله قبل أنْ يتحركَ من المدينة، وعن قصّة الغدر التي ستكون.

في قصر بني مقاتل حين استقرّ المجلسُ بالحسينعليه‌السلام حمد اللَّه وأثنى عليه، وقال لابن الحرِّ:«يابنَ الحرّ، إنّ أهلَ مصركم كتبوا إليَّ أنّهم مجتمعون على نُصرتي، وسألوني القدومَ عليهم، وليس الأمرُ على ما زعموا» (1) .

ويوم العاشر من المحرّم خطب الإمام الحسينعليه‌السلام ... ثمّ نادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بنَ الأشعث، ويا زيد بنَ الحارث، ألم تكتبوا إليَّ أن اقدم؛ قد أينعتِ الثمار، و اخضرّ الجناب، وإنما تقدِم على جُندٍ لك مجنّدة؟» .

فقالوا: لم نفعل.

قال:«سبحانَ اللَّه! بلى واللَّهِ لقد فعلتُم» (2) .

وخطب خطبةً ثانية سألهم فيها عمّا أقدَمهم على قتله، فقالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :«تبّاً لكم أيّتُها الجماعةُ وترحاً! أحِينَ استصرختمونا والهين، فأصرخناكم مُوجفين، سللتُم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشَوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم؟!

فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسيفُ مشيم، والجأشُ طامن، والرأيُ لـمّا يُستحصف؟! ولكنْ أسرعتُم إليها كطِيرةِ الدّبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفَراش، ثمّ نقضتموها. فسُحقاً لكم ياعبيدَ الاُمّة، وشذّاذَ الأحزاب، ونبذَةَ الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعصبة

____________________

(1) نَفَس المهموم / 104.

(2) تاريخ الطبري 6 / 243.

٣١٢

الإثم، ونفثةَ الشيطان، ومُطفئي السُّنن!

ويْحكم! أهؤلاءِ تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجلْ واللَّه غدرٌ فيكم قديم، وشِجَتْ عليه اُصولُكم، وتأزّرت فروعُكم؛ فكنتم أخبثَ ثمرة شجىً للناظر وأكلةً للغاصب»(1) .

هكذا واجههم بشجاعة فريدة، فاضحاً لحالهم، مثبّتاً حُسْنَ الوفاء وقُبحَ الغدر ودناءةَ الغادر، فما كان منهم إلاّ أنْ هجموا عليه فقتل منهم خلْقاً، فعادوا عليه يستشعرون الضَّعةَ والصَّغارَ في أنفسهم؛ فشفعوا غدرتَهم تلك بغدرةٍ اُخرى حين سدّدوا إليه السهامَ مِن بعيد، ورموه بالحجارة مِن بعيد، فأصابتْ منه مواضعَ في بدنه الشريف جعلتْه يقع إلى الأرض بعد جهدٍ جهيد من قتال مرير، وعطشٍ شديد، ونزفٍ لم ينقطعْ أعياه.

فاذا سقط عادتْ إلى نفوس القوم قوّةُ غدرهم، فاقتربوا منهعليه‌السلام وأحاطوا به، وقد مكثَ طويلاً مِن النهار، ولو شاءَ أنْ يقتلوه لفعلوا، ولكنّهم كان يتّقي بعضُهم ببعضاً، ويُحبّ هؤلاء أنْ يكفيَهم هؤلاء، فنادى شمرٌ في الناس: ويحكم! ما تنتظرونَ بالرجل؟! اقتلوه.

فضربه ذرعةُ بنُ شريك على كتفه - أو على يده اليسرى -، وضربه آخَرُ على عاتقه، وطعنه سنانُ بنُ أنس بالرمح، ثمّ انتزعه فطعنه في بواني صدره، ثمّ رماه سنان أيضاً بسهم فوقع في نحره.

فنزععليه‌السلام السهمَ مِن نحره وقرنَ كفّيه جميعاً، فكلّما امتلأتا مِن دمائه خضّب بهما رأسه ولحيَته وهو يقول:«هكذا ألقى اللَّه مخضّباً بدمي، مغصوباً على حقّي» .

فقال عمر بنُ سعد لرجلٍ عن يمينه: انزلْ - وَيْحك! - إلى الحسين فأرِحْه.

فبدر اليه خولّى بنُ يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسَه فاُرعد، فنزل إليه سنان بن أنس النخعي فضرب بالسيف حلْقَه الشريف... حتّى قتلوه.

____________________

(1) اللهوف / 54، و تاريخ دمشق - لابن عساكر 4 / 333، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 6.

٣١٣

جاء عن الإمام المهديّ (عجّل اللَّه تعالى فرَجَه) في زيارته لجدّه الإمام الحسينعليه‌السلام المسمّاة بـ(زيارة الناحية المقدّسة):«السّلام على الحسين الذي سمحتْ نفسه بمهجته، السّلام على مَنْ أطاع اللَّه في سرّهِ وعلانيته... السّلام على الشيب الخضيب، السّلام على الخدِّ التريب، السّلام على البدنِ السليب، السّلام على الثغر المقروع، السّلام على الرأس المرفوع... إلى أن يقول:والشمرُ جالسٌ على صدرِك، مولعٌ سيفَه في نَحْرِك، قابضٌ على شيبتكَ بيده، ذابحٌ لك بمهنّده، قد سكنت حواسُّك، وخِفيت أنفاسُك، ورُفع على القنا رأسك...».

لم أنسَهُ والشمرُ مِن فوقِ صدرِهِ

يُهشّمُ صدراً وهو للعلمِ مَجمعُ

ولم أنسَ مظلوماً ذبيحاً من القَف

وقد كان نورَ اللَّه في الأرض يسطعُ

يقبّله الهادي النبيُّ بنحرِهِ

وموضعُ تقبيلِ النبيِّ يُقطَّعُ

آهٍ آه على أهلِ العلم والحِجى! والنبلِ والوفا، آهٍ آه!

نعى الروحُ جبريلٌ بأنَّ ذوي الغدْرِ

أراقوا دمَ الـمُوفينَ للَّهِ بالنَّذْرِ

نعى ذاتَ قُدسٍ يعلـمُ اللَّهُ أنّه

منزّهةُ الأفعالِ في السِّرِ والجهرِ

نعى ساجداً صلّتْ إلى اللَّهِ روحُه

قضى رأسُه المرفوعُ من سجدةِ الشكرِ

نعى شاكراً نال الشهادةَ صابر

وقد يُجتنى شَهدُ العواقبِ بالصبرِ(1)

____________________

(1) هذه المشاهد والأشعار نقلناها من كتاب (اللهوف) / 54، و(العيون العبرى) / 185 - 189.

٣١٤

الفضائل الحسَينيّة

٣١٥

٣١٦

الفضائل الحسَينيّة

في شخصيّة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام تجلّتْ جميع المعاني الشريفة والقيمِ الرفيعة والصورِ الإنسانيّة النبيلة، فأصبح (سلام اللَّه عليه) مظهرَ الفضائل، وعنوانَ الخصال الطيّبة التي ترتاح لها النفوسُ السويّة، والفِطَرُ السليمة، والقلوبُ الُمحبّةُ للخير، والضمائر الحيّة، والعقول الباصرة.

ولقد وقف التاريخ للإمام الحسينعليه‌السلام إجلالاً وإكباراً وإعظاماً، ونظر إليه - وما زال - نظراتِ الإعجابِ والتوقير والإكرام؛ اِذْ شهد له أنّه كان الفريدَ بين الخلْق في سماته وفي ملَكاته، فهابه الأشراف، واحتارتِ الألسن أنْ تذكر ما عنده مِن كرائم الأوصاف.

إنّه الحسينعليه‌السلام موضعُ عناية الباري، ليُصبح للعالم قُدوة تنجذب إليها كلُّ نفس تتوق إلى الفضيلة، ويتأسّى بها كلُّ مَنْ رامَ الحقَّ والعدلَ والشرف.

إنّه الحسينعليه‌السلام الذي ملأَ الآفاقَ بالحسراتِ عليه والشوق إليه؛ حيث هو محلُّ معرفةِ اللَّه، ومسكنُ بركة اللَّه، ظُلِم فعظُمتْ رزيّتهُ؛ فخلّفَ عليه عبْرَ التاريخ وعلى امتداد الزمن آهاتٍ لا تنقطع، ودموعاً مِن عينِ كلِّ عارفٍ بشأنه متفجِّع.

ولكي نزداد معرفةً ونزداد بركةً بالإمام الحسين (صلوات اللَّه عليه) دعونا نقف عند النصوص التي ذكرتْه، نبتدئ بأشرفها وهي آياتُ الكتاب الحكيم.

٣١٧

1 - قال اللَّه الرحيم في محكم تنزيلهِ الكريم:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) .

والآية وثيقةٌ إلهيّةٌ، وشهادةٌ عُلْويّة تثبّتُ وسامَ المقامِ السامي الذي يحظى به أهلُ البيت (سلام اللَّهِ عليهم أجمعين)، ومنهم الإمام الحسين (عليه أفضلُ الصلاةِ والسلام)؛ إذِ الآيةُ الكريمة - كما ذكر أهلُ الصحاح - في مقام دعاءِ النبيّ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أنْ جلَّل عليّاً وفاطمةَ والحسن والحسين (عليهم السلام) بكسائه، ثمّ قال:«اللّهمَّ هؤلاءِ أهل بيتي فأَذهِبْ عنهمُ الرجسَ وطهِّرهم تطهيراً» .

يراجع في ذلك صحيح مسلم (فضائل الصحابة)، وصحيح الترمذي (الجزء الثاني)، ومسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الصحيحين، ومجمع البيان، وغيرها مِن كتب التفسير والحديث والسيرة.

2 - وقال (تبارك وتعالى):( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (2) .

وقد أجمعَ أهلُ التفسير، ومنهم: الزمخشريّ في (الكشّاف)، والفخرُ الرازي في (التفسير الكبير)، والسيوطي في (الدرّ المنثور)، وأهلُ الحديث، ومنهم: مسلم في (الصحيح)، وأحمد بن حنبل في (الـمُسند)، والترمذي في (السُّنن)، وغيرُهم، أجمعوا على أنَّ الآية الكريمة نزلتْ بعد اتّفاق لنصارى نجران مع رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يبتهلوا إلى اللَّه تعالى لِيُهلِكَ مَنْ كان في دعوته على الباطل.

وفي يوم الموعد خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للمباهلة محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وابنتهُ فاطمة تسير خلْفَه، وعليٌّ

____________________

(1) سورة الأحزاب / الآية 33.

(2) سورة آل عمران / الآية 61.

٣١٨

يمشي خلفَهم، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:«إذا دعوتُ فأَمِّنُوا» .

فما أنْ رأى نصارى نجران تلكَ الوجوه البهيّة حتّى اعتذروا إلى رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المباهلة، وهي لعن الكاذب بعد أنْ دعاهُم النبيُّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشهادتين، وأنَّ عيسىعليه‌السلام عبدٌ مخلوق يأكلُ ويشرب ويحدث، فأَبَوْ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«فلْيُحْضِرْ كلٌّ منّا ومنكم نفسَه وأعزّةَ أهله فندعوا على الكاذبِ من الفريقين».

وأخيراً زحف الخوفُ إلى نفوس النصارى وانسحبوا عن المباهلة راضين بالجزية، منصرفين بالخزي والخيبة، معتقدين أنَّ الخمسة المباهلين هم أولياءُ اللَّه.

3 - وقال (عزَّ مِن قائل):( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

جاء في مسند أحمد بن حنبل، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وتفسير الثعالبي، وتفسير الطبرسي، عن ابن عباس (رحمه اللَّه) أنّه قال: لـمّا نزل قوله تعالى:( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قالوا: يا رسول اللَّه، مَنْ قرابتُك الذين وجبتْ علينا مودّتُهم؟

قال (صلوات اللَّه وسلامُه عليه وآله):«عليٌّ وفاطمة وابناهما».

وفي أسباب النزول، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال في حديثٍ طويل:«فلمّا رجع رسولُ اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) مِن حجّة الوداع، وقدِم المدينة، أتتْه الأنصارُ فقالوا: يا رسول الله، إنّ اللَّه (جَلّ ذِكْرُه) قد أحسنَ إلينا وشرّفنَا بك وبنزولك بين ظهرانين؛ فقد فرّح اللَّهُ صديقَنا، وكبتَ عدوّنا (أي أذلّه وأخزاه)،وقد تأتيك وفودٌ فلا تجد ما تُعطيهم فيشمت بك العدوّ، فنُحبّ أنْ

____________________

(1) سورة الشورى / الآية 23.

٣١٩

تأخذ ثُلُثَ أموالنا حتّى إذا قدِم عليك وفدُ مكةَ وجدتَ ما تُعطيهم.

فلم يردَّ رسولُ اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم شيئاً، وكان ينتظر ما يأتيه مِن ربّه، فنزل جبرئيلُ عليه‌السلام وقال: ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ،ولم يقبلْ أموالهم» (1) .

وأمّا أحاديثُ النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن الإمام الحسينعليه‌السلام فهي وافرة وفيرة لا يجمعها كتابٌ واحد، وقد اُفردتْ لها فصولٌ عديدة، بل كتبٌ مفصلّة. ونحن إذْ يفوتُنا الكثير لا نعذر أنفسَنا عن ذكْرِ اليسير،فما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترك كلُّه .

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«حسينٌ منّي وأنا مِن حسين، أحَبَّ اللَّه مَنْ أحبَّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط» (2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنّ ابني هذا يُقتل بأرضٍ مِن أرض العراق، فمَنْ أدركه فلْينصرْه» (3) .

وعن أبي هريرة قال: نظر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليٍّ والحسن والحسين وفاطمةعليهم‌السلام ، فقال:«أنا حربٌ لمَنْ حاربكم، وسلمٌ لمن سالمكم» (4) .

وعن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسولُ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1) تفسير نور الثقلين - للمحدث الشيخ الحويزي 4 / 573 - الحديث 73.

(2) صحيح الترمذي 2 / 307، وصحيح ابن ماجه - باب فضائل أصحاب رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسند أحمد بن حنبل 4 / 172، واُسد الغابة - لابن الأثير 2 / 19، وكنزالعمال 7 / 107 وغيرها.

(3) اُسد الغابة 1 / 123، 249، والإصابة - لابن حجر 1 / 68، وكنز العمال 6 / 223، والمحبّ الطبري في ذخائر العقبى / 146 وغيرها.

(4) مسند أحمد بن حنبل 2 / 442.

٣٢٠