الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 42309
تحميل: 8712

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42309 / تحميل: 8712
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سمعان، فأخرج خُرجَينِ مملوءينِ كتباً(1) . وهي كتبُ أهلِ الكوفة تشكو للحسينعليه‌السلام ظلمَ يزيد، ويَدعونه للقدومِ عليهم ليكونَ إمامَهم. وقد جاء الإرشادُ الحسينيّ كاشفاً للحقيقة، ومُلزِماً لاتِّباعِ الحقّ.

وفي (البيضة) قال لهمعليه‌السلام :«أيُّها الناس، إنَّ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً عهدَه، مخالفاً لسُنَّةِ رسولِ الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّرْ عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخلَه مُدخلَه.

ألاَ وإنَّ هؤلاءِ قد لزِموا الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلالَه، وأنا أحقُّ ممَّن غيَّر. وقد أتتْني كتبُكم، وقدِمتْ عَلَيَّ رسلُكم ببيعتكم أنّكم لا تُسْلموني ولا تخذلوني، فإن أتممتُم عَلَيَّ بيعتَكم تُصيبوا رُشدَكم؛ فأنا الحسينُ بنُ عليّ، وابنُ فاطمةَ بنتِ رسول الله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم فِيَّ اُسوة» (2) .

ولا يردُّ الوصايا الحسينيّة إلاّ معاندٌ منكرٌ للواقع، أمّا طُلاّبُ الحقيقة فقد استقرَّتْ عليها ضمائرُهم فبادروا إلى التوبة، ونقلوا رحالَهم إلى معسكر الحسينعليه‌السلام يقاتلون دونه، وكان سيَّدَهم في هذا الموقف الحرُّ بنُ يزيدٍ الرياحيّ؛ حيث ضربَ جوادَه نحو الحسينعليه‌السلام (3) منكّساً رمحه، قالباً ترسَه، وقد طأطأ برأسهِ حياءً من آل الرسول، رافعاً صوتَه:

____________________

(1) الإرشاد - للشيخ المفيد، والمناقب - لابن شهر آشوب 2 / 193.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 229، والكامل 4 / 21.

(3) تاريخ الطبريّ 6 / 244.

٦١

يا أبا عبد الله، إنَّي تائبٌ، فهل لي من توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام :«نعم، يتوب الله عليك» (1) .

فسَرّه قولُه، وتيقّن النعيمَ الدائم. ولم يكتفِ بذلك حتّى استأذنَ الحسينَعليه‌السلام في أن يكلِّم القوم، فأذِنَ له، فنادى بعسكر عبيد الله يعِظُهم ويبيّن لهم الحقّ، إلاّ أنَّ القوم حملوا عليه بالنبل.

ولم يكتفِ بهذا أيضاً حتّى نزل إلى ساحة المعركة يدافع عن الإمام الحقّ أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، فقَتل من أعداءِ الله نيّفاً وأربعين، ثمّ شدّتْ عليه الرجّالةُ غدراً فصرعتْه، فأبَّنَه الحسينُعليه‌السلام ، وقد حزن عليه، فقال:«قتْلةٌ مثْلُ قتلةِ النبيِّين وآلِ النبيِّين» . ثمّ التفتَ إلى الحرّ - وكان به رمق - فقالعليه‌السلام له وهو يمسح الدمَ عنه:«أنت الحرُّ كما سمَّتْكَ اُمُّك، وأنت الحرُّ في الدنيا والآخرة» (2) .

* ولكي لا يَدَّعِيَ أحدٌ أنَّ الأمر التبس عليه، أقام الإمامُ الحسينعليه‌السلام على القوم حُجَجَه بالغةً بيِّنة؛ فخرج إليهم في ساحة كربلاء ممتطياً فرسَ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أخذ مصحفاً ونشرَه على رأسه، فوقف بأزاءِ القوم وقال:«يا قوم، إنَّ بيني وبينكم كتابَ الله، وسُنَّةَ جدِّي رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

ثمّ قالعليه‌السلام :«اُنشدكمُ الله، هل تعرفونني مَن أنا؟».

قالوا: أنت ابن رسول الله وسبطُه.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ جدِّي رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟».

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ أبي عليُّ بنُ أبي طالب؟».

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ جدَّتي خديجةُ بنتُ خويلد؟» .

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله،

____________________

(1) اللهوف / 58، وأمالي الصدوق / 97، وروضة الواعظين - للنيسابوريّ / 159.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 111.

٦٢

هل تعلمون أنَّ سيّد الشهداء حمزةَ عمُّ أبي؟» .

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ الطيَّارَ في الجنَّة عمّي؟» .

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ هذا سيفُ رسول اللَه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا متقلّدُه؟» .

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ هذه عمامةُ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا لابسُها؟».

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«اُنشدكمُ الله، هل تعلمون أنَّ عليّاً كان أوَّلَ القوم إسلاماً، وأعلمَهم علْماً، وأعظمَهم حِلْماً، وأنَّه وليُّ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة؟».

قالوا: اللهمَّ نعم.

قال:«فَبِمَ تستحِلُّونَ دمي، وأبي الذائدُ عن الحوض يذودُ عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء؟!».

قالوا: قد علمنا ذلك، ونحن غيرُ تاركيكَ حتّى تذوقَ الموتَ عطشاً.

فقالعليه‌السلام :«تَبَّاً لكم أيَّتُها الجماعةُ وترَحاً! أحين استصرختمونا والِهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على عدوِّنا وعدوِّكم، فأصبحتُم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشَوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم! فهلاّ - لكمُ الويلات! -... إلى أن قالعليه‌السلام :ويحكم! أهؤلاءِ تعضدون وعنَّا تتخاذلون؟! أجل والله غدرٌ فيكم قديم، وشجتْ عليه اُصولُكم، وتأزَّرتْ فروعُكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً للغاصب.

ألاَ وإنَّ الدَّعِيَّ ابنَ الدعيِّ قد ركزَ بين اثنتين؛ بين السِّلَّةِ والذِّلَةِ، وهيهات منَّا الذلَّة! يأبى الله لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ وطَهُرَتْ، واُنُوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيَّة مِن أن نُؤْثِرَ طاعةَ اللئامِ على مصارعِ الكرام...» .

ثمَّ قالعليه‌السلام :

فإن نهزِمْ فهزَّامونَ قِدْم

وإن نُهزَمْ فغيرُ مُهزَّمينا

٦٣

وما إن طَبَّنا جبنٌ ولكن

منايانا ودولةُ آخَرينا

إذا ما الموت رفّع عن اُناسٍ

كلاكلَه أناخَ بآخَرينا

فأفنى ذلكم سَرواتِ قَومي

كما أفنى القرونَ الأوَّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدْن

ولو بقيَ الكِرامُ إذاً بقينا

فقلْ للشامتين بنا أَفيقو

سيلقى الشامتون كما لقِينا

ثمّ قالعليه‌السلام :«أمَا والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس حتّى تدورَ بكم دَورَ الرحى، وتعلقَ بكم قلق المحور...» (1) .

وكانت موعظةً بالغةَ الحُجَّة، مُخبرةً عن الحال والمآل، فيها التذكرة لمن أراد أن يذّكّر، أو كان له قلب أو ألقى السمعَ وهو شهيد. وكان فيها تثبيتٌ للأخلاق الطيّبة؛ الوفاء، وإغاثة الملهوف إذا استصرخ، والعزّةُ والإباء، كما أنَّ فيها ذمّاً للأخلاق الشيطانيّة؛ الغدر، ونكث العهود، والتخاذل، والانحياز إلى الظالمين.

ولقد كانت أخلاقُ الإمام الحسينعليه‌السلام من السموّ أن نصحَ أعداءه، ووعظَ قاتليه؛ فيوم عاشوراء، وبعد أن صفَّ ابنُ سعد أصحابَه للحرب، دعا الحسينعليه‌السلام براحلته فركِبَها، ونادى بصوتٍ عالٍ يسمعُه جُلُّهم:«أيُّها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعِظَكم بما هو حقٌّ لكم عَلَيَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي هذا واُعذرَ فيكم؛ فإن قبلتم عذري، وصدّقتُم قولي، وأعطيتموني النَّصَفَ من أنفسكم كنتم بذلك أسعدَ، ولم يكن لكم عَلَيَّ سبيل...».

____________________

(1) اللهوف / 56، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 8.

٦٤

ثمّ قال:«الحمد لله الذي خلقَ الدنيا فجعلَها دارَ فناءٍ وزوال، متصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرورُ مَن غرَّتْه، والشقيُّ مَن فتنتْه، فلا تغرَّنَّكم هذه الدنيا؛ فإنَّها تقطعُ رجاءَ مَن ركنَ إليها، وتخيّب طمعَ مَن طمعَ فيها.

وأراكم قدِ اجتمعتُم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرضَ بوجههِ الكريمِ عنكم، وأحلَّ بكم نقمتَه، وجنَّبكم رحمتَه، فنِعمَ الربُّ ربُّنا، وبئس العبيدُ أنتم! أقررتُم بالطاعة، وآمنتُم بالرسولِ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنَّكم زحفتُم إلى ذرّيّته وعترته تُريدون قتلَهم! لقدِ استحوذ عليكمُ الشيطانُ فأنساكُم ذكْرَ الله العظيم. فتبَّاً لكم ولِما تُريدون! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هؤلاءِ قومٌ كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين!

أيُّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلُّ لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألستُ ابنَ بنْتِ نبيّكم، وابنَ وصيّهِ وابن عمّه، وأوّلِ المؤمنين بالله، والمصدِّق لرسولهِ بما جاء من عند ربِّه؟! أَوَ ليس حمزةُ سيّد الشهداءِ عمَّ أَبي؟! أَوَ ليس جعفر الطيَّار عمّي؟! أَوَ لم يبلغْكمْ قولُ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي: هذان سيّدا شبابِ أهلِ الجنَّة؟!

فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ، فَوَالله ما تعمّدتُ الكذِبَ منذُ أن علمتُ أنَّ الله يمقتُ عليه أهلَه، ويضرُّ به مَنِ اختلقه، وإن كذّبتموني فإنَّ فيكم مَن إذا سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابرَ بنَ عبدِ الله الأنصاريّ، وأبا سعيدٍ الخُدْريّ، وسهلَ بنَ سعدٍ الساعديّ، وزيدَ بنَ أرقم، وأَنَسَ بنَ مالك يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!...».

ثمّ قالعليه‌السلام :«فإن كنتم في شكٍّ من هذا القول، أفتشكّون في أنّي ابنُ

٦٥

بنتِ نبيّكم؟... ويحكم! أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالٍ لكمُ استهلكتُه، أو بقصاص جراحة؟!».

فأخذوا لا يُكلِّمونه(1) ، بل أجابوه بالغدر، وأرسلوا له سهامَهم الخبيثة بعد أن أرسلَ لهمُ الحكمةَ والموعظة الحسنة.

وقام لسانُ الله يخطبُ واعظ

فصمّوا لِما عن قُدسِ أنواره عَمُوا

وقال انسبوني مَن أنا اليومَ وانظرو

حلالٌ لكم منّي دمي أم محرّمُ

فما وجدوا إلاّ السهامَ بنحرِه

ترشّى جواباً والعوالي تقوّمُ(2)

ولقد أجاد مَن وصفَ فقال:

لم أنْسَه إذْ قام فيهم خاطب

فإذا همُ لا يملكون خطابا

يدعو ألستُ أنا ابنَ بنتِ نبيِّكمْ

وملاذَكم إن صَرْفُ دهرٍ نابا

هل جئتُ في دين النبيِّ ببِدعةٍ

أم كنتُ في أحكامِه مُرتابا

أم لم يُوصِّ بنا النبيُّ وأودعَ الـ

ـثقلينِ فيكم عِترةً وكتابا

إن لم تَدينوا بالمعادِ فراجعو

أحسابَكم إن كنتمُ أعرابا

فغدَوا حيارى لا يرونَ لوعظهِ

إلاّ الأسنّةَ والسِّهامَ جوابا(3)

وهذا عمرُ بنُ سعد رأسُ الخيانة، يجنّد الجُند ليتقدّم على ذرّيّة رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛

____________________

(1) الإرشاد / 216، تاريخ الطبري 6 / 243.

(2) من قصيدة للمرجع الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(3) ديوان السيّد رضا الهنديّ الموسويّ / 42.

٦٦

يقتل رجالَهم، ويسبي نساءهم، ويُرعب أطفالَهم، والحسين (سلام الله عليه) يعلم بنيّته، ولكنَّ الأخلاق الحسينيّة تُسدي الخيرَ إلى كلّ أحد.

وقد علمنا أنّه سمع رجلاً عنده يقول: إنَّ المعروفَ إذا اُسديَ إلى غير أهله ضاع، فقال له الحسينعليه‌السلام :«ليس كذلك، ولكن تكونُ الصنيعةُ مثْلَ وابلِ المطر، تُصيبُ البرَّ والفاجر» .

وقد بقيَ الإمامُ الحسينعليه‌السلام وبعد سنينَ طويلة عند كلمته تلك؛ فيومَ عاشوراء استدعىعليه‌السلام عمرَ بنَ سعد فدُعي له، وكان كارهاً لا يُحبّ أن يأتيَه، فقال:«أيْ عمر! أتزعمُ أنّك تقتلُني ويُولّيك الدعيُّ بلادَ الريِّ وجُرجان؟! والله لا تهنأُ بذلك؛ عهدٌ معهود، فاصنعْ ما أنت صانع؛ فإنَّك لا تفرحُ بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسكَ على قصبةٍ يتراماهُ الصبيانُ بالكوفة، ويتّخذونه غرضاً بينهم» . فصرف بوجهه عنه مغضِباً(1) .

لقد وعظَه الإمامُ الحسينعليه‌السلام فأبلغ، وأخبرَه بما نوى، وما عليه حالُه، وما هو إليه في الغدِ مآلُه، إلاّ أنَّ الموعظةَ البالغةَ لا تنفع مَن شرح بالكفرِ صدراً، وعميتْ عينُه عن الآخرة فلم يعدْ يرى إلاّ الدنيا، ومات ضميره وقسى قلبه، واستبدّ به الطمع إلى حدٍّ فقد عاطفتَه.

فمِن أجل اُمنيةٍ لا يدري تتحقّق أم لا لا يتورّع عن قتل الأولياء والأبرياء، وهتك الحُرمات! وقد أخبره السبطُ الحسينعليه‌السلام أنّه لن يحصل على ما أمَّلوه. وعمرُ بنُ سعد يعلم يقيناً أنَّ ابنَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ولن يكذب، ولكنَّ نفسَه الشرهةَ لم تُمهلْه ساعةً يتدبّرُ فيها فيرجع عمّا أقدم عليه.

أمّا الحسين (سلام الله عليه)

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 8.

٦٧

فقد أوقفه على المحجّة البيضاء هو ومَن معه؛ ذلك( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

وذاك الشمرُ بنُ ذي الجوشنرأسُ البغض على آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأتي بفتنةٍ ليشقّ صفَّ معسكر الحسينعليه‌السلام ، فيصيح بأعلى صوته: أين بنو اُختنا؟ أين العبّاسُ وإخوته؟ وقد جاء لهم بالأمان من عبيدِ الله بن زياد إذا هم تركوا أخاهمُ الحسينعليه‌السلام وانصرفوا. وكان له رحِمٌ بهم، إلاّ أنَّ العبّاسَ وإخوته أعرضوا عن الشمر.

وهنا يظهر الخلُقُ الحسينيّ، فيعطي الفرصةَ لعدوّه كيما يقولَ ما يريد، فيقولعليه‌السلام للعبّاس وإخوته:«أجيبوهُ ولو كان فاسقاً» .

فقالوا لشمر: ما شأنك وما تُريد؟

قال: يا بني اُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعةَ... يزيد.

فقال العبّاس - وهو الذي تعلّم الإباء والوفاء من إمامه وأخيه الحسينعليه‌السلام -: لعنك الله ولعنَ أمانَك! أتُؤمننا وابنُ رسولِ الله لا أمانَ له؟! وتأمُرنا أن ندخلَ في طاعةِ اللُّعناء وأولادِ اللعناء(2) ؟!

وكان نصيبُ سيّد شباب أهل الجنَّة (سلام الله عليه) من القوم الذين وعظهم أن قال عمرُ بنُ سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه.

فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتّى تخالفتْ بين أطناب المخيّم، فدُهشتِ النساءُ واُرعبن، فحمل عليهم كالليث الغضبان، فلا يلحقُ أحداً إلاّ بَعَجَه بسيفه فقتله، والسهامُ تأخذُه من كلِّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره(3) .

____________________

(1) سورة الأنفال / 42.

(2) تذكرة خواصّ الاُمَّة / 142، ومثير الأحزان - لابن نما / 28.

(3) مثير الأحزان - للشيخ شريف آل صاحب الجواهر.

٦٨

ثمّ رجع إلى مركزه يُكثر من قول:«لا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله العظيم» (1) .

حتّى إذا اشتدّ به العطش، ورماه أبو الحتوف الجعفيّ بذلك السهم المشؤوم في جبهته الشريفة، وقف يستريح بعد أن ضعف عن القتال، فرماه رجل بحجرٍ على جبهته المقدّسة، ورماه آخر بسهم محدّدٍ له ثلاثُ شعب وقع على قلبه، فقال:«بسم الله وبالله، وعلى ملَّةِ رسول الله» .

ثمّ هوى على الأرض، وبقيَ مطروحاً مليّاً، فأخذ القومُ كلُّ قبيلةٍ تتّكل على غيرها، وتكره الإقدامَ على قتله(2) . هنا صاح الشمر: ما وقوفُكم، وما تنتظرون بالرجل وقد أثخنتْه السهام والرماح؟! احملوا عليه(3) .

وكان هذا هو نصيب السبط الحسينعليه‌السلام من القوم الذين دلَّهم على مرضاة الله، وبالغ في وعظهم، فما أن قال الشمر: احملوا عليه، حتّى أسرع زرعةُ بنُ شريك فضربه على كتفهِ الأيسر، ورماه الحصينُ في حلقه(4) ، وضربه آخَرُ على عاتقه، وطعنه سنانُ بنُ أنس في تُرقوته، ثمّ في بواني صدره، ثمّ رماه بسهمٍ في نحره(5) ، وطعنه صالحُ بنُ وهب في جنبه(6) .

وكان ما كان فيما بعد على يد ذلك الثعلبيّ (الشمر)، يصوِّرُ ذلك الشاعرُ المسيحيّ پولس سلامة، فيقول:

____________________

(1) اللهوف / 67.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 259.

(3) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 35.

(4) الإتحاف بحبّ الأشراف - للشبراويّ / 16.

(5) اللهوف / 70.

(6) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 25.

٦٩

صاح شمرٌ بالناس هيّا اقتلوهُ

أتُراكم أصبحتمُ رحماءَا

قام بالسيف زرعةُ بنُ شَريكٍ

شرَّ مَن أنبتَ الورى لُؤماءَا

ضربَ الكِتْفَ والترائبُ حنّتْ

كحنين الناعورِ يُرخي الدَّلاءَا

ندَّ عَن دوحةِ الأكارمِ غصنٌ

دونه كلُّ روضةٍ غنَّاءَا

وتلاهُ بطعنةٍ (نُخعيٌّ)

فأطنَّتْ فقارَه والصلاءَا

تبِعتْها شِفارُهم تتوالى

كالزَّنابيرِ تطلبُ الحلواءَا

مالتِ الدوحةُ الرفيعةُ فانْه

رتْ قواها وهزّتِ البيداءَا

وانبرى الشمرُ يذبح السبطَ ذبح

ليتَ كانتْ يمينُه شلاّءَا(1)

____________________

(1) ديوان عيد الغدير / 316.

٧٠

السخاوة الحسينيّة

٧١

٧٢

السخاوة الحسينيّة

السخاء خُلقٌ من أخلاق الأنبياء على نبيّنا وآلِه وعليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام، قال تعالى:( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) (1) . والرسولُ الكريمُ هنا هو موسى (سلام الله عليه).

وقال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (2) . وهنا المراد به المصطفى محمّد (صلَّى الله عليه وآلِهِ) الذي جمع الشمائلَ الشريفة كلَّها، وكان منها الكرم المادّيُّ والمعنويّ، في الأقوال والأفعال والصفات.

والسخاء خلُقٌ يُحبُّه الله (جلَّ وعلا)، ويدعو عبادَه إليه، فقال عزَّ مِن قائل:( وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (3) . وفي الحديث الشريف قال النبيُّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«خُلقانِ يُحبّهما الله، وهما حُسْنُ الخلُق، والسخاء» (4) .

ومع أنَّ السخاءَ من حُسْنِ الخلُق، إلاّ أنّه جاء مُميَّزاً معتنىً به، مُفرداً له لفظٌ، ومعدوداً من بين خلُقَينِ يُحبُّهما الله سبحانه وتعالى؛ اهتماماً به.

____________________

(1) سورة الدخان / 17.

(2) سورة الحاقّة / 40.

(3) سورة المزّمّل / 20.

(4) جامع السعادات 2 / 113 - فصل السخاء.

٧٣

وبين السخاء والكرم والجُودِ والسماحة مشتركاتٌ في المعنى وفروقات، نستطيع فهمَها بعد التأمّل في هذه الأحاديثِ الشريفة:

قال النبيُّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«الرجالُ أربعة؛ سخيٌّ وكريم، وبخيلٌ ولئيم؛ فالسخيُّ الذي يأكلُ ويُعطي، والكريمُ الذي لا يأكلُ ويُعطي، والبخيل الذي يأكلُ ولا يُعطي، واللئيمُ الذي لا يأكلُ ولا يُعطي» (1) .

وسُئل الإمامُ الصادقعليه‌السلام عن حدّ السخاء، فقال:«تُخرجُ مِن مالِكَ الحقَّ الذي أوجبَه الله عليك فتضعُه في موضعه» (2) .

وجاء عنه (سلامُ الله عليه) أيضاً أنّه قال:«السخيُّ الكريم الذي يُنفقُ مالَه في حقٍّ» (3) .

ورُوي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (صلواتُ الله عليه) أنّه قال:«السخيُّ يأكلُ مِن طعام الناس ليأكلوا من طعامه، والبخيلُ لا يأكلُ من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه» (4) .

فالسخاء ليس في الإعطاء فحسب، بل في مقدِّماته أيضاً؛ بأن يَمُدّ الرجلُ يدَه إلى طعامٍ يُدعى إليه؛ تواضعاً لِما يُقدّم له، واستجابةً لدعوةِ الإخوان، وتشجيعاً لهم على أن يأكلوا من عنده، وكذا تشجيعاً لهم على الكرم. ألم نقرأ قولَ مولانا الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) في مواعظه الشريفة:«مَن قَبِلَ عطاءَك فقد أعانَكَ على الكرم» .

أمّا الجُود، فيقول الشيخُ الجليل محمّد مهدي النراقيّرحمه‌الله في بيانه:

____________________

(1) جامع الأخبار - للسبزواري / 308 ح845.

(2) معاني الأخبار / 245.

(3) جامع الأخبار / 307 ح842.

(4) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام 2 / 12.

٧٤

اتّصافُه [المنفق] بالجود بقدْرِ ما تتّسع له نفسُه من قليلٍ أو كثير. وتختلفُ درجاتُ ذلك؛ فاصطناعُ المعروف أمرٌ وراءَ ما تُوجبه العادةُ والـمُروّة، وهو الجودُ بشرطِ أن يكون عن طيبةٍ من النفس، ولا يكون لأجلِ غرضٍ من خدمةٍ أو مدحٍ أو ثناء؛ إذ مَن يبذلُ المالَ بعِوضِ المدحِ والثناءِ أو غيرِه فليس بجواد، بل هو بيّاعٌ يشتري المدحَ بماله؛ لكونِ المدحِ ألذَّ عنده من المال.

فالجودُ هو بذلُ الشيء عن طيبةٍ من القلبِ من غير غرض، فإذا لم يكن غرضُه إلاّ الثوابَ في الآخرة، ورفعَ الدرجات، واكتسابَ فضيلةِ الجود، وتطهيرَ النفسِ عن رذيلةِ البُخل سُمّي جواداً(1) .

و أمّا في بيان السماحة فنُوردُ هاتينِ الروايتين:

قال أمير المؤمنين عليٌ لولده الحسن (سلام الله عليهما):«يا بُنيَّ، ما السماحة؟» .

قال:«البذلُ في العسر واليُسر» (2) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :«خيارُكم سمحاؤُكم، وشِرارُكم بُخلاؤُكم» .

ثمّ قال (سلام الله عليه):«إنَّ صاحبَ الكثير يهونُ عليه ذلك (أي البِرّ)، وقد مدح الله (عزَّ وجلَّ) صاحبَ القليل فقال: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ

____________________

(1) جامع السعادات 2 / 118، فصل معرفة ما يجب أن يُبذل.

(2) معاني الأخبار / 255.

٧٥

كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) » (1) .

والإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) يجمع كلَّ فضائل الكرم والسخاءِ، والجود والسماحة، ويضمُّ إليها مراقي الخصال والصفات الحميدةِ الطيّبة والأخلاق المحمودةِ، هذا ما حكتْه لنا سيرتُه الطاهرة.

فإذا كان السخاء من الإيمان(2) ؛ لقولِ الرسول المعظّمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنَّ السخاء من الإيمان»، ولقولِهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنَّ أفضلَ الناسِ إيماناً أبسطُهم كفَّاً» (3) ، فمَن ينافسُ الحسينَعليه‌السلام في ثبات إيمانه ورسوخه وشموخه؟!

وإذا كان للسخاء معالم؛ منها الابتداءُ بالأَوْلى، ومعرفةُ ما يجبُ بذلُه، والصدورُ عن طيبِ قلب، والإنفاق خالصاً لوجهِ الله تعالى، وما إلى ذلك، فمَنْ يزاحمُ الإمامَ الحسينَ (سلامُ الله عليه) في هذه المعارف والمعاني والحالات؟!

لقد بذل (صلواتُ الله عليه) حتّى عُرِف أنَّه لا يخشى النفاد؛ لأنَّه أحسنَ الظنَّ بالله تعالى؛ إذ هو الرزَّاق ذُو القوَّةِ المتين. فكانَعليه‌السلام كما قال وكما دعا؛ حيث ورد عنه (سلام الله عليه) في جملةِ حِكَمِه قولُه:«إنَّ أجودَ الناسِ مَنْ أعطى مَنْ لا يرجوه» (4) .

ولقد أعطى مَنْ يئس من الناس، وأعطى فوق ما ينتظر المعسر. ولا تستغرب وهو القائل:«مالُكَ إنْ لم يكنْ لك كنتَ له، فلا تُبقِ عليه؛ فإنَّه لا يُبقي عليك، وكُلْه قبل أنْ يأكلَك» (5) .

____________________

(1) الخصال 1 / 48، والآية في سورة الحشر / 9.

(2) جامع السعادات 2 / 113 - فصل السخاء.

(3) جامع السعادات 2 / 114.

(4) الدرّة الباهرة / 24.

(5) المصدر نفسه.

٧٦

ولقد زهد (صلواتُ الله عليه) في الدنيا، وأحبَّ للناس أن يأخذوا منها حاجاتِهم، ولو أعطاهم مِن عنده ما يخلّفُ لديه خصاصة. فما أوفقَه (سلام الله عليه) مصداقاً لقول جَدِّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ما جُبِلَ وليُّ الله إلاّ على السخاء. والسخاءُ ما يقعُ على كلِّ محبوبٍ أقلُّه الدنيا. ومِن علاماتِ السخاء أن لا يُبالي مَن أكلَ الدنيا، ومَن ملكها؛ مؤمنٌ أو كافر، ومطيعٌ أو عاصٍ، وشريفٌ أو وضيع.

يُطعم غيرَه ويجوع، ويكسو غيرَه ويعرى، ويُعطي غيرَه ويمتنعُ من قبول عطاءِ غيره، ويُمَنُّ بذلك ولا يَمُنّ، ولو ملكَ الدنيا بأجمعها لم يرَ نفسه فيها إلاّ أجنبيّ، ولو بذلها في ذات الله (عزَّ وجلَّ) في ساعةٍ واحدةٍ ما ملء» (1) . أو في روايةٍ:«ما مَلّ» .

فالسخيّ مَن بذل ولم يخشَ الفقر، وأطعمَ غيرَه وجاع، وأعطى غيرَه وامتنع من قبولِ عطاءِ غيره إذا كان ذلك الغيرُ مُغرضاً، أو كان السخيُّ يخشى على نفسِه الطمع. إذاً فالسخاء ما حظيَ بخصلة العفَّة والإباء، فهذا من كرمِ النفس وعزّتِها.

ولقد ذَكَر لنا التاريخُ أنَّ الإمامَ موسى بن جعفرٍ الكاظمعليه‌السلام قال:«إنَّ الحسنَ والحسين عليهما‌السلام كانا لا يقبلانِ جوائزَ معاوية بنِ أبي سفيان» (2) ؛ ذلك أنَّ معاويةَ كان يحاول بجوائزه أن يستميلَ الإمامينعليهما‌السلام - وحاشاهما - ليقولا له بالإمامةِ الشرعيّة، والخلافة على المسلمين، وهيهات هيهات ذلك! هذا من جهة.

ومن جهةٍ اُخرى كان يحاول أن يقول للناس: إنَّ الأئمَّةَ - حاشاهم - أهلُ دنيا؛ ألا ترَونَ كيف يفرحون بالهدايا، ويطمعون بالعطايا، ويتنازلون بذلك عن شؤون الدين واُمور المسلمين؟

____________________

(1) مصباح الشريعة / 82، الباب 36 - في السخاء.

(2) مسند الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام / 44.

٧٧

قال محمّدُ بنُ طلحةَ الشافعيّ: وقد اشتهر النقلُ عنه (صلواتُ الله عليه) (أي الحسين عليه السّلام) أنَّه كان يُكرم الضيف، ويمنحُ الطالب، ويصلُ الرحم، ويُنيلُ الفقير، ويُسعفُ السائل، ويكسو العاري، ويُشْبع الجائع، ويُعطي الغارم، ويشدّ من الضعيف، ويُشفقُ على اليتيم، ويُعين ذا الحاجة، وقَلَّ أن وَصَلَه مالٌ إلاّ فرَّقَه.

ونُقل أنَّ معاويةَ لمَّا قدِمَ مكَّةَ وصله بمالٍ كثير، وثيابٍ وافرة، وكسواتٍ وافية، فردَّ الجميعَ عليه ولم يقبلْه منه، وهذا سجيّةُ الجواد، وشِنشنة(1) الكريم، وسمةُ ذي السماحة، وصفةُ مَن قد حوى مكارمَ الأخلاق؛ فأفعالُه الـمَتْلُوَّةُ شاهدةٌ له بصفةِ الكرم، ناطقةٌ بأنَّه متَّصفٌ بمحاسنِ الشِّيم(2) .

ولقد أجاد مَن قال في مدح الأئمّة (عليهمُ السّلام):

كرُموا وجادَ قبيلُهم مِن قبلِهم

وبنوهُمُ مِن بعدهم كُرَماءُ

فالناسُ أرضٌ في السماحةِ والندى

وهمُ إذا عُدَّ الكرامُ سماءُ(3)

وكلُّ ما قيل في الكرم والسخاء، والجود والسماحة ينطوي في أخلاق الإمام الحسين (سلام الله عليه) ويصغر؛ ذلك لأنَّ أخلاق الحسينعليه‌السلام - ومنها الكرم - هي على أفضل النيّةِ وأصلحها، وأنورِ الحكمةِ وأعقلها.

ثمّ إنَّ

____________________

(1) الشِّنشنة (بكسر الشين): الخلُق والطبيعة.

(2) مطالب السؤول - لابن طلحة الشافعيّ / 73، والفصول المهمّة - لابن الصبّاغ المالكيّ / 159 قريب منه.

(3) المحجّة البيضاء 4 / 225.

٧٨

الكرمَ الحسينيّ يشملُ كلَّ ما ورد من خصائصَ وفضائلَ يحملها السخاءُ والجود والسماحة، حتّى لَيتميَّز عن كرمِ الناسِ باقترانِه بأخلاقٍ اُخرى، ومعانٍ عُلْويَّةٍ اُخرى، ومحاسنَ شريفةٍ اُخرى. فهو كرمٌ مقترنٌ بخلُقٍ طيّبٍ آخر، وهو كرمٌ مع فضلٍ نافل آخر.

تعالوا نتعرّف على ذلك ونحن نمشي مع الحسينعليه‌السلام في أخلاقه، وتعالَوا نتبيَّنْ ذلك من خلال الأخلاق الحسينيّة.

1 - السخاء مع الموعظة

فقد كان الإمامُ الحسين (عليه أفضلُ الصلاةِ والسّلام) يُقرن الكرمَ المادّيّ بالكرم المعنويّ؛ فيُسدي النصيحةَ والموعظة ما أمكنه إلى مَن جاء يسأله، ولا يبخل عليه بحكمةٍ أو وصيّةٍ تنفعه؛ فالمرءُ قد يحتاج إلى المال، لكنَّه إلى المواعظ أحوج.

عن عبد الرحمن العرزميّ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:«جاء رجل إلى الحسنِ والحسين عليهما‌السلام وهما جالسانِ على الصفا، فسألهما فقالا: إنَّ الصدقةَ لا تحلُّ إلاّ في دَينٍ مُوجِع، أو غرْمٍ مُفظع، أو فَقْرٍ مُدقع، ففيكَ شيءٌ من هذا؟ قال: نعم. فأعطَياه، وقد كان الرجلُ سألَ عبد الله بنَ عمر وعبدَ الرحمنِ بنَ أبي بكر فأعطياه ولم يسألاهُ عن شيء، فرجع إليهما فقال لهما: ما لكُما لم تسألاني عمَّا سألني عنه الحسنُ والحسين؟!

٧٩

وأخبرهما بما قالا، فقالا: إنَّهما غُذِّيا بالعلمِ غذاءاً» (1) .

وجاء الحسينَعليه‌السلام رجلٌ من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقالعليه‌السلام :«يا أخا الأنصار، صُن وجهَكَ عن بِذلةِ المسألة، وارفعْ حاجتَكَ في رقعة؛ فإنّي آتٍ فيها ما سارّك إنَّ شاء الله» . فكتب: يا أبا عبد الله، إنَّ لفلانٍ عَلَيَّ خمسمئةِ دينار، وقد ألحَّ بي، فكلّمْه ينظرْني إلى ميسرة.

فلمّا قرأ الحسينُعليه‌السلام الرقعة دخل إلى منزله، فأخرج صُرَّةً فيها ألفُ دينار، وقال له:«أمَّا خمسمئة فاقضِ بها دَينَك، وأمَّا خمسمئة فاستعنْ بها على دهرك، ولا ترفعْ حاجتَكَ إلاّ إلى أحدِ ثلاثة؛ إلى ذي دِين، أو مُروَّة، أو حسب؛ فأمَّا ذو الدِّين فيصون دينَه؛ وأمَّا ذو الـمُروَّةِ فإنَّه يستحيي لمروّته؛ وأمَّا ذو الحسب فيعلم أَنَّك لم تُكرمْ وجهَك أن تبذلَه له في حاجتِك، فهو يصون وجهَك أن يَرُدَّك بغيرِ قضاءِ حاجتِك» (2) .

ولو وقفنا متأمّلين في هذه الرواية لوجدنا:

أوّلاً: أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام جمع إلى الكرمِ الماليّ الكرمَ المعنويّ؛ بإسداءِ الحكمةِ والموعظة.

ثانياً: أعطانا درساً في الأخلاق والشخصيّة، وهو ألاّ يُسرعَ المرءُ إلى السؤال، السؤال هو بذلُ ماءِ الوجه فلا يسترخصْه لأتفهِ الأسباب؛ كأن يبذّرُ فيعتمد على السؤال، أو يتكاسل عن العمل ويرجو إعانةَ الناس؛ فمِن سماتِ شخصيّة المؤمن الحياء، أمَّا كثرةُ السؤال فتُذهب الحياء.

ثمَّ إذا اضطُرَّ المرءُ إلى المسألة فعليه:

____________________

(1) بحار الأنوار 43 /320، الحديث الرابع، عن الكافي.

(2) تحف العقول / 177.

٨٠