المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 14310%

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431 مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 85

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الصفحات: 85
المشاهدات: 20399
تحميل: 5448


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 85 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20399 / تحميل: 5448
الحجم الحجم الحجم
المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فبَيْنا الناسُ يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ والحُرُّ يَحْمِلُ على القومِ مُقْدِماً..يضرِبُهُمْ بسيفِهِ، إذ تكاثَرَ عليهِ الرجَّالة حتى أردوه صريعاً، فحمَلَهُ الأصحابُ ووضعُوهُ بينْ يَدَي الإمامِ الحسينِ عليه السلام وبهِ رَمَقٌ، فجعَلَ الحسينُ عليه السلام يمسَحُ وجهَهُ ويقولُ: «أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّكَ، وأنتَ الحرُّ في الدنيا وأنتَ الحرُّ في الآخرةِ».

ثمَّ إنَّ الحسينَ عليه السلام قالَ لزُهيرِ بْنِ القَينِ وسعيدِ بنِ عبدِ اللهِ: «تَقدّما أمامي حتى أُصلِّيَ الظُّهرَ».

فتقدَّما أمامَه بنِصْفِ مَنْ بقيَ معَه منْ أصحابِه، فصلّى الحسينُ عليه السلام بالنِّصفِ الآخَرِ، فكلّما جاءتِ السهامُ نحوَ الحسينِ عليه السلام يميناً وشِمالاً قامَ سعيدٌ بينَ يَدَيهِ، فما زالَ يتلقّى النَّبلَ بنَحْرِهِ وصَدرهِ، حتى أُثخِنَ بالجِراحِ، وسقطَ إلى الأرضِ، وهُوَ يقولُ: اللهُمَّ العَنْهُم لَعنَ عادٍ وثمودَ، اللهُمَّ أَبلِغْ نبيَّك عنّي السلامَ، وأَبلِغْه ما لَقِيتُ من ألمِ الجِراحِ، فإنّي أردتُ بذلكَ ثوابَكَ في نُصْرَةِ ذُرِّيةِ نبيِّكَ محمّدٍ صلى الله عليه السلام. ثمَّ التَفَتْ إلى

٤١

الحسينِ عليه السلام (وكانَ قد فَرَغَ من صَلاته) وقالَ: أَوَفَيتُ يا بْنَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قالَ الحسينُ عليه السلام: «نعمْ، أنتَ أمامي في الجنَّةِ».

ثمَّ قضَى نَحبَه فوُجِدَ بهِ ثلاثةَ عَشَرَ سَهماً، سِوى ما به من ضَربِ السيوفِ وطَعْنِ الرِّماحِ.

٤٢

الحملة الثانية:

ثمَّ قالَ الحسينُ عليه السلام لبَقيَّةِ أصحابِه: «يا كِرامُ، هذهِ الجنَّةُ فُتِحَتْ أبوابُها، واتَّصلَتْ أنهارُها، وأينَعتْ ثِمارُها، وهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم والشهداءُ الذينَ قُتلوا في سبيلِ اللهِ، يَتوقَّعونَ قُدومَكُم ويتباشرونَ بكم، فحامُوا عن دينِ اللهِ ودينِ نبيّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وذُبُّوا عن حُرَمِ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم».

وخرجتْ حرائرُ الرسالةِ وبناتُ الزهراءِ عليها السلام من الخيمةِ، وصِحنَ: «يا مَعشرَ المسلمينَ، ويا عُصبةَ المؤمنينَ، إدفَعوا عن حُرَمِ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم وعن إمامِكُم المنافقينَ، لتكونوا معَنا في جِوارِ جَدِّنا رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فعندَ ذلكَ بكى أصحابُ الحسينِ عليه السلام، وقالوا: نفوسُنا دونَ أنفسِكُم، ودماؤنا دونَ دمائِكم، وأرواحُنا لكم الفداءُ، فواللهِ لا

٤٣

يصِلُ إليكم أحَدٌ بمكروهٍ وفينا عِرقٌ يَضرِبُ. ثمَّ خرجَ زهيرُ بنُ القَينِ، فوَضَعَ يدَه على مَنكِبِ الحسينِ عليه السلام وقالَ مستأذناً:

أَقدِمْ فُدِيتَ هادياً مَهدِيّا

فاليومَ ألقَى جَدَّك النبيّا

وحَسَناً والمرتضَى عليّا

وذا الجَناحَينِ الفتى الكَمِيّا

وأسَدَ اللهِ الشهيدَ الحَيّا

فقالَ الحسينُ عليه السلام: «وأنا ألْقاهم على إِثْرِكَ».

فقاتلَ زُهيرٌ حتى قتلَ مَقتلةً عظيمةً، ثمَّ عَطفَ عليه رَجُلانِ فقتلاهُ.

فوقفَ عنده الحسينُ عليه السلام وقالَ: «لا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يا زهيرُ، ولَعَنَ قاتلِيكَ لَعْنَ الذين مُسِخُوا قِرَدَةً وخنازيرَ».

ووقفَ عابسُ بنُ أبي شبيبٍ الشاكريُّ أمامَ الحسينِ عليه السلام وقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، واللهِ ما أمسَى على ظهرِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ أعزَّ عليَّ ولا أحبَّ إليَّ منك، ولوْ قَدَرتُ على أنْ أدفعَ عنك الضَّيْمَ والقتلَ بشي‏ءٍ أعزُّ عليَّ من نفسي ودمي لَفعلتُ، السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ أَنِّي على هُداكَ وهُدى

٤٤

أبيكَ. ثمَّ مَشى نحو القومِ مُصْلِتاً سيفَه، فأخذَ ينادي: أَلَا رَجلٌ لرجلٍ؟ فأحْجَموا عنه، ونادى أحدُهم: أيّها الناسُ، هذا أسَدُ الأُسودِ، هذا أشجعُ الناسِ، هذا ابنُ أبي شبيبٍ، لا يخرُجَنَّ إليه أحدٌ منكمْ.

فصاحَ عُمَرُ بنُ سعدٍ: أَرضِخُوه بالحجارةِ. فرُميَ بالحجارةِ مِن كلِّ جانبٍ، فلمّا رأى ذلكَ ألقَى دِرعَه ومِغْفَرَهُ وشدَّ على الناسِ، فهَزَمَهم بينَ يدَيهِ. ثمَّ إنَّهم تَعَطَّفوا عليهِ من كلِّ جانبٍ، فقُتِلَ واحتُزَّ رأسُهُ، وتخاصَموا فيهِ كلٌّ يقولُ: أنا قتلتُه، فقالَ ابنُ سعدٍ: لا تختصموا، هذا لم يَقتلْه رجلٌ واحدٌ.

وجَعَلَ نافعُ بنُ هِلالٍ يرميهِم بالسهامِ، ولمّا نَفِدَتْ سِهامُهُ جرَّدَ سيفَه، فحَمَلَ على القومِ، فأحاطُوا بهِ يَرمُونَه بالحِجارةِ والنِّصالِ، حتى كَسَرُوا عَضُدَيهِ، وأخذوهُ أسيراً، فأمْسَكَهُ شِمرُ وأصحابُه يسوقونَه إلى ابنِ سعدٍ فقالَ: الحمدُ لله الذي جعلَ مَنايانا على يدِ شِرارِ خَلْقِهِ، ثمَّ ضَرَبَ الشمرُ عُنُقَهُ، فاستُشْهِدَ رضوان الله عليه. وبَرَزَ بعدَ ذلكَ أَنَسُ بنُ الحَرْثِ الكاهِلي،

٤٥

وكان شيخاً كبيراً صَحابياً ممّن رأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وسمِعَ حديثَه، وشَهِدَ معه بَدْراً وحُنيناً، فجاءَ ووَقَفَ قُبالةَ الحسينِ عليه السلام واستأذَنَهُ في القِتالِ، فأذِنَ له، فبرزَ الشيخُ شادّاً وَسَطَه بالعِمامةِ رافعاً حاجِبَيْهِ بالعِصابةِ عن عينَيهِ. فلمّا نَظَرَ إليهِ الحسينُ عليه السلام بهذهِ الهَيئةِ بَكى، وقالَ: «شَكَرَ اللهُ سَعيَكَ يا شيخ».

فقتَلَ جَمعاً منهم وقُتلَ رضوان الله عليه.

وأقبلَتْ أمُّ عَمْروٍ إلى وَلَدِها عَمْرِو بنِ جُنادةَ الأنصاريُّ الذي لم يبلُغِ الحُلُمَ وهُوَ ابنُ إحدى عَشْرةَ سنةٍ وقد قُتِلَ أبوهُ جُنادةُ في الحَملةِ الأولى، فأَلْبَسَتْهُ لامَةَ الحربِ، وقالتْ له: بُنَيَّ عَمْرو اخْرُجْ وقاتِلْ بينَ يَدَي ابنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجَ الغُلامُ واستأذنَ الحسينَ عليه السلام في القتالِ، فأبى الحسينُ عليه السلام أنْ يأذَنَ له، وقالَ: «هذا غلامٌ قُتلَ أبوهُ في المعركةِ، ولَعلَّ أمَّه تَكرَهُ خروجَه».

فقالَ الغلامُ: إنَّ‏ أُمِّي هيَ التي أمرَتني بذلكَ.

٤٦

فأَذِنَ له الحسينُ عليه السلام، فبرزَ إلى الحربَ وهُوَ يقولُ:

أميري حُسينٌ ونِعْمَ الأميرْ

سُرورُ فؤادِ البشيرِ النذيرْ

عليٌّ وفاطمةٌ والداهُ

فهلْ تعلمونَ له من نظيرْ

لهُ طلعةٌ مثلُ شمسِ الضُّحى‏

لهُ غُرَّةٌ مثلُ بدرٍ منيرْ

وقاتلَ فمَا أسرَعَ أنْ قُتلَ، فاحتُزَّ رأسُه ورُميَ بهِ إلى جِهةِ مُعَسْكَرِ الحسينِ عليه السلام، فأَخَذَتْ أُمُّهُ الرأسَ، ومَسَحَتِ الدمَ عنهُ، وهِيَ تقولُ: أحْسَنتَ يا بُنَيَّ، يا سرورَ قلبي ويا قُرَّةَ عَيني.

وعادَتْ إلى المخيّمِ، فأخذتْ عَمودَ خَيمةٍ وحمَلَتْ على القومِ وهِيَ تقولُ:

أنا عَجوزٌ في النسا ضعيفةْ

خاويةٌ باليةٌ نحيفةْ

أضرِبُكُم بضربةٍ عنيفةْ

دونَ بني فاطمةَ الشريفةْ

وضرَبَتْ رَجُلَينِ بالعمودِ فدعا لها الحسينُ عليه السلام وأمرَ بِرَدِّها إلى المخيَّمِ فرَجَعَتْ.

وكانَ للحسينِ عليه السلام غُلامٌ تُرْكِيٌّ اسْمُه سُليمانُ، فاستأذَنَه في القتالِ فأذِنَ له، فحَمَلَ على القومِ وقتلَ جماعةً كثيرةً، ثمَّ وقعَ صَريعاً، فاستغاثَ بالحسينِ عليه السلام فأتاهُ واعتنَقَهُ وبَكى عليهِ،

٤٧

ففتحَ الغلامُ عينَه ورأى الحسينَ عليه السلام فتبسَّمَ، وأخذَ يفتَخِرُ ويقولُ: «مَنْ مِثلي وابنُ رسولِ اللهِ واضعٌ خَدَّه على خَدِّي؟» ثمَّ فاضَتْ نفْسُه بين يَدَي الحسين عليه السلام.

ثمَّ جاءَ حَنظَلةُ بنُ أسعدَ الشَّبامِيُّ فقامَ بينَ يدَي الحسينِ عليه السلام يَقِيهِ السهامَ والرماحَ والسيوفَ بوَجْههِ ونَحْرهِ، وأخذَ ينادي:( يا قَومِ إنِّي أخافُ عليكم مثلَ يومِ الأحزابِ، مِثلَ دَأْبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمَّودَ والذينَ من بَعدهم وما اللهُ يريدُ ظلماً للعِبادِ، ويا قومِ إنِّي أخافُ عليكم يومَ التناد، يومَ تُوَلُّونَ مدْبِرينَ ما لكم منَ اللهِ منْ عاصمٍ، ومَنْ يُضْلِلِ اللهُ فما له منْ هاد ) (1) ، يا قومِ لا تقتلوا الحسينَ فَيَسْحَتَكُمُ اللهُ بعذابٍ وقدْ خابَ مَنِ افترَى. فقالَ لهُ الحسينُ عليه السلام: «يا بنَ أسعدَ، رَحِمَكَ اللهُ إنهم استَوجَبُوا العذابَ حينَ رَدُّوا عليكَ ما دَعَوتَهم إليهِ منَ الحقِّ ونَهَضوا إليكَ ليَسْتبيحوكَ وأصحابَك، فكيفَ بهمُ الآنَ وقدْ قتلوا إخوانَك الصالحين؟» قالَ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِداك.

____________________

1- غافر:30-33.

٤٨

أَفَلا نروحُ إلى الآخِرَةِ ونَلحَقُ بإخوانِنا؟ فقالَ: «بلى، رُحْ إلى ما هو خَيرٌ لكَ منَ الدنيا وما فيها وإلى مُلْكٍ لا يَبلَى». فقالَ: السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ صلّى اللهُ عليكَ وعلى أهلِ بيتِك وعَرَّفَ بيننا وبينَك في جَنّتِهِ، فقالَ: «آمينَ، آمينَ»، فاستَقْدَمَ وقاتلَ قتالَ الأبطالِ وصَبَرَ على احتمالِ الأهوالِ حتى قُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ.

ولم يزَلْ أصحابُ الحسينِ عليه السلام يُسارعونَ إلى القتلِ بين يدَيهِ، وكانَ كلُّ مَنْ أرادَ القتالَ يأتي إلى الحسينِ عليه السلام فيُوَدِّعُهُ ويقولُ: السلامُ عليكَ يابنَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فيُجيبُه الحسينُ عليه السلام:

«وعليكَ السلامُ ونحنُ خَلفَكَ». ويقرأُ:( فمنهم مَنْ قضَى نحبَهُ ومنهُمْ مَنْ ينتظرُ وما بَدَّلوا تبديلاً ) (1) .

حتّى قُتلوا بأجمعِهم رضوان الله عليهم.

____________________

1- الأحزاب:23.

٤٩

شهادةُ أهل بيت الحسين عليه السلام:

ولَمّا لم يبقَ معَ الحسينِ عليه السلام إلَّا أهلُ بيتِه، وهم وُلْدُ عليٍّ عليه السلام، ووُلْدُ جعفرٍ وعقيلَ ووُلْدُ الحسنِ عليه السلام، ووُلْدُ الحسين عليه السلام، اجتمعوا وجَعلَ يُوَدِّعُ بعضُهم بعضاً، وعَزَموا على ملاقاةِ الحُتوفِ ببأسٍ شديدٍ ونُفوسٍ أبيّةٍ.

مصرعُ عليٍّ الأكبر

وأوّلُ مَنْ تقدَّمَ عليُّ بنُ الحسينِ الأكبرُ عليه السلام. ولمّا عزَمَ على القتالِ، وأقبلَ مستأذناً من أبيهِ، نظرَ إليه الحسينُ عليه السلام نَظَرَ آيِسٍ منه، وأرخَى عينَيْهِ بالدموعِ، ورفعَ شَيبَتهُ نحوَ السماءِ وقالَ:

«اللهمَّ‏ اشهَدْ على هؤلاءِ، فقد بَرزَ إليهِم أشْبهُ الناسِ خَلْقاً وخُلُقاً ومَنْطقاً برسولِك محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وكنَّا إذا اشتقْنَا إلى رؤيةِ نبيِّكَ نظرْنَا إليه، اللهمَّ‏ امنعْهُمْ بركاتِ الأرضِ، وفرِّقهُمْ تفريقاً، ومزِّقْهُم تمزيقاً، واجعلْهُم طرائقَ قِدَداً، ولا تُرْضِ الوُلاةَ عنهم أبداً، فإنَّهم دَعَوْنا

٥٠

ليَنْصُرونا، فعدَوْا علينا يُقاتِلُونَنَا».

وصاحَ عليه السلام بعُمرِ بنِ سعدٍ: «ما لكَ يابنَ سعدٍ، قطَعَ اللهُ رَحِمَك، كما قطعْتَ رَحمِي ولم تحفَظْ قرابتي من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم».

ثمَّ تلا قولَه تعالى:( إنّ اللهَ اصطفَى آدمَ ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالَمينَ ذُرّيةً بعضُها من بعضٍ واللهُ سميعٌ عليمٌ ) (1) .

ولَمّا عَزَمَ على الحربَ، عزَّ فِراقُه على مُخَدَّراتِ الإمامةِ، فأَحَطْنَ بهِ، وتعلَّقنَ بأطرافِه، وقلنَ له: إرحَمْ غُربتَنا، فلا طاقةَ لنا على فِراقِكَ. فلم يَعبأْ بهن‏َّ. ثمَّ تَوَجَّهَ نحوَ القومِ، وشدَّ عليهم شَدّةَ الليثِ الغَضبانِ، وهو يقولُ:

أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ علي

نحنُ وبيتِ اللهِ أوْلى بالنبي

تاللهِ لا يَحْكُمُ فينا ابنُ الدَّعِي

أَطعنُكم بالرُمحِ حتّى يَنْثَني

أَضرِبُكُمْ بالسيفِ أَحْمي عن أبي

ضَرْبَ غُلامٍ هاشميٍّ عَلَوي

‏ ولمَ ْيَزَلْ يحمِلُ على المَيمنةِ ويُعيدُها على المَيسَرةِ، ويغوصُ في الأوساطِ حتى قتلَ منهم مَقتلةً عظيمةً، وضجَّ الناسُ منْ كَثرةِ مَن قُتِلَ مِنْهم.

____________________

1- آل عمران:33-34.

٥١

ولَمّا اشتدَّ به العطشُ، رَجَعَ إلى أبيهِ الحسينِ عليه السلام قائلاً: يا أبَهْ، العطشُ قد قتلني، وثِقلُ الحديدِ قد أجْهدَني، فهل إلى شُربةِ ماءٍ من سبيلٍ أتقوَّى بها على الأعداءِ؟

يبويه شربة اميّه الكبدي

اتقوى ورد للميدان وحدي

يبويه انفطر قلبي وحق جدي

العطش والشمس والميدان والحر

فأجابه الحسينُ عليه السلام: «قاتِلْ قليلاً، فما أسرَعَ ما تلقى جَدَّك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فيَسقيكَ بكأسِهِ الأوفى شُربةً لا تَظمأُ بعدَها أبداً».

فرَجَعَ عليٌّ الأكبرُ إلى المَيدانِ وجعلَ يقاتلُ أعظمَ القتالِ فأكثرَ القَتلَ في صفوفِ الأعداء.

فقالَ مُرّةُ بنُ مُنقِذٍ العَبْديُّ: عَليَّ آثامُ العربِ إن لم أُثكِلْ به أباهُ، فطعنَه بالرمحِ في ظهرهِ، وضربَه بالسيفِ على رأسِه ففَلَقَ هامَتَهُ، وضربَه الناسُ بأسيافهِم، فاعتنقَ فرسَه، فاحتمَلهُ الفرسُ إلى مُعسكَرِ الأعداءِ، فجعلوا يضرِبونهُ بأسيافهِم، فهَوَى إلى الأرضِ منادياً: عليكَ منِّي السلامُ أبا عبدِ اللهِ، هذا جَدِّي رسولُ اللهِ قد سَقاني بكأسِهِ الأَوفى شُربةً لا أظمأُ بعدَها أبداً، وهوَ يقولُ لكَ:

٥٢

العجلَ، العجلَ، فإنّ لك كأساً مَذْخورةً.

ثمَّ شَهِقَ شَهقةً كانت فيها نفْسُه وفارقتْ روحُه الدنيا.

فجعلَ الحسينُ عليه السلام يتنفّسُ الصُّعَداءَ، وصاحَ بأعلى صوتهِ: واوَلداه، فتصارختِ النساءُ، فسَكَّتَهنَّ الحسينُ عليه السلام، وقالَ:

«إنّ البكاءَ أمامَكُنّ». وحمَلَ على القومِ ففرَّقَهم، وأقبلَ إلى ولدهِ مسرعاً، وهو يقولُ: «ولدي عليّ، ولدي عليّ» حتى وصلَ إليهِ، ورمى بنفسهِ عليهِ، وأخذَ رأسَه فوضعَه في حِجرِهِ، وجعلَ يمسَحُ الدمَ والتراب عن وَجههِ، واعتنقَهُ واضعاً خَدَّهُ على خَدِّهِ، وهو يقولُ:

«قَتَلَ اللهُ قوماً قتلوكَ يا بُنيَّ‏، ما أَجرَأَهُمْ على الرحمنِ، وعلى انتهاكِ حُرْمةِ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم! على الدّنيا بعدَكَ العَفا يا بُنيّ! أمَّا أنتَ فقدِ استرحْتَ من الدّنيا وضَيمِهَا، وقد صِرْتَ إلى رَوْحٍ ورَيحانٍ، وبَقِيَ أبوكَ، وما أسرَعَ لُحوقِهِ بكَ». وانهملَتْ عيناهُ بالدموعِ.

قعد عنده اوشافه امغمّض العين

ابدمه سابح امترّب الخدين

متواصل ضرب والراس نصّين

حنه ظهره على ابنيّه او تحسر

٥٣

يبويه كول منهو الضرب راسك

ينور العين من خمّد انفاسك

يعقلي من نهب درعك اوطاسك

يروحي اشلون أشوفنّك امطبّر

يبويه من عدل راسك ورجليك

او من غمّض عيونك واسبل ايديك

ينور العين كل سيف الوصل ليك

قطع قلبي او لعند احشاي سدّر

وطلَبَ إلى فِتيانِهِ منْ بني هاشمٍ وقالَ لهُم: «احْمِلُوا أخاكُم».

فحملُوهُ منْ مَصْرَعِهِ، وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ الذي يُقاتِلُونَ أمامَه، فخرجَتْ زينبُ بِنْتُ عليٍّ عليها السلام مُسْرِعةً وخلفَها النساءُ والأطفالُ، وهِيَ تُنادِي: «يا حبيباه، ويابن أُخَيَّاه».

فجاءَتْ وانكبَّتْ عليهِ، فبكَى الحسين ُ عليه السلام رَحْمةً لبكائِها، وقالَ:

«إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ...».

وقامَ وأخذَ بيَدِها وردَّها إلى الفُسطاط.

٥٤

مقاتل آل عقيل

وخرجَ من بعدهِ عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ عقيلٍ، وأمُّه رُقَيَّةُ الكبرى بنتُ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام وهو يقول:

اليومَ ألقى مُسلماً وهو أبي

وعُصبةً بادوا على دينِ النبي

‏فقتلَ جماعةً بثلاثِ حَملاتٍ، ورماهُ لَعينٌ منَ القومِ بسهمٍ، فاتّقاهُ بيدِه فسَمّرَها إلى جَبهتهِ، فما استطاعَ أن يُزيلَها، فقالَ: اللهُمَّ إنَّهم اسْتَقَلّونا واستَذَلّونا، فاقتُلْهم كما قَتَلونا.

وبينما هوَ على هذا إذْ حمَلَ عليه رجلٌ برمحهِ فَطَعَنهُ في قلبِه فماتَ رضوان الله عليه.

ولمّا قُتِلَ عبدُ اللهِ بنُ مسلمٍ حَملَ آلُ أبي طالبٍ حَملةً واحدةً، فاعتوَرَهم الناسُ وأحاطوا بهم، فصاحَ الحسينُ عليه السلام: «صَبراً على الموتِ يا بني عُمومَتي، لا رَأَيتُم هواناً بعدَ هذا اليومِ».

فَجَعلوا يقاتلونَ أشَدَّ القتالِ، فوَقَعَ فيهم عَونُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ

٥٥

جعفرٍ وأمُّه العَقيلةُ زينبُ عليها السلام وأخوهُ محمّدٌ وأمُّه الخَوْصاءُ وعبدُ الرحمنِ بنُ عقيلٍ وأخوه جعفرُ بنُ عقيلٍ ومحمّدُ بنُ مسلمِ بنِ عقيلٍ ومحمّدُ ابنُ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام وعبدُ اللهِ الأكبرُ ابنُ عقيلٍ وكانَ آخرَهم محمّدُ ابنُ أبي سعيدِ ابنِ عقيلٍ.

٥٦

أولادُ الإمامِ الحسنِ عليهم السلام:

ومَازالَ آلُ أبي طالِبٍ يَتَسَابقونَ إلى القتالِ حتَّى وصَلَتْ النوبةُ إلى أولادِ الإمامِ الحسنِ عليه السلام وخرجَ عبدُ اللهِ الأكبرُ ابنُ الحسنِ عليه السلام وأمُّهُ رَمْلةُ، فقاتلَ حتى قُتِلَ. وخرج القاسمِ بنِ الحسنِ عليه السلام وهوَ غلامٌ لم يَبلُغِ الحُلُمَ، وأمُّهُ رَملةُ أيضاً، فأقبلَ إلى عمِّه الحسينِ عليه السلام يستأذنُهُ في القتالِ، فنظرَ إليهِ الحسينُ عليه السلام ولم يمْلِكْ نفسَه دونَ أنْ تَقدَّمَ إليه واعتنقَهُ، وجَعلا يبكيانِ، وأَبى أنْ يأذَنَ له، فلمْ يزَلِ القاسمُ يتوَسَّلُ إليهِ ويُقبِّلُ يدَيهِ حتى أذِنَ له، فبرزَ إلى الميَدانِ راجلاً وهو يقولُ:

إنْ تُنْكِرُوني فأنا نجلُ الحسَنْ‏

سِبطِ النبيِّ المصطفى والمؤتمَنْ‏

هذا حسينٌ كالأسيرِ المرتهَنْ

بينَ أناسٍ لا سُقُوا صَوبَ المُزَنْ‏

فقاتَلَ مُقاتَلةَ الرجالِ والأبطالِ وقَتَلَ عدداً منَ الأعداءِ،

٥٧

لكنْ بينما هو يُقاتِلُ انقطَعَ شِسْعُ نَعلهِ اليُسرى، فوَقَفَ لِيَشُدَّهُ غيرَ مكترثٍ بالقومِ مِن حَولِهِ، فقالَ عَمْرُو بنُ سعدِ بنُ نفيل ٍ الأَزْديّ: واللهِ لأَشُدَّنَّ عليهِ، فمَا ولّى حتى ضربَ رأسَ القاسمِ بالسيفِ فَفَلَقَهُ، فوقعَ لوجههِ وصاحَ: يا عَمّاه!!

فأتاهُ الحسينُ عليه السلام مسرعاً، وقَتَلَ قاتلَه، ثمَّ وقفَ عندَ رأسِ القاسمِ وهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلَيْه فقالَ: «يعِزُّ واللهِ على عمِّكَ أنْ تدعُوَهُ فلا يجيبُكَ، أو يجيبُكَ فلا يُعينُكَ، أو يعينُكَ فلا يُغني عنكَ، بُعداً لقومٍ قتلوكَ، هذا يَومٌ كَثُرَ واتِرُهُ وقلَّ ناصِرُه».

بكى او ناداه يجاسم اشبيدي

يريت السيف قبلك حزّ وريدي ‏

هان الكم تخلوني اوحيدي

وعلى اخيمّي يعمّي الخيل تفتر ‏

ثمَّ احتَمَلهُ وكانَ صدرُهُ على صَدرِ الحسينِ عليه السلام ورِجلاهُ يخُطَّانِ في الأرضِ، فجاءَ بهِ إلى الخيمةِ ومدَّدَهُ معَ وَلدهِ عليٍّ الأكبرِ والقتلى منْ أهلِ بيتهِ.

٥٨

جابه وامدده ما بين اخوته

بكى عدهم يويلي وهم موته‏

بس ما سمعن النسوان صوته

إجت امّه تصيح الله أكبر‏

أنا ردتك ما ردت دنيه ولا مال

تحضرني لو وقع حملي ولا مال‏

يجاسم خابت اظنوني والآمال

وقت الضيق يبني اقطعت بيّه‏

إخوةُ العبَّاسِ عليهم السلام:

ولمّا رأى العبَّاسُ بنُ عليٍّ عليه السلام كَثرةَ القتلى في أهلِ بيتهِ، قالَ لإخْوَتهِ الثلاثةِ من أمِّهِ (أمِّ البنينَ) وأبيهِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام وَهُم عبدُ اللهِ وعُثمَانُ وجعفرٌ: «تقدَّمُوا يا بَني أمِّي حتى أراكم قدْ نَصَحتم للهِ ولرسولهِ فإنَّه لا وَلَدَ لكم».

فقاتَلوا بينَ يدَي أبي الفضلِ وأَبلَوْا بلاءً حَسناً حتى قُتلوا بأجمعِهم.

٥٩

شهادةُ العبَّاس عليه السلام:

ولمْ يَستطعِ العبَّاسُ عليه السلام صَبراً على البقاءِ، بعدَ مَقتلِ إخوتِه وعُمومِ أهلِ بيتِ الحسينِ عليهم السلام وأصحابِهِ، فجاءَ إلى أخيهِ الحسينِ عليه السلام، يستأذِنُهُ في القتالِ، ويَطْلُبُ الرُّخصةَ منه، فما كانَ جوابُ الحسينِ عليه السلام إلَّا أنْ قالَ: «يا أَخِي، أنتَ صاحبُ لِوائي، وإذا مضَيتَ تفرَّقَ عَسْكرِي».

فقالَ العبَّاسُ عليه السلام: «يا أخي قدْ ضاقَ صَدري.. وأريدُ أنْ آخُذَ ثأري منْ هؤلاء المنافقينَ».

فقالَ الحسينُ عليه السلام: «إذاً فاطلُبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً منَ الماءِ».

فذَهَبَ العبَّاسُ عليه السلام إلى القَومِ، ووَعَظَهم، وحذَّرَهم غَضَبَ الجبَّارِ وطلَب منهم شيئاً منَ الماءِ للأطفالِ.

٦٠