الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53204
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53204 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحسينُ يستوحي مقتله

قبل خروجه من مكّة وقف يخطب بما اُوحيَ له في قصّة استشهاده، حتّى كأنّه يقرأ مخطوطاً أمام ناظريه. قال (عليه السّلام): «الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين.

لن تشذّ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس؛ تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. ألا ومَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(1) .

وحاول جماعة من أهل بيته وصحبه صرفه عن السفر والتريّث خوفاً من غدر أهل الكوفة، لكنّه (عليه السّلام) كان يصارح الجميع بما كتب له، وبما يوحى إليه، وكان شوقه للقاء أسلافه ينعكس نوراً سنيّاً فوق صفحة وجهه، فكان يخيّل للناظر إلى شيبته المقدّسة بأنّه لم يعد متواجداً على هذه الأرض إلاّ بجسده فقط، وأنّ تلهّفه للشهادة طار بوجدانه وفكره إلى حيث يريه الله تعالى مكانه في النعيم بعد قليل من الوقت؛ لذا فقد أجاب ابن الزبير: «إنّ أبي حدّثني أنّ بمكّة كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك

____________________

(1) اللهوف / 33، وابن نما / 20.

١٠١

الكبش، ولئن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أن اُقتل فيها. وايم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت»(1) . وكان الوحي ينزل فوق رأسه فينقله إلى مطارح مصرعه، ولم يشأ (عليه السّلام) أن يتحدّث برؤاه لأحد حتّى يلقى ربّه ذا الجلال.

ولمّا أقام (عليه السّلام) في (الخزيمية) يوماً وليلة أقبلت إليه اُخته زينب (عليها السّلام) وقالت: إنّي سمعت هاتفاً يقول:

ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهدي

فمَن يبكي على الشهداءِ بعدي

على قومٍ تسوقهُمُ المنايا

بمقدارٍ إلى إنجازوعدي

فقال: «يا اُختاه، كلّ الذي قضي فهو كائن»(2) .

ومع عبارة (كلّ الذي قضي فهو كائن) يختتم الحسين (عليه السّلام) سلسلة رؤاه في كلّ ما سيبلوه الله به فوق أرض كربلاء، وبهذه العبارة ردُّ كافٍ على أهل المظنّة الذين نعتوا ثورته بـ (الغضبة العسكريّة) التي كان ينقصها التخطيط العسكري السّليم كي تبلغ النصر في ميزان النصر، وكأنّ السرّ الإلهي أعمى على قلوب هؤلاء فحجب عن بصائرهم فهم مغزى الثورة على حقيقتها. وبأنّ قوّتها تكمن في ضعفها العسكري، وبأنّ نصرها منبثق من انكسارها، وبأنّ فلاحها مستمدّ من خذلانها، وبأنّ عظمتها

____________________

(1) تاريخ مكّة للأزرقي 2 / 150.

(2) وردت في مجلّد ابن نما / 23.

١٠٢

التي ما زادتها القرون إلاّ تأجّجاً، كانت من لُحمة العظمة الربّانيّة التي رسمتها بهذا الشكل الذي قضيت به، كي تكون نتائجها وآثارها بالشكل الذي آلت إليه.

فيا ليت اُولئك المتجرّئين على ردّ حقائق ثورة فرخ النّبي وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة وأبي الشهداء في عمر البشريّة إلى غير منابعها ومصبّها! يا ليتهم يرعوون ويثوبون عن غيّهم وكفرهم قبل أن تنزل بهم العناية الإلهيّة غضبتها؛ نتيجة ما أوّلوا حكمتها - التي لا يرقى إليها عقل بشري - إلى تأويلات شتّى سداها الضعف البشري، ولُحمتها الكفر بالمسلّمات والبدهيّات العُلوية!

١٠٣

١٠٤

معجزاتُ الشهادة

المعجزات التي تعقب الشهادات العظيمة، ما هي إلاّ غضبة الخالق من عقوق خلقه الذي انتهى إلى قتل شهيده، وسبحانه يجري هذه المعجزات بشكل صاعق له ردّة الصدمة الكهربائية العنيفة؛ بهدف إيقاظ الضمائر لتنظر فيما جرى، بقتلها هذا الشهيد الذي لم يؤتَ على حياته بأيّة معجزات تنجيه من مصيره المحتوم، فكانت المعجزات بعد مماته شاهداً على قدرة الله، وتوكيداً على مكانة الشهيد المقدّس، وبأنّ ما قاله وبشّر به هو صوت الحقّ الإلهي الذي يتوجّب على الجميع إعادة سماعه إذا فاتهم ذلك والشهيد بينهم حيٌ بطبيعة بشريّة لم تكن كافية لمَن قست قلوبهم وغلظت ضمائرهم، كي تقنعهم بقوّة العدل الذي جاء يبشّر به.

وقد اشترك الأنبياء والشهداء بقواسم مشتركة عديدة، أفاضت على عقول الناس فيضاً من تشابه الرسالات السماويّة في جوهرها الأصلي، وإن اختلفت باختلاف أساليبها التي لو شاء المولى (عزّ وجلّ) لجعلها واحدة، لكنّ قوة إقناعها تكمن في اختلافها. وما دامت حياة الأبرار المختارين من الله تتشابه في ابتلائهم بشتّى الرزايا، وبصبرهم الواحد حيالها، وبنهاياتهم الأليمة التي لولاها لَما كان ثمّة أديان

١٠٥

حفظت لنا حتّى الآن. فإنّ الصدمات الإلهيّة التي تعقب استشهادهم هي من التشابه والقوّة بحيث لا تدع مجالاً للشكّ بأنّها الانطباعات الفوريّة والقويّة على مكانة الشهيد وعظم رسالته.

وإذا كنّا في صدد الحديث عن أوجه الشبه بين شهيدي المسيحيّة والإسلام عيسى والحسين (عليهما السّلام) فإنّا لواجدون هذا الشبه جليّاً في نوعيّة المعجزات التي أعقبت شهادتَيهما، بما تتلاءم مع قسوة ميتتيهما، وإذا كنّا راغبين في حصر هذا التشابه بين الشهيدين العظيمين، فذلك انسجاماً مع بحثنا لمدى فهم الفكر المسيحي خاصّة والإنساني عامّة لملحمة استشهاد الحسين، بإبراز كلّ نقاط التشابه التي تدنيها من ملحمة فداء عيسى.

حينما استشهد الحسين (عليه السّلام) اظلمّت الدنيا ثلاث أيّام واسودّت سواداً عظيماً حتّى ظنّ الناس أنّ القيامة قامت، وبدت الكواكب نصف النهار، ولَم يرَ نور الشمس ثلاثة أيّام كاملة، حيث كان سيّد شباب أهل الجنّة عارياً على وجه الصعيد(1) .

وحينما استشهد عيسى (عليه السّلام) انتشر ظلام شديد على الأرض كلّها منذ الساعة السادسة إلى التاسعة، حيث لفظ المسيح روحه وصرخ صرخة قويّة، وإذا ستار الهيكل قد انشقّ شطرَين من الأعلى إلى الأسفل، وزلزلت الأرض، وتصدّعت الصخور، وتفتّحت القبور(2) .

هاتان المعجزتان العظيمتان تدلاّن على عظمة الشهيدَين، وعلى عظم غضبة

____________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 339، والخصائص الكبرى 2 / 126، والصواعق المحرقة / 116، والخطط المقريزيّة 2 / 289، وتذكرة الخواص / 155، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 90، وابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري إذ قال: إنّ الشمس كسفت حتّى بدت النّجوم وقت الظهر، وإنّ الأرض أظلمت.

(2) متّي 27 / 51 - 52.

١٠٦

الخالق سبحانه وتعالى، الذي أظلم الدنيا ثلاث أيّام طيلة بقاء سيّد الشهداء عارياً في فلاة كربلاء، وأظلمها ثلاث ساعات طيلة بقاء شهيد المحبّة عارياً في الجلجلة؛ كي لا تكشف عريهما المقدّس عين، ومن أجل إشراك الظواهر الطبيعيّة التي هي إحدى العلل في مجرى الكَون(1) ، والذي أوقف هذا المجرى شهادتا عيسى والحسين غضباً على مقتلهما، وإظهاراً لغضبة الخالق على خلقه الذين اضطهدوا وقتلوا الشهيدَين العظيمَين.

وعن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالاحمرار، والأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة»(2) .

وبعد ثلاث أيّام من دفن عيسى حدث زلزال شديد وهبط ملاك الربّ نازلاً من السماء ودحرج حجر القبر الضخم وقعد عليه، وكان هذا إيذاناً بقيامة المسيح من بين الأموات صاعداً إلى السماء كما جاء في الآية التي نزلت يوم مولده(3) .

وفي ذات الليلة رأت اُمّ سلمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام أشعث مغبّراً وعلى رأسه التراب، فقالت له: يا رسول الله، ما لي أراك أشعث مغبّراً؟! قال: «قُتل ولدي الحسين، ومازلت أحفر القبور له ولأصحابه»(4) . فانتبهت فزعة ونظرت إلى

____________________

(1) استنكر بعض المؤرّخين حدوث مثل هذه الظواهر، ووصفها ابن تيمية في كتابه (رأس الحسين) ط القاهرة / 130، بالغلوّ في الإيراد، وفي المسيحية تقدير لهذه الظواهر كجزء من علل الكون المسيّر بعناية إلهية، فقد ورد في أعمال الرسل 2 / 19 - 20 قول عزّته: (وأجعل علوّاً أعاجيب في السماء، وسفلاً آيات في الأرض، فتتبدّل الشمس بنورها ظلاماً، والقمر دماً).

(2) وردت في عدّة مصادر سأذكرها بدون ترقيم وهي: الخصائص الكبرى، تاريخ ابن عساكر، تذكرة الخواص، الإتحاف بحب الأشراف، المناقب لابن شهر آشوب، النجوم الزاهرة، كنز العمال، الصواعق المحرقة.

(3) متّي 27 / 2 - 3.

(4) راجع أمالي الشيخ الطوسي / 56، وتهذيب التهذيب 2 / 356، وذخائر العقبى - المحب الطبري / 148، وتاريخ الخلفاء - السيوطي / 139، وسير أعلام النبلاء - الذهبي 3 / 213.

١٠٧

القارورة التي فيها تراب أرض كربلاء فإذا به يفور دماً، وهو التراب الذي دفعه النبي (صلّى الله عليه وآله) إليها وأمرها أن تحتفظ به(1) ، وقد سمعت ليلتها صوتاً هاتفاً في جوف الليل ينعى الحسين (عليه السّلام) فيقول:

أيها القاتلونَ جهلاً حسيناً

أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ

قد لُعنتمْ على لسان ابنِ داو

دَ وموسى وصاحبِ الإنجيلِ

كلّ أهل السماء يدعو عليكُمْ

من نبيّ ومرسلٍ وقبيل(2)

وفي يوم عاشوراء رأى ابن عبّاس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أشعث مغبّراً، وبيده قارورة فيها دم، فقال له: بأبي أنت واُمّي ما هذا؟! قال: «هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل التقطه منذ اليوم»(3) .

ويحدّث دعبل الخزاعي عن جدّه: أنّ اُمّه سعدى بنت مالك الخزاعيّة أدركت الشجرة التي كانت عند اُمّ معبد الخزاعيّة وهي يابسة، وببركات وضوء النبي (صلّى الله عليه وآله) في أسفلها أورقت وأثمرت كثيراً. ولمّا قبض النبي (صلّى الله عليه وآله) قلّ ثمرها، ولمّا قُتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) تساقط ثمرها، وكانوا يتداوون بورقها.

____________________

(1) راجع مرآة الجنان لليافعي 1 / 134، وكامل ابن الأثير الجزء 38، ومقتل الخوارزمي 2 / 95.

(2) راجع تاريخ ابن عساكر 4 / 341 فقد ذكرت الأبيات الثلاثة، وفي تاج العروس 7 / 103 ذكر البيت الأوّل والثالث - نقلاً عن المقرم.

(3) تفرّد به الإمام أحمد / 242 وإسناده قوي، وذكر في تاريخ بغداد للخطيب 1 / 142، وفي طرح التثريب / 22.

١٠٨

وبعد برهة نظروا إليها وإذا بساقها ينبع دماً، فأفزعهم هذا الحادث، ولمّا أظلم الليل سمعوا بكاءً وعويلاً ولم يروا أحداً، وقائل يقول:

يابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عمُّهُ

خيرُ العمومةِ جعفرُ الطيّارُ

عجباً لمصقولٍ أصابحدّهُ

في الوجهِ منك وقد علاك غبارُ

وقد أخذ البيت الثاني أحد شعراء الشيعة القدامى ونظمه في ثلاث أبيات، يقول فيها:

عجباً لمصقولٍ علاك فرندهُ

يومَ الهياجِ وقد علاك غبارُ

ولأسهمٍ نفذتكَ دونَ حرائرٍ

يدعون جدّكَ والدموعُ غزارُ

هلاّ تكسّرتِ السّهامُ وعاقها

عن جسمِكَ الإجلالُ والإكبارُ(1)

وإذا كانت الطبيعة والوحوش والأشياء قد انفلتت من إسارها، وانفعلت حزناً على الحسين، فإنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) الذي قال: «حسين منّي وأنا من حسين». حضر المعركة التي عذّب فيها بضعته وريحانته، وشاهد ذلك الجمع الحاقد المتألّب على استئصال أهله من جديد الأرض وبمرأى منه عويل الأيامى ونشيج الفاقدات وصراخ الصبية من الظمأ، وقد سمع العسكر صوتاً

____________________

(1) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 380.

١٠٩

هائلاً: ويلكم يا أهل الكوفة! إنّي أرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينظر إلى جمعكم مرّة وإلى السماء اُخرى وهو قابض على لحيته المقدّسة. لكن الهوى والضلال المستحكم في نفوس ذلك الجمع المغمور بالأطماع، أوحى إليهم (إنّه صوت مجنون)، فصاح الجمع: لا يهولنّكم ذلك. وكان أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام) يقول: «لا أراه إلاّ جبرائيل»(1) .

ولمّا حمل الرأس الشريف إلى دمشق ونصب في موضع الصيارفة وهناك لغط المارة وضوضاء المتعاملين، فأراد سيّد الشهداء توجيه النفوس نحوه ليسمعوا عظاته، فتنحنح الرأس تنحنحاً عالياً، فاتجهت إليه الناس واعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين (عليه السّلام)، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى:( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (2) .

وصُلب على شجرة فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع فأخذ يقرأ:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (3)(4) .

وقال هلال بن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسين (عليه السّلام) والرأس يخاطبه فرّقت بين رأسي وبدني، فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتّى سكت(3) .

ويحدّث ابن وكيدة: إنّه سمع الرأس يقرأ سورة الكهف فشكّ في أنّه صوته أو غيره، فترك (عليه السّلام) القراءة والتفت إليه يخاطبه: «يابن وكيدة، أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّهم يرزقون؟».

____________________

(1) كامل الزيارات.

(2) سورة الكهف / 13.

(3) سورة الشعراء / 227.

(4) ابن شهر آشوب 2 / 188.

(5) شرح قصيدة أبي فراس / 148.

١١٠

فعزم على أن يسرق الرأس ويدفنه، وإذا الخطاب من الرأس الشريف: «يابن وكيدة، ليس إلى ذلك من سبيل؛ إنّ سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح، فذرهم فسوف يعلمونإِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ »(1) .

وقال المنهال بن عمرو: رأيت رأس الحسين بدمشق على رمح وأمامه رجل يقرأ سورة الكهف حتّى إذا بلغ إلى قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (2) . نطق الرأس بلسانٍ فصيح: «أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»(2) .

ولمّا أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته، نطق الرأس الشريف بصوتٍ رفيع: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»(3) .

وحدّث ابن ليهعة: أنّه رأى رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة يستغيث بربّه ثمّ يقول: ولا أراك فاعلاً. فأخذته ناحية وقلت: إنّك لمجنون! فإنّ الله غفور رحيم ولو كانت ذنوبك عدد القطر لغفرها لك. قال لي: اعلم كنت ممّن سار برأس الحسين إلى الشام، فإذا أمسينا وضعنا الرأس وشربنا حوله.

وفي ليلة كنت أحرسه وأصحابي رقود، فرأيت برقاً وخلقاً أطافوا بالرأس، ففزعت ودهشت ولزمت السكوت، فسمعت بكاءً وعويلاً، وقائلاً يقول: يا محمّد، إنّ الله أمرني أن أطيعك، فلو أمرتني أن أزلزل بهؤلاء الأرض كما فعلت بقوم لوط. فقال له: «يا جبرائيل، إنّ لي موقفاً معهم يوم القيامة بين يدي ربّي سبحانه».

____________________

(1) شرح قصيدة أبي فراس / 149.

(2) سورة الكهف / 9.

(3) الخصائص - السيوطي 2 / 127.

(4) مقتل العوالم / 151.

١١١

فصحت: يا رسول الله، الأمان. فقال لي: «اذهب فلا غفر الله لك». فهل ترى الله يغفر لي(1) ؟

وفي بعض المنازل وضعوا الرأس المطهّر فلم يشعر القوم إلاّ وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم:

أترجو أمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعةَ جدّه يومَ الحسابِ(2) ؟ !

وقبل أن يصلوا الموضع بفرسخ وضعوا الرأس على صخرة هناك، فسقطت منه قطرة دم على الصخرة، فكانت تغلي كلّ سنة يوم عاشوراء، فيجتمع الناس هناك ويقيمون المأتم على الحسين حولها، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر فلم يرَ له أثر بعد ذلك(3) .

وقد روى ابن قولويه في الكامل: أنّهم كانوا يسمعون نوح الجن في الليالي التي قُتل فيها الحسين (عليه السّلام)، ومن شعرهم:

أبكي ابنَ فاطمة الذي

مِن قتلهِ شاب الشعرْ

ولقتلِهِ زُلزلتموا

ولقتلِهِ انخسف القمرْ

____________________

(1) اللهوف / 98.

(2) مجمع الزوائد - لابن حجر 9 / 199، والخصائص - السيوطي 2 / 127، وتاريخ ابن عساكر 4 / 342، وتاريخ القرماني / 108، ومثير الأحزان / 53.

(3) نفس المهموم / 228، ونهر الذهب في تاريخ حلب 3 / 33، وكتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات / 66.

١١٢

وذكر ابن نما عن أبي حباب الكلبي قال: لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ناحت عليه الجنّ فكان الجصّاصون يخرجون بالليل إلى الجبّانة فيسمعون الجنّ يقولون:

مسح الحسينُ جبينَهُ

فله بريقٌ في الخدودِ

وأبوهُ من أعلا قريـ

ـشٍ جدُّه خيرُ الجدودِ

ويشير أبو العلاء المعرّي إلى قتل الحسين واحمرار السماء حزناً عليه في قصيدة يقول مطلعها:

علّلاني فإنَ بيضَ الأماني

فُنيتْ والظلامُ ليس بفانِ

وعلى الدهرِ من دماء الشهيديـ

ـنِ عليٍّ ونجلِهِ شاهدانِ

فهما في أواخر الليل فجرا

ن وفي أولياتهِ شفقانِ

ثبتا في قميصه ليجيء الحشـ

ـر مستعدياً إلىالرحمنِ

وممّا هو معروف أنّ المسيح كانت له سلطة على الجن والأرواح وجند الملائكة، فقد كانت تأتمر بأمره (عليه السّلام) فتنقله بلمحة طرف إلى أي مكان، ويأمرها فتنفّذ له ما يأمرها به، وعندما تبكي الجن على مقتل الحسين، فإنّ في هذه الحكمة الأعجوبة لمعجزة خارقة أتي بمثلها لعيسى (عليه السّلام).

١١٣

وإذا كنّا قد خلصنا إلى أوجه الشبه بين عيسى والحسين (عليهما السّلام)، وبين شهادتَيهما، والمعجزات الكونيّة الخارقة التي تلتهما مباشرة، فإنّا سنعرّج على أوجه الاختلاف القليل بين الشهيدَين العظيمَين.

١١٤

حكمةُ اختلاف الشهادتين

جاء عيسى (عليه السّلام) إلى اليهوديّة مبشّراً بالعهد الجديد بعد أن فسدت الضمائر، وحرّفت السنّة، وسنّت الشريعة، وقامت دولة الأحبار والشيوخ والفرّيسيّين والصدوقيّين، وقد أيّده الله سبحانه وتعالى بمعجزات لم يؤيّد بمثلها نبيّاً قبله أو بعده.

وقد لخّص (عليه السّلام) بعثه إلى اُمّة لعبت بوصاياها وحرّفت شرائعها حسب أهوائها واضطهدت كلّ الرسل الذين جاؤوا لهدايتها، فقال: (فبمَن أشبّه هذا الجيل، ومَن يشبهون؟ يشبهون أولاداً قاعدين في الساحة يصيح بعضهم ببعض، زمّرنا لكم فلم ترقصوا، ندبنا لكم فلم تبكوا).

جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فقلتم: إنّ به مسّاً من الشيطان. وجاء ابن الإنسان - المسيح - يأكل ويشرب، فقلتم: هو ذا رجل أكول سكّير صديق للعشّارين والخاطئين، بَيْدَ أنّ الحكمة قد برّها جميع

١١٥

بنيها(1) .

وعيسى (عليه السّلام) اعتقله اليهود وعذّبوه وأهانوه وبصقوا عليه، وضفروا رأسه بإكليل شوك، وجلدوه وتهكّموا عليه، وسخروه بحمل صليبه على طريق الجّلجلة في فلسطين، وأخيراً قتلوه وطعنوا جنبه بحربة قبل أن يلفظ أنفاسه، وكانوا سيكسّرون رجليه لكنّهم وجدوه ميتاً فلم يفعلوا، لتتمّ الآية (لن يكسر له عظم)(2) .

والحسين (عليه السّلام) جاء في زمن كانت الديانة التي بشّر بها جدّه الكريم وليدة تحبو بعد أن حقّقت فتوحات عظيمة، وأخضعت بقوّة تعاليمها وأخلاقيّاتها الاجتماعيّة العظيمة الشرق والغرب. وعندما شبّ عن الطوق لمس ما يعتري اُمّة جدّه من انحلال وتكالب على الأطماع الدنيويّة بما يناقض بعثها، فكان عليه أن يتصدّى لهذا الأمر الجلل، فكانت مهمّته أعمق غوراً، ورسالته أكثر تعقيداً من رسالة عيسى (عليه السّلام)، سيّما إذا نظرنا إلى نوعيّة الوسائل التي كانت بين يدَيه؛ إذ كما سبق وذكرنا لم تكن للحسين صفة نبويّة، بل كان عليه أن يلجأ إلى الوسائل البشريّة التي تسيّرها قوّة إلهيّة؛ وما ذلك إلاّ لكي تؤدّي رسالته الهدف المنشود منها، إذ لو جرت رسالته مجرى رسالة عيسى لما كان لها هذا الوقع المفجع، ولو قُتل وحده كما قُتل عيسى وحده لمّا كانت واقعة قتله لتؤجّج كلّ هذا التأنيب والشعور بالذنب والإحساس بالتقصير لدى كلّ مسلم.

وبرأيي أنّ ظرف اُمّة الإسلام في ذلك الزمن كان لا بدّ له من تضحية فائقة تقرب من التهلكة الجماعيّة؛ ليتسنّى لها الوقوف حيال تحلّل الاُمّة التي كان يتأكّلها من الداخل.

____________________

(1) لوقا 7 / 31 - 35.

(2) يوحنا 19 - 36.

١١٦

إذاً فالظرفان مختلفان بين مجيء عيسى وبين مجيء الحسين، وبين ما أعدّته العناية الإلهيّة لكلّ منهما، وما زوّدتهما به من اختلاف السّبل والإمكانات، سواء ما كان قبل الشهادة أو بعدها.

والحسين (عليه السّلام) لم يسلم عظمه كما سلم عظم عيسى، بل إنّ ما حاقه فوق ثرى كربلاء المقدّس كان أعظم من احتمال البشر، بل كان من نوع يقرّب سيّد الشهداء إلى قائمة الرسل والنبيّين.

فأيّ رسول زرع في جسده أكثر من مئة نبلة وأكثر من أربعين طعنة، وأيّ نبي قتله العطش مثل ما فعل بالحسين (عليه السّلام)؟ وها هو أمير الشهداء وسيّدهم يُرمى بسهم في جبهته، ويُضرب بحجر فيها، ويُطعن على قلبه بسهم ذي ثلاث شعب، ويُرمى في حلقه، ويُضرب على عاتقه، ويُطعن في ترقوته وبصدره وبنحره وبجنبه، ويُسلب وتُقطع إصبعه من أجل خاتم، وتُقطع يده اليمنى ثمّ اليسرى من أجل تكّة سروال، ويُحتزّ رأسه الشريف، ويوطأ بعشر من الخيل صدراً وظهراً، ثمّ يُحمل رأسه على سن رمح إلى دمشق، حيث يوضع بمهانة أمام الفاسق يزيد لينكت ثناياه بالقضيب، ويعلّق في سوق الصيارفة ويشرب الخمر حوله، ويقال الكفر أمام كرامته.

فهل يبقى للمقارن المتمعّن في هذه الميتة الأليمة تردّد في وضع شهادة الحسين (عليه السّلام) في المقام الأوّل بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ؟

وإذا كانت قيمة الشهادة منوطة بما يتحمّله الشهيد من أذى، فإنّه لا مراء فيه أنّ الشهادة التي تمّت في صحراء كربلاء ذات قيمة عليا، لا تبلغها أيّة قيمة اُخرى لأيّة شهادة، لا سابقة ولا لاحقة.

وهي شهادة أكبر في مقياس المعاناة من شهادة عيسى (عليه السّلام) ولئن تعادلت معها في مقياس النتيجة، فإنّ لها وقع أشدّ على القلوب، وإذا تذكّرتها العقول فإنّ

١١٧

لذكراها رنّة حزن وأسى تحفر في الحنايا والصدور أخاديد عميقة وأثلاماً لا تندمل.

وإذا كان غدر العدو متوقّعاً، ولا يثير وقوعه أيّة دهشة؛ فإنّ غدر القريب هو الغدر الأليم الوقع، والحسين غدره أقرب الناس إليه، وخذلته شيعته، وحاصرته وقتلته ومثّلت به جموع مسلمة محتسبة على دين محمّد، وقد حاربته باسم الإسلام الذي أنزل على جدّه الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بينما قتل عيسى اليهود أعداء المسيحيّة، وعلى الرغم من قسوتهم وتسفيههم لرسول الإنسانيّة فإنّهم في مرآة الدمويّة والوحشيّة يبدون حملاناً وديعة بالمقارنة مع الذين قضوا على الحسين وآل بيته وأصحابه الأطهار.

فالوحشيّة التي شهدتها كربلاء ليس لها شبيه حتّى بين أشدّ الوحوش ضراوة، وكلمة (وحشيّة) لا تفيها حقّها من الدلالة عليها، فقد فاقت الوحشيّة بمراحل، وتقدّمت على الدمويّة بخطوات، وصار لزاماً أن يوجد لها تعبير يلائمها. لكن العقل البشري الذي وضع لكلّ مظهر حدوداً قصوى في الفعل والتعبير عن هذا الفعل، ولكلّ موقف أقصى ما يلائمه من كلمات تدلّل عليه، لم يستطع تخطّي تعبيري الوحشية والهمجيّة، مع أنّ الواقعة كانت تتخطّاهما بمراحل شاسعة.

ولعلّ خير شاهد على همجيّة ما جرى في كربلاء وبعدها هذه الحادثة الصغيرة في فعلها، الكبيرة في مرماها، والتي تدلّ بشكل واضح على موت كلّ ضمير وإحساس بشري في نفس صاحبها، وتفاقم كلّ أنواع الخسّة والوحشيّة في وجدان فاعلها.

فها هو خولي بن يزيد الأصبحي يسرح برأس الحسين بأمر من ابن سعد، وقد غدا به إلى قصر الإمارة حيث قابل ابن زياد ووضع الرأس بين يدَيه وهو يقول:

املأ ركابي فضّةً أو ذهبا

إنّي قتلتُ السيّدَ المحجّبا

١١٨

وخيرَهم مَن يذكرون النَّسبا

قتلتُ خير الناس اُمّاً وأبا(1)

هذا المسلم بالاسم الذي عافه الإسلام، يفخر بكلّ الخسّة التي يمكن أن يعمر بها قلب بشري، بأنّه قتل السيّد المحجّبا، وقضى على خير الناس اُمّاً وأباً، ويفتح باب نفسه التي باعها للشيطان ينتظر الفضّة والذهب.

ولكنّ ابن زياد الذي لا يقلّ عنه خسّة وضعة يستاء من قوله أمام الجمع، فيجيبه: إذا علمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا نلت منّي شيئاً.

وفي إجابته هذه لا يأخذنّ بك الظنّ أيها القارئ على أنّ ابن زياد قد تحرّك ضميره للحظات فنطق لسانه بما نطق.. لا، بل هو اغتاظ من وصف خولي أمام الجميع بأنّه قتل خير الناس اُمّاً وأباً، في وقت كان ينتظر منه أن يصف ويطنب ويلفّق ويسبّ على الحسين أمامه وأمام الجمع المستمع؛ لذا فقد حجب عنه الجائزة التي كان ينتظرها.

وتتالت المعجزات الخارقة بعد شهادة الحسين (عليه السّلام)، ولعلّ معجزات الطبيعة هي أبسطها، فالمعجزات الحقّة كانت تلك التي قلبت اُمّة الإسلام رأساً على عقب بعد فترة من الزمن، وسنأتي على ذكرها في مكان آخر من الكتاب.

وكانت المعجزات التي أنزلها الله تعالى بعد استشهاد عيسى والحسين (عليهما السّلام)، البدايات الأولى المادّية؛ لِما سيلي بعدها من معجزات على مستوى الروح والعقيدة

____________________

(1) اختلف المؤرّخون بقائل هذه الأبيات. فعند ابن جرير الطبري / 261، وابن الأثير / 33 إنّه سنان بن أنس، أنشدها على عمر بن سعد، وفي شرح المقامات للشربشي / 193 أنّه أنشدها على ابن زياد، وفي كشف الغمّة للأربلي، ومقتل الخوارزمي / 40 أنّ بشر بن مالك أنشدها على ابن زياد، وفي رياض المصائب / 437 أنّ الشمر قائلها، وفي العقد الفريد / 213 سمّاه خولي بن يزيد الأصبحي وقد قتله ابن زياد لقوله الأبيات.

١١٩

والصراط، مما يدلّ دلالة واضحة على أن الأنبياء والشهداء إنما اُوذوا وصبروا من أجل أن يكشف سبحانه وتعالى للبشر قضايا الحقّ الاُولى، وأن يبرزها لبصائرهم، ويعلنها لهم على اختلاف أديانهم. على أنها قضايا واحدة لا تنفصم، وهي لا تتغير؛ لأنّ ناموس الطبيعة البشرية لا يتغير؛ ولأنّ السرّ الإلهي كلٌّ لا يتجزأ.

وعندما ينيخ الضعف على النفوس فتغدو العقيدة ضعفاً لا يتّصل بقوة، بعد أن كانت قوة لا تتصل بالضعف، فإن المصلحين الشهداء ينبتون من بين المجتمع المتفكّك كما تنبت الشجرة الخيّرة من بين العليق؛ فيشدّون على عوامل الضعف، وينشطون العقيدة بنفحة من روح تضحياتهم التي تختتم دوماً بالجود في نفوسهم بعد أن يكونوا قدّموا لوحاً جديداً لدستور أخلاقي تتفتح عليه البصائر المعمية فجأة بعد استشهادهم، فتبدأ كيمياء هذا الدستور تفعل فعلها في النفوس والضمائر حيث مكامن العقيدة؛ فتصلح العقائد وتسمو القلوب، وتدعم الشهادة التي أطلقت هذا الدستور بشهادات تليها وتشابهها قوة وعنفواناً. وإذا بانتفاضة الإيمان الجديدة تتأجج كلهب البراكين التي سدّت عليها المنافذ قروناً فتفجّرت بغتة بفعل زلزال مُخلخل.

ولم تكن ثورة فرخ النبي (عليه السلام) إلا هذا الزلزال الذي خلخل كيان الاُمة الإسلاميّة، فصدّع مداميك انحرافها، وردم فجوات إيمانها، فبدت بعده ناصعة متماسكة مغسولة بزوفى الشهادة، ومعمّدة بدم الطُّهر الذي جعلها بيضاء كالسوسن، ونقية كالزنبق، وشفافة كوردة في صباح مشرق.

١٢٠