الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53229
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53229 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رفعها الاُمويّون فوق الرؤوس لإيهام الناس وإخافتهم.

وكان لا بدّ للفرد المسلم من المقارنة بين هذا المبدأ الحسيني وذلك المبدأ الاٍُموي، وما كان من نتيجتهما؛ كي يخلص إلى نتيجة واحدة لا مزاحم لها في النهاية ألا وهي: أنّ الحُكم الاُموي حُكم مارق كافر يلعب بالسُنَن، ويسرق الخلافة، ويغتصب البيعة اغتصاباً. فكيف إذا كان على رأس هذا الحُكم خليفة مثل يزيد يجاهر بفسقه، ويتحدّى الله ورسوله، ويزاحم آل بيته على حقّ الخلافة، فذلك معناه موافقة ضمنيّة على فسقه، ومساعدة غير مباشرة على تحدّيه الله.

وعندما يعلن إمامٌ كالحسين (عليه السّلام) منحدر من معدن النبوّة أنّ «يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة(1) ، معلن بالفسق...». فمعنى ذلك أنّه إفتاء للاُمّة الإسلاميّة بجواز إسقاط هذا الخليفة المزيّف والثورة عليه؛ لأنّ معنى المبايعة هو بيع النفس للخليفة الذي يرمز إلى الشريعة وجوهر الدين، وحامي القرآن الكريم، وولي عهد الرسول المصطفى (صلّى الله عليه وآله) على المسلمين، وفي مبايعته إقرار ضمني بالاستماتة في سبيله عملاً بقوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، فألزم على المسلم طاعة الخليفة؛ لأنّها تدخل في طاعته عزّ وجلّ.

وعندما يكتشف الإنسان المسلم أنّ بيعه نفسه لخليفة فاحش قد كلّفه التفريط بعقيدته، وبيع نفسه للظلم والفحش الذي يمثّله هذا الخليفة، وبالتالي كسب غضبة الله جرّاء عصيانه، فإنّه يحتقر نفسه، ويزدري قلّة تعقّله حينما بايع خليفةً مزيّفاً، فيتحرّك ضميره ويتفاعل إحساسه بازدراء نفسه ولومها مع مخافة الله

____________________

(1)( ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ) ، راجع النصّ الكامل للآية 33 من سورة الإسراء.

١٤١

وعدله، فيثور ويحطّم أصنامه ويموت دون مبدئه راضياً مؤمناً.

وبدءاً من فرضيّة الندم ثمّ مراجعة النفس والوقوف على حقيقتها وحقيقة الاُمور، والظروف التي دوّمتها في دوّامتها، وتبيان الحقيقة الساطعة، مروراً بفترة المراجعة وكمون الأفكار والانفعالات، ونجاحها في تحويل صاحبها من إنسان خامل بلا عقيدة إلى إنسان ديناميكي معبّأ بالمبادئ، فضلاً عن تحرّك الظروف خارج نفس الإنسان وتفاعلها في نواحٍ اُخرى بما يدعم مبدأه الجديد وعقيدته المستيقظة، ممّا يزيد من تصميمه على استمرار الاستسلام لهتافه الداخلي الذي يقوده إلى دروب لم يكن يحلم بالمسير بها، ويفتح أمام بصيرته مغاليق كانت كالسدّ في وجهه، فيندفع بإيحاء من فقدان ثقته بما كان، وانسجاماً مع هتافه الداخلي، ورغبةً منه في تغيير الأوضاع إلى الثورة والتحطيم واقتلاع كلّ زيفٍ من جذوره.

وشهادة الحسين (عليه السّلام) في كربلاء وما تلاها من حوادث السبي نجحت في إيصال الإنسان المسلم إلى بدء رحلة الألف ميل نحو تحرّره وتمكين جذور عقيدته في نفسه بخطوة واحدة، إذ ما كاد ركب السبي يدير ظهره إلى دمشق عائداً إلى الأرض التي تضمّ الجسوم الطاهرة حتّى بدأ الندم يستشري في ضمير اُمّة الإسلام، وبدأت معه عمليّة مراجعة النفس التي ستشكّل محور ما سيأتي بعدها من تغيّرات وانتفاضات تعمّ هذه الاُمّة التي ابتلاها الله بالضعف من بعد قوّة، فيتنادى للتغيير والثورة أقصاها وأدناها(1) .

____________________

(1) شهادة الحسين (عليه السّلام) في كربلاء بحاجة إلى دراسة علميّة ونفسيّة وروحيّة وزمنيّة وافية على أعلى المستويات. إنّ في طوايا هذه الملحمة تكمن اُسس أخلاقيّة لو اُظهرت للبشريّة بشكل علمي مدروس لتغيّرت نظريّات كثيرة، ولأُعطيت أجوبة شافية للعديد من المسائل الروحيّة والزمنيّة، وكيفيّة الربط بينهما.

إنّ نهضة الحسين (عليه السّلام) على الرغم ممّا قدّمته حتّى زمننا هذا لم تزل تطوي في جوهرها كنوزاً من الكيفيّات والدساتير والأساليب والنتائج ذات الصلة الماسّة بمختلف الأصعدة الإنسانيّة بشكل عام، وبالعديد من قضايا الإنسان المعاصر بشكل خاص. فهل تلقى دعوتنا لهذه الدراسة تقبّلاً واقتناعاً؟

١٤٢

معجزاتُ الشهادة الاجتماعيّة

ما أن غادر موكب السبي دمشق حتّى كانت مرحلة الندم والبكاء وقرع الصدور؛ حزناً وتأسّياً وإحساساً بالذنب المتأتّي عن التقصير قد بلغت مداها، وفرّخت مرحلة مراجعة النفس، والوقوف على حقيقتها وحقيقة الاُمور والظروف التي دوّمتها في دوّامتها.

وكان لا بدّ لها من نموذج للأخلاق أسمى؛ إذ من المسلّمات التي تعقب عمليّة اهتزاز القيم والمعايير السائدة أن يبدأ الفرد الذي هو ركن المجموع بالبحث عمّا ينقصه، فتبلبله حيرة لا يعرف معها أيّ شكل من أشكال الاختيار التي تفتّح عليها عقله، وعرضت أمام بصيرته المتيقّظة لتوّها، فيبدأ في البحث عن نموذج أخلاقي يلائم نظرته الجديدة إلى نفسه وإلى الآخرين، وإلى مخارف الدنيا وزخرفها وزهدها ومختلف عناصرها.

وبعد ثورة الحسين (عليه السّلام) مباشرة كان النموذج الأخلاقي للمجتمع الإسلامي هو ذاته الذي كان قبلها، نموذج فيه من المثالب ما لا حصر له، فلم يكن غريباً على المسلمين آنذاك السكوت على البغي، والخضوع للطغي، بل والمشاركة فيه، ولم يكن مستهجناً مبدأ المساومة على المبدأ وبيع النفس، والرضى بخنوع مُذل إذا رافقه

١٤٣

استمرار تدفّق المنافع الدنيويّة، وكان يزيد وحاشيته هم المرآة التي تعكس كلّ هذا للمسلمين، بما يغريهم لأن يكونوا على شاكلتهم ومثالهم سواء أكان ذلك بالترغيب أم بالتّرهيب.

وما كان ممقوتاً مرذولاً في صدر الإسلام؛ من تكالب على المنافع، وحبّ الذات، وإيثار السلامة والدعة، غدا شيئاً مألوفاً، بل ومُطالب به كهدف وغاية يسعى إليها المسلم على قدمَيه، مع علمه بأنّ هذا المطلب الذي قدّسه كغاية بحدّ ذاته يحمل في طيّاته هجر القِيَم الإسلاميّة، والرنو إلى الأخلاق الجاهليّة التي جاءت رسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله) فبدّدتها، ووطّدت مكانها قِيَماً سماويّة.

وبعد الهزّة الحسينيّة صار يطيب للفرد المسلم أن يعيد تذكّر مبادئ الحسين التي أعلنها مراراً وتناقلتها الألسن فيما سبق، دون أن تحرّك في الضمائر أيّة إشارة لتقبّلها، حينما كان مدّ الأطماع والغيّ في أقصى حدوده.

أمّا بعد الهزّة فصار لهذه المبادئ وَقْع كوَقْع السحر، تذكّر المسلمون معها مقولة الإمام الشهيد (عليه السّلام) حينما اُحيطت به النوازل وقيل له بالنزول على حُكم بني اُميّة: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد. ألا وإنّ الدعيّ بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت، واُنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثّر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(1) .

وفي التذكّر عبرة سيّما إذا كان الدأب هو البحث عن نموذج جديد للأخلاق يلائم المرحلة الجديدة - ما بعد الثورة - فوعى المسلم لأوّل مرّة هذا الخُلق الاجتماعي

____________________

(1) تليها أبيات أنشدها الشهيد لفروة بن مسيك المرادي، ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق 4 / 333.

١٤٤

السليم، وتشرّب معنى الأنفة في الاُنوف، والإباء في النفوس الذي معه يفضّل المَصَارِع على طاعة اللئام.

وبعد أن كان الفرد المسلم يصمت أمام تغيّر الدنيا وتنكّرها وإدبار معروفها، ويرضى بالصبابة كصبابة الإناء التي بقيت منها، ويسرّ بخسيس العيش كالمرعى الوبيل، ويرى الحقّ لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، فلا يرى في هذه الحياة إلاّ سعادة، والبقاء مع الظالمين إلاّ سلوى.

صار - بعد تفجّر أخلاقيّة الثورة - يرى في كلّ ما كان يرضى به من هذا إنكاراً لدوره كمسلم، وإهداراً لكرامته كإنسان في هذا المجتمع. وما لبث أن صار يردّد مع إمام الثوّار:موتٌ في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ . وصار يحسّ مدى خواره وذهاب نخوته عندما بدأت أخبار المعركة تتناهى إلى علمه فيلُمَّ بتفاصيلها، ليحسّ بعدها برعدة الإحساس بالذنب، ويقدّر مدى تكالبه على الدنيا، ورضاه بالزيف، وبيعه لكرامته التي هي أثمن ما لدى الإنسان بحيث يفقد بفقدانها معنى وجوده.

شعر بالضعة حينما علم بموقف زهير بن القين عندما طالَب الإمام الشهيد صحبه بالانصراف وتركه لمواجهة مصيره وحده، وكيف أجابه: سمعنا يابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.

شعر بالخجل حيال مقولة بدير بن حضير: يابن رسول الله، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك؛ تُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة. أحسّ بتخاذله وتواكله حيال قول نافع بن هلال للشهيد: سِر بنا راشداً معافى، مشرّقاً إن شئت أو مغرّباً، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء

١٤٥

ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك، ونعادي مَن عاداك.

ما عادت نفس هذا المسلم تملك إلاّ أن تصغر في عين ذاته حينما يقارن بين موقفه وبين موقف زهير بن القين في ميدان الطفّ حيث لا شيء إلاّ الموت: والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نشرت ثمّ قُتلت، حتّى اُقتل كذا ألف قتلة، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

هذا المسلم المدجّن - اُمويّاً - شعر بعدم حفظه غيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وآله بالشهيد الحسين، عندما نُميَ إليه ما قاله سعد بن عبد الله الحنفي لسيّد الشهداء: والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وآله فيك، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّ - يُفعل ذلك بي سبعين مرّة - ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة؟!

وحيال مقولة مسلم بن عوسجة أحسّ هذا المسلم بالنقص الغيري، أنحن نخلّي عنك؟! ولما نعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمَا والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

ويتساءل المسلم ما الذي منعه من الوقوف كمثل وقفة بني عقيل لمّا أذن لهم الشهيد بالذهاب والاكتفاء من القتل بمسلم إذ قالوا: فما يقول الناس وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن برمح، ولم نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا. لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى

١٤٦

نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك(1) .

الأخلاقُ معدن الثورات

وأخلاق الثوّار هي المعدن الأصيل في كلّ حركة، ومثل هذه الأخلاق هي التي منعت العبّاس (عليه السّلام) من الشرب حينما تذكّر عطش الحسين ومَن معه، فقذف بالماء وهو يقول:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبعدهُ لا كُنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُالمنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني(2)

وهي الأخلاق التي دفعت بالحسين الشهيد وهو مطوّق بألف فارس وعلى رأسهم الحر الرياحي، وقد جاؤوا لمناجزته وإقصائه إلى المدينة أو للقدوم به إلى الكوفة؛ كي يأمر أصحابه باسقاء أعدائه وترشيف خيلهم، عبّتين أو ثلاثاً أو أكثر(3) .

هي أخلاق الثوّار التي لا يسمو فوقها أخلاق، والتي دفعت بالشهيد العظيم لأن

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 238، والكامل 4 / 24، والإرشاد للمفيد، وإعلام الورى / 141، وسِيَر أعلام النبلاء للذهبي / 202.

(2) رياض المصائب / 313.

(3) تاريخ الطبري 6 / 226.

١٤٧

يحني السّقاء بيده ليروي علي بن الطعان ويسقي فرسه، وهو المحارب الذي جاء مع الحر لمقاتلته.

وإذا كان للأخلاق مجاذب مغناطيسيّة قويّة فإنّها تبلغ لدى الثوّار الذين يباركونها بالدم مجاذب أقوى لا يقدر مطلق إنسان على الوقوف حيال قوّة جذبها، وهذا ما دفع بالحرّ الرياحي لأن يترك قيادة الألف فارس وينضمّ إلى جيش الحسين قليل العدد وهو يعلن توبته له، ويطالب بالشهادة دفاعاً عنه وعن مبادئه.

وجذب الأخلاق ما استطاع جون مولى أبي ذرّ الغفاري مقاومته، فتقدّم مستأذناً الحسين للقتال، وهو المولى الأسود الذي ما تبعهم إلاّ طلباً للعافية بينهم، ولمّا رفض الحسين وقع العبد الأسود على قدَمَيه يقبّلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! إنّ ريحي لنتن وحسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنّة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.

فأذن له الحسين (عليه السّلام)، فتقدّم وقاتل، فقتل خمسة وعشرين قبل أن يُقتل(1)

بين مبادئ وأخلاق

فمسلم ما بعد ثورة الحسين (عليه السّلام) غدا صفحة بيضاء مفتوحة تنتظر مَن يخطّ عليها سطراً جديداً، وفي بحثه عن النموذج الأخلاقي لم يكن أمامه مناص من المقارنة بين خُلقَي الحسين ويزيد، وبين تلك المبادئ التي لقّنها أبو كلّ منهما لابنه. وفي مرحلة

____________________

(1) مثير الأحزان - لابن نما / 33، وتاريخ الطبري / 239.

١٤٨

تفهّم الحقيقة التي دوّمته في دوّامتها، صار يسأل ويسمع ويتحدّث ويتذكّر، تذكّر مبادئ الطرفَين من المتقاتلين، وعاود تذكّر مبادئ جيل الآباء الذي سبقهم، وفي غمرة التذكّر وعودة الوعي، تذكّر وصيّة علي (عليه السّلام) لابنه الحسين (عليه السّلام)، في التقوى والأخلاق ومخافة الله والناس فيه، حيث قال له: «يا بُنَي، اُوصيك بتقوى الله (عزّ وجلّ) في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدوّ، والعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله تعالى في الشدّة والرخاء.

يا بُني، ما شرٌّ بعده الجنّة بِشَرٍّ، ولا خيرٌ بعده النار بخير. وكلّ نعيم دون الجنّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية.

اعلم يا بني، أنّ مَن أبصر عيب نفسه شغل عن غيره، ومَن رضي بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته، ومَن سلّ سيف البغي قُتل به، ومَن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، ومَن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومَن كابد الاُمور عطب، ومَن اقتحم البحر غرق، ومَن أعجب برأيه خلّ، ومَن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ، ومَن سفه عليهم شُتم، ومَن دخل مداخل السوء اتّهم، ومَن خالط الأنذال حُقّر، ومَن جالس العلماء وُقّر، ومَن مزح استُخفّ به، ومَن اعتزل سَلِم، ومَن ترك الشهوات كان حرّاً، ومَن ترك الحسد كان له المحبّة من الناس.

يا بُني، عزّ المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومَن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومَن علِم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه.

يا بُني، الطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم إعجاب المرء بنفسه، وهو دليل على ضعف عقله. يا بُني، كم من نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة جلبت نقمة.

١٤٩

لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعلى من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجع من التوبة، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت. ومَن اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ حفظ الدعة.

الحرص مفتاح التعب، ومطيّة النَّصَب، وداع إلى التقحّم في الذنوب. والشرّ جامع لمساوئ العيوب. وكفى أدباً لنفسك ما كرهته من غيرك، ومَن تورّط في الاُمور من غير نظر في الصواب فقد تعرّض لمفاجأة النوائب. التدبير قبل العمل يؤمنك الندم. مَن استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطأ. الصبر جُنّة من الفاقة. في خلاف النفس رشدها.

يا بُني، ربّك للباغين من أحكم الحاكمين، وعالم بضمير المضمرين. بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد! في كلّ جرعة شرق، وفي كلّ كلمة غصص. لا تنال نعمة إلاّ بفراق اُخرى. ما أقرب الراحة من التعب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة؛ فطوبى لمَن أخلص لله تعالى علمه وعمله وحبّه وبغضه. الويل الويل لمَن بلي بحرمان وخذلان وعصيان! لا تتمّ مروءة الرجل حتّى لا يبالي أيّ ثوبَيه لبس، ولا أيّ طعاميه أكل»(1) .

هذه الوصيّة التي تضمّنت كل هذه المبادئ الحياتيّة، من خلقية واجتماعيّة ودينيّة، كانت بمثابة الهَدي الذي قاد خطوات الحسين فيما بعد على طرق الحقّ والخير ونصرة المظلوم. وإذا تذكّرها مسلم وطافت فوق مكنونات سويدائه فبماذا ستذكّره؟ وإذا ذكّرته كيف ستكون مقارنته بينها وبين وصيّة معاوية لابنه يزيد حينما حضرته الهلكة فدعاه ليقول له: يا بُني، إنّي كفيتك الرحلة والترحال، ووطّأت لك الأشياء، وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإنّي لا

____________________

(1) راجع كتاب الإعجاز والإيجاز - لأبي منصور الثعالبي / 33، وكتاب ينابيع المودّة / 519.

١٥٠

أتخوّف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك إلاّ أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأمّا عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبقَ أحد غيره بايعك.

وأمّا الحسين بن علي فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتّى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً؛ وأمّا ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم، ليس له همّة إلاّ في النساء واللهو؛ وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إرباً إرباً.

وصيّتان الفرق بينهما شاسع كالفرق بين الظلمة والضياء، فرجل يوصي ابنه بالقناعة وذكر الله، وآخر يوصيه بالطمع والتكالب على الدنيا. ورجل يوصي ابنه باستقبال وجوه العمل والآراء تفادياً للوقوع في الخطأ، وآخر يبلغه بالاسترخاء بعد أن كفاه الرحلة والترحال.

وصيّة رحومة عطوفة أخلاقية تدعو إلى خشية الله تقبّلها شاب من أبيه فغدت له نبراساً ينير طريقه فمشى على هديها حتّى غالبته الحتوف وضيّقت عليه النوازل. ووصيّة مغرورة متراخية تقطر لؤماً ولا أخلاقيّة قدّمها طاغية مريض لابنٍ فاسق ينبئه فيها بصفاقة ما بعدها صفاقة، بأنّه ذلّل له الأعداء، وأخضع له أعناق العرب.

فشتّان بين وصيتَين، إحداهما تنطق بالرحمة، والاُخرى بالظلم، وشتّان بين كلمة علي (عليه السّلام): «ربّك للباغين من أحكم الحاكمين». وبين كلمة معاوية: وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب.

شتّان بين مقولة رجل لابنه: «ومَن سلّ سيف البغي قُتل به». وبين قولة آخر لابنه: إن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إرباً إرباً.

١٥١

هذان الشّتان هما الفارق الذي عناه علي (عليه السّلام) لابنه الحسين حينما ردّد على مسمعه: «ما أقرب الراحة من التعب، والبؤس من النعيم(1) ، والموت من الحياة». فالراحة قريبة من التعب، ولكنّهما على طرفَي نقيض. والبؤس قريب من النعيم، ولكن أين هما من بعضهما. والموت قريب من الحياة، ولكنّ الموت هو النقيض الصارخ للحياة.

إنّها حِكَم إعجازيّة قيلت في كلمات إيجازيّة مكثّفة، وهي لا تخرج على ما أثبته علم النفس من أنّ كلّ أمر قريب من نقيضه لا يفصله عنه إلاّ شعرة، هذه الشعرة هي موقف الشخص من الأمرين الّلذين يوجّهانه، تماماً كموقف شخصَين عرضت أمامهما كأس مملوءة لنصفها ماء، فيرى أحدهما أنّها فارغة حتّى النصف، بينما يراها الآخر ملآنة حتّى النصف. وقد أكّدت نظريّات الفلسفة أنّ العقل البشري يتشرّب المبادئ في فترة الطفولة، ثمّ خلال فترة الكمون التي تعقب فترة الطفولة، ثمّ في فترة الشباب المبكّر.

فالطفولة أشبه بالإسفنجة الماصّة التي تخزن كلّ تجارب ومبادئ الإنسان في عقله الباطن، وتأتي فترة الكمون وهي الفترة التي يعرّفها علم النفس بفترة تناسي كلّ المخزونات في العقل الباطن، فلا تلبث هذه المخزونات أن تعلن عن نفسها بلا حسّ إرادي من صاحبها، وتكوّن مجمل أفكار ومبادئ وتصرّفات الشخص في فترة شبابه وما يليها حيث توضع هذه الأفكار والمبادئ موضع التنفيذ من وحي عقله الباطن، أي من منطقة الغريزة التي لا سلطة للإنسان عليها، والتي لا يمكن له من تفهّم دوافعها وبواعثها، فيتصرّف بإيحاء منها، وكثيراً ما يقف ليسأل نفسه

____________________

(1) في كتابه (العالم كإرادة وتصوّر) يكشف الفيلسوف (أرثر شبنهاور) عن هذا التقارب النفسي والحسّي بين الراحة والتعب، والبؤس والنعيم. في عرضه لعلم الأخلاق القائم على الإنسانيّة الرؤوفة الشفوقة.

١٥٢

بعدها: لِمَ فعلت هذا وذاك من الاُمور؟(1)

والحسين (عليه السّلام) لا يختلف عن غيره في مروره خلال أدوار هذه المرحلة وكذلك يزيد، وقد تشرّبا كلاهما أفكار ومبادئ والديهما واتخذاهما قدوة في مقبل الأيّام، كذلك كان للبيئة أثرها في تكوين نفسيّتيهما، فمضى الحسين (عليه السّلام) في كلّ مراحل حياته يعمل بوحي من بيئته الأدبيّة الإسلاميّة التي رضع أخلاقيّاتها مع حليب طفولته، فلم يسمع أيّ إنسان عن الحسين طيلة حياته كلمة، أو يعاين له موقفاً يدلّ على عكس السمّو والنبل والأخلاق والحرص على الدِّين.

وفي المقابل لم يسمع أيّ إنسان عن يزيد طيلة حياته كلمة، أو يعاين له موقفاً يدلّ على عكس الخسّة والعبث والظّلم والحرص على الدنيا.

وفي ميزان المقارنة الذي نصبه الإنسان المسلم بعد ثورة الحسين (عليه السّلام) وضع في كفّتَيه كلّ ما يتّصل بشخصي الحسين ويزيد، ثمّ ابتعد قليلاً وألقى نظرة فاحصة مقارنة حياديّة تبغي الحقّ الذي أخذ يلحّ في ضميره.

رأى في كفّة الحسين شمائل النبوّة ومواقف الرجال الأفذاذ، وسمع من جانبها مبادئ الحقّ والعدل، ورأى في كفته (عليه السّلام) ميراثاً فكريّاً محمّدياً، لا قبليّاً ولا إقليميّاً، خال من التعصّب إلاّ فيما يتعلّق منه في مسائل العقيدة، ورأى في كفّته سرّ النبوّة، سرّ الجدّ والسّبط في آنٍ معاً، وتخيّل الرسول يقبّل سبطه في شفتَيه ويردّد: «حسين منّي وأنا من حسين».

____________________

(1) وهذا ما يسمّى في علم النفس بـ(الأفعال اللاإراديّة).

١٥٣

ثمّ رأى هذا الطفل رجلاً يرفع راية الإسلام فوق رأسه، وتخيّله يعلن بملء فيه: «مَن قَبِلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ».

ورآه متخيّلاً يبتعد عن مجلس أبيه علي (عليه السّلام) ونفسه مترعة بقولة أبيه التي كان يسرّها في أذنه كوصيّة: «مَن تكبّر على الناس ذلّ». ثمّ رآه في مكان آخر يقول لبعض الناس: «أنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة». رآه في مواقع العمل في المبدأ، فأعجب كيف عمل به بهذه الأمانة، ووضع نفسه اُسوة مع غيره. رآه كأسد جائع إلى إحقاق الحقّ، وقد قرّر الزحف باُسرته الصغيرة، قليلة العدد والعدّة في وجه كثرة العدو، وخذلان الناصر، وسمعه يردّد:

فإنْ نُهزَم فهزّامون قدماً

وإنْ نُغلَب فغيرُ مغلّبينا

وما إن طبّنا جبنٌولكنْ

منايانا ودولة آخرينا

إذا ما الموتُ رُفّع عن اُناسٍ

كلاكلَهُ أناخ بآخرينا

فأفنى ذلكمْ سرواتِ قومي

كما أفنى القرونَ الغابرينا

فلو خَلُدَ الملوكُ إذاًخلدنا

ولو بقي الكرامُ إذاً بقينا

١٥٤

فقُل للشامتينَ بنا أفيقوا

سيلقى الشامتونَ كما لقينا(1)

ورأى في كفّة الشهيد كيف تحرّك في وجه معاوية حينما كان يعدّ ابنه للخلافة، وتخيّله جالساً فوق الرمال جلسة متواضعة زاهدة وهو يخطّ رسالة لمعاوية يطالبه فيها بأخذ يزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي وترك ما يحاول من إيهام الناس فيه، كمَن يقدح باطلاً في جَور وحنقاً في ظلم.

رآه يرفض البيعة ليزيد بكلمته الشهيرة: «ومثلي لا يبايع مثله». ورآه يتمرّد على طاعة إمام مزيّف. رآه وهو يخرج من المدينة إلى الكوفة، ورأى مواقفه الشجاعة في مواقع الخطر، وسمع أقواله وكلماته الأخيرة أمام أشداق الموت، فلم يجد فيها أدنى اختلاف عن تلك التي عرفها منه وهو آمن مطمئن في المدينة بعيداً عن منازل حتفه.

ثمّ رآه فوق ثرى الطفِّ رابط الجأش قويّاً، يشعّ وجهه بنور سماوي بينما يتساقط حوله خلّص صحبه وأهل بيته، وتنتهك حرمه على مرأى منه.

رآه يقف كالأسد الهصور وحيداً يصيح في وجه أعداء الدِّين يدعوهم للبراز وهو يردّد:

____________________

(1) اختلفت المصادر في نسبة هذه الأبيات، فنسبها ابن هشام في السيرة لغروة بن مسيك المرادي، ونسبها الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة. أمّا المرتضى في الأمالي فقد نسبها إلى ذي الإصبع العدواني، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة، وفي شرح الحماسة للتبريزي أنّها للفرزدق.

١٥٥

أنا الحسينُ بنُ علي

آليتُ ألاّ أنثني

أحمي عيالاتِ أبي

أمضي على دينِ النبي(1)

ورآه وهو يقبّل ولده الرضيع ويودّعه قبل أن يلقى حمامه، ثمّ وهو يرفعه فوق يديه على مرأى من وحوش بشريّة تحجّرت قلوبها، ورأى حرملة بن كاهل الأسدي يرمي الرضيع بسهم فيذبحه وهو بين يدي أبيه.

رآه، ورآه، ورآه، في كلّ موقف وفي كلّ ميدان، رآه كما يرى الإنسان البرق فلا يلحقه ببصره، رآه في الميدان ممدّداً وشمر بن ذي الجوشن الكلب الأبقع ينيخ على صدره ويقبض على شيبته المقدّسة ويضربه بالسيف اثنتَي عشرة ضربة، ثمّ يحتزّ رأسه الشريف.

وتتوالى المشاهد بعد ذلك أمام ناظري المسلم، منبعثة من كفّة الحسين (عليه السّلام)، فيرى رأسه فوق رمح، ويرى موكب السبي الذي يفتّت القلوب، ويعبر في مجاز خياله منظر الرأس الشريف في طبق عند أقدام طاغية، وقضيب ينكت شفتَيه. ومع ما كان يراه، كان يسمع صوت العقيلة زينب يذكّره ببيعة نفسه لشيطان أطماعه الدنيويّة ليشتري بثمنها مكاناً مقيماً في الجحيم.

وحينما يصل هذا المسلم إلى هذا الحدّ من الرؤى المنبعثة من كفّة الشهيد (عليه السّلام)، ينفطر قلبه توجّعاً وتدمع عيناه ندماً، فيقرع صدره ويضرب خدّيه، وما يلبث أن يلتفت نحو الكفّة الثانية، فماذا يرى؟

____________________

(1) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 223.

١٥٦

في كفّة يزيد

يرى يزيد جالساً بين ندمائه يعاقر الخمرة، ويعابث النساء، وأمامه كلاب مسرجة بحللٍ من ذهب، وبعض الجواري ممَّن تحلّين باللآلئ يرحن ويغدون بصوان من ذهب خالص. وأمام يزيد صينيّة ملأى باللؤلؤ الناصع، وعند رجلَيه شاعر معروق يقول فيه قصيدة ركيكة المعنى والمبنى، وهو منصرف عنه يقهقه بصوت ماجن، وأصابعه المحشوّة بالخواتم تعبث بصدر جارية رومية. وينتهي الشاعر من قصيدته فيتنبه يزيد لذلك، فيعتدل لينشد بدوره:

أقولُ لصحبٍ ضمّت الكأسُ شملَهمْ

وداعي صباباتِ الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيبٍ من نعيمٍولَذةٍ

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم (1)

وهو في مجلس شرابه وندمه، إذ بأحد الخدم يقتحم عليه قصفه ويسرّ باُذنه ببضع كلمات يتغيّر على أثرها لون وجهه، ويهبّ لا مبالي، وقبل أن يغادر يطلب من وكيل جلسته أن يحشو فم الشاعر المعروق لؤلؤاً تكريماً له، ثمّ يختفي عن الأنظار ليظهر أمام أبيه المحتضر.

____________________

(1) راجع حياة الحيوان - الدميري 2 / 270.

١٥٧

وفي صمت يتقبّل منه وصيّته الأخيرة لينطلق بعدها في عمليّات لا حدّ لها من التهوّر، مخالفاً بذلك وصيّة والده في بعض فقراتها.

رأى المسلم يزيد خلال ثلاث سنين ونصف قاتلاً مفضحاً، بدأ ولايته بقتل الحسين، وفي سنته الثانية أباح المدينة ثلاثة أيّام بعد أن نهبها، وقتل فيها سبعمئة من المهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين، وافتضّ ألف عذراء(1) .

رآه يداعب قرده (أبا قيس) ويلبسه الحرير ويطرّزه بالذهب واللآلئ ويركبه أتاناً في السباق ويجهد كي يجعله سبّاقاً على الجياد، ويقول فيه:

تمسّك أبا قيسٍ بفضلِ عنانِها

فليس عليها إنْ سقطتَ ضمانُ

ألا مَن رأى القردَ الذي سبقت بهِ

جيادَ أمير المؤمنينأتان ُ(2)

ورآه متثاقلاً متمارضاً، بينما جيش أبيه يتّجه إلى القسطنطينيّة، وسمعه حينما ضرب الجوع والمرض هذا الجيش في منتصف الطريق، ينشد هذه الأبيات التي تدلّ على ختله وخداعه:

ما إنْ اُبالي بما لاقتْ جموعُهُمُ

بـ (الفرقدونة) من حمّى ومن مومِ

____________________

(1) الذهبي في سير أعلام النبلاء، ورسالة الجاحظ / 298 الرسالة الحادية عشرة في بني اُميّة، عن المقتل المقرّم.

(2) أمالي الزجاجي / 45.

١٥٨

إذا اتّكأت على الأنماطِ مرتفقاً

بدَير مرّان عندي اُمّ كلثومِ(1)

ورأى معاوية حينما بلغه هذان البيتان يقسم ليلحقنّ ابنه أمير المؤمنين المزمع بالجيش تفادياً للفضيحة ودرءاً لشماتة المسلمين، بعد شيوع هذا القول في مختلف الأوساط.

ورأى يزيد يطلب من ابن زياد بثّ عيونه خلف الحسين خلال توجّهه إلى العراق، وحبس الناس على الظنّة وقتلهم على التّهمة. ورآه في حضن اُمّه ميسون بنت عبد الرحمن بن بجدل الكلبي، بعد أن ولدته بالحرام من عبدٍ لأبيها مكّنته من نفسها فحملت به.

ورآه على شاكلة جدّه أبي سفيان عدوّ الله والإسلام الذي قاد الحرب ضدّ القرآن في بدر واُحد والأحزاب. ورآه على شاكلة جدّته هند المغرمة بحبّ السود، والتي أنجبت والده معاوية بعد زواجها من جدّه بثلاثة أشهر، والتي أكلت كبد حمزة عمّ الرسول، ولقّبت بآكلة الأكباد.

رآه على شاكلة أبيه معاوية الذي حارب علياً في صفين، وقتل عمّار بن ياسر، وسمّ الحسن، ومالك الأشتر، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد. رآه ينشد (ليت أشياخي ببدر شهدوا) حينما رأى رأس الحسين على سنّ رمح، وسمع قهقهته وهو ينكث ثنايا الرأس الشريف بالقضيب.

____________________

(12) الكامل لابن الأثير 3 / 197.

١٥٩

رآه يشرف من قصره على موكب السبي المشدود بالحبال على أقتاب الجمال، ورأى الإمام زين العابدين وفي عنقه الأغلال، ورأى رؤوس شهداء الطفّ فوق أسنّة الرماح.

رآه يأمر فيتحوّل أمره إلى إبادة لذريّة الرسول، ويأمر فيحتزّ رأس ريحانة الرسول، ويأمر فيوطأ جثمانه الطاهر بحوافر الخيل. رأى، ورأى، ورأى، حتّى كادت المشاهد تختلط ببعضها مع ما فاض في مآقيه من دمع، وبين كفّتي الحسين ويزيد أخذ بصره يتابع بحدّة وسرعة كثافة الرؤى والأحداث، فغدت هذه الرؤى كشريط ذكرى وتذكّر يُعرض أمام ناظريه بما لا يجعله يقف طويلاً عندها بعد أن بلغت روحه التراقي، ولم يعد بإمكان مشاعره المثلومة أن تركّز على ما يعرض أمامه، وما يراه بصره خلال تنقّله بين كفّتي الخصمين.

رأى الحسين، ورأى يزيد، ورأى معاوية، ورأى علياً، ورأى زينب، وها هو الشريط يتسارع أمام عينيه، وها هو الحسين طفلاً بين يدي جدّه، وجدّه يقول: «اللّهمّ أحبّه فإنّي اُحبّه». علي يقول لابنه الحسين: «مَن سلّ سيف البغي قُتل به».

يزيد يرقّص القرد كقرّاد، والحسين يهتف: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه». ويزيد يهتف:أسقني شربة تروي مشاشي. ومعاوية يأخذ البيعة بحدّ السيف.

زينب تصرخ: يا جدّاه، يا رسول الله! أنا ناعية إليك ولدك أخي الحسين.

١٦٠