الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53205
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53205 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالإرهاب والتجويع، والتخدير باسم الدِّين، والتدجين باسم القبليّة والإمامة. وكان من دهائه وخبثه أن استدعى بسر بن أرطأة وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلاّ بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم، وأنّك محيط بهم، ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمَن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا(1) .

وقد كتب نسخة إلى عمّاله بعد ما سمّاه بعام الجماعة يقول فيها: أن برئت الذمّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء فوق كلّ منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وقد عالن الناس بطبيعة حكمه بكلمته الشهيرة: يأهل الكوفة أترونني قاتلكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وألِيَ رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون.

وقد سجّل له التاريخ بأنّه نكّل بشيعة علي بعد موت ابنه الحسن أيّما نكال، واستباح دماً كثيراً، فكانت الأعداد في خانة الاُلوف، وكانت وسائله في ذلك زمرة من السفّاحين، مثل زياد وسمرة بن جندب الذي قتل كلّ مَن اتّهم بدم عثمان، وسبى نساء همدان وباعهن في الأسواق مسجّلاً بذلك سابقة خطيرة في بيع نساء المسلمين(2) .

وبلغ من شدّة دهاء معاوية أن جعل الكثيرين يعتقدون بسعة حلمه وكرمه وصبره، وكان ذلك بفعل نشاط (القصّاصين) الذين كانوا يتولّون إذاعة كلّ مليح وحسن عنه مستشهدين بفلان وفلان..

____________________

(1) نهج البلاغة 2 / 6 - 7.

(2) ذكرت بعض المراجع أنّ إرهاب معاوية دفع بالناس لإعلان زندقتهم وكفرهم على أن لا يقال عنهم أنّهم من شيعة علي.

٢٠١

وقد نجح في سياسته بتأليب القبائل على بعضها في الشام والعراق واليمن، وإثارة العصبيّات بينها لتشغل ببعضها عنه، وقد وصف - ولها وزن - هذه السياسة بقوله: وأجّج الولاة نار هذه الخصومة، ولم يكن تحت تصرّف الولاة إلاّ شرطة قليلة، وفيما سوى ذلك كانت فرقهم من مقاتلة المصر، حتّى إذا أحسنوا التصرّف تهيّأ لهم أن يضربوا القبائل بعضها ببعض، وأن يثبتوا مركزهم بينهم(1) .

وكان من نتيجة هذه السياسة أن ظهر الشعر السياسي والحزبي والقبلي، واشتعلت حرب الهجاء والمفاخرات القبليّة الجوفاء، فانضمّ الأخطل إلى الاُمويّين، ضدّ قيس عيلان شاعر التغلبيين، ثمّ انضمّ إلى الفرزدق على جرير لسان القيسيّة على تغلب.

استفحالُ خطر التحريف

وتطوّرت هذه الروح القبليّة وصارت خطراً اتّخذ شكل تأليف الأحاديث ونسبها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله).

واستفحلت حال المسلمين، وبدا أنّ الاُمّة في طريقها إلى الانهيار الكامل؛ فقد بدأت ألوان جديدة من التحريف في أحاديث منسوبة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)(2) مثل: إنّ الله ائتمن على وحيه ثلاثاً: أنا وجبريل ومعاوية.

____________________

(1) الدولة العربية، ولها وزن.

(2) في سلسلة دروس فقهيّة ألقاها المرجع الديني الأعلى الإمام المجاهد السيّد آية الله روح الله الخميني على طلاّب علوم الدين في النجف الأشرف، جاء فيها: إنّ هؤلاء ليسوا بفقهاء، وقسم منهم ألبستهم دوائر الأمن والاستخبارات العمائم لكي يدعوا الله للسلطان، وقد ورد في الحديث في شأن هؤلاء:«فاخشوهم على دينكم».

٢٠٢

وإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) ناول معاوية سهماً وقال له: خذ هذا حتّى تلقاني في الجنّة.

وأنا مدينة العلم، وعليّ بابها، ومعاوية حلقتها.

وتلقون من بعدي اختلافاً وفتنة، فقال له قائل من الناس: فمَن لنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه. والأمين هنا عثمان.

ولتكون سياسة التدجين والإسكات تامّة، فإنّ حديثاً أظهره أحدهم يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقّهم، وسلوا الله حقّهم. و مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه(1) .

ولكنّ الاُمّة التي اضطُهدت وجُوّعت لم تعد تستطع الحراك وصارت في حالة ما بين وبين، تخاف الجهر بما تعتقده وتخاف التحرّك بوحي من هذا الاعتقاد، ولم يبقَ لها إلاّ السكوت على هذا الضيم؛ لأنّ الكلام معناه القتل والتجويع والتشريد.

ولعلّ خير مَن صوّر هذا الموقف المتذبذب الخائف للحسين كان الفرزدق حين سأله (عليه السّلام) عن أهل الكوفة، حيث أجابه: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

ولم يتأتّ لهذه الاُمّة ولو معشار ما تأتّى للجيل الذي سبقها أيّام عثمان، فقد كانت ردّات فعل الاُمّة آنذاك قويّة استطاعت أن توقف عثمان عند حدّه، ولكن على عهد معاوية أسقط في يد اُمّة الإسلام، فمعاوية كان من الدهاء والغدر والثعلبيّة ما لم يكن لثعمان، وقد نجح في سياسة البطش والإرهاب نجاحاً لم يبلغه سابق ولا لاحق له.

____________________

(1) ذكر البخاري كثيراً من هذه الأحاديث المنسوبة، كما جاء ذكرها في كثير من كتب الأحاديث.

٢٠٣

وكان معاوية في بطشه يهدف إلى جعل الحكم خلافة ملك كسروي بعد أن نجحت الأرستقراطيّة الوثنيّة بإقامة دولة كبرى؛ وهذا ما تفسّره عبارته المشهورة: أنا أوّل الملوك(1) .

وهذا معناه أنّ معاوية كان يقصد أنّه أوّل الملوك في الإسلام الوليد الذي لم يعرف الملكيّة بهذا الشكل الرهيب الذي وضع اُسسه كما يحلو له، وكما يرغب في توريثه لمَن بعده.

كلّ ذلك من ألوان الانتهاكات، وتحريف روح الإسلام ومبادئ العقيدة، والعودة إلى النزاعات الجاهليّة التي قام الإسلام ليحاربها، كلّ ذلك كان يتمّ ومعاوية سادر في غيّه يزداد بغياً على بغي، والاُمة الإسلاميّة سادرة في خنوعها وذلّها، وتزداد استسلاماً على استسلام، والحسين (عليه السّلام) يرقب ذلك كلّه، وتهاويل ثوريّة تعتمل في صدره، صابراً على ما آلت إليه اُمّة الإسلام.

وكأنّه (عليه السّلام) ينتظر إتيان ساعة الخلاص ليعطى الإشارة من لدن العناية الإلهيّة للقيام بانتفاضته التي ستعيد عقيدة جدّه إلى صراطها المستقيم الذي أنزلت فوقه، وتعيد إزكاء شعلتها التي خبت في الصدور بفعل التدجين المنظّم باسم الدِّين والإرهاب، وليفتدي بمقتله إحياءها من جديد، وليكمل الشهادات العظيمة التي كتبها الله تعالى على الأنبياء والوصيّين والشهداء الأخيار، فيستمرّ الإسلام ويبقى بشهادته، كما بدأت حين أنزل على جدّه الرسول الأعظم ونشر بتضحياته الكبيرة.

____________________

(1) لقد أبطل الاسلام الملكيّة وولاية العهد، واعتبر في أوائل ظهوره جميع أنظمة السلاطين في إيران ومصر واليمن والروم غير شرعيّة، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد كتب إلى (هرقل) ملك الروم وإلى ملك فارس يدعوهما إلى الكفّ عن استعباد الناس، ويدعوهما فيها إلى إرسال الناس على سجاياهم ليعبدوا الله وحده؛ لأنّ له السلطان وحده. والحسين قام بثورته التاريخيّة للقضاء على اُسلوب هذه السلطنات المشؤوم - راجع مقدمة خطب الإمام آية الله الخميني (رحمه الله).

٢٠٤

الأسباب القريبة للثورة

أ. في عهد معاوية

لطالما تساءل الكثيرون عن السبب الذي حدا بالحسين (عليه السّلام) لتأجيل انتفاضته إلى عهد يزيد، ولِمَ لَم يفجّرها في عهد معاوية ما دامت مفاسده ظاهرة للعيان؟ وما دامت الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت إلى درجة التراقي ووصل بها سيل الاضطهاد الزُبى؟

ولكثرة ما طرح هذا التساؤل، ولكثرة الإجابات المتشابهة في كثير من الأحيان، والتي تبعد غالباً عن حقيقة هذا التأجيل، وعن جوهر الهدف منه، فإنّ تبصّراً متأنيّاً واعياً في دوافع هذا التأجيل، التي لا تتبدّى إلاّ بربطها فيما سبقها وتلاها من نتائج، لكفيل بجلاء أجوبة شافية على التساؤلات التي تثار في كلّ مرّة يتطرّق خلالها البحث عن أسباب عدم قيام الحسين بثورته في عهد معاوية.

ولا شكّ في أنّ التساؤل الملحّ، والأجوبة المبتورة ناقصة النضج من شأنها أن تزيد

٢٠٥

في تفسير الأمر على نحو بعيد عن الحقيقة الجوهريّة له.

وبرأيي أنّ كلّ مَن ساهم في وضع جواب على تساؤل بهذا الصدد كان يغفل إلى حدّ بعيد دَور العناية الإلهيّة في تسيير خطى الحسين في طريقها الصحيح وفي الوقت المناسب؛ لأنّنا لو نظرنا إلى حركة الحسين بأنّها أمر من الله سبحانه وتعالى سبق وأن تنبّأ بها الأنبياء والوصيّون، فإنّنا لا نعدو الحقيقة لو سلّمنا جدلاً بأنّ موضوع التأجيل كان لحكمة عُلويّة أوحت للحسين بكيفيّتها وتوقيتها حتّى تؤتي ثمارها، وتبلو مضاءها، ولا يكون لها من الثورات التقليديّة إلاّ اسمها فحسب، بينما يختلف مضمونها وجوهرها اختلافاً كلّياً.

لم يكن الشهيد إذاً يفكّر من عنديّاته حينما جاءته كتب أهل العراق تسأله الثورة على معاوية، فأجابهم: «فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً»(1) . ومثل هذا القول أجاب به عيسى (عليه السّلام) على اُمّه حينما دعته لاجتراح اُعجوبة، إذ أجابها: «يا اُمّاه، لم تأتِ ساعتي بعد»(2) .

فلم يقول الحسين هذا القول ما دامت القتلة هي القتلة سواء؛ أكانت على يد معاوية، أم على يد يزيد، وما دام غير قادر على هزيمة أيّ منهما بقوّة عسكريّة.

هنا تتجلّى الحكمة العُلويّة، ومن هذه النقطة بالذات علينا أن نفهم سرّ عدم قيام

____________________

(1) الأخبار الطوال.

(2) يوحنا 1/ 4 - 5

٢٠٦

الحسين في عهد معاوية، والسرّ في قيامه بها على هذا الشكل الضعيف عسكرياً في عهد يزيد.

السرّ في عدم قيام الحسين في عهد معاوية يكمن في كلمة (البيعة) التي وصفها (عليه السّلام) بأنّه كان لها كارهاً، وكان من نبل أخلاقه أن رضخ لتصرّف أخيه الحسن الذي قطع العهد مع معاوية، ولم يشأ أن يعطّل رأيه واجتهاداته في هذا الصدد، وكان يجيب مَن يسأله رأيه في عهد أخيه الحسن لمعاوية: «بأنّ لأخيه رأياً في الموادعة، وله هو رأي في جهاد الظلمة، والرأيان رشد وسداد، وأمر لكليهما من الله تعالى ورسوله».

ثمّ يطلب من شيعته بأن يكون كلّ امرئ منهم حلساً(1) من أحلاس بيته ما دام ابن هند حيّاً، فإن يهلك وهم أحياء يرجو أن يخيِّر الله لهم ويأتهم رشدهم، ولا يكلهم إلى أنفسهم.

وفي عبارة «فإن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخيّر الله لنا» معنى مفسّراً لرأيه عدم الخروج في عهد معاوية، يتجلّى تفسيره أكثر بربطه في الجملة التي تليه: «ويأتنا رشدنا»، ممّا يستدلّ معها على أنّ الله تعالى هو الذي سيمدّه بالأمر، ويؤتيه رشده؛ كي يصبح قادراً على الحركة والقيادة.

ويعطي هذا التفسير - انتظار موت معاوية - تفسيراً آخر بقول الحسين (عليه السّلام): «والصقوا في الأرض، واخفوا الشخص، والتمسوا الهدى» على أنّ فترة الكمون هذه ما هي إلاّ فترة تبصّر بالوحي الإلهي الذي كان الشهيد يأتمر بإمرته، والذي كان يصوّر له وحده هذا الاُسلوب غير المألوف في الثورات، ويمدّه

____________________

(1) حلس بالمكان حلساً: لزمه ولم يغادره.

٢٠٧

بالصبر إلى حين تدقّ ساعته، ونفس هذا الوحي الإلهي كان يحجب عن بصائر صحبه الكيفيّة والاُسلوب اللذين سيسبغهما على ثورة الحسين، وهذا ما يفسّره إلحاحهم على الحسين للسير على خطى أخيه الحسن وأبيه في الكفاح المسلّح.

ولكنّ الحسين كان فكره في واد، وفكر صحبه في وادٍ آخر. فهو لو قام بحركته في عهد معاوية بتكتيك عسكري، سبق وإن قام به أبوه وأخوه وآخرون، فإنّه قد ينتصر على معاوية، فيعتبره الناس - بمقياس تفكيرهم في ذلك الزمن - أنّه قائد عسكري نجح في صراع القوّة بما له من عدد وعدّة. ولو هُزم فكان اعتبر أحد الذين نكّل بهم معاوية وألحقهم بحتوف مَن سبقهم، يثير موته الحزن في اُسرته، ثمّ يطويه النسيان كما يطوي أيّ ثائر تقليدي.

ثمّ إنّ الحكمة العُلويّة تلعب دورها الأكيد في عدم مناجزة الحسين لمعاوية، إذ كان معاوية من صنف اُولئك الحكّام الذين كان الشعب ينظر إليهم نظرة احترام خاصّة ممزوجة بالحقد المقيت عليهم، وما كان مستبعداً، وقد عرفنا ما عليه جُبِلَ معاوية من دهاء وثعلبيّة، أن يلصق بالحسين تهماً باطلة بواسطة المرجئة وقصّاصيه النشطين، فتؤدّي حركته إلى نتيجة عكسيّة من حيث كانت تقصد العكس.

وقد أوصى الحسين صحبه باللصوق بالأرض وإخفاء شخوصهم، وهذا التكتّم وهذه التقيّة كانت لسرّ آخر، فالحسين كان قد عاصر حروب الجمل وصفّين والنهروان، وخَبُر دسائس معاوية وقدرته على اختراق ستار الكتمان ليصل إلى خصومه بكلّ الطرق، وأشهرها السمّ الذي قتل به أخاه الحسن(1) ، والذي كان فريداً لوحده بأساليب استخدامه، وبإطلاقه تلك التسمية العجيبة عليه

____________________

(1) ذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين: لمّا أراد معاوية البيعة لابنه يزيد لم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن أبي وقّاص، فدسّ إليهما سمّاً، فماتا منه).

٢٠٨

بقوله: إنّ لله جنوداً منها العسل(1) ؛ لذا جاءت تقيّته لتؤدّي غرضاً آخر من أغراض صبره، ولم تَكُ هذه التقيّة نتيجة لخوف من معاوية أو أساليبه - وهذا ما برهن عنه الحسين خلال مواقفه - بل كان نتيجة خوف الشهيد من أن يقضي عليه معاوية قبل أن يحين أجل قيامه بثورته التي ستختلف كليّاً عمّا سبقها من ثورات وحروب، والتي ستنحو منحى جديداً أمضى بكثير من المنحى العسكري، والتي بها سيتحقّق الوعد الإلهي بإعادة الدِّين الإسلامي إلى أشكال بدايته السليمة.

وللذين لا يقيمون أدنى دور لهذا الوعد من الأجدر لهم أن يعيدوا قراءة وتمعّن كلّ الأحداث التي مرّ بها الإسلام الوليد منذ أن اُنزل على خاتم الرسل والأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وكيف هدى هذا الوعد الرسول الكريم لتوقيع صلح الحديبيّة مع مشركي مكّة، ومحوه من العقد كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) و (محمّد رسول الله)، وكيف رضي علي (عليه السّلام) بالتحكيم بعد خدعة المصاحف في صفّين؟ وكيف صالح أخوه الحسن معاوية الذي اغتصب الخلافة وحرّف الدين؟

وهذا السرّ الإلهي الذي لا يستطيع تفسير كوامنه إلاّ المبصرون لا يهتمّ كثيراً للظروف الوقتيّة أو الطارئة إذا كان فيها منجى للعقيدة مؤقتّاً، أو فيها استعداد لقفزة ثانية لهذه العقيدة؛ ولذا فإنّ اللّبس يخيّم على عقول كثيرة، وتكون الدهشة والاستنكار هما الثمن لعدم فَهم هذه العقول لحكمة السرّ الإلهي في إظهار بعض الاُمور بمظهر عكسي.

وثمّة عامل آخر، وإن كان أقلّ أهميّة من العامل الذي سبقه، وهو أنّ مجتمع العراق الذي أنهكته الحروب وفتّت في عضده الخسائر والهزائم لم يكن مستعدّاً

____________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 1 / 201.

٢٠٩

لأدنى مناجزة يشهرها في وجه معاوية بالذات.

وعامل آخر يضاف إلى جملة العوامل الثانويّة: وهو أنّ قيام الحسين في عهد معاوية قد يكون مبرّراً لمعاوية لكي يصوّره بصورة المستغلّ الناقض لعهده وميثاقه، والحسين لا يسعى إلى هذه الصورة وإن كانت من باب التجنّي الواضح عليه، وهو ما كان يربأ أن يعرف به؛ لأنّه في جوهره بعيد عن الاستغلال ونقض العهود.

كان (عليه السّلام) يحسب لكلّ أمر حسابه في ميزان النتيجة، أمّا الهدف الذي كان يرنو إليه في سكوته على زمن معاوية فهو في تعبئة نفوس أهل العراق خاصّة، والمسلمين عامّة على مخازي اُميّة، وبذلك يكسب مزيداً من الوقت لنجاح هذه التعبئة النفسيّة، حتّى إذا ما قام بحركته التي هي في جوهرها - حرب نفسيّة وروحيّة - أكثر منها حرباً عسكريّة، يكون قد وجد أرضاً ممهّدة لها، وضَمن نتائج إيجابيّة لأهدافها(1) .

ثمّ وهو الذي خَبُر معاوية كان ينتظر موته كي يتولّى يزيد الخلافة، فيفضح بتهوّره وعدم حرصه كلّ المخازي التي ارتكبها ويرتكبها الاُمويّون باسم الخلافة، إذ كان معاوية اُستاذاً لا يبارى في إخفاء حقيقته، وكان كتوماً حريصاً على الظهور بعكس خبيئته، حتّى أنّه أفلح في خداع أكثر الناس تبصّراً وملاحظة(2) .

ورجل هذا شأنه، سيعرف الحسين بأنّه من قبيل المغامرة القيام على عهده، فهو لن يفلح معه عسكريّاً وليست له أساليبه في الخداع

____________________

(1) يقول (ماربين) الألماني: إنّ الحسين كان يبثّ روح الثورة في المراكز الإسلاميّة المهمّة كمكّة والعراق وأينما حلّ. فازدادت نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدّمة الثورة على بني اُميّة.

(2) نفسه: الحسين بمبلغ علمه وحُسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني اُميّة وإظهار عداوتهم لبني هاشم.

٢١٠

والتحايل. ففضّل (عليه السّلام) الانتظار والصبر على مكارهه على أن يقدم على خطوة ليس لها نتائج، أو قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة حيث كان يرغب العكس.

وإذا كان الحسين قد فضّل التريّث والانتظار حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإنّ التزامه بالعهد الذي قطعه أخوه الحسن كان التزاماً صحيحاً لا مفتعلاً في ظاهره؛ إذ لو كان راغباً في التنصّل من هذا الالتزام فما كان أسهله عليه لو تحجّج بأنّه لم يُسهم به ولم يكن راضياً عنه، فيتجنّب الملامة.

ويدعم رأينا هذا بأنّ الحسين (عليه السّلام) كان ملتزماً فعلاً لا قولاً بموقفه من البيعة بعد موت أخيه، وذَكَره للذين كتبوا له من شيعته بالعراق بأنّه ملتزم بالعقد مع معاوية، ولا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ويموت معاوية، وكأنّه يقول لهم: وبعد ذلك لكلّ حادث حديث.

وصحّ حدس الحسين (عليه السّلام)، فها هو معاوية يلجأ أكثر من مرّة لاستباق الزمن، واستغلال حرمة العهد في نفوس المسلمين ونفسه بالذات، فيلوّح بها في أحد كتبه له، مشيراً إلى نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي على الحكم الاُموي، وكأنّه يخشى من قيامه بنقض هذا العهد وفضحه.

وقد كتب إليه قائلاً: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ اُمور عنك، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر الله إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء! وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَن كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الاُمّة(1) .

____________________

(1) الإرشاد - الشيخ المفيد / 206، إعلام الورى / 20، وتاريخ الخلفاء - السيوطي/ 206.

٢١١

ولنلاحظ في كتاب معاوية الرغبة في استباق الزمن، والاحتراس مسبقاً من نقض العهد من قِبَل الحسين؛ لذا فقد أسرع بالكتابة إليه، حتّى إذا ما نقض العهد كان كتابه وثيقة تبرّر بطشه به أمام المسلمين، الذين تثيرهم قضيّة العهد والثبات على الميثاق، فيكون بذلك قد أسقط في يده سلفاً، وأسقط الكرة في مرماه.

وفي كتاب آخر أرسله إليه يقول بلهجة مهدّدة: وقد اُنبئت أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق ممَّن قد جرّبت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتّقِ الله، واذكر الميثاق(1) . في هذَين الكتابَين نلمح نقرأ مكثّفاً على وتر الميثاق، (إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء) و (اتّق الله واذكر الميثاق) و (ونفسك فاذكر وبعهد الله أوف).

وعلى الرغم من هذا التكتيك المقصود به تسجيل سابقة على الحسين فيما لو فكّر بنقض العهد، فإنّ الحسين كان قد بدأ بردّ هذه الحرب النفسيّة في سلسلة كتب لمعاوية ضمّنها كلّ الشكوك والريبة التي كانت تعتمل في نفوس المسلمين وضمائرهم حيال ممارساته للسلطة، وكانت هذه الكتب (الردود) إيذاناً ببدء التمهيد للثورة باُسلوب نفساني.

كان يقصد منها الحسين تعبئة النفوس بشكل نهائي، وتفجير الخلاف بينه وبين معاوية؛ كي لا يلام على أمرين، اُولاهما: على نقضه للميثاق، وثانيهما: على السكوت أمام المباذل والانتهاكات التي كان يأتيها الخليفة المزعوم دون أن يرفع إصبع أمامه بالنقد.

بدأ الحسين بهذه الحرب بعد أن نمي إليه عزم معاوية على التمهيد للبيعة ليزيد،

____________________

(1) ذكر فيليب حتّي في (تاريخ العرب) 2 / 252 أنّ أهل الكوفة كانوا قد بايعوا الحسين بعد موت أخيه، بينما الواقعة الصحيحة تشير إلى عدم استجابة الحسين لهذه المبايعة.

٢١٢

وبعد أن ورده كتابه بشأن الميثاق وذكره لِما نمي إليه في الشام بشأن قوم الكوفة الذين أنبؤوه بتحرّك شيعته في العراق، وما كان من أمره معهم حينما دعاهم للتريّث والالتصاق بالأرض.

ولعلّ كتاب (الردّ) الذي بعث به الحسين لمعاوية يعتبر وثيقة تاريخيّة دامغة على عهد معاوية، ومن الإغماط لها أن نختصرها أو نتحدّث عنها بصيغة الغائب في كتابنا هذا، إذ إنّها صورة وافية موضّحة لشخصيّة معاوية وحُكمه كما رآهما وعاصرهما الحسين (عليه السّلام)، ومن المناسب تثبيتها في هذا المتن ليطّلع عليها كلّ من يتوفّر على قراءة هذا الكتاب.

فمهما جهد المحلّلون والمؤرّخون في البحث عن مثالب معاوية فإنّهم لن يجمعوا معشار ما ثبّته الحسين في كتابه هذا. ومن جهة اُخرى فإنّ الكتاب يوضّح تماماً موقف مرسله من قضايا الحكم والانتهاكات التي يمارسها معاوية، ويكشف في الوقت ذاته عن مدى نسبة تعاظم الخلاف بينهما في اُخريات أيّام معاوية، قبل البيعة ليزيد بقليل، وكيف كان موقف الحسين من هذه المسألة.

وفي الكتاب تفسير بيّن لسياسة التكتّم والصبر والانتظار التي كان يمارسها الحسين غير هيّاب ولا وجل، والتي كان على استعداد لتحويلها في أيّة لحظة إلى نقيضتها في الجهر والإقدام على النقد، والإشارة بالاتّهام المباشر، البعيد عن التقيّة التي دعا إليها. وفي هذا مَثَل واضح على أصالة موقف الحسين، وعلى عمق مبادئه القادرة على احتواء كافّة الأبعاد، وهضم كافّة المتناقضات، لتبدو أخيراً بالشكل الذي يبتغيه لها صاحبها.

كتب الحسين (عليه السّلام) لمعاوية يقول له في جرأة نادرة(1) : «أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت عنّي اُمور أنت لي عنها راغب،

____________________

(1) راجع الإمامة والسياسة - لابن قتيبة 1 / 284، وأخبار الرجال - لأبي عمرو الكشي، واختيار الرجال - لأبي جعفر الطوسي / 32.

٢١٣

وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون والمشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون؛ ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حِجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلتَه بعدما أمّنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟!

أولستَ بمدّعي زياد ابن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

أولستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه زياد إليك أنّه على دين علي (عليه السّلام)، فكتبت إليه: أن اقتل كلّ مَن كان على دين عليٍّ. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودينُ عليٍّ هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

٢١٤

وقلتَ فيما قلتَ: انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أن اُجاهدك؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله، وإن تركته فإنّي أستغفر الله لديني وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني. فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبتَ جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك. ولَعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا؛ مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب(1) ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وليس الله بناسِ لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وتبّرت دينك، وغششت رعيّتك، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل، وأخَفْتَ الورع التّقي، والسّلام».

والمتمعّن في هذا الكتاب لا بدّ وأن يلاحظ رغبة الإمام الحسين (عليه السّلام) في فضح معاوية وردّ سهامه إلى صدره. فمعاوية يتّهمه بشقّ عصا اُمّة الإسلام،

____________________

(1)( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (سورة آل عمران / 21).

٢١٥

فيجيبه: «إنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها»(1) . ويهدّده بقوله: اتّق الله واذكر الميثاق، فيجيبه (عليه السّلام): «لقد نقضت عهدك بقتل ذاكري فضلنا بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق». ويلوّح له قائلاً: ونفسك فاذكر وبعهد الله أوفِ. فيجيبه «ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أن اُجاهدك، فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله»(2) .

وحيال تهديده له، يجيبه (عليه السّلام): «كدني ما بدا لك»(3) . وفي إجابته هذه تحدٍّ نهائي وواضح، أتبعها بعبارة اُخرى أشدّ جرأة: «فابشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب»، فحدّد (عليه السّلام) لخصمه نهاية مظالمه وكيده لاُمّة الإسلام، كما ستكون عليه في مقبل الأيّام.

وكي نفهم معاوية من خلال ردّة فعله حيال كتاب الحسين فإنّنا نراه وقد ركن إلى السكوت بعد ورود هذا الكتاب عليه، ولم يسجّل التاريخ حادثة تنمّ عن غضبه مما جاء فيه. وفي هذا إثبات أكيد على خبثه ودهائه، فلو جاء هذا الكتاب ليزيد بدلاً منه لَما توانى عن شنّ حرب جنونيّة على الحسين(4) .

وفي عبارة الحسين (عليه السّلام) «فكدني ما بدا لك» إحراج لمعاوية، كان يعني بها (عليه السّلام) وضع خصمه حيال اتّهاماته له، فلم يقُل له كدني بما تريد، بل بما بدا لك منّي، أي أنّ ما بدا منه (عليه السّلام) حتّى مجيء كتاب معاوية له، لا يعدو كونه خيالات

____________________

(1)( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ) (سورة البقرة / 191).

(2) يقول أمير المؤمنين علي (عليه السّلام): «وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممّا يحذرون».

(3) يعيب الله تعالى على المفرطين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً وطمعاً حيث يقول عزّته:( فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي ) .

(4) ثمّة تحليل وافٍ ووصفٍ واسع لشخصيّة يزيد في كتاب البلاذري (أنساب الأشراف) 4 القسم الثاني / أ.

٢١٦

وأوهام أو رغبة في استباق الاُمور وتسجيل مواقف سلفيّة عليه؛ بقصد استغلالها ضدّه فيما بعد، فلو قام يكيد له بما بدا له منه فلن يجد ممسكاً واحداً يكيد له به.

وهذه ألمعيّة نادرة من غذيّ الفصاحة الطالبيّة، تفوّقت بصدقها وعفويّتها بمراحل خبث معاوية ودهائه، استطاع (عليه السّلام) بها أن يردّ له الكرة التي قذفه بها، ويكيل له أضعاف ما كال به إليه، وبالتالي إسكاته إلى حين.

وثمّة حقيقة واضحة لمسها المسلمون في كلّ مرّة حاول معاوية فيها الكيد للحسين واتّهامه بما لا يفعله، وهي أنّ الحسين (عليه السّلام) رغم كلّ ما اُوذي به من معاوية وما ناله من ثعلبيّته لم يستبِح لنفسه الخروج عليه، وفاء صادقاً بعهده، على الرغم من جواز خروجه بعد خروج معاوية على كلّ العهود والمواثيق بالشكل الذي اتّهمه فيه من خلال كتابه (الردّ).

ولم تَكُ خلّة الوفاء بالعهد هي خلّة الحسين الوحيدة، بل كانت البارزة في حيّز صراعه النفسي مع معاوية، وليس أدلّ من تعاظم شأن هذه الخلّة المحمودة في نفس الحسين من أنّه وقد اتّهم معاوية بقتله لمَن كان على دين أبيه علي (عليه السّلام)، والتمثيل بهم لا لشيء إلاّ لذكرهم فضل بني هاشم وتعظيمهم حقّهم، فإنّه لم يتحرّك ليزاحمه مجلسه الذي أجلسه فيه دين علي الذي هو دين ابن عمّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والذي لولاه - كما ذكر له في كتابه - لكان شرفه وشرف آبائه، تجشّم الرحلتين.

ولو نادى الحسين بخلع معاوية آنذاك لتنادى له الكثيرون بنفس مناداته، إذ كان معاوية معروفاً بنقضه للمواثيق واستخفافه بعهد الله، وقتله للحسن وحِجر بن عدي والحضرمي وللكثيرين ممَّن يفوقون الحصر. ولكنّ الإمام الذي كانت تعدّه العناية الإلهيّة للشهادة العظمى اكتفى بأن جاهر خصمه بما ينفي عنه كلّ صفة إسلاميّة أو قوميّة بقوله: «كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك».

وتكرّ الأيّام، والحسين ومعاوية على سكوتهما إلاّ من بضعة كتب كانت تتطاير

٢١٧

بينهما بين الفينة والاُخرى، وقد حاول معاوية شراء أو ضمانة سكوت الحسين عن يزيد فلم يفلح، وحاول استمالته بجسّ نبضه حينما أخذ بتولية ابنه يزيد، ولكنّ الحسين الذي كان ينتظر موت الأب ليخرج على الابن أجابه في أحد كتبه إليه(1) : «وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لاُمّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه. فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة».

ولمّا يئس معاوية من حمل الحسين على البيعة لابنه يزيد، عمد إلى حرمان بني هاشم من أعطياتهم؛ حتّى يجبره على البيعة.

ولكنّ الكِبَر والمرض فتّ في عضده، ولم يفتّ في طموحاته، ولم يخفّف من غلواء خبثه. فها هو على فراش النزع الأخير يلجأ إلى أحابيله، ويعمد إلى تمثيليّاته فيأمر أُجَراءه كي يحشوا عينيه إثمداً، ويوسعوا رأسه دهناً، ويوسعوا له كي يجلس، ثمّ يأمرهم بإسناده والإيذان للناس ليسلّموا عليه قياماً دون السماح لهم بالجلوس..

وهكذا رآه الناس مكتحلاً مدهّناً، فعجبوا من الشائعات التي تناقلت خبر مرضه، وما كادوا يخرجون من لدنه حتّى أنشد يقول:

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 - 196.

٢١٨

وتجلّدي للشامتينَ أريهُمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

وأخيراً أرسل إلى مروان عامله على المدينة كتاباً قرأه على الملأ وقال فيه: إنّ أمير المؤمنين قد كبر سنّه ودقّ عظمه، وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، وقد أحبّ أن يعلم علماً ويقيم إماماً.

ولمـّا وافقه الناس كتب بذلك إلى معاوية، فأجابه معاوية: أن سمّ يزيد. فسمّاه لهم. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر وقال له: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك، لا يكون ذلك، لا تجعلوها هرقلية وتحدِثوا علينا سنّة الروم كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل(1) .

وأنكر الحسين أيضاً وتبعه عبد الله بن الزبير، ولكنّ معاوية لم يهتمّ وكتب إلى عمّاله أن يمهّدوا البيعة ليزيد في الأمصار، ويرسلوا الوفود إليه في الشام لإعلان بيعتهم.

ولكنّ المدينة لم تبايع كما بايعت الشام والعراق، فقَدِم معاوية إلى المدينة، حيث استقبله أهلها وعلى رأسهم الثلاثة الذين أنكروا على يزيد البيعة، فسبّهم. ولمّا أقام بالمدينة وكان وقت الحجّ خرج حاجّاً، فقَدِموا إليه ثانيةً وقد ظنّوا أنّه تغيّر.. فأكرم وفادتهم وطلب لكلّ منهم دابّة، ثمّ طلبهم فدخلوا عليه حيث دعاهم إلى بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: اختر منّا خصلة من ثلاث.

____________________

(1) راجع النوادر - لأبي علي القالي / 175- 176.

٢١٩

قال معاوية: إن في ثلاث لمخرجاً. قال: إمّا أن تفعل كما فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله). قال: ماذا فعل؟ قال: لم يستخلف أحداً. قال: وماذا؟ قال: أو تفعل كما فعل أبو بكر؛ فإنّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه. أو افعل كما فعل عمر بن الخطاب؛ إذ جعلها شورى في ستّة من قريش ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.

قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف، هل عندك غير هذا؟ قال: لا. قال: ألا تسمعون، إنّي قد عوّدتكم على نفسي عادة وإنّي أكره أن أمنعكموها قبل أن أبيّن لكم، إن كنت لا أزال أتكلّم بالكلام فتعترضون عليّ فيه وتردّون، وإنّي قائم فقائل مقالة، فإيّاكم أن تعترضوا حتّى أُتمّها، فإن صدقتُ فعليّ صدقي، وإن كذبتُ فعليّ كذبي، والله لا ينطق أحد منكم في مقالتي إلاّ ضربت عنقه.

٢٢٠