الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53207
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53207 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ وكلّ بكلّ رجل من القوم رجلين يحفظانه لئلاّ يتكلّم، وقام خطيباً فقال: إنّ عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر قد بايَعوا، فبايِعوا.

فانجفل الناس عليه يبايعونه، حتّى إذا اطمأنّ إلى أخذ البيعة ركب رواحله وقفل عائداً إلى الشام. فأقبل الناس على الحسين وصاحبيه يلومونهم دهشين! فقالوا لهم: والله ما بايعنا، ولكن فعل بنا وفعل. فقالوا: وما منعكم أن تردّوا على الرجل برفض البيعة بعد أن زعمتم لنا بأنّكم لا تبايعون؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل.

وهكذا تمّت البيعة ليزيد إغفالاً وقسراً وخداعاً. ولم يطل المرض بمعاوية بعد هذه الحادثة إلاّ قليلاً، فلمّا اشتدّ عليه وقرب به من حافة النزع الأخير ألقى لمَن حوله بآخر تلفيقاته، التي لكثرة ما ردّدها صار يصدّقها هو نفسه كما لو أنّها وقعت حقّاً، فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كساني قميصاً فرفعته، وقلّم أظفاري يوماً فأخذت قلامته، فجعلتها في قارورة، فإذا متّ فألبسوني ذلك القميص، وقطّعوا تلك القلامة، واسحقوها وذرُّوها في عينيَّ وفي فيَّ، فعسى الله يرحمني ببركتها، ثمّ تمثّل ببيتين من الشعر(1) :

إذا متُّ مات الجودُ وانقطع الندى

من الناسِ إلاّ من قليلٍ مصرّدِ

____________________

(1) من قصيدة للأشهب بن رملة.

٢٢١

وردّتْ أكفّ السائلين وأمسكوا

من الدِّين والدنيا بخُلفٍ مُجدّدِ

ولمـّا اعترضت إحدى بناته أكمل متمثّلاً:

وإذا المنيّةُ أنشبت أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

ثمّ راح بإغماءة أفاق منها للحظات، فتفوّه بهذه العبارة: اتّقوا الله عزّ وجلّ، فإنّ الله سبحانه يقي مَن اتّقاه، ولا واقي لمَن لا يتّقي الله. وما لبث إلاّ قليلاً حتّى قضى. وكان ذلك في الشهر السابع من سنة 60 للهجرة.

وبموته انقضت مرحلة مشبعة بالدسائس والمؤامرات، لوّنها بدهائه وثعلبيّته، وأنهاها حتّى الرمق الأخير بالكذب على الله ورسوله واُمّة الإسلام، واستعدّت الولايات الإسلاميّة لاستقبال عهد جديد، كانت بوادره تلوح في سماء الاُمّة، فتدفع بالغصص إلى أشدّ الحلوق تفاؤلاً، فيزيد ليس إلاّ معاوية ناقصاً بعض خصاله زائداً بعض خصال أبشع(1) .

واستعدّ الحسين (عليه السّلام) فقد دقّت الساعة وآن الأوان.

____________________

(1) عُلم عن يزيد بأنّه كان مُرسل العنان في بني كلب أخواله، مطيّته الشباب والفراغ والجده، وكان سلوكه متجاوزاً بمراحل ما جاء في الأخبار. وكانت له هوايات شاذّة عجيبة؛ كاللعب بالكلاب، والتصيّد بالفهود، والتلهّي بالقرود.

ذكر ذلك كلّ من المسعودي في مروج الذهب، وأحمد بن يوسف القرماني في أخبار الدول، والدميري في الكلام على الفهد، وابن الطقطقي في الفخري.

٢٢٢

ب. في عهد يزيد

لئنْ جرتْ لفظةُ التوحيدِ في فمِهِ

فسيفهُ بسوى التوحيدِ ما فتكا

قد أصبح الدينُ منه يشتكي سقماً

وما إلى أحدٍ غير الحسينِ شكا

هذا ما وصف به أحد الشعراء عهد يزيد، الذي استقبله المسلمون بقلوبٍ واجفة وبأعصابٍ مشدودة. فلا موت معاوية أشعرهم بالحزن، ولا تولّي يزيد أشعرهم بالفرح، وصار حالهم كحال مَن عناهم أحد الشعراء بقوله:

الحمدُ لله لا صبرٌ ولا جلبٌ

ولا عزاءٌ إذا أهلُ البلا رقدوا

خليفةٌ مات لم يحزنْ لهأحدْ

وآخرٌ قام لم يفرحْ بهِ أحدُ (1)

____________________

(1) هذه الأبيات للشاعر دعبل بن علي الخزاعي، وقد قالها لمّا جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق. وقد أثبتناها هنا للاستدلال والمطابقة.

٢٢٣

إلاّ أنّ مشاعر المسلمين بعد موت معاوية وتولّي ابنه يزيد لم تقف عند حدود عدم الحزن أو الفرح، بل تعدّتها إلى شعور الخوف والترقّب من عهد يزيد الذي لم يعرفوا له لوناً بعد. إذ كان معاوية قد استطاع أن يقيم توازناً ذكيّاً بين ما كان عليه وما ظهر منه للاُمّة، وكان التكتّم هو وسيلته الناجعة في إحداث هذا التوازن، فقنع الناس بهذا الحدّ من الإرهاب والتنكيل ولم يعودوا يجرؤون على الجهر بأكثر من الصمت.

وكانت هذه الخشية التي جاشت في قلوب المسلمين من عهد جديد بدأ ولم تتحدّد أبعاده بعد، نابعة من معرفتهم لشخصيّة يزيد كما سمعوا عنها، ورأوا ما رأوه منها.

فيزيد كان مثالاً لابن السلطان المدلّل المنحرف، وكان كما تروي الكتب عنه أحمق مغروراً، زاده التهوّر سطحية في التفكير، وبُعداً عن الحيطة والتكتّم، وكان اُسلوبه في التصرّف ومعالجة الاُمور اُسلوب مَن يركب كلّ مركب ومطيّة دون النظر في عواقب فعلته.

وكان على النقيض من أبيه معاوية، فكلّ التكتّم عند معاوية كان يقابله عند يزيد المجاهرة والانفلاش، وكلّ تكتيك عند أبيه كان يقابله عنده تهوّر واضح واندفاعة هوجاء.

وهذه الشخصيّة في مقياس علم النفس تسمّى بالشخصيّة (العصابيّة) وخصائصها هي ذات الخصائص التي عُرف بها يزيد، ومن مزاياها الاستجابة الفوريّة والسريعة والعنيفة لردود الفعل، وخفّة الشخصيّة وسرعتها في الانقياد للآراء الجديدة، سواء أكانت صائبة أم خائبة، وصاحب هذه الشخصيّة إنسان فتّاك يغدر بأقرب المقرّبين إليه، ولا يتورّع عن ركوب أشنع الأساليب للوصول إلى غرضه.

٢٢٤

ويصفه (سيجموند فرويد): بأنّ صاحب الشخصيّة العصابيّة إنسان ذو فائدة لعدد من الناس الأذكياء، يدغدغون عصبيّته ويبتزّون منه الفوائد(1) .

وهذا الوصف كان ينطبق إلى حدٍّ بعيد على شخصيّة يزيد. إذ كان القرّادون والفهّادون والقيان والقوادّون وسمسارو الجواري والعاهرات يشكّلون طبقة عريضة مستفيدة من أعطياته التي كان يحجبها عن المحتاجين من اُمّته، ويغدقها عليهم طالما هم يمتّعونه ويؤمّنون له الاستمراريّة في مباذله ومجونه.

كان موفَر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء وكلاب الصيد، حتّى كان يُلبسها الأساور من الذهب والجلال المنسوجة فيه ويَهَب لكلّ كلب عبداً يخدمه. وساس الدولة سياسة مشتقّة من شهوات نفسه(2) .

ورجل هذه صفاته كان من غير الممكن أن يسكت عن معايبه رجل كالحسين (عليه السّلام) عُرف بالتقوى وخوف الله والبذل للمحتاجين، والاقتطاع من فمه وإطعام أفواه الجياع. ورجل كهذا لا يمكن له من معالجة اُموره مع الحسين كما عالجها أبوه، إذ كان الفرق شاسعاً بين الاثنين، وكان منتظراً أن يتمّ التصادم في عهده بل في مطلع هذا العهد.

فلم يكن ثمّة ما يمنع الحسين بعد موت معاوية من إعلان ثورته على يزيد، فالنفوس عبّئت عن آخرها ضدّ هذا الخليفة الجديد؛ فمن جهة يزيد ساهمت الانتهاكات المكشوفة للدِّين في إيغار الصدور ضدّه،

____________________

(1) سيكولوجيّة الشذوذ النفسي / 129.

(2) راجع الفخري لابن طبا طبا الطقطقي / 103، والبلاذري في أنساب الأشراف.

٢٢٥

إذ لم يكن له قدرة أبيه على الاحتفاظ بالغشاء الديني الذي كان يسبغه على أقواله وأفعاله.

ومن جهة الحسين ساهم موت معاوية في تحلّله من العهد والميثاق، ولم يعد ملتزماً أمام أحد ليبرّر قعوده، وها هو يزيد يقدّم له إشارة البدء بما بدأ به من رعونة وحماقات في مستهلّ عهده.

فما أن وُرِيَ معاوية التراب حتّى عجّل يزيد بأخذ البيعة لعهده من زعماء المعارضة، مدّعياً أنّه رأى في منامه كأنّ بينه وبين أهل العراق نهراً يطرد بالدم جرياً شديداً... وقد جهد ليجوزه، فلم يقدر حتى جازه بين يديه عبيد الله بن زياد وهو ينظر إليه. وكانت هذه أكذوبة افتتح بها عهده كما اختتم أبوه عهده وحياته باُكذوبات مماثلة تحدّث فيها عن رؤى قدسية لم تجُل إلاّ في خياله المريض.

وما لبث أن كتب إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يخبره فيه بموت أبيه، ومرفقاً به صحيفة صغيرة ذكر له فيها: أمّا بعد، فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة(1) ، ومَن أبى فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه(2) .

وما جاء في هذه الصحيفة يعطي دلالة شاملة على شخصيّة يزيد. إذ في أوّل كُتبه لأحد وُلاتِه يطلب منه أخذ الحسين وجماعته بالشدّة، ويأمره بقطع رؤوسهم

____________________

(1) الكامل - ابن الأثير 3 / 263.

(2) مقتل الحسين (عليه السّلام) - الخوارزمي 1 / 178 - 180.

٢٢٦

وإرسالها له إن أبَوا بيعته. وها هو بأوّل تحرّك له يخالف آخر وصيّة لأبيه على فراش الموت حينما قال له فيما قال: إن خرج الحسين من العراق وظفرت به فاصفح عنه؛ فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإنّي لو أنّي صاحبه عفوتُ عنه.

ولكن يزيد صاحب الشخصية العصابيّة التي تفتك بأقرب الناس لها دون أن يرفّ لها جفن لم تكن لتهمّه كثيراً قرابة الحسين من محمد (صلّى الله عليه وآله)، ولا تهزّه قرابة الرحم الماسّة؛ إذ إنّ كل همّه الشدّة وإلاّ كان قطع الرؤوس هو البديل للإذعان لهذه الشدّة(1) .

ولكن الحسين (عليه السّلام) الذي انتظر هذه الفرصة طويلاً وصبر على معاوية حتى أيس منه أغلب صحبه، هبّ سريعاً، وكانت ردة فعله مدروسة؛ إذ قال للوليد لمّا فاتحه بكتاب يزيد: «مثلي لا يبايع سرّاً، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً»(2) .

فاقتنع الوليد لكن مروان قال له: لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتّى تكثّر القتلى بينكم

____________________

(1) كان يزيد (سيكوباتياً) وفي علم النفس السيكوباتية تعني إيقاع الأذى رغم معرفة مقترفها بالقانون والأعراف. إذ إنّ لذّة المقترف الكبرى تتجلّى في اقتراف ما يعرفه أنه جريمة تمام المعرفة.

(2) تاريخ الطبري 6 / 189.

٢٢٧

وبينه، فاحبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب له الحسين قائلاً: «ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي أم هو؟! كذبت ولؤمت وأثمت»(1) . وارتدّ إلى الوليد وقال: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمور وقاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة»(2) .

فأغلظ الوليد في كلامه وتطايرت الكلمات، فهجم تسعة عشر رجلاً جاؤوا مع الحسين منتضين خناجرهم وأخرجوه(3) . فقال مروان للوليد: عصيتني! فوالله لا يمكنك على مثلها. قال الوليد: وبّخ غيرك يا مروان، اخترت لي ما فيه هلاك ديني؛ أقتل حسيناً إن قال لا اُبايع؟ والله لا أظن امرأً يُحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة(4) ، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه، وله عذاب أليم(5) .

وهكذا فبعبارة «ومثلي لا يبايع مثله» ختم الحسين (عليه السّلام) صيحة تحدّيه

____________________

(1) تاريخ الطبري، وابن الأثير، والإرشاد، وإعلام الورى نقلاً عن المقرّم.

(2) مثير الأحزان - لابن نما الحلي.

(3) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 208.

(4) تاريخ الطبري 6 / 19.

(5) اللهوف / 13.

٢٢٨

ليزيد، وبدأ بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو مصارع شهادته. وهذه العبارة فيها من الإيجاز ما لا يستوعبه مجلد بالشرح المستفيض. فقوله (عليه السّلام) (ومثلي) معناه أنّ مَن كان مثله على دين الحق وسلالة النبوّة لا (يبايع مثله) مَن كان على باطل الأباطيل، وسليل مغتصبي حقّ آل البيت.

وحينما ألقاها ارتفع من أمامه آخر الحواجز النفسية والزمنية، ووضعته العناية الإلهية أمام دوره العظيم في مسيرة الدين الإسلامي، فصار منذ هذه اللحظة بطل هذه العناية وخادمها، ومنفّذ إيحاءاتها العُلوية التي ستقوده إلى قدره المكتوب والمحتوم. في تلك الليلة خرج الحسين زائراً قبر جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقد أثقله الدور الذي سيقوم به، والذي شعر بأنه صار إليه منذ أعلن كلماته أمام الوليد ومروان، فسطع له نور من القبر، فناجى جدّه قائلاً: «السّلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في اُمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم خذلوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك»(1) .

وفي الليلة الثانية خرج إلى القبر يصلّي ويدعو الله بحقّ القبر أن يختار له ما يرضى به عنه ولرسوله رضى، ثمّ بكى. وما لبث أن غفا على القبر، فإذا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه، فضمّ سبطه بين يدَيه إلى صدره، وقبّل عينَيه وقال:

____________________

(1) أمالي الصدوق / 93.

٢٢٩

«حبيبي يا حسين، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء مع عصابة من اُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين، إنّ أباك واُمّك وأخاك قد قَدِموا عليَّ وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك لدرجات في الجنان لا تنالها إلاّ بالشهادة». فجعل الحسين ينظر إلى جدّه ويقول: «يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا، خذني إليك، وأدخلني معك في قبرك».

وعبارة الحسين (عليه السّلام) الأخيرة تصوّر أدقّ تصوير هول ما سيصيبه ممّا جعله يطلب من جدّه إدخاله إلى قبره، وهذا التصوير يدلّ على همجيّة الذين سيؤذونه أكثر ممّا يصوّر شعوره من هذا الإيذاء وعلى قسوة ما سيناله، لا على خوفه منه.

ولعلّ التصوير الأشدّ بروزاً لهذه الهمجيّة ما جاء في قول جدّه (صلّى الله عليه وآله) له عند قبره من أنّه سيراه قريباً مرمّلاً بدمائه، مذبوحاً مع عصابة من اُمّته.

فوصف (عصابة من اُمّتي) فيه إشارة إلى نوعية اُولئك الذين سيتولّون الذبح، فهُم عصابة، والعصابة تتكوّن من مجموعة أشرار غلاظ الضمائر والقلوب، قساة الصدور والأنفس، وقد حدّدهم (صلّى الله عليه وآله) بأنّهم (من اُمّتي). أيّ تلك الطغمة الفاسدة من الاُمّة الإسلاميّة الخارجة عن العرف والقانون والأخلاق مثلُها مَثل عصابات السرقة والإجرام وانتهاك الحرمات.

ثمّ يصوّر الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) شناعة موقف هذه العصابة بقوله لسبطه: «وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تروى» ويبسط أمام البصائر وحشيّة العصابة التي تذبح حفيده، والتي لا تكتفي بالذبح بل مع ذلك تتركه عطشان وظمآن لا

٢٣٠

يُسقى ولا يُروى، وبهذا الفعل الاضطهادي لا تعطيه الحقّ البسيط الذي يعطى لأعتا المجرمين قبل إعدامه حينما يُسأل عن آخر رغباته، والتي يكون أبسطها السّقي والإرواء.

ويعطف النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه الفعلة على ما بعدها والتي ستكون من جانبه (صلّى الله عليه وآله)، إذ يكمل: «وهم مع ذلك يرجون شفاعتي! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة»(1) .

فعبارتا (وأنت مع ذلك) و (هم مع ذلك) فيهما ربط النتائج بالمسبّبات، وردّ الفعل إلى النيّة في الفعل، وإبراز الفَرق بين ما يجب أن يكون وبين ما لا يجب أن يكون، أو كان فعلاً خارجاً عن المألوف وحدود الكينونة الطبيعيّة.

فالقتل في عرف القانون هو جريمة لها حدودها الماديّة والقانونيّة والشخصيّة والدينيّة، إذا تمّ ضمن هذه الحدود اعتبر قتلاً في خانة الجريمة الصرفة، أمّا إذا سبقه تعذيب فيعتبر في عرف القانون جريمة أخرى تسبق الجريمة الحقيقية من شأنه مضاعفة العقوبة لها، وإذا ما تبع القتل تمثيل بالجثة فإنّ هذا الفعل يعتبر أيضاً جريمة اُخرى أشنع من القتل(2) ؛ لأنّ التمثيل هو إهانة الميّت، وتعذيب لروحه التي لا تترك مسرح مصرعها إلاّ بعد أن توارى الجثّة

____________________

(1) في سفر التكوين 3 / 11 أنّه حين قتل قابيل أخاه هابيل كلّمه الله قائلاً: فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يديك.

(2) يرى فيكتور ماسيون المشرّع الفرنسي بأنّ التمثيل بالجثّة جرم أكبر من جرم القتل ذاته، ويعتبر أنّ للميّت حرمة لا يجوز إهانتها، فإذا أهينت اعتبرت إهانة للرب خالق الهيكل البشري ومكوّنه على صورته ومثاله.

٢٣١

التراب (كما يرى بعض الروحانيين)(1) .

وهكذا فإنّ التعذيب والقتل والتمثيل تعتبر جرائم ثلاثاً في عرف القانون. فإذا نظرنا بهذا المنظار القانوني إلى مقتل الحسين، وكيف عذّب قبل الذبح ثمّ ذُبح ومُثّل بجسده الطاهر أشنع تمثيل وأشدّه مهانة، لتفسّرت لنا مقولة النبي (صلّى الله عليه وآله) لسبطه بهذا الشكل من التعبير(2) .

والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يترك ولده يعاني خوف الشهادة، وهو الذي رآه يبكي على صدره ويسأله إدخاله في قبره، بعد زهده في العودة إلى الدنيا، فقال (صلّى الله عليه وآله) له: «لا بدّ أن ترزق الشهادة؛ ليكون لك ما كتب الله فيها من الثّواب العظيم، فإنّك وأبوك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنة».

إذاً فإنّ انتظار الحسين كلّ هذه المدّة وصبره على مكاره معاوية لم يكن كما فسّره الملفّقون من أنّه جبن وخوف. وخروجه إلى الشهادة بالشكل الذي خرج به لم يكن كما أوّله المخرصون من أنّه خروج عاطفي، لا يحسب لصراع القوّة حساباً؟

فالحسين (عليه السّلام) لم يأتِ بأمرٍ من عنديّاته، بل كان مسيّراً ليس له خيار، فما قول

____________________

(1) للروحاني الفرنسي الكبير، نوستر اداميس (علم خاص في بقاء روح الإنسان حائمة فوق الجسد الذي تركته لساعات أو أسابيع لا تقوى على فراقه تأسّياً عليه، وخوفاً من انفلاتها طليقة، وللروحانيين الشرقيين آراء عدّة في هذا الصدد، ومنها أنّ البكاء حول الميّت يحزنه؛ لأن روحه تحوم وتراقب ولا تبرح بعيداً عن الجسد حتى يوارى التراب. والله أعلم.

(2) القتل يستجلب لعنة الله. وقد جاء النهي عنه في الإنجيل والقرآن والتوراة، على قدر خطورته الدينية والاجتماعية والإنسانية؛ لأنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، وقتله معناه تغييب لصورة الله ومثاله فيه. وإزهاق لوديعة غالية أودعها الله في هيكله البشري. فكيف إذا كان المقتول قبساً من النبوّة وبضعة من الرسولية. وجزءاً كبيراً من محبّة الله للإنسان... ونفحة قوية من إلهاماته وسرّه...!.

٢٣٢

الذين قالوا بعكس ذلك بكلمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) لسبطه «لا بدّ أنّ ترزق الشهادة ليكون لك ما كتب الله فيها». وهل بعد تنبّؤ الأنبياء ادّعاء، وهل بعد تقريرهم نقض؟

واُولئك الذين وضعوا ويضعون شهادة الحسين على مشرحة الحروب العسكريّة والصراعات البشريّة من أجل مغانم زمنيّة مؤقّتة، أمَا علموا أنّ حركته كانت استشهاداً وفداءً من حيث كان يقصد بها ذلك قبل أن يقوم بها بزمنٍ بعيد كما حلّلنا ذلك في مطلع كتابنا؟! أمَا لفت بصيرتهم إلى كون الشهادات العظيمة تشابهت في الشكل والوسائل والنتائج، وإنّها دوماً كانت تبدأ من أضعف المواقف حيث تستلزم القوّة، ومن أقوى المواقف حيث يستلزم الضعف؟!

أمَا قرؤوا نبوءات الرسل والوصيّين عن الشهداء الذين سيأتون بعدهم لإنقاذ العقائد وبني البشر من غيّهم وضلالهم، وانتشالهم من بؤر الظلم إلى شمس الحقّ، فيوفّروا على أنفسهم اجتهادات تؤول مصائرها إلى الرياح تذروها بدداً حيال سطوع وتجلّي الحقيقة الإلهيّة الجوهريّة التي لن يعلو على سناها سناء، ولا على إشعاعها إشعاع؟! فهي كالشمس، واجتهادات المحرّفين عُمي الأبصار والبصائر الذين يرون الحقيقة فيشيحون بوجوههم عنها، هي كظِلالٍ باهتة لأشجارٍ عرّيت من أثمارها وورقها، وعصفت بها أرياح الشتاء.

فما أعجب أولئك الموتورين الذين كفروا بنعمة الله تعالى الذي أعطاهم نعمة (الكلمة) فألصقوا بها المعايب والسوءات، وسكبوها على الورق تحريفاً لكلام الله وكلام رسله وأوصيائه، فمَن لهم بشفيع يوم القيامة، ومَن لهم بمنقذ من هواتف صدورهم إذا ما استيقظت ضمائرهم وهتفت في داخلهم تطلب ماء الرحمة والإيمان لتبرّد به جحيمها؟

٢٣٣

يا ليت مَن يمنع المعروفَ يمنعهُ

حتّى يذوقَ رجالٌ غبّ ما صنعوا

وليت للناس خطّاً في وجوههمُ

تبين أخلاقُهمْ فيه إذا اجتمعوا

وليت ذا الفحش لاقى فاحشاً أبداً

ووافق الحلمَ أهلُ الحلم فابتدعوا(1)

____________________

(1) هذه الأبيات لأبي دعبل الجمحي، وقد أثبتناها هنا للاستشهاد بمعناها الموافق مع معاني الرأي الذي سبقها.

٢٣٤

الفصل الثاني

٢٣٥

٢٣٦

الخروج إلى مكّة

ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدِ

ومَن يبكي على الشهداءِ بعدي

على قومٍ تسوقهمُالمنايا

بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

هذا الهاتف سمعته العقيلة زينب وركب الخروج على مشارف الخزيمية قرب الكوفة وأعلمت به أخاها الحسين، ولكنّ الشهيد الذي كان في هذا الموضع امتثالاً لأمر جدّه، لم يزد جوابه على كلام اُخته عن القول: «يا اُختاه، كلّ الذي قُضي فهو كائن»(1) .

وبجواب الحسين يضع ما كتب له في الصحيفة الإلهيّة في موضع التنفيذ بامتثاله

____________________

(1) راجع ابن نما / 23.

٢٣٧

للوعد الذي قدّر له إنجازه، فكان كلّ ما قُضي بالنسبة إليه فهو كائن لا محالة، وتأكيد جدّه الرسول الأعظم على ضرورة أن يرزق الشهادة فيه توكيد وأمر غير مباشر له كي لا يقف أو يتردّد، بل يقدِم عن وعي وتبصّر بالنتائج.

وهذا ما كان منه بعد تلقّي التوكيد - الأمر - من جدّه (صلّى الله عليه وآله)، إذ جمع عائلته وصحبه وأنبأهم برؤياه، فتخوّف عليه الجميع ونصحه عمر الأطرف بالمبايعة ليزيد وإلاّ سيقتل، وقال له محمّد بن الحنفيّة ناصحاً: تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية والأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث برسلك إلى النّاس فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك(1) .

فاستصوب الحسين نصيحة ابن الحنفيّة وعزم على الخروج إلى مكّة، ودخل المسجد وهو ينشد:

لا ذَعَرتُ السَوامَ في فَلَقِ الصُبـ

ـحِ مُغيراً وَلا دَعَوتُ يَزيدا

يَومَ أُعطي مَخافَةَ الـمَوتِ ضَيماً

وَالـمَنايا يَرصُدنَني أَن أَحيدا(2)

وقبل أن يترك الحسين المدينة كتب وصيّة تعتبر دستور الخروج، أجمل فيها مبدأه وهدف خروجه، وقال فيها ضمن ما قال: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب

____________________

(1) اللهوف / 15، طبعة صيدا.

(2) أنساب الأشراف 4 / 66.

٢٣٨

الإصلاح في اُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله)؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين»(1) .

وخرج الحسين من المدينة متوجّهاً إلى مكّة لليلتين من رجب سنة ستّين للهجرة وحوله أهل بيته وإخوته وبنو أخيه وهو يقرأ متخوّفاً طالباً من ربّه تخليصه من القوم الظالمين، ولزم الطريق الأعظم فقيل له: لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب. فأجاب: «لا والله، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض».

وفي مكّة مكث أربعة أشهر يدرس أحوال ناصريه وشيعته، وكانت تَرِده كتبهم تعلن له البيعة وتطلب منه الظهور، وكان أهل الكوفة وأعمالها قد وعدوه بمئة ألف مقاتل إن هو طلب البيعة(2) .

ولكنّ الحسين تمهّل لتبيان جليّة الأمر، وآثر قبل التوجّه إلى الكوفة أن يرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، ليهيّئ له الأرضيّة المناسبة لإعلان البيعة، ولهذه الغاية كتب إلى رؤساء الكوفة كتاباً يقول فيه: «أمّا بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي

____________________

(1) للشيخ محمّد عبده رأي يقول فيه: خروج الإمام الحسين (عليه السّلام) على إمام الجور والبغي يزيد كان من باب خذل حكومة جائرة عطّلت الشرع الإسلامي.

وللشيخ عبد الله العلايلي في كتابه (الإمام الحسين) / 344 رأي مماثل يقول فيه: إنّ الحسين (عليه السّلام) لم يخرج على إمام، وإنّما خرج على عادٍ فرض نفسه فرضاً، أو فرضه أبوه بدون ارعواء. وهذا مأخذ نيابي وغلطة سياسيّة من معاوية، أعدّ المجتمع للثورة إعداداً قويّاً حينما عهد إلى يزيد.

(2) وردت تفاصيل هذه الكتب وأعدادها وصيغها في كتاب ابن نما / 11، وفي الخوارزمي 1 / 193 تفصيل آخر لاجتماع أهل الكوفة وكتبهم إلى الحسين، عن المقتل للمقرّم.

٢٣٩

الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رسلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدمُ عليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط(1) ، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله، والسّلام».

وبينما الحسين في مكّة كان موسم الحج قائماً، وقد غصّت مكّة بجمع كبير من المعتمرين المسلمين من كلّ الأنحاء، وكانت أخبار خروج الحسين قد وصلت إلى الاُمويّين معلنة غضبته وعلنيّة حركته، مع ما وافاهم به جواسيسهم المبثوثة من عقد الأندية للحسين وكثرة اجتماعاته مع المسلمين المتواجدين في مكّة، إضافة إلى ما تناقلته الشائعات والتكهّنات من أقوال وآراء حول هياج أهل الكوفة وغليان نفوسهم بعد موت معاوية.

وكان أن قرّر الاُمويّون اغتيال الحسين في مكّة حتّى ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فأرسلوا فرقة يطلق عليها (شياطين بني اُميّة) مؤلّفة من ثلاثين رجلاً لتنفّذ عمليّة اغتياله.

وقد هدف يزيد من وراء اغتيال الحسين ضرب عصفورين بحجرٍ واحد، فمن جهة يتخلّص من خصمه، ومن جهة اُخرى يكون مقتله ذريعة مناسبة لإعدام المئات تحت ستار البحث عن قاتل الحسين، ممَّن يودّ اجتثاثهم وتصفيتهم.

وكان قد بلغ الحسين أنّ مسلماً قد بايعه في الكوفة ثمانية عشر ألفاً فقرّر التعجيل بالسفر إلى الكوفة لسببَين؛ أولهما: من أجل التفويت على اغتياله والمحافظة على حرمة الحرم، وثانيهما: من أجل المبادرة إلى المُبايعين قبل أن يتفرّق شملهم وتبرد هممهم من طول الانتظار.

____________________

(1) يقول الكتاب العزيز:( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (سورة الحجرات / 9).

٢٤٠