الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53211
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53211 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحاول البعض نصحه بالتريّث أو العدول عن السفر إلى الكوفة، ومنهم عبد الله بن عبّاس إذ سأله: إنّ الناس أرجفوا أنّك سائر إلى العراق، فما أنت صانع؟ أجاب: «قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين». فأعاذه ابن عبّاس بالله من هذا العزم، وقال له مشفقاً: إنّي أتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيتَ إلاّ أن تخرج فسِر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة(1) .

فقال له الحسين: «يابن عمّ، إنّي أعلم أنّك ناصح مشفق، ولكنّي قد أزمعت على السفر، وأجمعت على السير». قال ابن عبّاس: إن كنت لا بدّ فاعلاً فلا تخرج أحداً من ولدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قُتل ابن عفّان. ولكن صَحْب الحسين وخلصائه لم يعوا تماماً كما وعى هو أمرَ أن يتوجّه إلى العراق حيث مصرع شهادته، وكانوا حتّى وصوله إلى كربلاء ما زالوا ينظرون إلى

____________________

(1) أبو مخنف في المقتل / 41.

٢٤١

الخروج على أنّه مناجزة عسكريّة، وكان هذا الفهم المغلق سرّاً من الأسرار العُلويّة لم يتفتّح إلاّ لبصيرة الحسين وحده.

إلى الكوفة

في الثامن من ذي الحجّة خرج الحسين قاصداً الكوفة مَوطن المعارضة لاُميّة، وكانت أخبار تَنَادي الشيعة وكُتبها للحسين، والتفافهم حول مسلم بن عقيل بانتظار قدومه قد بلغت يزيد، فاستشار كاتبه وأنيسه سرجون الرومي بما يجدر عليه فعله، فأشار عليه بعزل والي الكوفة النعمان بن بشير، وتولية عبيد الله بن زياد والي البصرة(1) .

وما أن جاء الأمر لابن زياد حتّى تعجّل المسير إلى الكوفة ودخلها متخفّياً بثياب يمنيّة وعمامة سوداء، فكان الناس يظنّونه الحسين ويحيّونه بقولهم: مرحباً بابن رسول الله. وكان الغيظ يحرقه إلى أن وصل إلى قصر الإمارة، فأطلّ عليه النعمان وقال له: ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله. فقال له ابن زياد: افتح فقد طال ليلك. فعرفه ابن النعمان(2) .

وكان أوّل عمل قام به في الصباح أن جمع مشايخ المدينة في الجامع الأعظم وخطبهم وحذّرهم ومنّاهم بالأعطيات قائلاً: أيّما عريف وجِد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صُلب على باب داره(3) .

____________________

(1) كانت اُمّ عبيد الله بن مرجانة مجوسية. وعند ابن كثير في البداية، وعند العيني في عمدة القارئ شرح البخاري أنها سبية من أصفهان، ويقال: إنّ عبيد الله كان أكولاً. وفي المعارف لابن قتيبة / 256، كان طويلاً جداً، لا يُرى ماشياً إلاّ ظنّوه راكباً.

(2) تاريخ الطبري 6 / 201.

(3) الإرشاد.

٢٤٢

وكان يقصد بـ(بغية أمير المؤمنين) الحرورية وأهل الريب.

وأحدث قدوم ابن زياد اضطراباً بين الناس وانتشر الرعب في المدينة، وسرت شائعات بأنّ جيش الشام على الأبواب، وأمسكت القبائل بزعمائها حفظاً لهم من فتك ابن زياد، وبقي البعض يتردّد على مسلم بن عقيل بحذر وتكتّم تحت مراقبة اُمويّة شديدة.

وعلى الرغم من تضارب الوقائع فيما تلا من أيّام بعد وصول ابن زياد إلى الكوفة، فإنّ من المسلّم به أنّ عبيد الله بن زياد لاقى مقاومة وسجالاً في مغالبة مسلم وشيعته، وقد قيل: إنّه هرب مرّة من المسجد واعتصم بقصره هرباً من ناصري مسلم الذين تصايحوا ضدّه.

ويقال: إنّه اجتمع لمسلم أربعة آلاف نصير فأمر بمَن ينادي في الناس بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور، أمت). ثمّ تقدّم إلى قصر الإمارة مع أنصاره، ولم يكن في القصر إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرطة وعشرون من أهل الكوفة، فلمّا شعر ابن زياد بأنّه في خطر تحايل على الموقف وأنفذ عيونه وأنصاره يبثّون الشائعات في المدينة عن قرب وصول المدد من الشام، ويهدّدون بأخذ البريء بالمذنب والغائب بالشاهد.

وأثمرت حيلته، فصارت الزوجات يتعلّقن بأزواجهن كي يمنعنهم من الخروج، وفعل ذلك الإخوة والاُمهات(1) .

وكان أن انفضّ جُند مسلم إلاّ خمسمئة، وما أن صلّى المغرب حتّى كان وراءه ثلاثون أخذوا يتسلّلون رويداً رويداً حتّى بقي وحيداً في المسجد.

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 207.

٢٤٣

ولمّا سمع عبيد الله سكون الجلبة أرسل حملة القناديل ليفتّشوا في المسجد مخافة أن يكون هذا السكون مكيدة، فلمّا اطمأنّ إلى تفرّق أتباع مسلم دعا إلى الصلاة، ولمّا اجتمع الناس رقى المنبر وقال: إنّ ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرأت الذمّة من رجل وجدناه في داره ومَن جاء به فله ديّته.

ثمّ أمر رئيس شرطته الحصين بن نمير أن يفتّش السكك ودور الكوفة، وتوعّده بالقتل إن أفلت مسلم وخرج من الكوفة(1) .

وعند الصباح وشى ابن امرأة تُدعى (طوعة) كانت قد آوت مسلماً بمكان اختبائه، فأرسل ابنُ زياد ابنَ الأشعث في سبعين من الشرطة فقبضوا عليه بعد معركة دامية دافع خلالها ابن عقيل دفاع الأبطال، وقتل العديد من مهاجميه(2) .

ولمّا جيء به إلى ابن زياد رأى مسلم على باب القصر قلّة ماء مبردة، فطلب شربة منها، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم.

ولمّا مثل بين يدي عبيد الله لم يحيّه، فقال له ابن زياد: لقد خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبت، إنّما شقّ العصا معاوية وابنه يزيد، والفتنة ألقحها أبوك(3) .

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 209 - 210.

(2) يقال: إنّه قتل واحداً وأربعين رجلاً على ما ذكر ابن شهر آشوب في المناقب 2 / 212.

(3) ابن نما / 17، ومقتل الخوارزمي / 211.

٢٤٤

ونظر مسلم إلى جلساء ابن زياد فرأى بينهم عمر بن سعد فناشده بحقّ القربى بينهما ليصغينّ منه إلى وصيّة ينفّذها له، فأبى عمر. فأذن له عبيد الله، فقام إلى مسلم بحيث يراهما ابن زياد، فأوصاه مسلم بأن يقضي دَيناً عليه بالكوفة سبعمئة درهم بعد أن يبيع سيفه ودرعه، ويستوهب جثّته من ابن زياد ويدفنها، ويكتب إلى الحسين بخبره.

ولكنّ رجل عبيد الله كان أميناً مع نذالة نفسه فأفشى لسيّده بسرّ مسلم، فأمره بالتكتّم على هذا السرّ، وأمر بإخراج مسلم إلى أعلى القصر حيث تراه الجموع المنتظرة في الخارج، وطلب من رجل شامي أن يضرب عنقه. فسقط رأسه إلى الرحبة واُلقيت جثّته إلى الناس، ثمّ أرسل برأسه إلى يزيد مع رؤوس بعض أنصاره ممَّن كان يأوي إليهم وفي مقدّمتهم رأس هانئ بن عروة، ثمّ أمر بسحب مسلم وهانئ بالحبال من أرجلهما في الأسواق وصلبهما بالكناسة منكوسين(1) .

حينما قُتل مسلم كان قد مضى على خروج الحسين من مكّة يوم كامل ولم يكن قد علم بمقتل ابن عمّه، وكان يغذ السير تاركاً وراءه الدساكر والقرى ووجهته الكوفة.

ومن بطن الحاجر أراد (عليه السّلام) أن يستوثق من بقاء شيعته على مساندتهم له، فأرسل لهم كتاباً يطالبهم فيه بالجِدّ والانكماش في أمرهم، وأرسل الكتاب مع قيس بن مسهر الصيداوي الذي ما أن وصل القادسيّة حتّى وقع في قبضة الحصين بن نمير، الذي سيّره إلى ابن زياد، حيث خرق أمامه الكتاب الذي زوّده به الحسين، فسأله ابن زياد عن سبب تمزيقه للكتاب، وطلب منه أن يخبره عما فيه؟ فأبى قيس.

____________________

(1) في التاريخ نجد كثيراً من قصص الصلب مع إنكاس الرأس. ففي صدر المسيحيّة صلب نيرون مجنون روما بطرساً وبولساً تلميذي المسيح منكوسين، جزاء إدخالهما المسيحية إلى روما. وفي كتاب حياة الحيوان أنّ إبراهيم الفزاري قُتل وصلب منكساً بعد أن أفتى فقهاء القيروان بذلك؛ جزاء هزله بالله والأنبياء. كما أنّا واجدون حتّى في التاريخ الحديث قصص صلب مماثلة جرت باسم الثورات الشعبية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة.

٢٤٥

فأمره عبيد الله بصعود المنبر وسبّ (الكذّاب بن الكذّاب الحسين بن علي)، ففعل وقال: أيّها الناس، إنّ الحسين بن علي خير خلق الله، وقد خلفته في موضع الحاجر فأجيبوه، والعنوا ابن زياد وأباه. فما كان من ابن زياد إلاّ وأمر بقذفه من أعلى القصر، فتحطّمت عظامه.

وكان الحسين خلال سيره يسأل الناس عن أحوال الكوفة، فيجمعون على القول: بأنّ قلوب أهل الكوفة معه وسيوفهم عليه، وكان يجيب القائلين: بأنّهم لن ينصرفوا حتّى يقضي الله أمراً، وتتصرّف بهم الاُمور في عاقبة.

ولمّا وصل إلى الثعلبيّة بلغه مسلم وهانئ، فتلقّى ذلك بصبر، وسأل آل عقيل عمّا يرون فعله بعد مقتل مسلم؟ فأبوا الرجوع حتّى يذوقوا ما ذاقه مسلم.

وتوالت الأنباء المزعجة، فقد ورد للحسين نبأ مقتل عبد الله بن يقطر رسوله أيضاً إلى الكوفة، حيث كانت ميتته مثل ميتة مسلم، ملقى به من علٍ مدكوك العظام.

وهنا لم يرَ الحسين مندوحة من أن يعلن لمَن معه تقلّب الأوضاع لغير المشتهى، وخيّرهم بين البقاء أو الانصراف قائلاً: «وقد خذلنا شيعتُنا، فمَن أحبّ منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليهم منّا ذمام». فتركه معظمهم إلاّ أهل بيته وخلّص أصحابه.

وما أن أشرف الركب على جبل ذي حسم حتّى برزت طلائع جيش عبيد الله بقيادة الحرّ، حيث كان هذا الجيش يجوب القفار بحثاً عن ركب الحسين، ولمّا كان

٢٤٦

الوقت ظهيرة والقيظ يخنق الأنفاس، أمر الحسين فتيانه بإسقاء الجيش المعادي، وترشيف الخيل ترشيفاً(1) .

ولمّا علم الحسين بأنّ جيش الحرّ قد جاء لصدّه وأخذه إلى عبيد الله في الكوفة، أمر مؤذّنه بالأذان لصلاة الظهر، ثمّ خطب بالقوم الذين جاؤوا يطلبونه فأخبرهم بأنّه لم يأتِ حتّى أتته كتبهم ورسلهم، وسألهم أخيراً بقوله: «فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم». فسكتوا جميعاً.

وبعد الصلاة عاد الحسين إلى مخاطبة الجيش، فأجابه الحرّ: إنّي اُمرت ألاّ اُفارقك إذا لقيتك حتّى أقدمك الكوفة على ابن زياد. فقال الحسين: «الموت أدنى إليك من ذلك». وأمر أصحابه بالركوب، فحال الحرّ بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحرّ: «ثكلتك اُمّك! ما تريد منّا؟».

قال الحر: أمَا لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذا الحال ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَن كان. والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه، ولكن خذ طريقاً نصفاً بيننا؛ لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد، فلعلّ الله أن يرزقني العافية ولا يبتليني بشيء من أمرك.

ثمّ حذّر الحسين بقوله: لئن قاتلت لتقتلن؟

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 226.

٢٤٧

فقال (عليه السّلام): «أبالموت تخوّفني؟! بماذا أردّ عليك إلاّ بما قاله أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله»:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى رجالاً صالحين بنفسهِ

وخالفَ مثبوراً وفارق مجرماً

فإنْ عشتُ لم أندم وإنْ متّ لماُلم

كفى بك ذلاًّ أن تعيش وتُرغما

فتنحّى الحرّ عن الحسين، وأخذ يسايره بجيشه انتظاراً لوصول كتاب ابن زياد بعد أن أرسل يخبره بالعثور على ركب الحسين. وما أن وصلوا إلى نينوى حتّى وصل رسول يحمل للحرّ أمر ابن زياد الذي يقول فيه: أمّا بعد، فجعجع(1) بالحسين حتّى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء.

ولمّا فرغ الحر من قراءة الكتاب دفعه للحسين يقرأه، ولمّا فعل طلب الحسين منه أن يسمح لهم بالنزول في نينوى أو الغاضريات، فرفض الحرّ؛ متعلّلاً بأنّ لابن زياد عيناً عليه(2) .

____________________

(1) ذكر الأصمعي أنّ الجعجعة معناها الحبس. وجعجع به معناها: أحبسه. ومنه قول أوس بن حجر: إذا جعجعوا بين الإناخة والحبس عن المقتل للمقرم.

(2) إرشاد المفيد.

٢٤٨

وأشار زهير بن القين على الحسين بمقاتلة جيش الحرّ قبل أن يأتيهم من الجند ما لا قِبَل لهم بهم. فقال الحسين (عليه السّلام): «ما كنت أبدأهم بقتال».

وطلب الحسين من الحرّ أن يسمح لهم بالمسير قليلاً، فإذن لهم. فساروا جميعاً حتّى وصلوا إلى أرض كربلاء، فوقف جواد الحسين فجأة ولم يتحرّك، فسأل الحسين عن اسم الأرض التي يقفون فوقها. فقال زهير: هذه أرض الطفّ. فسأل الحسين: «وهل لها اسم غيره؟». قال زهير: تعرف بكربلاء. فدمعت عينا الحسين وقال: «اللّهم أعوذ بك من الكرب والبلاء، ها هنا محطّ ركابنا وسفك دمائنا ومحمل قبورنا، بهذا حدّثني جدّي رسول الله».

في كربلاء

في عشيّة اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين كان نزول الحسين وركبه في بطاح كربلاء، ومنذ هذا التاريخ تبدأ الفصول الأشدّ حسماً وصعوبة في رحلة الخروج الدامية.

وقد ضرب الحسين خيامه في هذه البقعة، وضرب الحرّ معسكره قريباً منه. وما هي إلاّ فترة بسيطة حتّى كان الخبر يهزّ الكوفة، فاهتزّت وماجت فيها القوى على اختلاف مشاربها، وبدا أنّ العناصر الموالية للحسين تنقصها القيادة التي توجّهها نحو هدفها.

٢٤٩

وأسرع ابن زياد فأطلق النفير العام معلناً التعبئة والتجنيد العام، بعد أن أرسل إلى الحسين كتاباً قال له فيه: أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير، أو ألحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد، والسّلام.

وقد قرأ الحسين هذا الكتاب وألقاه على الأرض، وهو يقول: «لا أفلح قوم اشتروا مرضات المخلوق بسخط الخالق». وقال لرسول ابن زياد: «ما له عندي جواب؛ لأنّه حقّت عليه كلمة العذاب». وبجواب الحسين هذا تقرّر فيه كلّ ما سيلي، وانقطع آخر خيط في الحوار الذي كان دائراً بينه وبين جماعة يزيد.

ولمّا أخبر الرسول ابن زياد بما قاله أبو عبد الله (عليه السّلام) ثار ثورة شديدة(1) ، وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى كربلاء، وكان معسكراً (بحمام أعين) في أربعة آلاف محارب ليسير بهم إلى (دستبي) بأرض همذان لقمع ثورة الديلم، بعد أن وعده بولاية الري وثغر دستبي والديلم(2) ، بعد تحقيق النصر.

ولكنّه استمهل ابن زياد للمراجعة، فنصحه ابن اُخته ابن المغيرة بن شعبة - وهو من أعوان معاوية - بألاّ يقبل بمقاتلة الحسين، وقال له: والله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقى الله بدم الحسين.

____________________

(1) البحار 10 / 189، ومقتل العوالم / 76.

(2) تاريخ الطبري 6 / 232.

٢٥٠

وبات ابن سعد ليلته مفكّراً وسُمع يردّد:

أأتركُ ملكَ الرّيِّ والريُّ رغبتي

أم ارجعُ مذموماً بقتلِ حسينِ

وفي قتله النارُ التي ليس دونها

حجابٌ وملكُ الريِّ قرّة عيني

وفي الصباح أتى ابن زياد وطلب إنفاذه على أن يرسل إلى الحسين بعض أشراف الكوفة وسمّى له بعضاً منهم. فأبى ابن زياد إلاّ أن يسير إلى مقاتلة الحسين، أو ينزل له عن ولاية الري، فلمّا رآه ملحّاً سار بجنده وانضمّ إليه الحرّ فيمَن معه، وأنفذ ابن سعد قرّة بن قيس الحنظلي لسؤال الحسين عمّا جاء به إلى هذه الأرض. ولمّا عاده بالجواب، كتب إلى ابن زياد فجاءه جوابه: أعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد، فإن فعل رأَينا رأْينا.

وكان ابن سعد قد ذكر لابن زياد أنّ الحسين أعطاه عهداً بأن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه، أو يسير إلى ثغر من الثغور، أو أن يأتي يزيد فيضع يدَه في يدِه. والمرجّح أنّ عمر بن سعد نقل عمداً هذا الكلام عن لسان الحسين؛ تخلّصاً من المهمّة الصعبة التي اُنيطت به.

وقد حاول عبيد الله أن يأخذ جانب الليونة بعد ورود كتاب ابن سعد، إلاّ أنّ شمراً نهاه وأوغر صدره على عمر واتّهمه بمحادثة الحسين طوال الليل بين

٢٥١

المعسكرين. فمال ابن زياد لرأي شمر، وأنفذه بأمر أن يضرب عنق عمر إن هو تردّد في تسيير الحسين إلى الكوفة أو مقاتلته، وكتب لعمر كتاباً غاضباً يقول له فيه: فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه، ولا لتقعد له عندي شافعاً.

انظر فإن نزل الحسين وأصحابه واستسلموا فابعث بهم إليّ مسلّماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قُتل الحسين فاوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاقّ مشاق قاطع ظلوم، فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر.

وهكذا انتشر في فلاة كربلاء خمسة وعشرون ألف مقاتل، يحاصرون ثلاثة وسبعين نفراً وبضعة نسوة وأطفال.

وقد حدّث التاريخ على أنّ وسائل النقل في الكوفة قد عجزت عن حمل هذا الجيش إلى كربلاء، وقد بقي الحدّادون في الكوفة يعملون ليل نهار لمدّة عشرة أيام متواصلة في صقل السيوف وبري النبال، كانت نارهم خلالها مضرمة على الدوام.

ورقم الجيوش التي أنفذت لمقاتلة الحسين لم يدخل في خانتها عدد بعض الرماة والفرسان الذين كانوا مع الحصين بن نمير، وعزرة بن قيس، ولو أحصيت لوصل العدد إلى ما فوق الثلاثين ألفاً.

ففي أمالي الصدوق، ذكر الرقم ثلاثين ألفاً، وفي مطالب السؤول ذكر بعشرين، وفي هامش تذكرة الخواصّ بمئة، وفي أسرار الشهادة بستة آلاف فارس وألف راجل، وفي تحفة الأزهار بثمانين ألفاً.

وعلى قعقعة أسلحة هذه الجيوش استعدّت كربلاء لاستقبال شهيدها، ومع اضمحلال غسق ليلة التاسع من محرّم استعدّ الشهيد الحسين (عليه السّلام) لتقديم ذاته على مذبح العناية الإلهيّة قرباناً فداء للإسلام.

٢٥٢

آخر أقوال ومواقف سيّد الشهداء

نادى ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم فأمر جيشه بالزحف نحو معسكر الحسين. وكان أبو عبد الله جالساً أمام بيته، فرأى رسول الله يقول: «إنّك صائر إلينا عن قريب». وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدوّ منّا.

فقال الحسين (عليه السّلام) لأخيه العباس: «اركب بنفسي أنت حتّى تلقاهم، واسألهم عمّا جاءهم». ففعل العبّاس مع عشرين فارساً، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو ننازلكم الحرب(1) . فعاد العبّاس (عليه السّلام) يخبر الحسين، بينما انصرف أصحابه إلى عظة القوم، وما

____________________

(1) راجع روضة الواعظين / 157، والإرشاد - المفيد، والبداية - لابن كثير 8 / 176، وتاريخ الطبري 6 / 137.

٢٥٣

لبث أن عاد طالباً منهم استمهالهم العشيّة، فأجابه ابن سعد لهذا الطلب.

وقرب المساء خطب الحسين (عليه السّلام) بصحبه، مخبراً إيّاهم بأنّ جدّه (صلّى الله عليه وآله) أخبره بأنّه سيساق إلى العراق، فينزل أرضاً يقال لها عمورا وكربلا، وفيها يستشهد وقد قرب الموعد(1) . وأذن لهم بالانصراف ودعاهم للانطلاق في حلّ من ذمامه بأن يأخذ كلّ منهم بيد رجل من أهل بيته ويتفرّقوا في سوادهم ومدنهم؛ لأنّ القوم إنّما يطلبونه، ولو أصابوه لذهلوا عن طلب غيره(2) ، ولكنّ الجميع رفضوا إلاّ الموت بين يديه.

وقد روي عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: قُتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلّهم من أولاد فاطمة.

وعن الحسن البصري أنّه قال: قُتل مع الحسين ستّة عشر رجلاً كلّهم من أهل بيته وما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه.

وتحدّث المصادر(3) بأنّ جيش الحسين كان مؤلّفاً من خمسمئة فارس من أهل بيته وصحبه ونحو مئة راجل؛ أمّا ابن عساكر فيورد أنّ ستّين شيخاً من أهل الكوفة هم جيش الحسين، وقد قاتلوا حتّى قُتلوا معه، إضافة إلى التحاق الحرّ

____________________

(1) راجع إثبات الرجعة.

(2) يرد الفيلسوف الألماني (ماربين) طلب الحسين (عليه السّلام) من أولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وخواصّ صحبه الانصراف وتركه وحيداً إلى رغبته في فضح بني اُميّة بقتل هؤلاء المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر، وعظم المنزلة ممّا سيجعل من قتلهم معه مصيبة عظيمة وواقعة خطيرة. وفي هذا دلالة على حسن سياسته، وقوّة قلبه وتضحية نفسه وأهله في سبيل الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره.

(3) راجع مروج المسعودي.

٢٥٤

وأخوه وولده ومولاه وبعض جنده، كما أضيف إليهم بعض من عسكر ابن سعد المتسلّلين إلى معسكر الحسين.

ولمّا وثق الحسين من صدق نيّتهم أراد أن ينبّههم إلى ما ينتظرهم في الغد فقال لهم: «إنّي غداً اُقتل وكلّكم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد، حتّى القاسم وعبد الله الرضيع، إلاّ ولدي علياً زين العابدين؛ لأنّ الله لم يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية».

فرفع الجميع أصواتهم مجدّداً شاكرين الله الذي كرّمهم بنصرته وشرّفهم بالقتال معه.

وفي تلك الليلة سمع علي بن الحسين أباه يقول وهو يصلح سيفه:

يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والدهرُ لا يقنع بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌسبيلِ

وقد أخبر عمّته زينب بما سمعه، فجاءت إلى أخيها تصيح: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة(1) .

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين - لأبي الفرج / 45، وكامل ابن الأثير 4 / 24، ومقتل الخوارزمي 1 / 238.

٢٥٥

وبكت النسوة معها، فقال لهنّ الحسين: «يا اُختاه، يا اُمّ كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرنَ إذا قُتلت فلا تشقن عليَّ جيباً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تقلن هجراً»(1) . ثمّ أوصى (عليه السّلام) اُخته زينب بأخذ الأحكام من ابنه علياً وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه.

وفي السحر من تلك الليلة خفق الحسين ثمّ استيقظ، وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه، وأشدّها عليه كلب أبقع، وأنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وقد صدق حدسه (عليه السّلام) إذ ما أن رأى شمراً الأبرص حتّى قال: «هو الذي يتولّى قتلي».

وصف ابن رستة في الأعلاق النفيسة شمراً بقوله: كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين أبرص. وفي كامل ابن الأثير ذكر: إنّ الشمر أبرص يرى بياض برصه على كشحه. وفي عجالة المبتدي في النسب للحافظ الهمداني ذكر: أنّ شمراً اسمه (شور بن ذي الجوشن)، ولأبيه صحبة ورواية روى عنه ابنه شور.

وكان الحسين (عليه السّلام) يحدّث أصحابه في كربلاء بما قاله جدّه (صلّى الله عليه وآله) فكان يقول: «كأنّي أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي».

____________________

(1) الإرشاد.

٢٥٦

الفهرس

الفصل الأوّل. 5

مقدّمة الكتاب.. 7

ضمير الأديان إلى أبد الدهور 7

مقدّمة الطبعة الثانية 17

مقدّمة المؤلِّف.. 21

ثورة الحسين لمَن؟ 59

فداء الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحيّ. 69

ثورة الوحي الإلهي. 89

الحسينُ يستوحي مقتله 101

معجزاتُ الشهادة 105

حكمةُ اختلاف الشهادتين. 115

معجزات الشهادة في ضمير الإسلام 121

سليلةُ بيت النبوّة 126

المعجزةُ الروحيّة 130

استجاباتٌ فوريّة 131

وارثة مبادئ علي (عليه السّلام) 135

بلاغة السجّاد (عليه السّلام) 137

مهزلةُ الخروج على الأئمّة 140

معجزاتُ الشهادة الاجتماعيّة 143

الأخلاقُ معدن الثورات.. 147

بين مبادئ وأخلاق. 148

في كفّة يزيد. 157

معجزات الشهادة الزمنية 169

ثورةُ المدينة 179

٢٥٧

ثورةُ المختار الثقفي. 181

ثورةُ مطرف بن المغيرة 182

ثورةُ ابن الأشعث.. 182

ثورةُ زيد بن علي بن الحسين. 183

الأسبابُ البعيدة للثورة 195

صراعُ موروث.. 197

ولايةُ علي (عليه السّلام) 199

انتقامُ معاوية من شيعة علي. 200

استفحالُ خطر التحريف.. 202

الأسباب القريبة للثورة 205

أ. في عهد معاوية 205

ب. في عهد يزيد. 223

الفصل الثاني. 235

الخروج إلى مكّة 237

إلى الكوفة 242

في كربلاء 249

آخر أقوال ومواقف سيّد الشهداء 253

٢٥٨