الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 53208
تحميل: 9453

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53208 / تحميل: 9453
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إذا قسناها بالمقياسين - ولا مندوحة لنا إلاّ بهما - فنجد أنّ ثورة ريحانة النّبي هي أعظم الثورات قاطبة، وشهادته متممّة لكلّ الشهادات التي سبقتها، إذ إنّ هذه الثورة قَبِلت قرباناً لها الشيخ والمرأة والطفل والرضيع. وكانوا كلّهم في ميدان واحد مشاهدي مجزرة ومتحمّلي نتائجها. فهي ثورة جعلت من مشعل أوارها وارث آدم صفوة الله، ووارث نوح نبي الله، ووارث إبراهيم خليل الله، ووارث عيسى روح الله، ووارث محمّد حبيب الله.

واستشهاد الحسين بهذا الشكل الدراماتيكي المؤلم رفعه مرتبة فوق الشهداء فصار سيّدهم ومعلّمهم، سيّما إذا نظرنا إلى الوسائل والكيفيّة التي تمّت بها شهادته مختتماً بها ثورته المنتصرة رغم خذلانها.

ففي الهدف ثبت أنّ ثورة الإمام كانت دفاعاً عن كلّ الرسالات السماويّة التي سبقتها ما دام هدف الرسالات تقديم المثال الحي على خلودها بالاستشهاد المعمَّد بالدم، و هو (عليه السّلام) تمّم بها ما بدأه جميع الأنبياء الذين ذاقوا الاستشهاد حرقاً وقتلاً وذبحاً وصلباً.

وفي الكيفيّة والوسيلة نرى أن ليس ثمّة ثورة تشبه ثورة الحسين بكيفيّتها ووسائلها، فقد كان سبط النبي (عليه السّلام) مصلحاً كبيراً انبثق من جموع الاُمّة، وله صفة بشريّة واحدة لا صفة رسوليّة كما للرسل، فكان عليه أن يسلك في كفاحه مسلك البشر المعذّبين والمحاصرين، ويلجأ إلى الوسائل البشريّة المحدودة في صراعه المستميت ضدّ حاكم غاشم وسلطة فاسدة منكّلة تبغي الانحراف بالعقيدة تحت لوائها.

وكانت المهمّة الملقاة على عاتق سيّد الشهداء غاية في الصعوبة؛ فقد كان الإسلام وليداً لمّا يزل يحبو، وقد اجتاز فترة مولده وفتوحاته الاُولى، واسترخت الاُمّة الإسلاميّة بعدها، ودبّ الخلاف في أوساطها، وصارت الأطماع الدنيويّة هي المحكّ لنفسيّة المسلم آنذاك، بعد أن نجحت سياسة الاُمويّين في تدجين الاُمّة

٨١

وتركيعها، وإقامة خلافة كسرويّة مدعومة بارستقراطيّة وثنيّة محرّفة ناصبت القائمين على الإسلام العداء، التي نجح الرسول (صلّى الله عليه وآله) في القضاء عليها في حياته؛ لأنّها انضوت تحت لواء الإسلام واعتنقت العقيدة سعياً وراء مصالحها الشخصيّة، وما كان أكثرها.

من هنا كانت صعوبة المهمّة التي أخذها الحسين على عاتقه، وهي النهوض باُمّة الإسلام من خدرها وإعادتها إلى الصراط المستقيم الذي بشّر به جدّه الكريم، صعوبة لا يحسّها إلاّ مَن كان في وضع مثل وضع الحسين يعتمد على مناصرين تفتّتوا بدداً، كما لو أنّهم لم يكونوا، وكأنّهم لم يرسلوا كتبهم في طلبه من المدينة ليقودهم في حركته، في مقابل حكم طاغ له من عدده وعدّته الشيء الكثير، مدعوماً بقوى غاشمة، بينما لا تلفت مفاسده انتباه قوى استطاع شراء سكوتها بالمال، بينما البقيّة التي كانت تحسّ الظلم والضنك آثرت السكوت والخنوع؛ إمّا حفاظاً على مكاسب رخيصة، أو خوفاً من بطش اُميّة.

وإذا حاولنا النظر مجدّداً إلى حراجة موقف الحسين في إعلانه عدم البيعة ليزيد وخروجه إلى الكوفة - مع علمه بإمكانيّة خذلانه - لتبيّن لنا بوضوح اُسلوب الحركة عند الحسين (عليه السّلام)، فهو لا يقف ليزن الأمر بميزان القدرة والاقتدار استناداً إلى الإمكانات التي بين يدَيه، وعلى ضوء ما لدى يزيد. كان المبدأ يعتمل في صدره يلحّ عليه بهواتف مجهولة لأن يتقدّم ويجابه دونما خوف من مآلٍ أو نتيجة، فالإقدام والتصدّي لقوى الظلم هما الثمرة التي ستكبر وتكبر إلى أن يحين موعد قطافها.

وإذا كان الأنبياء والرسل قد خصّهم تعالى بقوى وخوارق علويّة أكبر من قدرة البشر فإنّ الحسين (عليه السّلام) حتّى لحظة استشهاده كانت وسائله بشريّة صرفة لا تزيد ولا تنقص، عدا جوهر المبدأ فوق البشري الذي خطّط له حركته.

٨٢

ولقد أيّد الله تعالى كلّ نبي بمعجزة ممّا هو منتشر في عصره. ففي زمن موسى (عليه السّلام) كان السحر منتشراً كلّ الانتشار، فأيّد الله نبيّه موسى بمعجزة من نفس الشيء المنتشر، فألقى عصاه فإذا هي حيّة تسعى.

وفي زمن عيسى (عليه السّلام) كان الطبّ منتشراً انتشاراً هائلاً، فأيّد الله رسوله عيسى بمعجزة من نفس الشيء المنتشر آنذاك، فأعطاه معجزات إحياء الميّت وإبراء الأكمه والأبرص وطرد الأرواح الشريرة، وهذا إعجاز لم يتوصّل إليه الطبّ في ذلك الوقت ولا في الوقت الحاضر.

وفي زمن محمّد (صلّى الله عليه وآله) كانت الفصاحة والبلاغة هما المرجع الأوّل، وكلّ إنسان يُقدَّر على قَدر فصاحته وبلاغته، فكانت تنظّم القصائد وتعلّق المعلّقات في الكعبة، وتقام الأسواق للمباريات في إلقاء القصائد، فأيّد الله نبيّه محمّداً بلاغة.

وإذا كان حال الأنبياء الذين أيّدهم الله بمعجزات فوق إعجاز البشر قد آلت إلى الاضطهاد والقتل رغم معجزاتهم، فما هو حال الشهيد الحسين الذي لم يؤتَ إعجاز الأنبياء بل كان عليه أن يجاهد كالبشر؟

وليس معنى هذا أنّ الشهيد العظيم لم يكن لدَيه إلاّ الضعف البشري فحسب، بل كانت في صدره جوهرة الشهادة، وكانت له قماشة الشهيد حتّى قبل أن يولد، إذ كان معدّاً لهذه الشهادة وهذا السمو، لكن بوسائل بشريّة؛ كي تتمّ شهادته وتكون لكلّ البشر الذين يقنعون بضعفهم البشري عن القيام بالجهاد، فتكون ثورة سيّد الشهداء هي المثل الحي على إمكانيّة تحويل البشر إلى شبيهي الرسل، بعد أن يحوّلهم المبدأ القوي والعقيدة الثابتة الكامنة في صدورهم إلى ثائرين، يبحثون عن الموت ليلجوا في غمراته غير هيّابين، مبتغين مرضاة الله.

٨٣

دافعت ثورة الحسين عن السّنة المحمّديّة بقوّة الحجّة، وقوّة الحقّ وبلاغته، ولم تنتصر بقوّة العضلات والأبدان؛ إذ كانت ثورة موجّهة إلى العقول والضمائر والأنفس التي تقدّر للحقّ قدره، وتكره ما للباطل من مساوئ، لقد قال الحسين (عليه السّلام): «أيّها الناس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً؛ مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله»(1) .

وقال في خطاب آخر: «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما»(2) .

مثل هذا القول لا يصدر إلاّ عن إنسان معدّ للشهادة، ينطق لسانه بما يستقرّ في وحيه من إيحاءات علويّة، إنسان هو بضعة من الرسول الكريم وريحانته، ونفحة من نفحات إلهامه. فعندما ولدت فاطمة حسيناً أخذه النبيّ بين يدَيه وأذّن في اُذنه كما يؤذّن للصلاة، وأفرغ في سريرته الطفوليّة بعضاً من استشرافات النبوّة الهادية للبشر(3) .

إذاً كان الحسين (عليه السّلام) هو رجل المرحلة الثانية للإسلام بعد المرحلة الاُولى التي

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 229، وكامل ابن الأثير 4 / 21.

(2) اللهوف، والطبري الجزء السادس، والعقد الفريد 2 / 312، وابن عساكر 4 / 333.

(3) أخرج أبو داود والترمذي في (السنن) عن أبي رافع مولى النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: رأيت النبي أذّن الحسين حين ولدته فاطمة كما يؤذّن للصلاة. وذكر ابن الصّبان في إسعاف الراغبين: أنّه حنّكه بريقه وأذّن، ودعا له وسمّاه حسيناً يوم السابع، وعقّ عنه. وذكر المفيد في الإرشاد أنّ النبي عقّ عنه كبشاً.

٨٤

بدأها جدّه الرسول، وكانت مهمّته كبيرة تتصّدى لإعادة مسيرة العقيدة إلى الصراط المستقيم، ولِمَ لا؟! أليس (عليه السّلام) هو خامس أهل البيت الذين صرّح القرآن الكريم بطهارتهم؟ ومَن كان أجدر منه لأن يكون رجل (الاستمراريّة) وإعادة التقويم للإسلام الذي قيل فيه: بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني؟

ورجل نذر حياته للشهادة، وتقدّم بقوّة نحو افتداء عقيدته مضحّياً بنفسه وأهله، وشهيد أعطى معنىً كاملاً وتفسيراً واضحاً لمعاني تضحية الأنبياء والرسل بديناميكيّة ثورته وزخمها، وسيّد للشهداء أتمّ الشهادات العظيمة لكلّ الأديان، وناقض لكلّ نواميس الظلم والتحريف، ومعط ما لله لله، وما ليزيد ليزيد، تماماً كما أعطى قبله رسول المحبّة وشهيد المسيحيّة (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).

مثل هذا الشهيد الذي يذكّر كلّ مسيحي برسوله، ومثل هذا المعلّم للثورة من أجل الحقّ لخليق بأن يحلّ محلّه في ضمير الإنسان المسيحي، والجدير بالمسيحيين اعتباره شهيداً يخصّهم كما يخصّ المسلمين. وكما يجب أن يخصّ غيرهم من أتباع كلّ الديانات، فشهادته كانت أقرب الشهادات إلى روح وجوهر العقيدة المسيحيّة، وثورته - بمضامينها ومراميها - كانت أقرب الثورات التصاقاً بما جاء المسيح (عليه السّلام) لأجله نبيّاً ومبشّراً للمظلومين. فكان في شهادته من أجل الحق شهيداً في المسيحيّة التي تعصّبت للحقّ القراح دون أيّ تعصّب لقوميّة أو قبليّة أو عنصريّة.

فجدير بقدسيّة رسالة الحسين (عليه السّلام) أن يقدّمها العالم الإسلامي كأنصع ما في تاريخ الإسلام إلى العالم المسيحي، وكأعظم شهادة لأعظم شهيد في سبيل القِيَم الإنسانيّة الصافية، الخالية من أي غرض أو إقليميّة ضيّقة، وكأبرز شاهد على صدق رسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وكلّ رسالات الأنبياء التي سبقتها.

وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين (عليه السّلام) من قوّة جذب للشعور الإنساني من حادثة رسول قيصر إلى يزيد حينما أخذ هذا ينكت ثغر الحسين الطاهر بالقضيب

٨٥

على مرأىً منه، فما كان منه إلاّ أن قال له - مستعظماً فعلته -: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار، ونهدي إليه النذور ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فأشهد أنّكم على باطل(1) .

فأغضب يزيد هذا القول وأمر بقتله، فقام إلى الرأس الطاهر وقبّله وتشهّد الشهادتين، وعند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً يردّد: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»(2) .

وحادثة اُخرى دفعت براهب مسيحي لأن يبذل دراهم مقابل تقبيل رأس الشهيد، وكان ذلك عند نصب الرأس على رمح إلى جنب صومعته، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهّر وسمع قائلاً يقول: السّلام عليك يا أبا عبد الله. فتعجّب حيث لم يعرف الحال! وعند الصباح استخبر القوم فقالوا له: إنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب واُمّه فاطمة بنت النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقال لهم: تبّاً لكم أيّتها الجماعة، صدقت الأخبار في قولها: إذا قُتل تمطر السماء دماً.

وأراد منهم أن يقبّل الرأس، فلم يجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم، ولمّا ارتحلوا عن المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (3) .

____________________

(1) الصواعق المحرقة / 119.

(2) مقتل العوالم / 151، ومثير الأحزان لابن نما، وفي مقتل الخوارزمي 2 / 72 ذكر محاورة رسول قيصر وغفل عن ذكر كلام الرأس الشريف.

(3) تذكرة الخواص / 150.

٨٦

فبداهة القول إنّ أيّ فكر إنساني يطّلع على السيرة العطرة لسيّد الشهداء لا بدّ وأن تتحرّك في وجدانه نوازع الحبّ لهذا الشهيد المثالي، كما تحرّكت شبيهة هذه النوازع في قلبَي كلّ من رسول قيصر والراهب. ففي أعماق كلّ إنسان لواقط خفيّة تلتقط أدنى إشارات العظمة والقداسة خفوتاً، فكيف بأقواها تلك المتعلّقة بشخص سيّد الشهداء، والمنبعثة رغم السنين والقرون من كلّ كلمة في سفر حياته وكفاحه ومقتله، والتي تستهوي أشدّ القلوب ظلامة للتفاعل معها، وتوقظ أشدّ الضمائر مواتاً لاستلهامها والسير على هدي أنوارها السنيّة؟

٨٧

٨٨

ثورة الوحي الإلهي

دأب بعض المغرضين من مستشرقين وعرب على الوقوع في خطأ جسيم في كلّ مرّة يتصدّون فيها للكتابة عن ملحمة كربلاء، فيخلص بعضهم إلى القول: إنّ ثورة الحسين كانت عاطفيّة مرتجلة؛ قام بها الشهيد بغية إحراج الذين خذلوه خاصّة(1) ، وبني اُميّة والمسلمين عامّة(2) ، ويردّ البعض الآخر حركة الحسين إلى رغبته في إثارة المؤيّدين والرافضين على السواء، وتحميل ضمائرهم وزر قتل آل النبي(3) ، وحلّلها

____________________

(1) ورد في صحيح مسلم: أنّ طائفة من الجهلة قد تأوّلوا على الحسين وقتلوه ولم يكن له قتله، بل إجابته. فليس الأمر كما ذهبوا إليه، بل أكثر الأئمّة قديماً وحديثاً كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة.

وذكر الحافظ ابن كثير في استشهاد الحسين / 107: أنّ ابن زياد لمّا صعد المنبر قال: إنّ الله فتح عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرّق الكلمة عليهم.

(2) في كتابه (السياسة الإسلاميّة) يقول الفيلسوف الألماني ماربين: إنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبيّة في قلوب المسلمين كان بإمكانه تجهيز جيش جرّار لمقاتلة يزيد، لكنه قصد من استشهاده (الانفراد والمظلوميّة) لإفشاء ظلم بني اُميّة، وإظهار عداوتهم لآل النبي.

(3) الذين يؤيّدون هذا الرأي يستندون إلى كلام العقيلة زينب (عليها السّلام) في مجلس يزيد حينما قالت له: فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها.

٨٩

آخرون بأنّها ثورة أخلاقيّة كان الحسين يبتغي من ورائها عزل العقيدة المحمّديّة عن مسالك تهلكتها والنجاة بها إلى طريقها الصحيح(1) ، وحصَرها آخرون في إطار رغبة الاستيلاء على الحكم، والإيثار بالخلافة(2) . والذين لم يحلّلوها حسب رؤاهم اكتفوا بوصفها بالعاطفيّة وعدم التخطيط وحساب ما للحرب من نتائج وأساليب وما يترتّب عليها من نتائج.

ولو توفّر لكلّ هؤلاء المغرضين والمستبدّين بآرائهم البصيرة النافذة والرؤية المتبصّرة التي تردّ مؤشّرات الأحداث إلى منابعها، وتربط النهايات بالبدايات، والمسار بنقطة الانطلاق، والنتائج بالمسبّبات، لَما وقعوا فيما وقعوا فيه من مغالطات وتَجَنٍّ على الحقيقة، تجلّت في رؤية الأحداث والحقائق من وجهة نظر تفصيليّة ماديّة ضيّقة، وربط النتائج بالأسباب بكيفيّة تقليديّة على نحو ما اصطلح عليه العقل البشري في بعض اجتهاداته المحرّفة سيّئة المقاصد.

ولكن أنّى لهم ذلك إذا كانت السّوءة في هضم الحقائق فكرياً هي هدفهم الأسمى الذي يسعون إليه، ويُغذّون على نبراسه في دروب رؤاهم الموءودة بسكين وترتهم وضيق أفقهم وسوء نيّاتهم؟

فالقائلون: بأنّها ثورة مرتجلة، في قولهم كمَن يجدِّفون على الحكمة الإلهيّة التي هيّأت

____________________

(1) الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه (الإمام الحسين) / 348 رأي يقول فيه: خروج الحسين (عليه السّلام) ليس فتنة - كما اتّهموا - بل لمكافحة الفتنة، فأيّة محاولة وثورة على الفساد في سبيل أن يكون الدين كلّه لله نحن مأمورون بها. فالحسين بخروجه لم يجاوز برهان ربّه:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) .

(2) للعقّاد في كتابه (أبو الشهداء) رأي يقول فيه: الحسين (عليه السّلام) طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلّفه من ثمن، ومهما تتطلّب من نتيجة، وفي هذا القول شبه بما قاله ماربين من أنّ خروج الحسين كان عزمة قلب كبير يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضيّة مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة. العقّاد / 118.

٩٠

الشهادة للحسين، ويستهينون بنبوءات الرسل والأنبياء عن قتله في فلاة كربلاء ذبيحاً وعطشان ومداساً بحوافر الخيل، ويسفّهون ما جاء على لسان الوصيّين والأبرار الذين ما جاؤوا إلى البشريّة إلاّ من أجل توطيد عقائدها وحفظ شرائعها.

فها هو شهيد المسيحيّة عيسى (عليه السّلام) يمرّ بأرض كربلاء، فينبئ عن قتل الحسين ويلعن قاتليه، ويصف أرض الطّف بـ(البقعة كثيرة الخير)(1) .

وقد أمسك بعض المشكّكين بهذه الواقعة لدعم تغرّضهم؛ فذكروا أنّ عيسى (عليه السّلام) لم يخرج من فلسطين طيلة حياته، وأنّه من غير المعقول أن يكون قد وصل إلى كربلاء في العراق، لكن هؤلاء فاتهم تلك الفترة الغامضة منذ يفاعة عيسى حتّى سنِّه العشرين، إذ لم تذكر التواريخ ولا حتى الإنجيل المقدّس أين أمضى عيسى طفولته وبعضاً من سنيّ شبابه المبكر؛ إذ هناك روايات تتحدّث عن سفره إلى التبت لنهل الحكمة والطبّ الروحي، وثمّة رواية أخرى تحدّثت عن تنقّله في كلّ بقاع الأرض لاختيار المواطن المناسبة لبعث ديانته ونشرها بعد نزولها عليه في فلسطين.

ونبيٌّ كعيسى أيّده الله بمعجزات خارقة هل يستحيل عليه الوصول إلى كربلاء بطرفة عين؟! وما هو غير المعقول في زيارة شهيد المسيحيّة إلى مسقط رأس شهادة الحسين (عليه السّلام) الذي سيأتي بعد قرون ليتمّم شهادة الحقّ والعدل التي استشهد لأجلها عليه السّلام؟

فإذا كانت الطبائع البشرية قد جبلت على تقديس الشهداء وحبّهم بوحيٍ من فطرتها الإنسانيّة، فكيف بالشهداء الذين تسبق شهادتهم شهادة نظائرهم ممَّن سيأتون لإتمام ما بدؤوه؟

____________________

(1) إكمال الدين - الصدوق / 295.

٩١

ألم يبكِ القتيل الحسين قبل مقتله بمئات السنين آدم والخليل وموسى، ويلعن عيسى قاتله ويأمر بني إسرائيل بلعنه، ويقول: مَن أدرك أيّامه فليقاتل معه؛ فإنّه كالشهيد مع الأنبياء مقبلاً غير مدبر؟(1)

فالحواجز الزمنية التي تحول بين البشر وبين استشفاف المستقبل ليس لها حساب مع الشهداء والنبيّين، فعليهم السّلام يرون قائمة الشهادة التي نصبها سبحانه وتعالى، ويقرؤون بها أسماء مَن سيلي بعدهم مع صحيفة تبيّن كيفيّة المقتل واُسلوب المعاناة، وإلاّ لِمَ بكَ الحسين كلّ هؤلاء الأنبياء، ولعنوا قاتليه قبل أن تكون الواقعة بمئات السنين؟!

والله سبحانه وتعالى أعطى الأنبياء والأخيار مَلَكة نورانيّة تساعدهم على استجلاء الغيب:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )(2) ، وكان أبو جعفر (عليه السّلام) يقول: «كان والله محمد ممّن ارتضاه، ولم يبعد الله الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمّدي»(3) .

فلا توافق بين الارتجال الذي نعت البعض به ثورة الحسين، وبين نبوءات الأطهار ممّن ارتضاهم الله، ولا يصيبنّ ناعت في نعت استشهاد أبي الشهداء مهما بلغت فصاحته؛ لأنّه مستمدّ من القدر الإلهي، وموحى به قبل أن يولد الشهيد.

وكأنّي أسمع أحدهم يقول - مشكّكاً -: ولكن الحسين كان بإمكانه تجنّب التهلكة التي ألقى بنفسه وآل بيته إليها، عملاً بقول الآية الكريمة:( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) . إلاّ أنّ منطق الشهادة يبرّر معنى الآية إذا كان في الحفاظ على

____________________

(1) كامل الزيارات / 67 ابن قولويه.

(2) سورة الجن / 26 و 27.

(3) البحار 15 / 74، وابن حجر في فتح الباري 13 / 284 كتاب التوحيد.

٩٢

النفس مصلحة أهم من إزهاقها، والاقتصار على ما يقتضيه الوصف يخرج الآية عمّا في الشهادة من نفي للهلكة، فإنّها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحرم على المسلمين، فقال تعالى:( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1) .

والحسين (عليه السّلام) كان عالماً بمقتله، وواعياً لكلّ ما سيحيق به، وإقدامه على الشهادة إنّما كان من باب الطاعة وامتثالاً للتكليف الموجّه إليه من القدرة الإلهيّة.

وقد أعْلَمَ اُمّ سلمة بقتله قائلاً لها: «إنّي أعلم اليوم الذي اُقتل فيه، والساعة التي اُقتل فيها، وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي. أتظنّين أنّك علمت ما لم أعلمه؟ وهل من الموت بُدّ؟ فإن لم أذهب اليوم ذهبت غداً».

والارتجالية هي عكس معرفة كلّ شيء بالتفصيل كما قال الشهيد لاُمّ سلمة حين أبدت له خوفها من سفره، ومعرفته بما سيحلّ به لم يؤخّره أو يمنعه عن التقدّم والتسليم للقضاء المحتوم، وعدم التوسّل إلى الباري تعالى في إزاحة العلّة لينال الشهادة.

ولو شاء سيّد الشهداء أن يدفع الله تعالى عنه هذه التهلكة لكان ذلك على الله أسرع من سلك منظوم انقطع، ولرفع عنه الطواغيت، لكن الحكمة المتجلّية في عدم طلب مثل هذا الدفع لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين.

والأنبياء الذين قتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله المبشّرة بالحقّ والعدل أنظنّ نحن البشر بأنّ الله تعالى قد تخلّى عنهم لمصائرهم؟ كلاّ، بل إنّهم (عليهم السّلام) يتشوّقون للشهادة تقرّباً من قدس الله وتنفيذاً لمشيئته، ولو دَعَوا الله لِرفعها عنهم، لَرفعها.

لكنّهم يدورون مدار ما اختاره تعالى لهم من الأقضية والأقدار، إذا كان في إقدامهم إبقاءٌ على دين، أو حفظاً لشريعة، أو إنقاذاً لعقيدة.

____________________

(1) سورة البقرة / 194 و 195.

٩٣

وقد تنبّأ عيسى (عليه السّلام) بموته أمام تلاميذه، وشرح لهم كلّ ما سيحدث له من تسليمه إلى الوثنيين وسخريتهم منه وجَلْدِه وقتله، وحثّ تلميذه الخائن يهوذا الاسخريوطي على تسليمه، ولمّا اجتذبه تلميذه بطرس إليه وطفق يحذّره من المضيّ إلى القدس، التفت (عليه السّلام) إلى تلميذه وقال له: «اذهب خلفي يا شيطان، إنّك لي معثرة؛ لأنّ أفكارك ليست أفكار الله، بل أفكار الناس».

ولمّا هوى أحد أصحابه بسيفه على أذن عبد عظيم الأحبار وقطعها، قال له المسيح: «اغمد سيفك، فمَن يأخذ بالسيف يهلك، أو تظنّ أنّي لا أستطيع أن أسأل ربّي فيمدّني الساعة بأكثر من اثني عشر فيلقاً من الملائكة؟! ولكن كيف تتمّ آيات الكتب التي تقول: إنّ هذا ما يجب أن يحدث؟»(1) .

فعيسى بن مريم كان قادراً إذا طلب من ربّه أن يقضي على اليهود الذين جاؤوا لاعتقاله، لكنّه لم يفعل حتّى تتمّ مشيئة الواحد القهّار التي لا يفهمها النّاس العاديّون كتلميذه بطرس.

وعندما كان تلاميذه يسهرون ليلة قال لهم: «نفسي حزينة حتّى الموت». ثمّ أبعد قليلاً وأكبّ لوجهه يصلّي ويقول: «يا ربّاه، لتبتعد عنّي هذه الكأس إن كان يُستطاع، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء»(2) .

ولم يلح نبيّ المسيحيّة على طلب إبعاد كأس الموت عنه كما يشاء هو، بل كما يشاء ربّه الأعلى. وكما قال عيسى (عليه السّلام): «لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء»، قال سيّد الشهداء مخاطباً أخاه محمّد بن الحنفيّة: «شاء الله أن يراني قتيلاً، ويرى النساء سبايا».

____________________

(1) متّي 26 / 53 - 54 - 55.

(2) مرقس 14 / 36 - 37.

٩٤

فهل للمشكّكين بوعي ثورة الحسين من حجّة بعد هذا القول «شاء الله أن يراني قتيلاً» من وصف ثورته بالعاطفيّة وسوء التخطيط؟ وما قولهم بمشيئة الله القادر الذي خطّط لثورة سيّد الشهداء وأجراها نبوءات على ألسنة رسله الأطهار، وأنزلها وحياً على ذبيحها الذي سيكون قربانها الرئيسي؟ هل سيبلغ بهم الكفر حدّاً لنعتها بأيّ نعتٍ آخر إزاء مقولة الحسين بمشيئة ربّه؟

هذه المشيئة المقدّسة هي التي جعلت إبراهيم الخليل (عليه السّلام) يحطّم آلهة قومه ويدوسها بقدميه غير عابئ بالنمرود صاحب البطش، وبالنّار التي أوقدها لحرقه حيّاً.

وهي المشيئة الإلهيّة التي دفعت بكليم الله موسى (عليه السّلام) ليقف في وجه فرعون المتألّه، ملك النيل والسلطان العريض، ويصيح أمامه: «أنت ضالٌ مُضِل».

هي مشيئة الواحد القهّار التي دفعت بيحيى (عليه السّلام) للصراخ في وجه هيرودس عندما أراد التزوّج بامرأة أخيه قائلاً له: «إنّها لا تحلّ لك». ولمّا رقصت ابنة هيروديا إحدى بغايا بني إسرائيل، قدّم لها هيرودس رأس يحيى (عليه السّلام) على طَبَق من ذهب.

هي المشيئة التي رسمت لعيسى (عليه السّلام) مواقفه وحياته، فقال لأحبار اليهود (أنتم أبناء الشياطين). رغم علمه بأنّه سيُقتل.

وهي المشيئة العليا التي أوحت للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) اليتيم الفقير، لتسفيه أحلام قريش، وسبّ آلهتهم، وحمل الرسالة المحمّديّة والاندفاع بها مهدّداً كسرى وقيصر شرقاً وغرباً.

وقال أمير المؤمنين: «أوحى الله إلى داود: تريد واُريد ولا يكون إلاّ ما اُريد؛ فإن سلّمت لِما اُريد اُعطيتَ ما تريد، وإن لم تسلّم لِما اُريد أتعبتك فيما تريد، ثمّ لا

٩٥

يكون إلاّ ما اُريد». وقال: «لا تسخط الله برضا أحد من خلقه؛ فإنّ في الله خَلَفاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره». وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن طلب رضى مخلوق بسخط الخالق سلّط الله عليه ذلك المخلوق».

بهذه المبادئ العلويّة جاء الأنبياء والرسل والشهداء إلى البشريّة مبشّرين بالأديان السماويّة، مقاتلين دون تحريفها، باذلين الأنفس والمهج في سبيل ترسيخها في النفوس، وعندما يقف هؤلاء الأطهار أمام أصحاب السّطوة والاستطاعة فإنّهم يقفون بقوّة العزّة الإلهيّة التي لا قوّة فوقها، ويخاطبون أهل السلطان باسم الله الذي أوحى لهم ما يقولون، ورسم لهم أدوارهم التي بعثهم للبشريّة من أجلها.

وأيّة اجتهادات في تفسير هذه الأدوار بغير هذا المنطق معناه وضع الحقائق الجوهريّة في غير موضعها، حتّى لتبدو الرغبة في التضليل واضحة فيمَن يقدمون على مثل هذا التحريف في أخذ منطق هذه الحقائق.

وثورة الحسين (عليه السّلام) ليست وليدة ساعتها، بل هي في سفر الوصايا الإلهيّة نقشت عليه قبل نزول الرسالة المحمّديّة، وعِلم ذلك عند ربّ الأكوان وباعث الرّسالات، إذ كان يعلم تعالى بما ستتعرّض له هذه الرسالة من اهتزاز بعد نزولها على محمّد (صلّى الله عليه وآله) فهيّأ لها الحسين قبل أن يكون.

فها هو الشهيد يقول لعبد الله بن جعفر: «إنّي رأيت رسول الله في المنام، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له». وفي بطن العقبة قال لمَن معه: «ما أراني إلاّ مقتولاً، فإنّي رأيت في المنام كلاباً

٩٦

تنهشني، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(1) .

ولمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظر ما يكون عليه حال النّاس، قال (عليه السّلام): «ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكن لا يغلب على أمر الله. وإنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العقلة من جوفي»(2) .

وفي مكّة حينما أراد السفر منها إلى العراق قال: «كأنّي بأوصالي هذه تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً. لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم»(3) .

فعبارة (لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم)، دلالة واضحة على أنّ سيّد الشهداء كان عالماً بأنّ مصيره قد خُطّ بالقلم، وأن لا مندوحة من الامتثال لمشيئة الله القادر دونما تساؤل عن هذا السرّ الإلهيّ، فالأنبياء والشهداء والمصطفون لا يسألون: (لماذا، وكيف؟) بل هم يمضون في دربهم على هَدي الإيحاءات العلويّة التي تنير لهم دربهم خطوة إثر خطوة.

وهذا السرّ العلوي هو الذي منع الإمام المجتبى الحسن ابن أمير المؤمنين (عليه السّلام)، من السؤال حينما حلّ الأجل تسليماً لقضاء القوّة الإلهيّة، ودفعه لأن يمدّ يده بلا ارتعاش إلى جعدة بنت الأشعث ليتناول منها اللبن المسموم ويرفع رأسه إلى السماء قائلاً: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، الحمد لله على لقاء محمّد سيّد المرسلين، وأبي سيّد الوصيّين، واُمّي سيّدة نساء العالمين، وعمّي جعفر الطيّار في الجنّة، وحمزة سيّد

____________________

(1) كامل الزيارات / 75.

(2) تاريخ الطبري 6 / 226، وإرشاد المفيد، ونفس المهموم للمحدّث القمّي / 98.

(3) اللهوف / 33، وابن نما / 20.

٩٧

الشهداء»، ثمّ يشرب اللبن المسموم وهو يدعو على جعدة بالخزي(1) .

وهذا السرّ العلوي هو الذي أوحى للرضا (عليه السّلام) بأنّ منيّته تكون على يد المأمون ولا بدّ من الصبر حتّى يبلغ الكتاب أجله. وقال أبو جعفر الجواد لإسماعيل بن مهران لمّا رآه قلقاً من إشخاص المأمون له: «إنّه لم يكن صاحبي، وسأعود من هذه السفرة». ولمّا أشخصه المرّة الثانية قال (عليه السّلام) لإسماعيل: «في هذه الدفعة يجري القضاء المحتوم»(2) ، وأمره بالرجوع إلى ابنه الهادي فإنّه إمام الاُمّة بعده، ولمّا حلّ قضاء الله ودفعت إليه اُمّ الفضل المنديل المسموم لم يمتنع عن استعماله تسليماً لطاعة المولى.

وفي هذا الرضوخ للقوّة العلوية تفسير في الآية الكريمة:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظاً ) (3) .

وهذا ما يفسّر أيضاً المعاناة التي ذاقها الأنبياء، خاصّة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) وآل بيته الأطهار وقد قال: «ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت». وأوصاه الله بالصبر حيث قالت عزّته:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ ) .

لكن ما صبر عليه الحسين (عليه السّلام) وصحبه كان أشدّ من كلّ المعاناة التي وقعت بالأنبياء والرسل، كانت أشدّ هولاً وفتكاً وآلاماً، وقد صبر الشهيد وطالَب أهله وصحبه بالصبر ابتغاء لمرضاة الله: «صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة، والنّعيم الدائم، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو

____________________

(1) البحار 10 / 133 عن عيون المعجزات، والإرشاد للمفيد، والخرائج.

(2) الإرشاد وإعلام الورى / 205.

(3) سورة الأحزاب / 7.

٩٨

لأعدائكم إلاّ كمَن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جهنّم، ما كذّبتُ ولا كُذِّبت».

وهو يودّع عياله قال لهم: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(1) .

وهذا الصبر النادر العجيب الذي تحلّى به الأنبياء والشهداء، فمنعهم حتّى من التساؤل عن سبب ما يبتلون به. هو الذي يعجز تفكيرنا البشري عن إدراك ماهيّته، إلاّ أنّنا من وجهة قدرتنا المحدودة لا نملك إلاّ أنّ نفهم الحكمة الإلهيّة التي سنّت لهؤلاء الأخيار سُنن الشهادة، فكأنّهم فرحون بها، وفرحهم يمنعهم حتّى من التساؤل ما داموا قد أعطوا ملكة تبصّر نتائج صبرهم واستشهادهم، وما هيّأه الله سبحانه وتعالى لهم من نِعَمٍ وجنان.

ويحثّ عيسى (عليه السّلام) تلاميذه الذين سيحملون رسالة المسيحيّة من بعده، يحثّهم أيضاً على الصبر، قائلاً عندما دنت ساعته: «الآن تؤمنون! ها هي الساعة آتية، وإنّها قد أتت، تتفرّقون فيها فيذهب كلّ واحد في سبيله، وتتركوني وحدي! كلاّ لست وحدي، إنّ الربّ معي، قلت لكم هذه الأشياء ليكون لكم بي السّلام، ستعانون الشدّة في العالم، فاصبروا لها لقد

____________________

(1) جلاء العيون للمجلسي / عن المقتل للمقرم.

٩٩

غلبتُ العالم»(1) .

والرؤيا التي استشفّها الحسين (عليه السّلام) في خضمّ الشدائد التي حلّت به وبآل بيته وصحبه، فبشّرهم بتعويض بليّتهم بنعمٍ وكرامة. هي ذات الرؤيا التي بشّر بها المسيح رسله بقوله: «ستبكون وتنتحبون، ستحزنون ولكن حزنكم سيتبدّل فرحاً»(2) .

فما الذي يمكن لنا كباحثين ومطّلعين أن ندركه من هذه الأمثولات الإلهيّة التي لا مجال لنا إلى إدراكها أو الغوص في حكمتها المقدّسة؟ وما الرأي لدى اُولئك المشكّكين بواقعيّة ووعي ثورة الحسين بكلّ ما سبق ذكره، من أنّ البررة كتبت لهم حياتهم ومصائرهم في (الصحيفة الإلهيّة) التي يقف عليها الأنبياء فتتكشّف أمامهم حجب الغيب وتهتك لوعيهم ستر المستقبل؟

ألا يصحّ بموقف الذين تناولوا ثورة الحسين (عليه السّلام) بمقياس الربح والخسارة والثورات العسكريّة والنتائج الماديّة والزمانيّة والمكانيّة في حينها، ألا يصحّ فيهم وبسوءة نواياهم، قول الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام): «إنّي لأعجب من قوم يتولَّونا ويجعلونا أئمّة، ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة كطاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصّون أنفسهم لضعف قلوبهم؛ فينتقصونا حقّنا، ويعيبون ذلك على مَن أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا! أترون الله تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يخفي عليهم أخبار السماء، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!»(3) .

____________________

(1) يوحنا 16 / 32 - 33.

(2) يوحنا 16 / 20.

(3) الكافي على هامش مرآة العقول 1 / 190 باب أنّهم يعلمون ما كان، وبصائر الدرجات - الصفّار / 33، والخرائج للراوندي / 143 طبعة الهند.

١٠٠