موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ٢

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ9%

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 408

  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18419 / تحميل: 8099
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ

موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

موسوعة

الإمام علي بن أبي طالب

في الكتاب والسُنَّة والتاريخ

محمد الريشهري

بمساعدة

محمد كاظم الطباطبائي - محمود الطباطبائي

المجلد الثاني

١

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

القسم الثالث

جهود النبي لقيادة الإمام علي (عليه السلام)

وفيه فصول:

المدخل: موقف النبي من مستقبل الرسالة

الفصل الأوّل: أحاديث الوصاية

الفصل الثاني: أحاديث الوراثة

الفصل الثالث: أحاديث الخلافة

الفصل الرابع: أحاديث المنزلة

الفصل الخامس: أحاديث الإمارة

الفصل السادس: أحاديث الإمامة

الفصل السابع: أحاديث الولاية

الفصل الثامن: أحاديث الهداية

الفصل التاسع: أحاديث العصمة

الفصل العاشر: حديث الغدير

الفصل الحادي عشر: غاية جهد النبي في تعيين الولي

٥

المدخل

موقف النبي من مستقبل الرسالة

الدين الإسلامي خاتم الأديان، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله) خاتم النبيّين، والقرآن هو الحلقة الأخيرة في كُتب السماء؛ وبهذا فالإسلام شامل لكلّ زمان ومكان.

لقد نهض النبي (صلَّى الله عليه وآله) بحمل راية دين اكتسى لون الأبديّة، لا يتخطّاه الزمان، ولن يقوي على طيِّ سجلّ حياته وتَجاوُزه. هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى يُعلمنا قانون الوجود وناموس الخليقة أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إنسان كبقيّة الناس، له حياة ظاهريّة محدودة، وهذا القرآن يُعلن صراحة أنّ الموت يُدركه كما يُدرك الآخرين: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (١) .

وهو (صلَّى الله عليه وآله) يضطلع برسالة إبلاغ تعاليم الدين وهدي السماء، كما يتبوّأ أيضاً مسؤوليّة قيادة المجتمع وزعامته؛ ومن ثَمّ فهو يجمع بين المرجعيّة الفكريّة للأمّة وبين القيادة السياسيّة.

____________________

(١) الزمر: ٣٠.

٦

وعلى هذا؛ سنكون أمام سؤال جادّ وخطير لا يمكن تخطّيه بسهولة، بالأخصّ بعد أن تحوّل إلى هاجس يُثير اهتمام أعلام المسلمين ومفكّريهم علي مرّ التاريخ، والسؤال هو: ما دامت الحياة ستنتهي بهذا القائد الربّانيّ الفذّ بعد سنوات الدعوة والجهاد إلى الموت، وما دام النبي سيرحل صوب الرفيق الأعلى ملبّياً نداء ربّه، فما الذي دبّره لمستقبل هذا الدين الباقي على مدي الزمان؟ وماذا فعل لتأمين مستقبل دعوته وضمان ديمومة رسالته؟ هل حدّد خياراً خاصّاً للمستقبل؟ أم أنّه لم يفكّر بذلك قط، وترك الأمر برمّته إلى الأمّة؟

كثرت كتابات المسلمين علماء ومحدّثين ومتكلّمين عن هذا الموضوع، وانتهوا إلى نظريّات متعدّدة (١) ، وما يُلحظ أنّ هذا الاتّجاه التنظيري سعى إلى تثبيت وقائع التاريخ الإسلامي وتحويلها إلى معيار أشادوا على أساسه أُصولاً ومرتكزات.

لكن أين تكمن الحقيقة؟! يقضي التدبّر العميق في الموضوع، ودراسة حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بشمول، إلى أنّ الموقف النبوي من مستقبل الرسالة لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاث، هي:

١ - إنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أغضى عن مستقبل الدعوة، وأهمل الأمر تماماً، من دون أن

____________________

(١) أفرز الجهد التنظيري لمتكلّمي المسلمين ومفكّريهم - وما يزال - عدداً من النظريّات حيال موضوع الإمامة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، مثل (الإجماع) و(البيعة) و(الاختيار وانتخاب الأمّة) و(الغلبة والشوكة) و(تعيين أهل الحلِّ والعقد) و(نظرية النصّ) ممّا سنأتي على استعراضه ودراسته ونقده في مدخل (الإمامة الخاصّة) من موسوعة (ميزان الحكمة).

لمزيد الاطّلاع على النظريّات المذكورة راجع: الأحكام السلطانيّة للماوردي: ١٥، والأحكام السلطانيّة للفرّاء: ٤٤٠، ونظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي: ١٢١، والنظام السياسي في الإسلام، رأى الشيعة، رأى السنّة، حكم الشرع: ٢٣، والإمامة وأهل البيت: ١/٥٠.

٧

ينطق بشيء للأمَّة.

٢ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله) عهد بمستقبل الرسالة إلى الأمّة، وأمر جيل الصحابة أن ينهض بمهمّة تدبير أمر الدعوة من بعده.

٣ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله) ارتكز إلى مبدأ النصّ الصريح في تدبير المستقبل، والتخطيط لشؤون الرسالة، ومن ثَمّ أعلن صراحة عن الشخص الذي يتبوّأ مسؤوليّة هداية الأمّة من بعده، ويضطلع بدور قيادة المجتمع الإسلامي.

لندرس الآن هذه الفرضيّات الثلاث ونتناولها من خلال البحث والتحليل:

٨

الفرضية الأُولى

السكوت إزاء المستقبل

تواجه هذه الفرضيّة فيضاً من الأسئلة، منها: ما الذي دعا النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى عدم التفكير بمشروع محدّد لمستقبل الدعوة؟ وما الذي أملى عليه السكوت عن مستقبل الأمّة؟ ثمّ ما هي طبيعة الفكر الذي يمكن أن ينبثق منه موقف مثل هذا، ويُفرِز لدى القائد مثل هذه السلبيّة؟

يمكن تأسيس هذه السلبيّة وتفسيرها كموقف نبوي مفترض، على ضوء فرضيّتين مسبقتين يستوطنان ذهن القائد ويستحوذان عليه. والآن لنستعرض المسبقتين الذهنيّتين المفترضتين، كى نتبيّن قدر منطقيّتهما، ومدي انسجامهما مع المعايير العقلانيّة:

١ - الإحساس بالأمن وانتفاء الخطر:

بمعني أنّ القائد لا يشعر بوجود أىّ خطر يدهم الأمّة، وانتفاء أىّ تيّار يكون بمقدوره أن يُزلزل إيمان الناس ويؤثّر علي قناعاتها، ومن ثَمّ فإنّ هذه الأمّة التي توشك أن ترث الرسالة الإسلاميّة، ستنجح في إيجاد مشروع لإدارة المجتمع،

١١ - المجلد الثاني/القسم الثالث: جهود النبي لقيادة الإمام علىّ/المدخل: موقف النبي من مستقبل الرسالة/الفرضيّة الأُولى: السكوت إزاء المستقبل

٩

وضمان ديمومة الرسالة.

والسؤال: هل يصحّ مثل هذا التصوّر؟

إنّ الوقائع الحقيقيّة لمجتمع الصدر الأوّل، تُسفر بوضوح عن عدم صواب هذا التصوّر، وأنّ هناك أخطاراً جذريّة جادّة كانت تتهدّد المجتمع الإسلامي آنئذٍ، وتوشك أن تعصف بكيانه، وهى:

أ: الفراغ القيادي:

لم يكن قد مرّ وقت طويل على تأسيس الأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع الذي أسّسه النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ومن ثَمّ كان النبي القائد يُمسك بنفسه أزمّة الثقافة والسياسة والقضاء في هذا المجتمع.

على صعيد آخر، حالت الحروب المتوالية وأجواء المواجهة الدائمة، دون أن يتمكّن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من تعميم ثقافة الرسالة، ونفوذ معاييرها في واقع ذلك المجتمع، وعلى مستوى جميع الأبعاد، فما أكثر مَن حمل عنوان الصحبة وهو لم يتوفّر بعدُ على تصوّر عميق ودقيق لمبادئ الدين، ولم ينطوِ على معرفة وافية بشخصيّة النبي وأبعاد الرسالة.

إنّ مجتمعاً كهذا حريٌ به أن يواجه الزلزال، ويُصبح على شفا أزمة عاصفة في اللحظة التي يختفي بها القائد، وتُحيطه أجواء محمومة يكتنفها الاضطراب من كلّ جانب، مجتمع كهذا حريٌ به أن يفقد قدرته على اتّخاذ القرار الصائب، ولا يلبث أن يقع في الشباك المترصّدة، ومن ثَمّ يصير طعمة سائغة لألاعيب الساسة وأحابيلهم.

فيا ترى، هل يمكن مع هذا الواقع المتردّي - الذي سجّل له التاريخ أمثلة

١٠

عمليّة كثيرة - أن نتصوّر الرسول القائد (صلَّى الله عليه وآله) يختار السلبيّة، ويترك مثل هذا المجتمع للمجهول، ويدع تحديد مصيره إليه، دون أن يحمل همّ المستقبل؟!

ب - عدم نضج المجتمع:

ركّزنا في نهاية النقطة السابقة على أنّ ورثة هذه الرسالة التغييريّة الشاملة لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وسياسيّة صلبة، تسمح لهم أن يفكّروا بالمستقبل، ويتدبّروا أمره بشكل هادئ رصين، فبقايا الجاهليّة لا تزال تملك أقداماً راسخة، ولا تزال العصبيّات القبليّة تستأثر بنفوذ كبير في وجودهم.

كما أشرنا إلى أنّهم لا يمتلكون الإدراك الكافي لمعرفة موقع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والمكانة العليّة السامقة التي يحظى بها النبي، فهم تارة ينظرون إليه بشراً عاديّاً يتكلّم في الرضى والغضب (١) ، وأُخرى يحثّونه على التزام العدالة! وثالثة تثقل عليهم قراراته وما يأتي به - عن السماء - من أحكام حتى يستريبوا في أصل الرسالة! (٢) .

فبعد هذا كلّه، هل من المنطقي أن يكلْ النبي القائد أزمّة الأمور ومستقبل الرسالة بيد مجتمع كهذا؟ ثمّ يمضي قرير العين إلى ربّه!

ج: المنافقون والتيّارات الهدّامة من الداخل:

اصطفّ كثيرون لمواجهة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ومناهضة رسالته، وهو في ذروة قوّته، وفي أثناء ممارسته لحاكميّته.

ومع أنّ هؤلاء كانوا يتظاهرون بالإيمان، إلاّ أنّهم

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: ١/١٨٧/٣٥٩، المصنّف لابن أبي شيبة: ٦/٢٢٩/٤.

(٢) راجع: القسم السادس/وقعة النهروان/دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم، ولمزيد الاطّلاع على طبيعة تعامل الصحابة مع النبي (صلَّى الله عليه وآله) راجع: كتاب (النصّ والاجتهاد).

١١

  في باطنهم كانوا يعارضون دين الحقّ، ويسعون لإطفاء أنواره بكلّ ما أوتوا من جهد وقوّة.

إنّ هذه المواجهة يمكن أن تعدّ أوسع مدي وأشدَّ وطأة من دائرة عمل المنافقين؛ فهي تتخطّاها إلى تخوم أوسع كما تشهد على ذلك وقائع التاريخ، وكما سنُشير إليه في حينه، ومن ثمَّ هل يمكن أن يكون رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد أغضى عن ذلك؟ (١) وهل يجوز أن نتصوّر أنّ هذا القائد العظيم أهمل هذا - وغيره - وترك الأمّة هملاً من دون تدبير؟!

ينبغي أن يُضاف إلى هؤلاء تلك العناصر التي كانت حديثة عهد بالإسلام، حيث لم تدخل هذا الدين إلاّ بعد فتح مكّة، فهؤلاء لم تترسّخ حقائق الدين في نفوسهم بعدُ، ولم تتمكّن من وجودهم كما ينبغي؛ ومن ثمّ فهم عرضة للتغيير مع أوّل طارئ، ويمكن أن تقذفهم الأوضاع إلى طريق آخر، كما أثبتت ذلك التيّارات التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد النبي.

د: اليهود والقوي الأُخرى والأخطار الخارجيّة:

الإسلام دعوة انقلابيّة تتضمّن الهدم والبناء، فقد قوّضت حركة هذا الدين الأحابيل والخطط الشيطانيّة، شيّدت على أنقاضها بناءً جديداً.

لقد جاء النبي (صلَّى الله عليه وآله) برسالة تطمح أن تقود العالم، وتكون لها الكلمة الأخيرة في الحياة الإنسانيّة، ولمّا أدرك الأعداء هذا المعنى، دخلوا في مواجهة حامية مع الدين الجديد، سخّروا لها جميع قدراتهم، ولم يكفّوا عن مقارعته حتى الرمق الأخير، ولمّا تبيّن لهم أنّ لغة الصراع المباشر لم تعُد تُغني شيئاً، لجؤوا إلى

____________________

(١) راجع: كتاب (المواجهة مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله))، بالأخصّ الباب الثالث، حيث استعرض فيه أبعاد هذه المواجهة، وأشار إلى مصاديقها على أساس المصادر التاريخيّة القديمة.

١٢

المكيدة، وراحوا ينسجون المؤامرة تلو الأخرى مكراً بهذا الدين، وهذا واقع معروف لا يستريب به مَن له أدنى معرفة بالتاريخ الإسلامي.

أفيجوز بعد هذه المواجهات الحادّة والصراع المرير - مع اليهود والقبائل المشركة وبقيّة القوي المعادية (١) - أن يجنح بنا الخيال، فنتصوّر بأنّ هؤلاء ركنوا إلى الهدوء، وجنحوا إلى السلم، ولم يعُد لهم شأن بالإسلام ودعوته؟! وهل يصحّ لسياسيٍ فطن، ولقائد كيّس وبصير أن يُغضي عن كلّ هذا الواقع العدائي المتشابك من حول دعوته، ثمّ يمضي من دون أن يدبّر لحركته الفتيّة برنامجاً يصونها ويؤمّن لها المستقبل؟ ثمّ هل يكون رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قائداً خاض جميع هذه المواجهات، ثمّ يتصوّر أنّ أمّته امتلكت من الصلابة ما يُحصّنها من جميع هذه المكائد والأخطار، بحيث لم يعُد يخشى عليها من أحابيل هؤلاء، وإنّ مكر هؤلاء وقوّتهم قد تلاشت ولم تعُد تؤلّف خطراً ذا بال؟!

٢ - السلبيّة إزاء المستقبل:

العنصر الثاني الذي يمكن أن يوجّه الفرضيّة الأُولى ويقدّم لها تفسيراً منطقياً، هي أن نفترض أنّ النبي القائد يدرك الأخطار التي تحفّ دعوته، ويتطلّع إلى أهميّة المستقبل بنحو جيّد، لكنّه مع ذلك لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ تلك الأخطار؛ لأنّه يرى أنّ رسالته تنتهي بحياته، وهو يتحمّل مسؤوليّتها ما دام حيّاً، فإذا لم يعُد بين الناس، ولم يكن ثَمَّ خطر يتهدّد حياته، وإنّ ما يمكن أن تتعرّض له الدعوة من بعده لا يتعارض مع مصالحه الشخصيّة - وحاشاه - فلماذا يُبادر لحمايتها وتأمين مستقبلها؟ بل لِيدعها والأُمّة التي ترتبط بها بانتظار المصير

____________________

(١) راجع: كتاب (المواجهة مع رسول الله)، الباب الأوّل، الفصل الرابع والخامس.

١٣

المجهول!

أيليق هذا التصوّر بقائد واقعي، وسياسي فطن ورسالي مثابر؟! فكيف يصدَّق هذا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونفسُه الطهور لا تعرف الراحة في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى تسلّيه السماء، ويأتيه النداء الربّانيّ يدعوه إلى الهدوء: ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ؟ (١) .

وكيف يصدق ذلك على نبي الله، وهذه السماء تجسّم معاناته وما يبذله في سبيل هداية الناس: ( ... عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ! (٢) .

أوَ يجوز أن يُخامرنا مثل هذا التصوّر الذي يفترض السلبيّة واللا مبالاة، وقد بلغ من تفاني رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وتضحيته من أجل الرسالة أنّه لم يترك تدبير أمرها إلى آخر لحظة من حياته، حيث كان ينادي بتجهيز جيش أُسامة ويحثّ عليه وهو على فراش الموت وقد ثقل عليه المرض؟!

أوَ لا تكفينا رزيّة (يوم الخميس) وقد طلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في آخر لحظات حياته أن يأتوه بدواة وقلم كي يكتب للأمّة كتاباً لن تضلّ بعده أبداً؟! لنكفّ عن هذا التصوّر الواهي، ونعدّ ما يُزعم من سكوته عن مستقبل الأمّة جرأة على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ودعوى واهية لا تليق بمقام هذا العظيم، وحريٌّ بنا أن ننزّه ساحته عنها وعن أمثالها!

على ضوء ذلك كلّه، ليس من الممكن افتراض الموقف السلبي بحال من الأحوال.

وهكذا تسقط الفرضيّة الأُولى.

____________________

(١) طه: ١ و٢.

(٢) التوبة: ١٢٨.

١٤

الفرضية الثانية

إيكال المستقبل إلى الإمامة

وهي أن نؤمن بأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) لم يعيّن للأمّة قائد المستقبل، بل عهد قيادة الرسالة والقيمومة عليها إلى الأمّة؛ لكي يحدّد الجيل الطليعي من المهاجرين والأنصار طبيعة هذا المستقبل على أساس نظام الشورى.

والسؤال: هل يمكن الإقرار بهذا التصوّر؟ وإلى أيِّ مدى يتطابق مع الحقيقة؟

هناك عدد من النقاط التي تحفّ هذه الفرضية الغريبة، يمكن الإشارة لها كما يلي:

أ: لو كان النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد اتّخذ من مستقبل الأمّة والرسالة مثل هذا الموقف، لكان حريّاً به أن يقوم بعمليّة توعية للأمّة بطبيعة نظام الشورى وحدوده ومكوّناته وضوابطه، والسبيل إلى تطبيقه وكلّ ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، بالأخصّ وإنّ ما يزيد في أهمّية هذه العمليّة، أنّ المجتمع لم يكن قد عرف - حتى ذلك الوقت - نظام الشورى، ولم تكن قد تمّت تجربته في بنية الحكم وهيكليّته، فهل من المنطقي أن نزعم أنّ النبي القائد (صلَّى الله عليه وآله) أحال الأمّة في خيارها المستقبلي، وطبيعة

١٥

القيادة التي تنتظرها، إلى أُسلوب غائم غير واضح، وغير محدّد المعالم والتفاصيل؟!

على أنّ الذي يدحض هذا التصوّر ويستبعده تماماً، هو موقف التيّار الذي طالب بالخلافة، ثمّ تبوّأ مقعدها؛ فكلّ الأرقام والشواهد في حياة هؤلاء تدلّ بصورة لا تقبل الشكّ أنّ أيَّ واحد من هؤلاء لم يستند إلى الشورى كميراث نبوي، ولم يستدلّ على صحّة موقفة بأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) هو الذي اختار نظام الشورى للأمّة من بعده، وليس في حياتهم ما يُنبئ عن إيمانهم بالشورى وممارستهم لهما عمليّاً، فأبو بكر اتَّجه إلى (النصب) في تعيين البديل الذي يخلفه، أمّا عمر بن الخطّاب فلم يلجأ إلى خيار الشورى السداسيّة إلاّ بعد أن دفعته الضرورة لذلك؛ حيث لم يرَ البديل المناسب، وفى ذلك يقول وهو على فراش الموت: (لو أدركني أحد رجلين لجعلت هذا الأمر إليه ولوثقت به، سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجرّاح (١) ، ولو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى) (٢) .

بهذا يتّضح أنّ هذه النظريّة لا تمتّ إلى واقع النبي (صلَّى الله عليه وآله) بصلة، بل هي ممّا أُنتج بعد ذلك بزمن، وتمّ صياغتها بمرور الوقت لتبرير ما وقع في صدر التاريخ الإسلامي وتصويبه، ومن ثمَّ فهي أقرب إلى تنظير ما بعد الوقوع (٣) .

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٣/٣٤٣.

(٢) أُسد الغابة: ٢/٣٨٣/١٨٩٢.

(٣) هنا تكمن ورطة الباحثين الإسلاميّين الذين كتبوا في نظام الحكم، فبعد أن نفى هؤلاء النصّ بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وجنحوا إلى نظام الشورى الذي يعتقدون به، وعجزوا عن الاستناد إلى نصوص نبويّة تؤيّد اختيارهم النظري، راحوا يستشهدون بأمور لا تمتّ إلى هذه الرؤية بصلة قط.

راجع علي سبيل المثال: كتاب (النظريّات السياسيّة الإسلاميّة)، و(فقه الشورى والاستشارة)، و(الشورى وأثرها في الديمقراطيّة).

١٦

ب: لو أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد فكّر بطرح الشورى كخيار للمستقبل، ولو أنّه أراد إسناد المرجعيّة الفكريّة للرسالة والقيادة السياسيّة للأمّة إلى جيل الصحابة، لتحتّم أن يعبّئ هذا الجيل تعبئة فكريّة ورساليّة مكثّفة لكي يعدّه للمهمّة التي تنتظره، بالأخصّ إذا لاحظنا أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) كان قد بشّر بسقوط تيجان كسرى وقيصر، وانهيار الإمبراطوريّتين (الفارسيّة والروميّة)، وأنّ رسالته ستمتدّ في الزمان والمكان من دون أن تعرف الحواجز والحدود.

فهل كان الصحابة على مستوى من الدراية والعلم يؤهّلهم للنهوض بهذه المسؤوليّة الكبيرة؟

ما هي الحقيقة؟ وهل يمكن أن نتصوّر الصحابة على مستوى النهوض بهذه المسؤوليّة؟ هذا سؤال خطير لاحَ لكثيرين، ولا يمكن تجاوزه ببساطة؛ لأنّ الإغضاء عنه ينمّ عن ضرب من السذاجة واللا مبالاة في الأصول العقيديّة.

لقد كان الباحث مروان خليفات وواحداً من الذين لاحَ لهم هذا السؤال، فدفعه إلى البحث والتأمّل، ثمّ أثمرت جولته التي دفعته إلى النصوص الحديثيّة والتاريخيّة، وأسفرت عن نتيجة مهمّة جدّاً جديرة بالقراءة؛ حيث خصّص لها الفصل الثالث من الباب الثاني من كتابه.

وهذه خلاصة مكثّفة لما انتهي إليه:

* الصحابة يُقلّون السؤال ولا يروون إلاّ قليلاً ممّا سمعوه:

* وقد بذلوا جهدهم في منع تدوين الحديث، والحؤول دون انتشاره، بالإضافة إلى أنّهم لم يتلقّوا من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلاّ حقائق قليلة، لانشغالاتهم الكثيرة؛ حيث صرحوا بأنفسهم أنّه كان يلهيهم الصفق بالأسواق وغيره من الأشغال، ويحول بينهم وبين حقائق السنّة (١) .

____________________

(١) صحيح البخاري: ٦/٢٦٧٦/٦٩٢٠.

١٧

* من النتائج التي خرج بها البحث أنّ الصحابة كانوا كثيراً ما يُخطئون في النقل؛ فهم تارة ينقلون شطراً من الحديث، وتارة يأخذون الحديث عن مخبر وينسبونه إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وثالثة ينسَون ما سمعوه، وقد صرّحوا بذلك، ورابعة يُخطئون في الجواب، ثمّ يرجعون إلى الحقّ بتذكير الآخرين وهكذا.

كما انتهى حال الصحابة إلى أنّ مِن بينهم منافقين، كما هو عليه صريح القرآن، ومنهم مَن ارتدّ على عقبيه، ومنهم مَن يُساق إلى النار، كما جاء في صريح الصحيحين، عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

أوَ بعد هذا يقال: إنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد أسند المرجعيّة الفكريّة والقيادة السياسيّة إلى هذا الجيل، وجعله القيّم على رسالته، والمؤتمن على الكتاب؟! (١) .

على ضوء هذا كلّه؛ لا ينبغي أن نتردّد لحظة في أنّ أطروحة إيكال أمر المستقبل إلى الأمّة أو نُخبها، وقصّة إسناد المرجعيّة الفكريّة والسياسيّة إلى الصحابة، لهي أطروحة نشأت بمرور الزمن؛ لتصويب الوقائع المُرّة التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وليس لها منشأ قط أو أساس يدلّ عليها في نصوص رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وحياته.

وبهذا تسقط الفرضيّة الثانية.

____________________

(١) راجع: وركبت السفينة: ١٨٩ - ٢٣٦.

١٨

الفرضية الثالثة

تحديد المستقبل والنص على الخلافة

هي أن نؤمن بأنَّ رسول الله اتّخذ موقفاً إيجابيّاً من مستقبل الرسالة، وعاش قضيّة هذا المستقبل بمسؤوليّة كبيرة، بحيث اختار مَن يخلفه في القيمومة على الرسالة وخلافة الأمّة. وما واقعة الغدير وما جرى فيها، ونصوص تلك الخطبة العصماء التي ألقاها بها النبي على جموع المسلمين، إلاّ تصريحاً وتأكيداً لما كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد أعلنه قبل ذلك مرّات، من ولاية علىّ بن أبي طالب (عليه السلام) وإمامة هذا المجاهد العظيم (١) .

لقد اختاره النبي منذ أيّام حياته الأُولى، فنشأ في كنف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتربَّى في حجره وتحت رعايته دون أن يدنّس الشركُ لحظةً من حياته الطاهرة.

على أنّه ليس أدلّ على هذه النشأة النظيفة من كلام عليٍّ (عليه السلام) نفسه، وهو يقول:

(وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخَصِيصة.

____________________

(١) اقتبسنا أنوار هذا التحليل العقلي من الكتاب القيّم (نشأة التشيّع والشيعة): ٢٣ - ٥٦ للمفكّر الفقيه آية الله العظمي الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، مع إيضاحات كثيرة منّا، وعزو النقولات إلى مصادرها.

١٩

وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلى صدره، ويَكنِفُني في فراشه، ويُمِسُّني جسده، ويُشِمُّني عَرْفَه. وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلَّى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلُك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره.

ولقد كنت اتَّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمِّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به.

ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحِراءَ، فأراه ولا يراه غيري، ولم يَجْمَع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما؛ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة.

ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلَّى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيِس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيٍّ، ولكنّك لوزير، وإنّك لعلى خير) (١) .

إنّ الأحاديث النبويّة التي تصرّح بإمامة علي بن أبي طالب وولايته، هي من الشمول والكثرة بحيث لا تدع مجالاً للاسترابة والشكّ. فنبي الله لم يصدع بـ (حقّ الخلافة) للإمام ولـ (خلافة الحقّ) هذه مرّة واحدة أو مرّتين، بل فعل ذلك عشرات المرّات بالإشارة وبالصراحة، وحدّد مشروعاً واضحاً لمستقبل الأمّة وغَدِ الرسالة، على مرأى من المسلمين جميعاً.

لقد امتدّت عمليّة إعلان هذا الحقّ العلوي والإجهار به ونشره إلى أبعد مدى، لتستوعب من حياة النبي جميع سنيِّ عمره في تبليغ الرسالة، حتى بلغت في واقعة الغدير ذروتها القصوى، واستقرّت على قمّتها الشاهقة.

____________________

(١) راجع: القسم التاسع/عليٌّ عن لسان عليٍّ/المكانة عند رسول الله/القرابة القريبة.

٢٠

إنّ مَن يتأمّل هذه المواضع بأجمعها (ممّا سيأتي توثيقه في هذا الفصل كاملاً) لا يستريب لحظة في أنّ إمامة الأمّة وقيادة المستقبل، لهي في طليعة شواغل النبي الأقدس (صلَّى الله عليه وآله)، وهي بنظره المهمّة الأُولى التي لا تتقدّمها مهمّة.

لهذا ما وجد فرصة مواتية إلاّ وأعلن فيها هذه الحقيقة، وما وجد موضعاً مناسباً إلاّ وأفاد منه في إبلاغ هذا الأمر الإلهي.

لقد استندنا في هذا الفصل على وثائق ومدوّنات ونصوص كثيرة تعود إلى كتب الفريقين في الحديث والتاريخ والتفسير.

ثمّ سنبدأ البحث التحليلي في هذا المدخل منذ بدايات الرسالة، وأوائل أيّام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، حتى نبلغ به يوم الغدير كما سلفت الإشارة إلى ذلك.

وعند الغدير سنعيد عرض مكوّنات المشهد مجدّداً، ونمارس العرض والتحليل على ضوء معطيات الرواية والدراية معاً.

هذه لمحة موجزة عن خطّة العمل، ودونكم التفاصيل في بيان أهمّ مساعي النبي لقيادة الإمام علىّ (عليه السلام):

٢١

أهمُّ جهود النبي

(1)

حديث يوم الإنذار

نزل أمر السماء إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، يأمره أن يدعو عشيرته إلى الإسلام ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) (1) ، فدعا النبي عشيرته، ولمّا اجتمعوا عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، راح يعدّهم لتلقِّي ما دعاهم إليه، وبعد مقدّمات أبلغهم دعوته، ثمّ انعطف يقول: (فأيّكم يوآزرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم)، وفى بعض النصوص التاريخيّة: (خليفتي من بعدي).

لم يلبِّ للنبي (صلَّى الله عليه وآله) دعوته من الحاضرين غير علي بن أبي طالب، الذي وثب من بين الجمع مجيباً النبي، فما كان من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بعد أن سمع جواب عليٍّ، إلاّ أن قال - على مسمع من الملأ -: (إنّ هذا أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوا).

وهكذا أعلن النبي ولاية عليّ بن أبي طالب وإمامته، والدعوة لم تزل في أوّل يوم من أيّام مرحلتها العلنيّة.

  لقد فَهِم الحاضرون في ذلك اليوم مغزى هذه الرسالة بوضوح، وأدركوا تماماً من كلام النبي (صلَّى الله عليه وآله) إمامة عليٍّ ولزوم طاعته، لذلك انبرى بعضهم مخاطباً أبا طالب: (قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع!) (2)، بيد

____________________

(1) الشعراء: 214.

(2) راجع: القسم الثاني/المؤازرة على الدعوة.

ولمزيد الاطّلاع على تفاصيل واقعة يوم الإنذار أو يوم الدار في المصادر التاريخيّة، راجع: تاريخ الطبري: 2/319 والصحيح من سيرة النبي: 3/61 حيث رصد عدداً كبيراً من مصادر هذه الواقعة.

٢٢

أنّهم عتَوا واستكبروا وأخذتهم العزّة بالإثم، فأنِفوا أن يستجيبوا للحقّ، وأن يُذعنوا إليه.

لقد دأبنا في صفحات هذه (الموسوعة) على ذكر الحديث بطرق مختلفة ونقولٍ متعدّدة، بحيث لا تُبقي مجالاً للشكّ. ونعطف على ذلك شهادة أبي جعفر الإسكافي المعتزلي الذي عدَّ الحديث صحيحاً (1) ، كما ذهب إلى الشيء ذاته علماء آخرون، منهم شهاب الدين الخفاجي في (شرح الشفا للقاضي عياض) (2) ، والمتَّقي الهندي، الذي ذكر تصحيح ابن جرير الطبري للحديث (3) ، وإضافة إلى ذلك ثَمّ آخرون أكّدوا على صحّة حديث الإنذار يوم الدار (4) .

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 13/244؛ الغدير: 2/279.

(2) نسيم الرياض في شرح الشفاء: 3/35.

(3) كنز العمّال: 13/128/36408.

(4) راجع: كتاب (حديث الإنذار يوم الدار) ورسالة الثقلين/العدد 22 ص 111.

٢٣

(2)

أحاديث الوصاية

تهدف الوصاية إلى الحفاظ على الدين وديمومة النهج والطريق، وهي بهذا اللحاظ سيرة مضى عليها جميع رسل السماء.

وفي إطار إشارته إلى هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة ومناسبات مختلفة، سجّل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) موقعه في الوصاية، فكان ممّا قال: (إنّ لكلّ نبيٍّ وصيّاً ووارثاً، وإنّ عليّاً وصيِّي ووارثي) (1) .

لقد بلغت أحاديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حيال علي (عليه السلام) في هذا المعنى حدّاً من الكثرة بحيث أمسى لفظ (الوصيِّ) نعتاً للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصفة يُعرف بها دون لبس أو غموض.

وعندما كان يُطلق مصطلح (الوصي) في الأحاديث والكلام والأشعار كانت الغالبيّة من مسلمي صدر الإسلام تفهم منه دلالته على الإمام علي (عليه السلام) من دون تردّد؛ ومن ثَمّ دلالته بالضرورة على الخلافة والإمامة (2) .

ثمّ جاء الدور لبني أميّة، الذي يبدو أنّهم بذلوا جهوداً كبيرة علَّهم يطمسون هذا العنوان الوضيء ويُزيلونه عن الإمام، ويُباعدون بينه وبينه، فكم بذلوا في سبيل هذا الغرض المنحطّ! وكم وضعوا من الأحاديث (3) ، لكن أنَّى للحقّ أن يُقهر بحراب أهل الباطل!

____________________

(1) تاريخ دمشق: 42/392/9005. راجع: أحاديث الوصاية.

(2) راجع: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 16/19 ومعالم المدرستين: 1/289 فما بعد، وهو بحث جدير بالقراءة.

(3) لمزيد الاطّلاع على هذا الاتّجاه ونشاطاته وأفعاله راجع: معالم المدرستين: 1/483.

٢٤

(3)

أحاديث الوراثة

ألِفَ الذهن الإنساني على الدوام عناوين (الإرث) و(الميراث) و(الوراثة)، بحيث استوعبت هذه الحقيقة الأمور الماديّة والمعنويّة، والناس تُظهر دهشتها - في العادة - لإنسان يسكت عن كيفيّة التصرّف بتركته من بعده، وما يتركه الناس يتمثّل تارة بالأمور المادّية وأُخرى بالأمور والمواريث المعنويّة.

لقد جرت سنّة الإرث، وتواضع الطبع الإنساني في هذا المجال على وجود الوارث والمؤتمن، من دون أن يُنكر ذلك أحد، بل التقى الناس على امتداح هذه السنّة، مهما كانت انتماءاتهم الحضاريّة والثقافيّة والفكريّة.

فتعالوا الآن لننظر ماذا فعل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بميراثه العظيم، وهو خاتم النبيّين، وحامل آخر رسالات السماء، ومبلّغ دين أبدي يترامى امتداداً فوق حدود المكان والزمان، إلامَ عَهِد بأمر هذا الدين من بعده؟ هل أوصى الله سبحانه رسوله الكريم أن يعهد بالأمر إلى شخص محدّد؟

إنّ أخبار (الوراثة) ونصوصها هي جواب جليّ على هذا السؤال المهمّ؛ فقد راح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُخبر تارة بأنّ اختيار الوارث هي سنّة جرى عليها جميع النبيّين قبله؛ ومن ثَمّ يتحتّم عليه بوصفه خاتم المرسلين والحلقة الأخيرة في نبوّات السماء، أن يختار وارثه، كما تحدّث أُخرى وبصراحة على أنّ وراثته تكمن بالإمامة والعلم.

وهذا الموقع هو ما أكّد عليه الصحابة أيضاً منذ ذلك العصر؛ حيث صاروا

٢٥

يُظهرون كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وتصريحه بهذه الحقيقة، في مناسبات ومواضع ومناسبات مختلفة، كما كانوا أحياناً يُشيرون في كلامهم إلى عليّ بن أبى طالب بموقع الوراثة ومقام الوارث، من ذلك: سأل عبد الرحمن بن خالد قثم بن العبّاس: من أين ورث عليّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟ قال: إنّه كان أوّلنا به لحوقاً، وأشدّنا به لزوقاً.

لقد ضمّ فصل (أحاديث الوراثة) النصوص الروائيّة والتاريخيّة، التي تُفصح عن هذه الحقيقة من كتب الفريقين، وهي تُشير إلى الكلمات النبويّة التي ذكر فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) صراحة أنَّ عليّاً وارثه، وارث علمه وخزانته ومكنون معرفته؛ ومن ثَمّ فهو بالضرورة إمام الأمّة ورمز مرجعيّتها الفكريّة والسياسيّة (1) .

____________________

(1) راجع: أحاديث الوراثة.

٢٦

(4)

أحاديث الخلافة

(الخلافة) هي أيضاً تعبير قرآني ومصطلح ديني، يُشير بوضوح إلى الاستخلاف في الأبعاد المختلفة، إلاّ إذا استثني بُعدٌ.

وهذا ما يفسّر لنا الجهود الحثيثة التي بذلها الذين أمسكوا بأزمّة أُمور المسلمين بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وما بذلوه من مساع جبّارة كي يلبسوا هذا الرداء، موه على قاماتهم.

كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد صرّح بخلافة عليّ بن أبى طالب منذ الأيّام الأُولى لإعلان دعوته وإجهاره برسالة السماء، هذا التصريح الذي يمكن تلمّسه في أحاديث كثيرة قالها النبي في مواضع متعدّدة، ومواقع مختلفة، وهي تُشير إلى حدود هذه الخلافة.

وهذا الجهد النبوي يكشف عن مدى عناية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بمستقبل الأمّة، واهتمامه الكبير بمصير الرسالة من بعده.

٢٧

(5)

أحاديث المنزلة

من بين أعظم الصفات التي نَحَل بها النبي (صلَّى الله عليه وآله) عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، ومن أكثر العناوين النبويّة ألَقاً - ممّا أطلقه النبي على الإمام أمير المؤمنين - هو عنوان (المنزلة)، حيث ساوى النبي عليّاً بنفسه، ووصفه أنّه مثله في القيادة، هذه المجموعة من الأحاديث النبويّة تشتهر بين العلماء والمحدّثين بأحاديث المنزلة، وذلك انسجاماً مع صريح ما يقضي به الكلام النبوي في هذا المضمار.

لقد عبّر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن هذا الموقع الرفيع الذي يحظى به الإمام أمير المؤمنين بصيغ متعدّدة، مثل قوله: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي)، كما صدع بهذه الحقيقة وأعلنها على المسلمين مرّات ومرّات؛ ليكون بذلك قد أوضح للجميع - وللتاريخ أيضاً - مساواة عليّ ومماثلته له في القيادة، وكان من بين المواضع التي أعلن فيها النبي هذا الكلام المعجز حول عليّ، غزوة تبوك.

ففي ظلّ أوضاع صعبة ومُضنية جهّز النبي جيشاً كبيراً، ثمّ خرج من المدينة قاصداً أن يقاتل به الروم.

لقد كانت تبوك هي أقصى نقطة قصدها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حروبه، وأبعدها عن المدينة جغرافيّاً، وفي المدينة حيث كان يعيش النبي، استطاع النفاق أن يتبلور آنئذ في إطار حركة منظّمة، راحت تترصّد الوضع بصدور موبوءة بالحقد والضغينة، وتخطّط بخفاء كي تنقضّ على المجتمع الإسلامي الفتي بضربة قاصمة.

لقد غادر النبي المدينة في سفر طويل، وهو يتوجّس خيفة من فتن المنافقين وكيد الحاقدين، فماذا يفعل؟ وكيف يؤمّن وضع المدينة ويطمئنَّ عليها؟ اختار (صلَّى الله عليه وآله) أن يُبقي عليّاً في المدينة، يخلِّفه في أهله، ويصون له دار هجرته ومَن

٢٨

بقي من قومه. هكذا مضي الأمر.

وعندما رأى المنافقون والذين في قلوبهم مرض، أنّ خطّتهم تلاشت بوجود عليّ كما تتلاشي خيوط العنكبوت، وأحلامهم ضاعت ببقاء الإمام أمير المؤمنين في المدينة، راحوا يُرجفون بأنّ النبي ما ترك عليّاً في المدينة إلاّ لموجدة عليه، وأنّه لو كان له به غرض لما خلَّفه على النساء والصبيان!

راحت شائعات حركة النفاق تزحم أجواء المدينة، وصارت أراجيفهم تُحاصر عليّ بن أبى طالب - ليث الوغى وفارس ساحات الجهاد - وتنهال عليه من كلّ حدب وصوب، فماذا هو فاعل أمير المؤمنين؟

سرعان ما لحق برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقصّ عليه أراجيف المنافقين، فما كان من النبي الأقدس إلاّ أن تحدّث إلى عليّ بما يكشف عن حظوة كبيرة عند النبي، ومكانة لا تُدانيها مكانة أحد من العالمين، فقال له بفيض حنان: (ارجع يا أخي إلى مكانك؛ فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك؛ فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقوتي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدى؟!).

بصراحة لا يشوبها لبس، سجّل النبي (صلَّى الله عليه وآله) لعلي بن أبى طالب (عليه السلام) جميع ما له من مناصب ومواقع ومسؤوليّات ما خلا النبوّة، وأوضح دون أدنى شائبة أنّ الإمام أمير المؤمنين هو الذي يجسّد عمليّاً ديمومة الخطّ النبوي، وينهض بمسؤوليّات النبي عند غيابه، في زعامة الأمّة وقيادتها، وممارسة المرجعيّة الفكريّة والعلميّة للرسالة الإسلاميّة.

تسجّل بعض النصوص التاريخيّة أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) خاطب عليّاً بهذه الجملة صراحة: (إنّه لابدّ من إمام وأمير؛ فأنا الإمام، وأنت الأمير) (1) .

____________________

(1) راجع: أحاديث المنزلة.

٢٩

(6)

أحاديث الإمارة

حثّ القرآن جميع المؤمنين ودعاهم بصراحة تامّة إلى إطاعة (أُولي الأمر) (1) ؛ حيث جعل إطاعة هؤلاء واتّباعهم رديفاً لإطاعة الله وإطاعة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

والسؤال: مَن هم مصداق (أُولي الأمر)؟ أفيجوز أن نعدّ الطغاة والجبّارين المحترفين - الذين يتسنّمون السلطة متّخذين جماجم الأبرياء سلّماً يرقون به إلى مسند العرش - مصداقاً لأُولي الأمر؟ أبداً لا يجوز هذا!

فلا ريب أنّ مصداق (أُولي الأمر) ينطبق على أُولئك الذين يعيشون حياتهم على نهج نبوي وضّاء، ويبذلون وجودهم لله، وفي سبيل الله، ويُفنون أعمارهم من أجل إعلاء كلمة الحقّ، وبسط العدالة في ربوع الحياة، وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب يتبوّأ من هذا العنوان ذروته العليا، ويقف على أقصى نقطة من قمّته الشاهقة، كما تُفصح عن ذلك الكثير من الأحاديث النبويّة؛ تلك النصوص الوضّاءة الموحية، التي تبعث على الدهشة والجلال.

دعونا نتخطَّى ذلك إلى ما هو أبعد منه مدى وأعمق أثراً، فهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) اختصّ عليّ بن أبى طالب وحده بلقب (أمير المؤمنين)؛ فلا يحقّ هذا اللقب لأحد غيره قط، كما نصّ على ذلك صراحة النهي النبوي.

ولدينا فيض من النصوص التي تتحدّث عن هذا المعني، وهي من الكثرة بحيث صنّف من بعضها السيّد الأجلّ، قدوة السالكين، وأُسوة العابدين وجمال

____________________

(1) إشارة إلى الآية 59 من سورة النساء.

٣٠

العارفين رضي الدين عليّ بن طاووس الحلِّي كتاباً أطلق عليه عنوان: (اليقين باختصاص مولانا علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين)، والملاحظ أنّ هذه الأحاديث النبويّة تذكر الإمام عليّ بلقب (أمير المؤمنين) مرّة، ولقب (أمير البررة) ثانية، و(أمير كلّ مؤمن بعد وفاتي) ثالثة (1) .

وهذا الإمام الحسن (عليه السلام) يشرط على معاوية في معاهدة الصلح، أن لا يتسمّى بـ (أمير المؤمنين) ولا يُطلق على نفسه هذا اللقب (2) .

____________________

(1) راجع: أحاديث الإمارة، وكتاب (اليقين باختصاص مولانا علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين).

(2) علل الشرائع: 212/2.

٣١

(7)

أحاديث الإمامة

(الإمام) في المعني اللغوي هو المتقدّم، والمقتدى به، وقائد القوم، ورئيس القبيلة (1) ، وهو في الثقافة القرآنيّة والدينيّة - دون شكّ - قائد الأمّة في مختلف الأبعاد، وزعيم الأمّة في إدارة أُمور المجتمع.

هذه الحقيقة يمكن تلمّسها في الرسالتين المتبادلتين بين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية.

لقد تحدّث الإمام في إطار رسالة مطوّلة عن موقعه وموقع أهل البيت (عليهم السلام)، وذكّر بوصايته عن النبي، وخلافته لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فما كان من معاوية إلاّ أن قال في الجواب نصّاً: (ألا وإنّما كان محمّد رسول الله من الرسل إلى الناس كافّة، فبلّغ رسالات ربّه، لا يملك شيئاً غيره!) ، وهذا النصّ يحصر وظيفة النبي بالتبليغ فقط، فهو مبلّغ رسالة لا أكثر، وليس بإمام، ولا زعيم، ولا قائد، ولا رجل سياسة، ولا أيّ شيء آخر.

فردّ الإمام عليّ (عليه السلام) على كلام معاوية، الذي أنكر فيه بقية شؤون النبي، وفي الطليعة شأنه كإمام؛ ردَّ عليه بصراحة مسفرة، وهو يكتب: (والذي أنكرت من إمامة محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، زعمت أنّه كان رسولاً ولم يكن إماماً، فإنّ إنكارك على جميع النبيّين الأئمّة، ولكنّا نشهد أنّه كان رسولاً نبيّاً إماماً) (2) .

يُسفر هذا الحوار المتبادل في الرسالتين عن موقع الإمامة في الفكر

____________________

(1) العين: 8/428.

(2) الغارات: 1/203.

٣٢

الإسلامي، وهو إلى ذلك يكشف عن الأسباب الكامنة من وراء عداء بني أميّة لهذا العنوان.

على ضوء هذا التوضيح، يمكن أن نُدرك الآن عمق الأخبار والأحاديث الكثيرة التي أكّد فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على إمامة عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، من بينها قوله: (يا عليّ، أنت وصيِّي وخليفتي وإمام أمّتى بعدي)، أو قوله: (أنت إمام كلّ مؤمن ومؤمنة، ووليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي) (1) وغير ذلك من النصوص التي جاءت تأكيداً وإلفاتاً لديمومة الإمامة في وجود عليّ بن أبى طالب.

____________________

(1) راجع: أحاديث الإمامة.

٣٣

(8)

أحاديث الولاية

من العناوين البارزة التي جاءت بها الروايات، وأكّدتها أيضاً آيات، تفسّرها أحاديث حيال عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، هو عنوان (الولي).

لا جدال في أنّ استعمال مادة (و ل ي) بمعنى القيّم، والقائد، والزعيم، والأولى بالتصرّف، والأحقّ بالقيمومة والأمر؛ هو أمر شائع الاستعمال في الأدب العربي، كما سنُشير إلى ذلك أثناء دراسة حديث الغدير وتحليله.

إنّ النصوص التي تضمّنت إطلاق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عنوان (الولي) و(الولاية) على عليّ بن أبى طالب، لهي كثيرة في الحديث والأخبار النبويّة، فلطالما أشار النبي إلى عليّ بهذا الوصف الجليل في مواضع كثيرة، وما أكثر المواقع التي عرض بها هذا العنوان المثير للانتباه.

فخطاب النبي بهذه الصيغة: (يا عليّ، أنت ولي الناس بعدي؛ فمَن أطاعك فقد أطاعني، ومَن عصاك فقد عصاني) (1) تردّد كثيراً، بحيث امتلأت منه مصادر أهل السنّة ومدوّناتهم الحديثيّة، وقد أوردنا شطراً مهمّاً منها في ظلّ عنوان (أحاديث الولاية) (2) .

إنّ هذه الأحاديث - بالأخصّ حين تأتي بقيد (من بعدي) - لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد حدّد من خلال ذلك طبيعة المسار السياسي الذي يخلفه، وأومأ بوضوح إلى القيادة السياسيّة التي تتسنّم الأمور من بعده.

____________________

(1) الأمالي للمفيد: 113/5.

(2) راجع: أحاديث الولاية.

٣٤

تجلّي الولاية في القرآن:

لم يقتصر وصف (الولي) و(الولاية) لعلي في الحديث النبوي وحده، بل امتدّ إلى آي القرآن الكريم، كما دلّلت على ذلك روايات كثيرة، ومن بين هذه الآيات قوله سبحانه: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) ؛ إذ ليس ثَمَّ شكّ في شأن نزول هذه الآية وانطباقها على الإمام علي (عليه السلام) في إطار الواقعة المعروفة؛ حيث دخل سائلٌ المسجد، فأومأ إليه الإمام بإصبعه، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وانصرف.

لقد وثّق هذه الواقعة عدد كبير من المحدّثين والمفسّرين، وذكروا صراحة أنّ الآية نزلت بشأن علي (عليه السلام) (2) .

لكن يبدو أنّ بعض المفسّرين لم يرُق لهم أن يُسفر الحقّ ويرمي بضيائه على الأُفق، فلاذوا بشُبَه راحوا يُثيرونها، وجنحوا إلى تسويفات واهية علّهم يقلبوا الحقيقة، ويكفئوا الحقّ على وجهه؛ فقالوا - مثلاً -: إنّ (الَّذِينَ) جمع، فكيف ينطبق على علي (عليه السلام) وهو واحد؟!

لقد نسوا - وربّما تناسوا - أنّ هذا مألوف، واستعماله شائع في الأدب العربي، كما كثُر في القرآن؛ إذ يجيء الخطاب للجماعة مع أنّ المراد واحد بهدف التكريم أو أيّ باعث آخر، كمثل قوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ) (3) ؛ فلا جدال أنَّ الآية نزلت في حاطب بن أبى بلتعة

____________________

(1) المائدة: 55.

(2) راجع: أحاديث الولاية/ولاية علي ولاية الله والرسول.

(3) الممتحنة: 1.

٣٥

بعدما بعث كتاباً إلى قريش، كما ذكر ذلك المفسّرون (1) .

كذلك قوله سبحانه: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ... ) (2) ، حيث قصدت الآية عبد الله بن أُبيّ، كما أجمع المفسّرون على ذلك في شأن النزول (3) .

على هذا؛ يتّضح أنّ إيرادات هذا البعض من المفسّرين لم تأتِ بباعث البحث الناشئ عن الشكّ في فضيلة عظيمة كهذه.

على أنّ أمثال هذه المواقف كثير وليس بعزيز.

ثمّ إنّ الآية تحصر (الولاية) من دون لبس بـ (الله)، و(الرسول) و(علي).

ومن الجليِّ أنّه لو كان معنى الولاية في الآية هو (النصرة) أو (المحبّة) فلا معنى للتخصيص، ولن يكون هناك ما يسوّغ الحصر (4) .

لقد قصدنا في هذا المدخل أنَّ نتابع تلك الجهود الحثيثة التي بذلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لتعيين الإمامة من بعده، وتحديد الهادي الذي يأخذ بيد الأمّة في المستقبل، كما جاءت الإشارة إلى هذه الآيات - كمثال - لتسلّط الضوء على دور الوحي في هذه المهمّة التي بلغ فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذروة لأجل تثبيت الولاية، من خلال ما نهض به عمليّاً من تفسير هذه الآيات وتبيينها.

____________________

(1) تفسير الطبري: 14/الجزء 28/58؛ تفسير التبيان: 9/575.

(2) المائدة: 52.

(3) تفسير الطبري: 4/الجزء 6/278، الوسيط في تفسير القرآن المجيد: 2/197، زاد المسير: 2/289.

(4) راجع: أحاديث الولاية/ولاية علي ولاية الله والرسول.

ولمزيد الاطّلاع على تفسير الآية راجع: الميزان في تفسير القرآن: 6/8 والكشّاف: 1/347.

٣٦

(9)

أحاديث الهدية

إمامة الأمّة هي هداية الناس إلى المنزل المقصود، وتوجيهها صوب المقصد الأعلى، وسوقها تلقاء الكمال الإنساني الميسور.

وعلى هذا؛ أفيمكن لمَن لم يتوفّر على الهداية الكاملة، ولم يعِش الدين إدراكاً عميقاً في وجوده أن يأخذ بيد المجتمع صوب تلك الهداية؟ أو يكون لمَن لا يهتدي إلاّ أن يُهدى أن يتبوّأ هذا الموقع؟ لقد أوضح النبي أنّ هادي الأمّة، والإمام الذي يأخذ بيد المؤمنين إلى بَرّ الأمان في المستقبل هو علي بن أبى طالب، فأمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي يسوق الأمّة صوب الحقيقة، ويأخذ بيدها إلى الينابيع الصافية النقيّة، وهو الذي يتبوّأ في الأمّة موقع الهداية بعد النبي.

هذا ما أفصح عنه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حين عدّ عليّاً (هادي) الأمّة، والمصداق الرفيع لهذا الموقع، وهو يفسّر قوله سبحانه: ( ... إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (1) بقوله (صلَّى الله عليه وآله): (المنذر أنا، وآلهادي علي بن أبي طالب) (2) .

____________________

(1) الرعد: 7.

(2) راجع: أحاديث الهداية.

٣٧

(10)

أحاديث العصمة

إنّ (العصمة) بمعنى الوقاية من الذنب والخطأ والجهل، والاحتراز من الاعوجاجات التي تشوب السلوك، هي من الخصائص الحتميّة لرسل السماء، ويبدو أنَّ ليس هناك نِحلة أو فرقة من المسلمين تشكّ في ضرورة عصمة الأنبياء، فالأنبياء (عليهم السلام) معصومون بنصّ القرآن، وهذه حقيقة أجمع عليها المتكلّمون والعلماء؛ إذ ليس هناك مَن يناقش في أصل العصمة وضرورتها، إنّما يمكن أن يكون لبعضهم كلام في حدّها وحدودها.

أمّا عقيدة الشيعة التي تستند إلى (النصّ) على الإمامة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتركّز على أنّ الإمامة قائمة على أساس النصوص الثابتة، فهي تؤمن بأنّ جميع خصائص رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) - ما خلا النبوّة - تتجسّد في الإمام، وتواصِل حضورها في خليفته من بعده، وهي تعدّ ذلك أمراً قطعيّاً على أساس نصوص كثيرة ودلائل عقليّة وافرة نُقّحت في مظانّها.

لقد ركّز علماء الشيعة ومتكلّموهم على هذا الأصل إزاء بقيّة الفرق الإسلاميّة، وعدّوا هذا الموقع ضرورياً لخليفة النبي، وذلك في مقابل التيّارات الأُخرى في الساحة الإسلاميّة من تلك التي لم تتبنّ ضرورة النصّ، على أنّ طبيعة هذه المواقف، وتحليل خلفيّاتها التاريخيّة وبناها الفكريّة، هو أمر خارج عن نطاق هذا البحث.

لكن يحسن بنا الآن أن نتوقّف مع ملاحظة سريعة، قبل أن نواصل متابعة

٣٨

الجهود النبويّة لتشييد قواعد الإمامة العلويّة، وتثبيت إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وطبيعة النهج الذي اعتمده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لعرض هذه الحقيقة؛ فقد استند متكلّمو الشيعة ومفسّروهم منذ القدم إلى (آية التطهير) من بين ما استندوا إليه في إثبات عصمة (الأئمّة) وطهارة (أهل البيت)، وهو استدلال متين، كشف عن قوّته وإحكامه في الدراسات المختصّة بذلك.

بيد أنّ ما يعنينا أمره في هذا المجال، وله صلة وثيقة - بل ضروريّة ببحثنا - هو معرفة طبيعة عرض هذه المسألة، والكيفيّة التي استند إليها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في بيانها، وهنا بالذات تكمن الملاحظة التي أحببنا المكوث عندها قليلاً.

لقد مضت على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) - بعد أن تلا آية التطهير على المسلمين - أيّام وأشهر طويلة، وهو يقف إلى جوار بيت علي، وينادي إذا حضر وقت الصلاة: (الصلاة، يا أهل البيت) (1) .

على هذا؛ ليس هناك شكّ في أنّ (أصحاب الكساء) هم مصداق (أهل البيت)، وأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو سيّد أهل البيت وذروة السنام فيه، إنّما الذي يحظى بأهمّية أكبر - بنظرنا - هو ما كان يفعله الرسول في ثنايا تركيزه على الإعداد لقيادة المستقبل، وكجزء من برنامجه لإعلان الإمامة التي تخلُفه، إلى جوار تأكيده على التصريح بطهارة أهل البيت وعصمتهم، وحتى بعد إعلان هذه الفضيلة راح يكرّر على الدوام قوله (صلَّى الله عليه وآله): (أنا حرب لمَن حاربكم، وسلم لمَن سالمكم) (2) ، فماذا يعني هذا التكرار؟ وما هو مغزاه؟

يبدو أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كشف للأمّة - من خلال تفسيره النافذ البصير لقوله سبحانه -: ( ... وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي

____________________

(1) أهل البيت في آية التطهير: 40 - 45.

(2) لمزيد الاطّلاع على صيغ الحديث وطرقه راجع: أهل البيت في الكتاب والسنّة: 165.

٣٩

القُرْآنِ... ) (1) - عن وجود أسرة ستنقضّ على المجتمع الإسلامي، وتسومه الأذى والعذاب والظلم، وبتشبيهه حركة هذه الأسرة بنزو القردة كشف عن هويّتها القرديّة، وحذّر الأمّة من أن تترك أمور دينها تقع في يوم من الأيّام بيد رجال هذه العشيرة، أو أن تكون قيم هذا الدين ومُثله العليا لعبة بأيديهم، يعبثون بها كيفما شاؤوا (2) .

على الجانب الآخر من المشهد، حرص رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) - من خلال التركيز على طرح (أهل البيت) كأُناس مطهّرين وثلَّة معصومة نقيّة من المثالب والعيوب - أن يسجّل للأمّة خطّ الإمامة المعصومة، والقيادة النزيهة للمستقبل (3) .

وكان لآية التطهير الدور العظيم في بيان فضائل (آل الله) والكشف عن مناقبهم ومنزلتهم الرفيعة، وعلى هذا الضوء يتبيّن أنّ السرّ من وراء كلّ هذه الجهود النبويّة، في الكشف عن مقصود الآية وتحديد مرادها، وكذلك ما بذله الأئمّة (عليهم السلام) على هذا الصعيد، وأيضاً ما قام به الأُمويُّون في المقابل ومفسِّروا البلاط من سعي هائل لصرف الآية عن (آل الله) أو إشراك الآخرين معهم في هذه الفضيلة على

____________________

(1) الإسراء: 60.

(2) لمزيد الاطّلاع على تفسير الآية وتحذير النبي (صلَّى الله عليه وآله) راجع: شرح نهج البلاغة: 9/218، حيث نقل ابن أبي الحديد ذلك عن المفسّرين، وقد ذكر في ج 15/175: أنّه لا خلاف بين أحد في أنّه تعالى وتبارك أراد بها بني أميّة. وتاريخ الطبري: 10/58 والنزاع والتخاصم: 79 وتفسير القرطبي: 10/286 وفتح القدير: 3/239 والدرّ المنثور: 5/310 وتفسير نور الثقلين: 3/179 وغير ذلك.

(3) راجع: معالم الفتن: 1/43 - 121.

وقد استطاع الباحث سعيد أيّوب - بذكاء يستحقّ الثناء - أن يجمع الآيتين في أُفق واحد، استشرف منه تحذير الأمّة الإسلاميّة من المستقبل، وتوجيهها للتمييز بين خطّين: خطّ العصمة والطهارة، وخطّ الرجس والفساد، وحثّها على التزام جانب الحذر في اختيار مَن يتبوّأ نظام المجتمع، كي تأمن العواقب الوخيمة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408