الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)0%

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 304

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الكريم الحسيني القزويني
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 304
المشاهدات: 156319
تحميل: 5399

توضيحات:

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 304 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156319 / تحميل: 5399
الحجم الحجم الحجم
الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والشقي مَنْ فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها، وتُخيب طمع مَنْ طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين(1) !

أيّها الناس، انسبوني مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم، وابن وصيه، وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟

____________________

(1) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 279.

٢٠١

فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ بمَنْ اختلقه. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟»(1) .

شمر يقاطع خطبة الحسينعليه‌السلام

ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن قاطع كلام الحسينعليه‌السلام بقوله: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

حبيب بن مظاهر يردّ عليه

وإذا بحبيب بن مظاهر الأسدي، يجيب شمراً بقوله: والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول؛ قد طبع الله على قلبك(2) .

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 322 - 323.

(2) الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 287، تاريخ الطبري 4 / 323.

٢٠٢

الحسينعليه‌السلام يتمّ خطبته

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام واصل خطبته قائلاً: «فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، أنا ابن بنت نبيّكم خاصة.

أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص جراحة؟». فأخذوا لا يكلمونه(1) .

فنادىعليه‌السلام : «يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن اقدم قد أينعت الثمار، وطمّت الجمام، واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجندة؟»(2) .

فقالوا: لم نفعل.

قالعليه‌السلام : «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال: «أيّها الناس، إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض».

فقال قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك؛ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 323.

(2) المصدر نفسه.

٢٠٣

فقال الحسينعليه‌السلام : «أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟

لا والله، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله،( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) (1) ،( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) (2) »(3) .

103 - زهير بن القين يحذّر وينذر الجيش الاُموي

ثمّ إنّ زهير بن القين (رضوان الله عليه)، رأى أنّ القوم لم يستجيبوا لخطبة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم ينصاعوا إليها، فخرج إليهم على فرس له وهو شاك في السلاح؛ ليحذرهم ناصحاً لهم، ومنذراً ممّا يرتكبون، قائلاً: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقاً على المسلم نصحية أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة، وعلى

____________________

(1) سورة الدخان / 20.

(2) سورة غافر / 27.

(3) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 280، تاريخ الطبري 4 / 330، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 287.

٢٠٤

دين واحد، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وأنتم أمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم، وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه؛ لَيسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّائكم، أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه(1) .

104 - الجيش الاُموي يردّ على كلام زهير بن القين

ثمّ إنّ جماعة من زعماء الجيش الاُموي قاطعوا كلام زهير بسبّه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له قائلين: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 323، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 288.

٢٠٥

جواب زهير

فأجابهم زهير قائلاً: عباد الله، إنّ ولد فاطمةعليها‌السلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية، فإن كنتم لم تنصروهم فاُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد؛ فلعمري إنّه ليرضى بطاعتكم من دون قتل الحسين(1) .

شمر يرميه بسهم

ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن رماه بسهم، وقال له: اسكت أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال شمر: إنّ الله قاتلُك وصاحبُك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوفني؟! فوالله لَلموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.

ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال: عباد الله، لا يغرّنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 324، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 288.

٢٠٦

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا مَنْ نصرهم وذبّ عن حريمهم.

فأمره الحسين بالرجوع فرجع، وقال لهعليه‌السلام : «لعمري، لئن كان مؤمن فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ»(1) .

105 - برير بن خضير واعظاً وناصحاً

ولمّا رأى برير بن خضير إصرار القوم على الباطل، ومعاندتهم للحقّ وأهله، أراد أن يعظهم وينصحهم، ويدعوهم إلى قول الحقّ والصراط المستقيم، فاستأذن من الحسينعليه‌السلام فأذن له، فجاء ووقف فيهم، وكلّ منهم يعرفه أنّه من التابعين، ومن شيوخ القرّاء، عابداً ناسكاً.

فنادى بأعلى صوته: يا معشر الناس، إنّ الله بعث محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه، وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله، أفجزاء محمّد هذا؟! فأجابوه قائلين: يا برير، قد أكثرت الكلام، فاكفف عنّا،

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 324.

٢٠٧

فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَنْ كان قبله.

فقال برير: يا قوم، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذرّيّته وعترته، وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم.

فقالوا له: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد، فيرى فيهم رأيه.

برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟! ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! ويلكم! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد، وحلأتموهم عن ماء الفرات؟! بئسما خلفتم نبيّكم في ذرّيّته! ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة؟! فبئس القوم أنتم!

فقيل له: يا هذا، ما ندري ما تقول يا برير.

برير: الحمد لله الذي زادني فيهم بصيرة. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم. اللّهم ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعلوا يرمونه بالسهام فتقهقر(1) .

____________________

(1) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 286.

٢٠٨

106 - الحسينعليه‌السلام يخطب مرّة اُخرى أمام الجيش الاُموي في كربلاء

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نبي هدىً ورحمة لبني الإنسان، وهكذا أهل بيتهعليهم‌السلام ، فهم فرع من ذلك الغصن المبارك؛ لأنّهم أهل بيت النبوّة، بيت هداية ورشاد.

والحسينعليه‌السلام وليد هذا البيت، وحفيد جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو شعاع هدىً ورحمة. لما رأى القوم في اليوم العاشر من المحرّم، لم تهدهم خطب، ولم تأثّر فيهم موعظة، وهم مصرون على جهلهم وغيّهم، فأرادعليه‌السلام أن يعيد النصح عليهم ثانياً، علّهم ينصاعون إلى صوت حق، وكلمة خير، وهو حريص على إنقاذهم من الضلال والغي؛ لأنّه وليد نبي الهدى والرحمة.

فوقفعليه‌السلام أمام ذلك الزخم الجاهلي، بأفكاره ومشاعره، حاملاً بيده قرآن هداية ونور، مندداً بموقفهم هذا، وموبّخاً لإصرارهم وعنادهم قائلاً: «تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً(1) ! أحين استصرختمونا والهين(2) ، فأصرخناكم موجفين(3) ، سللتم علينا سيفاً لنا في

____________________

(1) الترح: الحزن.

(2) الوله: الحزن الذي يكاد أن يذهب بالعقل.

(3) الوجيف: الاضطراب.

٢٠٩

أيمانكم، وحششتم(1) علينا ناراً اقتدحناها(2) على عدوّنا وعدوكم، فأصبحتم ألباً(3) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم؟ فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم(4) ، والجأش(5) طامن(6) ، والرأي لمّا يستصحف(7) ؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها.

فسحقاً لكم(8) يا عبيد الأمة! وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن.

ويحكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟!

____________________

(1) حششتم: أوقدتم.

(2) اقتدح: حاول إخراج النار.

(3) الألب: القوم تجمعهم عداوة واحدة.

(4) مشيم: من شأم، جر الشؤم.

(5) الجأش: القلب.

(6) ساكن.

(7) يستصحف: يستحكم.

(8) أبعدكم الله عن رحمته.

٢١٠

أجل والله، غدر فيكم قديم، وَشِجَتْ(1) عليه اُصولكم، وتأزّرت(2) عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر شجاً للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدّعي(3) ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(4) والذلّة، وهيهات منّا الذلّة؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حمية، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر». ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي:

فـإنْ نُـهزم فهزّامونَ قُدماً

وإنْ نُـغلب فـغير مُغلّبينا

ومـا إن طبّنا جبنٌ ولكنْ

مـنايانا ودولـةُ آخـرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن اُناسٍ

كـلاكـلَهُ أنـاخَ بـآخرينا

فـأفنى ذلـكم سروات قومي

كـما أفنى القرونَ الأوّلينا

فـلو خلدَ الملوكُ إذن خلدنا

ولـو بقي الكرامُ إذن بقينا

____________________

(1) وشجت: اشتبكت.

(2) تأزّرت: هاجت.

(3) المتهم في نسبه.

(4) السلّة: سلة السيف.

٢١١

فـقل لـلشامتينَ بنا أفيقوا

سـيلقى الشامتونَ كما لقينا(1)

«ثمّ وأيم الله، لا تلبثوا بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون.إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقِيم »(2) .

ثمّ رفععليه‌السلام يديه نحو السماء وقال: «اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا وإليك المصير، عليك توكّلنا.

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه؛ قتلة بقتلة، وضربة بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي»(3) .

____________________

(1) انظر، الاحتجاج - الطبرسي 2 / 24.

(2) سورة هود / 56.

(3) اللهوف في قتلى الطفوف - ابن طاووس / 97 - 99، مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 289.

٢١٢

107 - النفوس الخيّرة تستيقظ

إنّ بعض النفوس، مهما كان عليها غشاوة ضلال وانحراف إلاّ إنّها تبقى توّاقة إلى الخير والكمال، فمهما وجدت نوراً تسترشد به طريق الحقّ أسرعت إليه؛ لأنّ الضلال لم يخيّم على جميع منافذها، فتتّخذ من ذلك البصيص المنفتح على عالم الخير والحقّ طريق هداية وكمال كما هي نفسية الحرّ بن يزيد الرياحي؛ فإنّه لمّا سمع الحسينعليه‌السلام يخطب في ذلك الجيش الضال، انشرح قلبه إلى الإيمان والخير، وأشرقت نفسه بالنور والهداية، فأسرع إلى قائد الضلال عمر بن سعد قائلاً: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابة عمر بن سعد: أي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

فأقبل الحرّ ووقف بين أصحابه وهو يفكّر في مصيره، فأخذته مثل العرواء (أي الرعدة)، فقال له المهاجر بن أوس: يابن يزيد، والله إنّ أمرك لمريب! ولو قيل: مَنْ أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟!

فقال له الحرّ: إنّي والله أخير نفسي بين الجنّة والنار،

٢١٣

ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه ولحق بالحسينعليه‌السلام .

ولمّا قرب منه قال له: جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام له: «نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك. ما اسمك؟».

قال: أنا الحرّ بن يزيد الرياحي.

قال الحسين: «أنت الحر كما سمّتك اُمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة. انزل».

فقال له الحرّ: أنا لك فارساً خير منّي راجلاً.

ثمّ جاء ووقف إزاء جيش العدو صارخاً فيهم: يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل والعبر! أدعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه؟! وزعمتم أنكم قاتلي أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب،

٢١٤

فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتُمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه. وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّداً في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا، في ساعتكم هذه.

فرموه بالنبل، فرجع ووقف أمام الحسينعليه‌السلام (1) .

وهذا يزيد بن زياد بن المهاصر، فإنّه خرج مع عمر بن سعد إلى قتال الحسينعليه‌السلام ، فلمّا ردّوا الشروط على الحسينعليه‌السلام مال إليه، فقاتل معه حتّى قُتل(2) .

108 - الحسينعليه‌السلام يلقي الحجّة النهائية على عمر بن سعد

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام فكّر أن يجتمع مرّة أخرى مع عمر بن سعد قائد جيش الضلال؛ ليلقي عليه الحجّة النهائية، لكي لا

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 325 - 326 و40.

(2) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 298، مقتل الخوارزمي 2 / 8.

٢١٥

تبقى له معذورية في موقفه هذا، فاستدعاهعليه‌السلام واجتمع معه قائلاً بعد أن يئس منه: «أي عمر! أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدّعي بلاد الرّي وجرجان، والله لا تتهنأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة، ويتخذونه غرضاً بينهم».

109 - شقاوة عمر بن سعد وضلاله

هناك بعض النفوس كلّما تنفتح لها سبل الهداية والرشاد تزداد بعداً وإصراراً وعناداً في غيّها وضلالها، وكلّما أراد القول الطيّب أن يجد إليها منفذاً أوصدت دونه المنافذ، فتبقى شريرة سابحة في ضلالها وانحرافها، لم تنفعها المواعظ ولا المؤثرات الإصلاحية الاُخرى، فتكون مصداقاً للآية الكريمة:( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً ) (1) ، كما هي عليه نفس عمر بن سعد.

فإنّ الحسينعليه‌السلام استعمل معه مختلف الأساليب الخيّرة

____________________

(1) سورة الأعراف / 58.

٢١٦

لإصلاحه وهديه، إلاّ أنّه أبى واستكبر وكان من الظالمين؛ فوقف بكلّ وقاحة وشقاوة، متحدّياً في صبيحة يوم العاشر من محرّم، واضعاً سهمه في كبد قوسه ورمى به نحو معسكر الحسينعليه‌السلام قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى(1) .

وأقبلت السهام من الجيش الاُموي نحو الحسينعليه‌السلام كأنّها المطر.

110 - الحسينعليه‌السلام يأذن لأصحابه بالقتال

استعمل الحسينعليه‌السلام مختلف الوسائل الممكنة لهديهم وإرشادهم إلى الطريق الأقوم، وبذل جهده عسى أن يتجنّب القتال؛ لأنّه صاحب دعوة خير وسلام، دعوة الإسلام.

وكانعليه‌السلام يبغض القتل والقتال ما دام هناك طريقة بالتي هي أحسن؛ ولهذا كان يكره أن يبدأهم بقتال كما قالعليه‌السلام لأصحابه في مواطن عديدة: «إنّي أكره أن أبدأهم بقتال»(2) .

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف / 42، تاريخ الطبري 4 / 326، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 289.

(2) اللهوف في قتلى الطفوف / 42، تاريخ الطبري 4 / 309.

٢١٧

مقتدياً بسيرة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبيه علي بن أبي طالب في دعوتهما إلى الله.

ولكنّهعليه‌السلام خاب ظنّه فيهم؛ لأنّ الشيطان استحوذ عليهم فأنساهم ذكر الله، وذلك عندما رشقوا معسكره بالسهام وكأنّها المطر، فعندئذ لم ير بُداً من قتالهم حتّى يفيئوا إلى أمر الله، فأذن لأصحابه بالقتال قائلاً لهم: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه رسل القوم إليكم».

111 - شقاوة وكرامة وهداية

ذكرنا فيما سبق، أنّه قد تصل الشقاوة لدى بعض النفوس إلى مستوى الحضيض فتنغمس في الرذيلة والشقاوة انغماساً من الرأس إلى القدم. فتتقمص شخصية الشقي بكلّ معناها، فيصبح إنساناً شرّيراً شقيّاً كشقاوة عبد الله بن حوزة، أحد أفراد الجيش الاُموي؛ فإنّه تقدّم من الحسينعليه‌السلام متحدّياً وقال: يا حسين، أبشر بالنار، قالها ثلاثاً.

فأجابه الحسينعليه‌السلام قائلاً: «كذبت، بل أقدم على ربّ غفور، وشفيع مطاع». ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: «اللّهمّ حزه إلى النار».

٢١٨

فغضب ابن حوزة من دعاء الحسينعليه‌السلام ، فذهب ليقتحم إليه الفرس، وكان بين الحسينعليه‌السلام وبينه نهر، فعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس فسقط عنها، فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلّقاً بالركاب حتّى هلك - كما جاء في تاريخ الطبري والكامل(1) - فرآه أحد المتحمسين لابن زياد وهو مسروق بن وائل، فاهتدى وترك الجيش قائلاً: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً لا اُقاتلهم أبداً.

وانتهت هذه الواقعة بشقاوة ابن حوزة، وكرامة للحسينعليه‌السلام ، وهداية لابن وائل، ولكنّها هداية بلا توفيق، فهي شقاوة وكرامة وهداية.

112 - الاصطدام المسلح بين الحقّ والباطل

لمّا يئس الحسينعليه‌السلام من هدي القوم واستنصاحهم بعد أن بذل جهده ونصحه، فلم يزدهم إلاّ فراراً، ومَثَله فيهم كمثل نوح - نبي الله - في قومه حينما دعاهم إلى الإيمان والهدى فلم يزدهم إلاّ فراراً،

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 328، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 3 / 289.

٢١٩

( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ) (1) .

فهكذا توحي لنا هذه الآيات البيّنات وجه الشبه بين دعوة الحسينعليه‌السلام وبين دعوة نبي الله نوح، وبين الذين عارضوا الحسينعليه‌السلام وبين الذين عارضوا نوحاً، إلاّ أنّ هناك فارقاً بين هؤلاء القوم وبين أولئك؛ فإنّ الذين عارضوا الحسينعليه‌السلام لم يكتفوا بمعارضته البيانية كما فعل قوم نوح، بل حملوا السلاح في وجهه، ومن ثمّ قتله وقتل أهل بيته وأصحابه. وهذا ما لم يفعله قوم نوح بل اكتفوا بمعارضته وعدم الانصياع لأمره.

ولمّا رشقوا معسكر الحسينعليه‌السلام بالسهام كأنّها المطر، فأذنعليه‌السلام عندئذ لأصحابه بالقتال قائلاً: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم».

فسمع الأصحاب مقالة الحسينعليه‌السلام ، ففرحوا واستبشروا بما

____________________

(1) سورة نوح / 5 - 10.

٢٢٠