دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار

دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار0%

دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 186

دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد علي الحسيني البقاعي
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 186
المشاهدات: 40837
تحميل: 8220

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 186 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40837 / تحميل: 8220
الحجم الحجم الحجم
دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار

دموع الأبرار على مصاب أبي الأحرار

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بيت، فخرجت امرأة كانت تنتظر ابنها، وإذا برجل غريب على الباب طلب منها شربة ماء فجاءته بالماء فشرب.

ولمـّا عادت المرأة إلى الباب وجدته جالساً ولم يغادر، فقالت له: اذهب إلى منزلك، إلى أهلك. فوقف متحيّراً، فنظرت إليه فوجدت سيماء الإيمان في وجهه، فقالت له: يا عبد الله، لا أحلّ لك الجلوس على باب داري. عندها قال لها: أمّة الله، هل لك في خير يُكافئك عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) يوم القيامة؟

فقالت له: مَنْ أنت حتّى يُكافئني بك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السّلام)؟

قال لها: أنا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، خذلني أهل الكوفة.

فقالت: أنت مسلم! ادخل على الرحب والسعة.

فدخل الدار وجلس في غرفة فبات مصلّياً إلى الصباح، فجاء ولد المرأة واسمه بلال وعلم بوجود مسلم، فأعلم ابن زياد فأرسل محمّد بن الأشعث(1) لجلبه ومدّه بالرجال فأحاطوا بالدار، واستعدّ مسلم لقتالهم فراحوا يشعلون النار ويرمون بها مسلماً ولم يقدروا عليه؛ فأرسل الأشعث إلى ابن زياد أن أمدّني بالرجال، فأرسل إليه ابن زياد: أرسلتك إلى رجل واحد فكيف إذا أرسلتك إلى غيره؟!

فقال ابن الأشعث: وهل تظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة؟! إنّما أرسلتني إلى سيف من سيوف علي بن أبي طالب.

فحفروا لمسلم حفيرة فسقط فيها، فصار يبكي، فقالوا له: يا مسلم، إنّ الذي يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي!

فقال: إنّما أبكي لحسين وآل حسين.

فجاؤوا به إلى قصر

____________________

(1) أبوه الأشعث بن قيس والي آذربيجان من قِبل معاوية، عزله أمير المؤمنين (ع) لمـّا بُويع بالخلافة. كان من المقربين لابن زياد، قال له ابن زياد: مرحباً بمَن لا يستغش ولا يُتّهم. (صفحات من تاريخ كربلاء / 329)

٨١

الإمارة، فأمر ابن زياد بقتله قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام(1) ، فصعدوا به إلى أعلى قصر الإمارة(2) وهو يسبح الله تعالى ويستغفره، ويصلّي على النبي (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ ضُربت عنقه، وإذا به يُرمى من السطح جثة بلا رأس(3) ، رحم الله مَنْ قال: وا مسلماه! فوصل خبر مسلم إلى الحسين (عليه السّلام)، فقال:« إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ائتوني بحميدة (4) ابنة مسلم » . فأحضروها فأجلسها الإمام (عليه السّلام) في حجره ومسح رأسها، ومسحُ الرأس دليل على اليتم، فقالت: عمّاه، هل حصل لأبي مكروه؟

فقال لها:« بُنية أنا أبوك، وأخواتي عمّاتك » . فأخبرها الإمام (عليه السّلام) بما جرى على والدها.

وكأني بها قالت:

(بحراني)

جاني الخبر عن مسلم يا حزينه

يگلون من قصر الإمارة ذابينه

وبالحبل بالأسواق جسمه ساحبينه

وراس البطل ودّوه للطاغي هديه

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 214، أعيان الشيعة 1 / 592.

(2) قصر الإمارة هو أقدم بناية حكوميّة شُيّدت في الإسلام، بناها سعد بن أبي وقاص، وقد بنى القصر بناءً محكماً ليكون في حماية آمنة من كلِّ غزو خارجي، حتّى كان من المتعذر اقتحامه والاستيلاء عليه.

وقد اندثرت معالمه الآن كما اندثرت جميع معالم الكوفة ما عدا الجامع، واهتمت مديرية الآثار بالعراق بمسجد الكوفة؛ فكشفت عن أساسه وأظهرت ضخامته، والقصر أيضاً بان شيءٌ منه كالجدار وبعض الغرف. (موسوعة العتبات المقدسة للخليلي - قسم النجف، طلائع الشهداء / 228)

(3) اللهوف / 57 - 58، مصائب آل محمد / 187.

(4) بنت مسلم بن عقيل، عمرها ثلاث عشرة سنة، كانت مع بنات الإمام (عليه السّلام)، وتصاحبهنَّ ليلاً ونهاراً. (مصائب آل محمد / 224)

٨٢

صرخت الطفلة والدمع بخدودها يسيح

تقوم مذعورة وعلى وجه الثرى تطيح

تلطم على رأسها بعشرها وتاره اتصيح

گومي ييمه والبسي ثياب الرزيه(1)

نعم، هذه يتيمة مسلم مسح الحسين (عليه السّلام) على رأسها ومسح الدمع عن وجهها، ولكن هناك يتيمة لم يحتضنها عمّها ولا مسح على رأسها، وإذا بكت ضربوها؛ وهي يتيمة أبي عبد الله سكينة(2) .

قيل: عندما توجّه الحسين (عليه السّلام) إلى المعركة إذا بصوت من خلفه: أبتاه، قف لي هنيهئة. فوقف الإمام (عليه السّلام)، فقالت له: انزل عن جوادك. فجلست على ركبته ومسحت بيده على رأسها، فقال لها (عليه السّلام):« لمـَ صنعت هذا؟ » .

قالت: أنت الآن تمسح على رأسي، ولكن بعد ساعة مَنْ يمسح على رأسي؟

فقال لها الحسين (عليه السّلام):

سيطولُ بعدي يا سكينةَ فاعلمي

منكِ البكاءُ إذا الحمامُ دهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً

مادام منّي الروحُ في جثماني(3)

فإذا قُتلتُ فأنتَ أولى بالذي

تأتينهُ يا خيرةَ النسوانِ(4)

وكأنّي بها:

____________________

(1) المعتمد في العزاء / 100، الجمرات الودية 1 / 38.

(2) هي سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام)، من الرباب بنت امرئ القيس. واسم سكينة آمنة، وإنما غلب عليها اسم سكينة وليس باسمها. بحار الأنوار 45 / 47.

(3) المناقب 4 / 109.

(4) مجمع المصائب 1 / 233، نَفَس المهموم / 184، معالي السبطين 2 / 25

٨٣

(عاشوري)

يا والدي والله هظيمه آه آه

أصير من زغري يتيمه

يبويه نروح كلّ احنا فداياك آه آه

اِخذني يا عزيز الروح وياك

(تخميس)

ويتيمة فرّت لجسمِ كفيلها

وكفيلها مُرمى على الرمضاءِ

لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم. إنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا آل بيت محمّد أيّ منقلب ينقلبون، والعاقبة للمتقين.

نسألك اللّهمّ وندعوك باسمك العظيم الأعظم، الأعز الأجل الأكرم، يا محمود بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، يا فاطر السماوات والأرض بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن، يا قديم الإحسان بحقّ الحسين (عليه السّلام) عجّل فرج وليك الحجّة المنتظر المهدي (عجّل الله فرجه)، وأنجز له ما وعدّته، واجعلنا من جنده وأنصاره والمستشهدين بين يديه.

الإخوة الحاضرون تقبّل اللّهمّ عملهم بأحسن القبول، اقض حوائجهم بحقّ محمّد وآل محمّد، اجعل قلوبهم وديارهم عامرة

٨٤

بذكر محمّد وآل محمّد، ارزقهم شفاعة محمّد وآل محمّد، اغفر لهم بحقّ محمّد وآل محمّد، واحشرهم مع محمّد وآل محمّد.

أمّنْ يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

الفاتحة لاستجابة الدعاء قبلها الصلاة على محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله).

٨٥

٨٦

المجلس الخامس

1 - القصيدة: صحبته من خير الرجال.

2 - الموضوع: الجهاد الأكبر (جهاد النفس).

3 - الترجمة: عمر بن سعد.

الحر بن يزيد الرياحي.

4 - المصيبة: شهادة الحر.

٨٧

٨٨

عظّم الله أجوركم يا بقيّة الله، يا صاحب العصر والزمان، بمصابكم بجدّكم أبي عبد الله الحسين وآل بيته وأصحابه. صلّى الله عليك يا سيدي ومولاي يا رسول الله، صلّى الله عليك وعلى آلك المظلومين، لعن الله الظالمين لكم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

صلّى الله عليك يا سيدي ومولاي وابن مولاي يا أبا عبد الله، يا صريع الدمعة الساكبة، ويا عبرة كلّ مؤمن ومؤمنة، روحي وأرواح شيعتك لك الفدا، يا شهيد كربلا، ويا قتيل العدا، ومسلوب العمامة والردا. ما خاب مَنْ تمسّك بكم، وأمن من لجأ إليكم، يا ليتنا كنا معكم سادتي فنفوز والله فوزاً عظيماً.

صحبتهُ من خيرِ الرجالِ عصابةٌ

غرٌّ فطابَ الصحبُ والمصحوبُ

آسادُ ملحمةٍ ضراغمُ غابةٍ

لهم بنازلةِ الوغى ترحيبُ

أبطالُ حربٍ كم بهم قامت على

أهلِ النفاقِ وقائعٌ وحروبُ

٨٩

منهم زهيرٌ زاهرُ الأفعالِ يتـ

لوه الحرّ ومسلمٌ وحبيبُ!

وأتى المساءَ وقد تجهّمَ وجهه

واليوم محتشدُ البلاءِ عصيبُ

قال اذهبوا وانجوا ونجّوا أهل بيـ

تي إنّني وحدي أنا المطلوبُ

فأبت نفوسهمُ الأبيةُ عند ذا

أن يتركوهُ مع العدى ويؤوبوا

إنّا تركنا شيخنا وإمامنا

بين العدا وحسامُنا مقروبُ

فالعيشُ بعدكَ قُبّحتْ أيامُه

الموتُ فيكَ محبّبٌ مرغوبُ

وتقدّمَ الأنصارُ للأقرانِ مسرعةً

وللحربِ العوانِ شبوبُ!

يأبونَ أن يبقوا وآل نبيهم

كلٌّ على وجهِ الصعيدِ تريبُ

فاستقبلوا ضربَ السيوفِ بأوجهٍ

غراءَ عن زهرِ النجومِ تنوبُ

٩٠

حتى هووا فوقَ الصعيدِ كأنّهم

أقمارُ تمٍّ في الدماءِ رسوبُ(1)

(بحر طويل)

من شاف اعلى حرب حسين

گام الجيش يتدنه

راح الحر لبو السجّاد

يبكي ويعتذر منه

من شاف الغدر بيّن

من ابن ازياد وشراره

وگامت تزحف الرايات

وگام ايجول بفكاره

گله واحد امن الگوم

اشمالك يحر هذا اليوم

گله والگلب مهموم

روحي گمت اخيرها

بين النار والجنّه

آنه الجعجعت بحسين

وآنه الروّعت گلبه

وراد يسدّر الطيبه

وعليه الزمت دربه

ما ادري ابروايه الشر

كلها تعلك الحربه

عليه الناس مشتدّه

كلمن مرهفه ابيده

شنهو العذر من جدّه

باچر ساعة الميعاد

من اوگف وشوفنه

حث غوجه وگصد لحسين

لكن يسكب العبره

خايف يعتذر منه

وما يقبل بعد عذره

____________________

(1) الدر النضيد / 25، مجمع المصائب 1 / 123.

٩١

تايب جيتك وندمان

يا ريحانة الزهره

وريدك لا تخيبني

وتقبل توبتي منّي

وترضه سيدي عني

وجدّك سيدي رحمه

امن الباري انبعث إنه

ما أدري يبو السجّاد

هيچي الناس بيك اتخون

يگطعون الورد عنكم

ومن الماي تنحرمون

آنه الروعت زينب

وريدنكم علي ترضون

وشبه الحرب نيرانه

وصير أول شهيد آنه

جدامك يريحانه

وجاور جدّك المختار

بالفردوس وتهنه(1)

(أبو ذيّه)

بالطف من لهيب الشمس والحر

ذاب اوسال دم العبد والحر

وهلال وحبيب الليث والحر

هوو مثل النجوم اعلى الوطيه

لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام):« أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) بعث سرية، فلمـّا

____________________

(1) منهل الشرع.

٩٢

رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس » (1) .

سوف نتكلّم عن الجهاد الأكبر، جهاد النفس، وسوف نُعطي نموذجين لذلك.

يُحكى أنّ شخصاً خضع لنفسه الأمّارة بالسوء فأصبح كالأنعام بل أضل سبيلاً، باع الآخرة واشترى الدنيا. وشخص آخر قاوم نفسه وجاهدها وأصبح في مرتبة الأولياء والصالحين الذين أنعم الله عليهم. لكن نقف عند رواية الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكي نتحدّث عن النفس ومراتبها:

أولاً: لا بدّ من مقدّمة، وهي أنّ المخلوقات الحيّة المتحرّكة بالإرادة هي أربعة أقسام: الملائكة، الحيوانات، الإنسان، والجن.

الملائكة

وهي مخلوقات من عقل دون شهوة، تُسبح وتحمد الله تعالى كما قال تعالى في القرآن:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمـَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلمـُ مَا لاَ تَعْلمـُونَ ) (2) .

____________________

(1) الوسائل 15 / 161، مشكاة الأنوار / 245، الجعفريات / 78.

(2) سورة البقرة / 30.

٩٣

الحيوانات

وهي مخلوقة من شهوة تأكل وتشرب، همّها علفها كما جاء عن الإمام علي (عليه السّلام)« فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها » (1) .

الإنسان

وهو من أشرف المخلوقات في شرافة أصله، إنّما هو بعقله لا بنسبه وحسبه، فالعقل هو منشأ الشرافة(2) ، والإنسان مشترك من عقل وشهوة موجودين في جسده. أما عنصر العقل، وهو المرتبة الّتي يصل إليها الإنسان بحيث يصبح مسيطراً على عناصر الشهوة الحيوانية فيصبح مع صف الأولياء والصالحين.

عنصر الشهوة

أما عنصر الشهوة، وهي المرتبة الّتي يصل إليها الإنسان بحيث يصبح عبداً لشهوته، فيكون أقلّ من مرتبة الحيوان؛ لأنّ الحيوان مخلوق لهذا، أما الإنسان فهو مخلوق لشيء عظيم.

الجسد

وهو مكان المعركة الحقيقية بين العقل من جهة، والشهوة من جهة اُخرى؛ لكي يحدّد صورته إمّا روحانية وإمّا حيوانية شهوانيّة.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16 / 287.

(2) بحار الأنوار 1 / 82.

٩٤

الأدوات

هي العين والأذن والرجل واليد واللسان؛ فالإنسان يمكنه استعمال العين في الحلال والحرام، فينظر إلى المحرّمات وهو مأمور بغض النظر عنها فيصبح كالحيوان، وكذلك الاُذن فإنّه تارة يسمع بها الحرام، كالغناء والغيبة، ومرّة يسمع القرآن والمواعظ وما يرضي الله.

فهنا إذا تغلبت أدوات العقل على أدوات الشهوة أصبح الإنسان في مقام رفيع ومحمود، وأمّا إذا تغلّبت أدوات الشهوة على أدوات العقل أصبح كالأنعام بل أضل سبيلاً؛ فلذا الإنسان يوم القيامة تتجسّد أفعاله وتظهر صورته الحقيقة في الآخرة؛ إمّا صورة نورانية، وإمّا صورة حيوانية.

القرآن الكريم وجهاد النفس

والقرآن الكريم يحدّثنا عن النفس في سورة الشمس:( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) (1) .

إنّ الله يقول للإنسان: إنّي ألهمتك وعرّفتك بأنّ هذا العمل قبيح أو حسن من خلال إرسال الحجّة الظاهرة: الأنبياء والرسل، والأئمّة والعلماء؛ فإنّهم عرّفونا وبيّنوا لنا الاُمور الّتي تقرّب من الله وتدخلنا الجنّة، ونكون مع الأولياء والصالحين، والأمور الّتي تبعدنا عن الله وتدخلنا النار فنكون من المغضوب عليهم والضالين.

وبعد المعرفة يجب أن يجاهد نفسه للحالتين؛

____________________

(1) سورة الشمس / 8 - 9.

٩٥

للبقاء على حالة الطاعة والتقوى، وللخروج من الفجور والفساد، فلا يوجد الأعذار كما جاء في قوله تعالى:( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) (1) ، فإذا جاهد نفسه فإنّه قد أفلح بذلك وعمل صالحاً وفاز برتبة الصالحين ودخل جنات النعيم، وإذا ترك نفسه فقد خاب ونال العذاب الأليم وحُشر مع الكفار والظالمين.

نموذجان عن حالة الفجور والتقوى

رجل باع الآخرة وخسر الدنيا ورجل باع الدنيا وربح الآخرة، وهما: عمر بن سعد والحرّ بن يزيد الرياحي اللذان يوجد فيهما اجتماع وافتراق.

نقطة الاجتماع

وهي الصراع النفسي الذي دار بين قوّة العقل وقوّة الشهوة، جنود الرحمان وجنود الشيطان، إنّ الحرّ وعمر بن سعد كانا في جيش يزيد وفي الصف الأول؛ فالحرّ قاد الحملة على الحسين إلى الحصر، وجعجع ببنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعمر بن سعد كان قائد الهجوم على الحسين، الاثنان فكّرا بالأمر جيّداً ولم يكونا من الجهّال.

____________________

(1) سورة القيامة / 14 - 15.

٩٦

نقطة الافتراق

* عمر بن سعد

وهي أنّ عمر بن سعد(1) بعدما طُلب منه الخروج إلى الحسين (عليه السّلام) على أنّ له ملك الري، وطلب مهلة ليلة ليفكّر بالأمر، فبدأ يشاور، ولم يؤيّده أحد على ذلك الفعل(2) ، ولكن ترك نفسه وفجورها وهو يقول:

أأتركُ ملكَ الريّ والريُّ مُنيتي

أم أرجعُ مأثوماً بقتلِ حسينِ

حسينُ ابنُ عمّي والحوادثُ جمّةٌ

لعمري ولي في الريِّ قرّةَ عيني(3)

وبهذه الأبيات حدّد موقفه من الخروج على ابن بنت رسول الله (عليه السّلام)، وهو يعلم أنّ في قتله النار وجهنم خالداً فيها مقابل بضعة أيام يعيشها في هذه

____________________

(1) عمر بن سعد بن أبي وقاص، كنيته أبو حفص، سكن الكوفة، كتب إليه ابن زياد عهد الريّ وأمره بالخروج على الحسين (عليه السّلام)، فخرج معسكراً بالناس، فلمـّا قدم الإمام (عليه السّلام) إلى العراق أمره ابن زياد أن يسير إليه، وإن لم يفعل يعزله عن عمله ويهدم داره. فأطاعه وخرج إلى قتال الإمام الحسين (عليه السّلام).

فتقدّم يوم العاشر من المحرّم سنة 61 هـ نحو عسكر الحسين (عليه السّلام) ورمى بسهمه، وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول مَنْ رمى.

بعد استشهاد الإمام (عليه السّلام) أمر ابن سعد عشرة من رجاله أن يرضّوا جسده الشريف، فداسوا بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره. بقي بعد واقعة كربلاء إلى أن خرج المختار الثقفي يتتبع قتلة الإمام (عليه السّلام)، بعث المختار أبا عمرة صاحب شرطته إلى عمر بن سعد، فقام عمر فعثر في جبّة له، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وجاءه برأسه في أسفل قبائه حتّى وضعه بين يدي المختار.

ورد لعنه في زيارة عاشوراء (اللّهمّ العن عمر بن سعد). تاريخ الطبري 3 / 464 - 465، طبقات بن سعد 5 / 168، تهذيب التهذيب 7 / 451.

(2) الكامل في التاريخ 4 / 22، تاريخ الطبري 4 / 310.

(3) ثمرة الأعواد / 192، مرآة الجنان - لليافعي 1 / 134، كشف الغمة 2.

٩٧

الدنيا الفانية، فأصبح كالحيوان بدون تفكير، فاختار شهوة السلطة على الآخرة.

وهذا ما أخبر به الإمام علي (عليه السّلام)؛ حيث قال لعمر بن سعد:« ويحك يا بن سعد! كيف بك إذا أقمت يوماً مقاماً تُخيّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار؟ » (1) .

* الحرّ بن يزيد الرياحي

وأمّا الحرّ(2) فلا، فبعد ما توجّهت الاُمور إلى القتال وسأل عمر بن سعد: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: نعم. فوقف متفكّراً؛ إمّا النار بقتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أو الجنّة بالقتال معه، فقال: والله، إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً.

فكانت نقطة الفراق مع عمر بن سعد؛ حيث اختار عمر الدنيا واختار الحرّ الآخرة، فعمر أصبحت نفسه أقلّ من مرتبة الحيوانات ودخل مع القوم الظالمين، والحرّ ارتفع ودخل مع الصدّيقين والشهداء الصالحين.

فتقول الرواية: توجّه الحرّ نحو الحسين (عليه السّلام) ولحقه ولده حتّى صارا قريبين من مخيّم الحسين (عليه السّلام)، فنزل من على ظهر فرسه، وقلب ترسه وأغمد سيفه، ووضع يديه على رأسه، وجاء إلى الحسين (عليه السّلام) وهو يقول: « اللّهمّ إليك أتوب وإليك اُنيب، فتب عليّ؛ فقد أرعبت قلوب أولاد نبيّك ».

ثم سلّم على

____________________

(1) تهذيب الكمال 14 / 75، تذكرة الخواص / 223، منتهى الآمال / 1.

(2) الحرّ بن يزيد الرياحي ولد في الجاهليّة، كان من وجوه العرب وشجعان المسلمين، وكان قائداً من أشراف تميم. أرسله والي الكوفة عبيد الله بن زياد مع ألف فارس لصدّ الإمام الحسين (عليه السّلام) عن الدخول إلى الكوفة.

بقي ملازما لركب الحسين (عليه السّلام)، وأخذ يسير معه حتّى أنزله كربلاء. استشهد في كربلاء في العاشر من محرّم سنة 61 بعد ما عاد إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) تائباً. ورد السلام عليه في زيارة الناحية:« السلام على الحرّ بن يزيد الرياحي » الإقبال / 51.

٩٨

الحسين (عليه السّلام)، فردّ الحسين (عليه السّلام) السلام، وقال: سيدي، أنا صاحبك الذي منعتك عن الرجوع، وجعجعت بك في الطريق، فهل لي من توبة؟

فكيف أجابه الإمام (عليه السّلام)، وأيّ رحمة قابله بها، فقال له:« إن تبت تاب الله عليك (1) ، انزل » .

قال: سيدي، كيف أنزل؟! أخجل من بنات رسول الله؛ أنا روّعت النساء والأطفال.

تعال معي أيّها الموالي إلى يوم العاشر حيث كان عمر بن سعد أوّل من ابتدأ بإشعال الحرب على آل رسول الله؛ حيث رمى ابن سعد سهماً نحو مخيّم الحسين (عليه السّلام) وصاح: اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل مَنْ رمى(2) .

فقال الحسين (عليه السّلام) لأصحابه:« قوموا رحمكم الله أيّها الكرام إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم » (3) .

فقال الحرّ: أنا لك فارساً خير منّي راجلاً؛ اُقاتلهم لك على فرسي ساعة وإلى النزول آخر أمري(4) . سيدي، إذا كنتُ أوّل مَنْ خرج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك. فأذن له الإمام (عليه السّلام)، فتوجّه إلى الميدان، فشدّت عليه الرجال حتّى وقع عن الفرس، فشدّت عليه الرجال وتكاثروا عليه بين ضارب بالسيف وطاعن بالرمح حتّى قتلوه.

فجاء إليه الإمام (عليه السّلام) ومسح الدم والتراب عن جبينه وهو يقول:« أنت حرّ كما سمّتك اُمّك، حرّ في الدنيا والآخرة » (5) .

فكان أوّل شهيد في كربلاء. ويُروى عندما أمر عمر بن سعد بقطع الرؤوس توجّهت عشيرة الحرّ ومنعت الأعداء من قطع

____________________

(1) اللهوف / 45، معالي السبطين 1 / 363، ثمرات الأعواد 1 / 187.

(2) اللهوف / 100.

(3) بحار الأنوار 5 / 12، اللهوف / 43 - 44.

(4) أعلام الورى / 242، تاريخ الطبري 3 / 32، الكامل في التاريخ / 4.

(5) روضة الواعظين 1 / 186، موسوعة النبي والعترة 6 / 276.

٩٩

رأسه(1) . هذا وزينب تنظر إلى عشيرة الحرّ وسيّد الشهداء ملقى على الأرض من دون عشيرة، ورأسه على الرمح حتى دخلوا به إلى الشام والناس يتفرّجون عليه وعلى بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(2) ، وهنّ مكشّفات الوجوه.

هذه الوجوه الّتي لم يرها الناس أبداً في وجود الحسين (عليه السّلام)، ولكن ها هو رأسه على الرمح، وكأنّي بزينب (عليها السّلام):

(دكسن)

اشمال الناس تتفرّج علينا

عمت عينه اليصد بالعين لينه

اويخسه الگال لن غايب ولينه

وراسه اعلى الرمح لينه ايتفكر

(أبو ذيّه)

وحگ اللي سعه بالبيت والطاف

عندنه الموت مثل الشهد والطاف

انه الحرّه الگبل عاشور والطاف

طولي بالشمس ما شفت فيّه

(تخميس)

نادت ولا ستر لها إلاّ الحيا

وأشعة قد حجبتها بالضيا

____________________

(1) معالي السبطين 1 / 367.

(2) بحار الأنوار 45 / 127.

١٠٠