فلسفة الشعائر الحسينية

فلسفة الشعائر الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام

  • البداية
  • السابق
  • 10 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6092 / تحميل: 5666
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الشعائر الحسينية

فلسفة الشعائر الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلسفة الشعائر الحسينيّة

إحسان الفضلي

المراجعة والتدقيق: الأديب حيدر السلامي

الإهداء

إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان، الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه، وسهّل مخرجه، وجعلنا من أنصاره).

قالت اُمّ المصائب زينبعليها‌السلام : فكد كيك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.

فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين.

ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام في المنهج الإعلامي، وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال؟

والمتتبع لتاريخ أهل البيتعليهم‌السلام يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة. ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراءعليها‌السلام ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق، وصرخة مدويّة بوجه الظالمين.

وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدينعليه‌السلام (١) أمام الطغيان الاُموي؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام العديدة في الحث على البكاء والتباكي، وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان.

والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيتعليهم‌السلام في المناسبة تلو الاُخرى، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً. وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم، بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم.

وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم. وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري، وأنه عند تعرضه للألم يبكي.

والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز، أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه، وهذا الألم المعنوي. وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث. ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم - معنوياً كان أو مادياً - من الشدة بمكان.

وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيتعليهم‌السلام ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان، وأن يهدي إلى الحق.

كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيتعليهم‌السلام (٢) .

١ - قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : «البكّاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسينعليهم‌السلام ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له:( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ) .

وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن، فقالوا له: إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار، وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل. فصالحهم على واحدة منهما؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى تأذّى به أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائك. فكانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسينعليه‌السلام عشرين سنة، أو أربعين سنة، ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولىً له: جُعلت فداك يابن رسول الله! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال:( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي» (بحار الأنوار٤٣/١٥٥ - باب ٧).

٢ - عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ، فقال له: «مرحباً». وضمّه وقبّله، وقال: «حقّر الله مَن حقّركم، وانتقم الله ممّن وتركم، وخذل الله مَن خذلكم، ولعن الله مَن قتلكم، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً؛ فقد طال بكاء النساء، وبكاء الأنبياء والصدّيقين، والشهداء وملائكة السماء».

ثمَّ بكى، وقال: «يا أبا بصير، إذا نظرت إلى ولد الحسينعليه‌السلام أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم. يا أبا بصير، إنّ فاطمةعليها‌السلام لتبكيه وتشهق، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها، وقد استعدّوا لذلك؛ مخافة أن يخرج منها عنق... إلى أن قال: فلا تزال الملائكة مشفقين، يبكون لبكائها، ويدعون الله ويتضرعون إليه...».

إلى أن قال: قلتُ: جُعلت فداك! إنّ هذا الأمر عظيم!

قال: «غيره أعظم منه ما لم تسمعه».

ثم قال: «يا أبا بصير، أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمةعليها‌السلام ؟».

فبكيت حين قالها، فما قدرت على المنطق، وما قدرت على كلامي من البكاء. (مستدرك الوسائل ١٠ / ٣١٤ - ٣١٥).

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام لزرارة: «وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه - الإمام الحسينعليه‌السلام -. وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه، ووصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأدّى حقّنا. وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسينعليه‌السلام ، تحت العرش، وفي ظل العرش، لا يخافون سوء يوم الحساب». (مستدرك الوسائل ١٠ / ٣١٤).

فلسفة الشعائر الحسينيّة

كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة، ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة، وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي، وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير.

ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين:

الشق الأوّل:

حول الجانب الفقهي، ومدى مشروعيّة هذه الشعائر، ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها. والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس، وإبداء الآراء الشخصية فيه، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر، وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة. وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد، رحم الله الماضين منهم، وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة، ولنصرة هذا الدين.

والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا، وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم، لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر، بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها، والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً، وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيتعليهم‌السلام .

كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به. أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار، وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ، وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها. كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة.

والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي. فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية:عمل العامي بلا تقليد باطل .

وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات.

ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر، وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، ومدى تفاعله الشخصي معها. وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم، وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى.

ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة، وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم)؛ ففيهم الكفاية لمن يطلب ذلك، ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك.

أما الشقّ الثاني:

فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر، وما هو الغرض منها، وماذا تمثل هذه الشعائر؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب، محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها، سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك.

ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج، ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها.

اللطم (اللدم)، الزنجيل، التطبير

وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً، والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش. ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود. على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ).

وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر، مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها.

ثمرة ممارسة الشعائر الحسينيّة

إنّ العلة الرئيسة التي لأجلها كانت الشعائر الحسينيّة هي الممارسة الإعلاميّة الواضحة والمشيرة إلى الحق المسلوب، وأنّ جميع الغايات والأهداف الاُخرى تتفرع منها.

ويمكن إجمال تلك الأهداف بالنقاط التالية:

١ - نشر تاريخ وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام وبيان فضلهم. ولا يخفى عظيم الحاجة إلى ذلك؛ لما تعرّض له هذا التاريخ من تشويه ودس، لا سيما في العصرين الاُموي والعباسي، وما عملته وتعمله الأقلام المأجورة والضالة إلى يومنا.

٢ - خلق الترابط العاطفي مع أهل بيت العصمةعليهم‌السلام والذي هو نص صريح في القرآن الحكيم:( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١).

٣ - تربية وتوعية الجيل الجديد، وبناء أساس فطري عقائدي متين يستند إليه.

ونستطيع تلمّس الحاجة إلى ذلك من خلال مناهج الدراسة في المدارس الأكاديمية، ووسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد التي تفتقر إلى ذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وما تخلفه من تأثيرات أساسية في التشكيل العقائدي للجيل الصاعد. ومن هذه النقطة ندرك مدى الحاجة للتمسّك الشديد بهذه الشعائر وتوجيه أجيال المستقبل نحوها.

٤ - تربية النفوس وإعدادها لنصرة إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه، وسهّل مخرجه) من خلال ترسيخ القيم والمبادئ السامية؛ مثل التضحية، والمواساة، ونصرة الحق وغيرها، والتحقير والتنفير للصفات المذمومة؛ مثل الطمع، والظلم، وقسوة القلب وغيرها(٢) .

٥ - مخاطبة البشر كافة، وبغض النظرعن الاختلاف والتباين الثقافي بينهم.

ومن المعلوم أنّ الاُمّة الإسلاميّة - على سبيل المثال - تضم العديد من القوميات والأعراق والجنسيات التي هي بدورها تختلف من حيث الموروث الحضاري والثقافي، ومخاطبتهم بالإعلام المكتوب لا تتيسر للجميع حتّى في عصر العولمة. أمّا الشعائر فإنها أشبه ما تكون في خطابها إلى اللوحة الفنية التي يستطيع الجميع أن يدرك مدى روعتها وجمال تعبيراتها وإن كان هذا الإدراك يختلف بالدرجة وفقاً للوعي الثقافي.

٦ - خلق عامل وحدوي من خلال المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ولعل هذا العامل من أهم العوامل المستبطنة في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام التي تحثّ على المواساة والحزن في مصابهم. فمن المعلوم في علم النفس أنّ الإنسان عندما يكون في حالة الحزن يصبح تأثره العاطفي سريعاً، فيكون على سبيل المثال سريع الرضا والحب والانفعال، وكذلك إنّ وجود شخص آخر يشاركه المصاب معه يؤدّي مع ما ذكرناه إلى زيادة الاُلفة والمحبة والتودد بين المشاركين في الشعائر الحسينيّة، وتقوية أنفسهم على تحمّل أعباء الحياة، وهذا ما يخلق جو الوحدة بين المشاركين؛ الوحدة في المصاب، والوحدة في الهدف، والوحدة في التسابق لتحصيل الأجر والثواب في المواساة(٣) .

ومن هنا كانت هذه الشعائر تمثّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب جنباً إلى جنب مع المرجعيّة التي تمثّل الإدارة والعقل الموجّه، في حين أنّ الشعائر تمثّل العنصر الجامع والموحّد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم.

وعليه ندرك أن المحارب لهذه الشعائر لا يخلو من أحد أمرين: إمّا جاهل مغرور أو طامع معادي يهدف إلى تمزيق وحدة أبناء المذهب. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «قصم ظهري رجلان؛ جاهل متنسك، وعالم متهتّك»(٤) .

____________________

(١) سورة الشورى / ٢٣.

(٢) عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: «يا علقمة، واندبوا الحسينعليه‌السلام وابكوه، وليأمر أحدكم مَن في داره بالبكاء عليه، وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء، وتلاقوا يومئذ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت، وحيث تلاقيتم، وليعزِّ بعضكم بعضاً بمصاب الحسينعليه‌السلام ».

قلتُ: أصلحك الله! كيف يعزَّي بعضنا بعضاً؟

قال: «تقولون: أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وجعلنا من الطالبين بثأره مع الإمام المهدي إلى الحقِّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين). وإن استطاع أحدكم أن لا يمضي يومه في حاجة فافعلوا؛ فإنه يوم نحس لا تُقضى فيه حاجة مؤمن، وإن قُضيت لم يُبارك فيها، ولم يُرشد. ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم شيئاً؛ فإنه مَن فعل ذلك لم يُبارك فيه».

قال الإمام الباقرعليه‌السلام :» أنا ضامن لمَن فعل ذلك له عند الله (عزّ وجلّ) ما تقدم به الذكر من عظيم الثواب، وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسينعليه‌السلام ». (مستدرك الوسائل ١٠ / ٣١٦ - ٣١٧).

(٣) عن ابن خارجة، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، قال: كنا عنده فذكرنا الحسين بن عليعليه‌السلام ، وعلى قاتله لعنة الله، فبكى أبو عبد اللهعليه‌السلام وبكينا، قال: ثم رفع رأسه فقال: «قال الحسين بن عليعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى». (مستدرك الوسائل ١٠ / ٣١١).

(٤) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٨٤.

اللطم (اللدم)

وهو من أقدم الشعائر التي مارستها الشيعة لإظهار حالة التفجّع والحزن لمصيبة سيد الشهداء الحسين، ومصائب الأئمة المعصومينعليهم‌السلام .

إذ يجتمع حشد من الموالين في مكان مقدس؛ كالمسجد أو الحسينيّة أو بعض الأوقاف، فيجرّدون نصف أبدانهم ويبدؤون بلدم الصدور، ولطم الخدود، وضرب الرؤوس بأساليب منسقة حزينة.

ولتنسيق الضربات التي ينهالون بها على صدورهم يصعد شاعر أو حافظ للشعر وينشد قصائد منظمة باُسلوب خاص تذكّر اللاطمين بمصائب أهل البيتعليهم‌السلام ، وتحافظ نبراتها على وحدة الضرب، وهم يتجاوبون مع الراثي في ترديد بعض الأبيات الشعرية(١) ، والضرب باليد يكون على الجانب الأيسر من الصدر، أي فوق منطقة القلب.

واللطم هو أحد أهم وسائل إظهار الجزع على المعصومينعليهم‌السلام وأكثرها انتشاراً؛ ولتوضيح ذلك يجب علينا أن نعرف أنّ من طبيعة الجسم البشري أنه عندما يتعرّض إلى الألم المعنوي - الظلم تحديداً - يفرز هرمونات تعمل على زيادة الطاقة لديه؛ ليكون مستعداً للدفاع عن نفسه.

واللطم هو إحدى الوسائل للتنفيس عن هذه الطاقة والتي بدورها تشير إلى أن هناك ظلماً واقعاً وحقاً مسلوباً. وإنّ الذين يلطمون يشيرون من خلال اللطم إلى ذلك الظلم والحق.

وجُعل ليكون جزءاً مهماً من الشعائر الحسينيّة كونه يمثل مواساة للزهراءعليها‌السلام ، كما أن فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبض بالحياة - القلب - ليرخص ويحزن لما جرى على آل محمدعليهم‌السلام ، وأنّ مصدر الحياة هذا أضربه بنفسي دون خوف أو وجل؛ دلالة على عظيم المصاب، أي عظيم الحق المسلوب والظلم الواقع.

ومن الأدلة على ذلك ما يشير إليه علم الأدلة الجنائية، أنّ المجني عليه إذا كان مضروباً في قلبه، أو في منطقة قريبة عليه يُعرف أنّ الجاني كان ينوي قتل المجني عليه، بخلاف ما لو كانت الإصابة في البطن أو الأطراف.

كما وأنّ التركيبة الجماعية في اللطم تشير إلى الوحدة والاشتراك في الإشارة إلى الحقِّ والمطالبة به. هذا هو الجانب الفلسفي لللطم بأبسط صورة ممكنة أستطيع أن اُقدّمها لك أخي القارئ.

____________________

(١) قاموس الشعائر الحسينيّة - لمؤلفه حيدر السلامي.

الزنجيل (ضرب السلاسل)

موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسينعليه‌السلام ، ثمّ يجردون ظهورهم - بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض - ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة، فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج، بطور حربي عنيف، وينطلقون من مركز تجمعهم، ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه، وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة، أو يهتفون: (مظلوم.. حسين.. شهيد.. عطشان.. يا حسين)(١) .

والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم.

والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد، ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين، وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً. فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيتعليهم‌السلام وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا، ولا قيمة له؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور.

كما أنه يبعث بالرسالة الآتية: أيها الظالمون، إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم، واضطهادكم لنا، في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيتعليهم‌السلام .

هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم.

____________________

(١) المصدر السابق نفسه.

التطبير

والتطبير هو لبس الأكفان، وحلق الرأس في صبيحة اليوم العاشر من محرم الحرام، يوم استشهاد أبي الأحرار أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ إذ يضرب المتطبّر رأسه بالسيف وينزل الدم من رأسه، ويكون ذلك في موكب يسير فيه المتطبرون وهم ينادون: حيدر، حيدر، مع قرع الطبول، والرايات البيضاء الملطّخة بالأحمر، ومزامير الحرب.

وهذه الشعيرة الحسينيّة هي أكثر الشعائر التي اُثير الجدل حولها مع بعد وعمق المعنى الذي تشير إليه.

وقبل بيان فلسفة هذه الشعيرة أعود فأذكر أنّ كلَّ مكلّف يرجع إلى مرجع تقليده في جميع اُموره من العبادات والمعاملات، ولا يجوز له أن يرجع إلى نفسه في تشخيص صحة هذا العمل أو ذاك من جهة شرعيّة.

كما أنّ مراجعنا العظام (دام ظلهم) على درجة من التقوى والإيمان ما يجعلهم يبحثون ويمحّصون كثيراً لكي يتوصلوا إلى الأحكام الشرعيّة، وأنّهم أهل الاختصاص الذين يجب الرجوع إليهم في كافة التكاليف الشرعيّة، وأنّ الدين الإسلامي ليس دين الانتقائية والمزاجية التي يجنح إليها البعض نتيجة التأثر بالأفكار الدخيلة على الدين والمذهب،( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

والآن نوضّح الحكمة من هذا الموكب من خلال التعرّض للمفردات التي وردت في تعريفه، وهي: لبس الأكفان، وحلق الرؤس، وضرب الرأس بالسيف، والمناداة بـ (حيدر).

عُرف منذ القدم عند العرب وخصوصاً في العصر الإسلامي أنّ حلق الرأس ولبس الكفن يرمز إلى الاستعداد والمبايعة على الموت. والدارس للتاريخ الإسلامي يستطيع أن يرى ذلك بوضوح(٢) ؛ فالمتطبر عندما يحلق رأسه ويرتدي الكفن إنما يشير بذلك إلى البيعة على الموت، ولكن لمن هذه البيعة؟

قد يرد هذا السؤال على ذهن القارئ الكريم، والجواب عليه هو: أننا نعلم من خلال الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ إمام العصر والزمان الحجة القائم (عجّل الله تعالى فرجه، وسهّل مخرجه، وجعلنا من أنصاره) يظهر في يوم العاشر من محرم الحرام(٣) ؛ ومن هنا كان المتطبر عندما يحلق راسه ويرتدي الكفن في يوم العاشر من محرم الحرام يشير إلى البيعة على الموت لإمام العصر والزمان، وهذا هو ما تشير إليه المفردة الاُولى.

أمّا المفردة الثانية، وهي ضرب الرأس بالسيف والمناداة بـ (حيدر)، فتشير بجنب البيعة على الموت مع الإمام إلى أنني اُبايعك يا سيدي ومولاي يا صاحب الزمان على الأخذ بالثأر معك ممّن اغتصب حقَّ جدك الكرارعليه‌السلام ، وإنّ القوم قد بدا منهم ما بدا، وتجرؤوا ما تجرؤوا منذ نادى جبرائيل:تهدمت والله أركان الهدى (٤) ؛ ولذا ترى المتطبر ينادي: حيدر حيدر، في حين أنه في يوم العاشر من محرم الحرام.

وإنّ المتطبر يشير في مجمل ذلك إلى أنّه يبايع كما بايع أصحاب الحسين الشهيدعليه‌السلام . وهل هناك بيعة أصدق من بيعتهم (رضوان الله تعالى عليهم)(٥) ؟ وهل هناك بيعة أنبل من بيعتهم؟ لا والله، يقولها كلُّ صادق مدرك لما جرى على سيد الشهداءعليه‌السلام ، يقولها كلُّ مَن رضع عشق الحسينعليه‌السلام ، يقولها كلُّ مَن أصدق النية مع ربه، يقولها كلُّ مَن يرجو شفاعة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالةعليهم‌السلام ، يقولها كلُّ مَن يرجو لقاء ربه بوجه كريم.

____________________

(١) سورة الذاريات / ٥٥.

(٢) قال: فلما أمسى بايعه ثلاثمئة وستّون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : «اغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحلقين». وحلق أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فما وافى من القوم محلقاً إلاّ أبو ذر، والمقداد، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وجاء سلمان في آخر القوم. فرفععليه‌السلام يده إلى السماء فقال: «اللهمَّ إنّ القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون». (الكافي - الخطبة الطالوتية).

«أتاني أربعون رجلاً من المهاجرين والأنصار فبايعوني، وفيهم الزبير، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤسهم، عليهم السلاح، فما وافى منهم أحد، ولا صبّحني منهم غير أربعة؛ سلمان والمقداد، وأبو ذر والزبير». (مستدرك الوسائل ١١ / ٧٤ - باب٢٨).

فما استجاب له من جميعهم إلاّ أربعة وعشرون رجلاً، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤسهم، مع سلاحهم، قد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة.

قلت لسلمان: مَن الأربعة قال: أنا وأبو ذر، والمقداد والزبير بن العوام. (بحار الأنوار ٢٢ / ٣٢٨ - باب١٠).

(٣) عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «يُنادى باسم القائم (عجّل الله فرجه، وسهّل مخرجه) في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن عليعليهما‌السلام . لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام، جبرائيلعليه‌السلام عن يده اليمنى ينادي: البيعة لله. فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض، تُطوى لهم طياً حتّى يبايعوه، فيملأ الله به الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً». (الإرشاد ٢ / ٣٧٨).

(٤) ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: تهدّمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى؛ قُتل ابن عمِّ محمّد المصطفى، قُتل الوصي المُجتبى، قُتل عليٌّ المرتضى، قتلُ والله سيدُ الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء. (بحار الأنوار ٤٢ / ٢٨٠ - باب ١٢٧).

(٥) «السّلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه، السّلام عليكم يا أصفياء الله وأوداءه، السّلام عليكم يا أنصار دين الله...». (زيارة وارث)

تتمة

قد يورد بعض الإشكالات ثلة من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء العشق الحسيني، منها:

أوّلاً: ليس جميع المشاركين في هذه الشعائر يدركون فلسفة الشعائر، وإنّ الكثير منهم لا يستطيع أن يدرك هذه الفلسفة مع أنّه يشارك في هذه الشعائر، وبنية غير النية التي تحدّثنا عنها.

والجواب على ذلك: إن لم يكن جميع المشاركين في الشعائر الحسينيّة يدركون العمق الفلسفي لها فهذا لا يعني أنها خالية من هذا العمق، مَثَلها مثل أمر الوالد لولده بأن يفعل أمراً ما يرى فيه الوالد مصلحة لولده في فعله، في حين إنّ الولد يرى عكس ذلك، فهل رؤية الولد تعني أنّ أمر الوالد خالي من المصلحة؟

كما إننا نستطيع أن نجد تأثيرات هذه الفلسفة، وكيف إنها جلية وواضحة لدى الكثيرين ممّن ينقمون علينا بسببها. وأقول لك وبوضوح: إنّ سبب نقمتهم على هذه الشعائر إنما هو الدليل الأوضح على استيعابهم لما فيها من إشارات واضحة وبيّنة استشعروها، وعرفوا مغزاها؛ ولذا كان منهم عدم تقبّلها؛ لما تمسّ من تحريفاتهم وتضليلهم على حقائق آل البيتعليهم‌السلام .

وإلاّ فما معنى إنزعاجهم من أن أفعل بنفسي ما اُريد وفق الحدود الشرعيّة التي بيّنها لنا مراجعنا أيّدهم الله، في حين يفترض وفق المنطق العقلي أنهم يسعدوا من تألمي وضربي لنفسي وأنا اُمثّل حقيقة يرفضونها؟! ولكنها الحقيقة المرة التي تطفح على وجوه معانديها رغم أنوفهم.

ثانياً: إنّ هذه الشعائر لم تقم في عصر الأئمةعليهم‌السلام ، فلا توجد عندنا رواية واحدة على أنّ أحد الأئمة قام بضرب رأسه بالسيف، أو ضرب ظهره بالسلاسل، أو لدم صدره، وبالتالي فهي بدعة وليست من الدين بشيء.

والجواب ذُكر ضمناً في صفحات هذا الكتيب، وهو: إنّ تقييم أنّ هذه الشعائر بدعة أو لا نرجع به إلى أهل الاختصاص، وليس إلى انفعالاتنا الشخصيّة وذوقنا الخاص. وأهل الاختصاص مراجعنا (حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين)، وليس من قائل منهم بأنها بدعة، هذا أولاً.

وثانياً: إنّه على القياس المذكور - أي إنّ الشيء الذي لم يقم به الإمامعليه‌السلام ، أو [لم يرد] فيه حكم فهو بدعة - يكون حكم المجتهد في قضية مثل الاستنساخ البشري، أو أطفال الأنابيب مثلاً بدعة، وحكم المجتهد في قضية مثل التلفزيون واستخدامه بدعة، وحكم المجتهد في الصلاة في طائرة بدعة، و... إلخ، فكلها لم ينصّ فيها برواية واحدة على أنّ أحد الأئمةعليهم‌السلام قام بها، أو أعطى حكماً على إحداها.

فانتبه أخي القائل بالبدعة؛ لئلاّ تبتدع أمراً تريد به نفي البدعة.

ثالثاً: إنّ سير المواكب في الشوارع في عصرنا الحالي يجعل الأجانب ينظرون إلينا بعين السخرية والاستهزاء، ويرموننا بالتخلف والرجعية.

والجواب: إنّ الدين ليس قائماً على حسن نظرة الأجانب إلينا أو عدم استهزائهم بنا؛ فهم يستهزؤون بنا كوننا نسجد على التراب، وهم يستغربون منّا عدم مصافحتنا للنساء، وينظرون إلينا بعين الاستصغار لذلك، فهل يدعو الأمر إلى أن لا نسجد على التراب، وأن نصافح النساء؟ هذا أوّلاً.

أمّا ثانياً: إنّ لهم من عاداتهم ومراسيمهم الدينية والاجتماعية ما يوجب استهزاءنا بهم، فهل أعاروا ذلك أهمية؟ كلا، بل يمارسونها ويفتخرون بها؛ سواء رضينا أم لم نرضَ.

أمّا ثالثاً: فأيهما أهم، أن نحافظ على أبنائنا ونؤدّبهم بالأدب الحسيني أم نرضي الأجانب وندع جيلنا الجديد ضعيفاً في بحر التيارات والأفكار المنحرفة؟

رابعاً: إنّ المشاركين في هذه الشعائر يبذلون جهودهم وأموالهم، في حين لو أنهم بذلوها على تزويج الشباب، وإصلاح المجتمع، وتدعيم الاُمّة الإسلاميّة فهو أصلح وأولى.

والجواب: إنّ بذل الجهد والأموال في هذه الشعائر هو إصلاح للمجتمع وتدعيم للاُمّة، وليس العكس - طبعاً لا يمكن إدراك ذلك لمن لا يعي أبعاد هذه الشعائر وأهدافها -، على أن لا منافاة بين الأمرين، وليس ثمة تلازم.

فكما أن تزويج الشباب مستحب، فإنّ إقامة ودعم الشعائر مستحب، كذلك مع فرق أنّ تزويج الشباب يعود بالفائدة على بعض الأفراد، في حين إنّ إقامة الشعائر تعود بالفائدة على المجتمع؛ فالمال والجهد المبذول لإقامة إحدى الشعائر في إحدى الحسينيات الكبيرة قد يكفي لتزويج أربعة أشخاص، أو حتّى ثمانية، في حين إن المشاركين في الحسينيّة قد يصل عددهم إلى مئات، فأيهم أولى؟

وهذا كما ذكرت أعلاه لا يعني عدم استحباب تزويج الشباب والسعي بذلك، ولكنه لا يتنافى. كما لا منافاة بين غسل الجمعة الذي هو من المستحبات المؤكدة، وبين غسل اليدين قبل الطعام الذي هو مستحب أيضاً، فلا يمكن أن نقول: إنّ الماء المبذول في غسل الجمعة نستخدمه في غسل اليدين؛ لان غسل اليدين يمنع الأمراض فهو أولى(١) .

خامساً: إنّ الكثير من المشاركين في هذه الشعائر ليسوا من المتمسكين دينياً، بل تراهم من البعيدين عن الدين، ولا يتخذون هذه الشعائر إلاّ طريقاً للرياء.

والجواب على ذلك: إنّ اتخاذ بعضهم - وليس الكثير - هذه الشعائر طريقاً للرياء لا يعني خلوّها من الفائدة والحكمة؛ فكما إنّ البعض يتخذ الصلاة والجلوس في المساجد والتسبيح طريقاً للرياء، فلا يعني هذا خلوها من الحكمة.

وذكرت البعض - وليس الكثير - من الواقع العملي كون الرياء في الصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات أسهل بكثير للمرائي من ضرب الظهر بالسلاسل، وشق الرأس بالسيف، ولدم الصدر، هذا أوّلاً.

أمّا ثانياً: فإنّ الشبهة المذكورة تُحسب للشعائر لا عليها؛ فهي تدل على عمق التأثير الإيجابي لهذه الشعائر في المجتمع بحيث يسعى المراؤون إليها، فلو كان تأثيرها فرضاً سلبياً وضعيفاً لما سعى اليها المراؤون.

كما إنّ المهم توضيحه: إنّ مقولة هؤلاء إنما هي لعدم إدراكهم العشق الحسيني الذي يذوب فيه العاشق في معشوقه، وينسى كل ما دون هذا العشق الذي هو لله وفي الله تعالى.

وقبل أن أنهي هذا الموضوع لا بدّ لي من الإشارة إلى أنه في أحد الأيام دار حوار بيني وبين أحد المبلّغين، فقال: إنه لو يتم إلغاء موكب التطبير يكون أفضل.

فقلت له: لماذا؟

أجاب: إنّ من أصعب الاُمور التي اُواجهها في التبليغ السؤال عن موكب التطبير، وأغلبهم لا يستطيعون إدراك حكمته، خصوصاً هم جديدون على المذهب.

فأجبته: فماذا تقول لهم؟

فقال: أقول لهم: هذا من فعل بعض الأفراد وليس أمراً عاماً.

فأجبته: وهذا خير ما تفعل في إطار التبليغ، فكما إنه في هذا الإطار يقال لمن يدخل جديداً على الدين عندما يُسأل: هل يجب أن اُصلّي؟ نعم إذا كنت تستطيع وتريد ذلك؛ فإن فيها فائدة كبيرة لك. ويتدرجون معه شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا معه خلال فترة زمنية إلى الصلوات المستحبة وغيرها من المستحبات، كذلك الأمر في الشعائر الحسينيّة، سوف يدركها تدريجياً ويفهم الغاية والحكمة منها، ثمّ تراه مستقبلاً من أول المشاركين فيها.

ولا بدّ لي أن أذكر هذه القصة التي وردت في كتاب بحار الأنوار عن لسان العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه): ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال: كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرضاعليه‌السلام مع جماعة من المؤمنين، فلما كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسينعليه‌السلام ، فوردت رواية عن الباقرعليه‌السلام أنه قال: «مَن ذرفت عيناه على مصابِ الحسين ولو مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبَه ولو كانت مثلَ زبد البحر».

وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه، فقال: ليس هذا بصحيح، والعقل لا يعتقده.

وكثر البحث بيننا، وافترقنا على ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث، فنام ذلك الرجل تلك الليلة، فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت، وحُشر الناس في صعيد صفصف،( لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ) ، وقد نُصبت الموازين، وامتد الصراط، ووُضع الحساب، ونُشرت الكتب، واُسعرت النيران، وزخرفت الجنان، واشتد الحر عليه، وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً، وبقي يطلب الماء فلا يجده، فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض.

قال: قلتُ في نفسي: هذا هو الكوثر. فإذا فيه ماء أبرد من الثلج، وأحلى من العذب، وإذا عند الحوض رجلان وامرأة، أنوارهم تشرق على الخلائق، ومع ذلك لبسهم السواد، وهم باكون محزونون، فقلت: مَن هؤلاء؟

فقيل لي: هذا محمّد المصطفى، وهذا الإمام علي المرتضى، وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء.

فقلتُ: ما لي أراهم لابسين السواد، وباكين ومحزونين؟

فقيل لي: أليس هذا يوم عاشوراء، يوم مقتل الحسين؟ فهم محزونون لأجل ذلك.

قال: فدنوت إلى سيدة النساء فاطمة، وقلت لها: يا بنت رسول الله، إني عطشان.

فنظرت إلي شزرا وقالت لي: «أنت الذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين، ومهجة قلبي، وقرة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً، لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء!».

قال الرجل: فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً، واستغفرت الله كثيراً، وندمت على ما كان مني، وأتيت إلى أصحابي الذين كنت معهم، وخبّرت برؤياي، وتبت إلى الله (عزّ وجلّ).

اللهمّ صلِّ على محمّد وآله، وأرني الحقَّ حقاً حتّى أتبعه، والباطل باطلاً حتّى أجتنبه، ولا تجعله عليَّ متشابهاً فأتّبع هواي بغير هدىً منك، واجعل هواي تبعاً لرضاك وطاعتك، وخذ لنفسك رضاها من نفسي، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

____________________

(١) مناجاة موسىعليه‌السلام ، وقد قال: يا ربِّ، لم فضّلت اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله على سائر الاُمم؟

فقال الله تعالى: (فضلتهم لعشر خصال).

قال موسىعليه‌السلام : وما تلك الخصال التي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها؟

قال الله تعالى: (الصلاة والزكاة، والصوم والحج، والجهاد، والجمعة والجماعة، والقرآن والعلم، والعاشوراء).

قال موسىعليه‌السلام : يا رب، وما العاشوراء؟

قال: (البكاء والتباكي على سبط محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى. يا موسى، ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى، وتعزّى على ولد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ وكانت له الجنة ثابتاً فيها. وما من عبد أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً، وغير ذلك درهماً إلاّ وباركت له في الدار الدنيا؛ الدرهم بسبعين درهماً، وكان معافاً في الجنّة، وغفرت له ذنوبه.

وعزّتي وجلالي، ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدةً إلاّ وكُتب له أجر مئة شهيد.) (مستدرك الوسائل١٠ / ٣١٨ - ٣١٩).

الفهرس

الإهداء٢

المقدّمة٣

فلسفة الشعائر الحسينيّة٦

الشق الأوّل:٦

أما الشقّ الثاني:٧

اللطم (اللدم)، الزنجيل، التطبير ٧

ثمرة ممارسة الشعائر الحسينيّة٨

اللطم (اللدم)١٠

الزنجيل (ضرب السلاسل)١١

التطبير ١٢

تتمة١٤