المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره0%

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره مؤلف:
المحقق: فارس حسون
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 126

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي
المحقق: فارس حسون
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الصفحات: 126
المشاهدات: 16944
تحميل: 5808

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16944 / تحميل: 5808
الحجم الحجم الحجم
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

محمّد بن سلام، كما في ترجمة خالد من الاستيعاب، أنّه لَم تبقَ امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لمّتها ( أي حلقت رأسها ) على قبر خالد. وهذا حرام بلا ارتياب، والله أعلم.

٢١

المطلب الثاني: في رثاء الميّت بالقريض

ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري(١) أنّ الجماعة يُفصِّلون القول فيه: فيحُرّمون ما اشتمل منه على مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللوعة، ويبيحون ما عدا ذلك.

والحقّ إباحته مطلقاً؛ إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضى الأصل، والنّواهي التي يزعمونها إنّما يُستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، على أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.

وقد رثى آدمعليه‌السلام ولده هابيل، واستمرّت على ذلك

____________________

(١) راجع: إرشاد الساري للقسطلاني ٣ / ٢٩٨، باب رثى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن خولي. ( المؤلّف ).

٢٢

ذريّته إلى يومنا هذا بلا نكير.

وأبقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه عليه، مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتى فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الأخبار.

فراجع من الاستيعاب إنْ أردت بعضها أحوال: سيّد الشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشمّاس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.

ولاحظ من الاصابة أحوال: ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي سنان بن حريث المخزومي، والأشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبد الله بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.

ودونك كتاب الدرة في التعازي والمراثي، وهو في أوَّل الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.

وليس شيء ممّا أشرنا إليه إلاّ وقد اشتمل على ما يهيج

٢٣

الحزن، ويُجدّد اللوعة بمدح الميّت وذكر محاسنه.

ولمّا تُوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تنافست فضلاء الصحابة في رثائه، فرثته سيّدة نساء العالمينعليها‌السلام بأبيات تهيج الأحزان.

ذكر القسطلاني(١) في إرشاد السّاري بَيتين منها، وهما قولهاعليها‌السلام :

ماذا على مَنْ شَمَّ تُربةَ أحمدٍ

أنْ لا يشمَّ مَدى الزَّمانِ غواليَا

صُبّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّتْ على الأيامِ صرنَ لياليَا

ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الأشجان، ذكر ابن عبد ربّه المالكي بيتَين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد، وهما:

إنّا فقدناكَ فقْدَ الأرضِ وابلها

وغابَ مُذْ غبتَ عنَّا الوحيُ والكُتبُ

فليتَ قبلكَ كان الموتُ صادَفَنا

لـمّا نُعيتَ وحالتْ دونكَ الكُثبُ

____________________

(١) إرشاد السّاري ٣ / ٢١٨، باب رثى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن خولي. ( المؤلّف ).

٢٤

ورثته عمّته صفيّة بقصيدة يائيّة، ذكر ابن عبد البرّ في أحوال النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله من استيعابه جملة منها.

ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المُطّلب بقصيدة لاميّة، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والإصابة في ترجمة أبي سفيان المذكور.

ورثاه أبو ذويب الهذّلي - كما يعلم من ترجمته في الاستيعاب والإصابة - بقصيدة حائيّة، ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدة داليّة، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته، ورثته اُمّ رعلة القشيريّة بقصيدة رائيّة، أشار إليها العسقلاني في ترجمة اُمّ رعلة من إصابته، ورثاه عامر بن الطفيل بن الحارث الأزدي بقصيدة جيميّة، أشار إليها بن حجر في ترجمة عامر من الإصابة.

ومَن استوعب الاستيعاب، وتصفّح الإصابة واُسد الغابة، ومارس كتب الأخبار، يجد من مراثيهم المشتملة على تهييج الحزن بذكر محاسن الموتى شيئاً يتجاوز حدّ الإحصاء.

وقد أكثرت الخنساء، وهي صحابيّة، من رثاء أخَويها

٢٥

صخر ومعاوية، وهما كافران، وأبدعت في مدائح صخر، وأهاجت عليه لواعج الحزن، فما أنكر عليها منكر.

وأكثر أيضاً متمّم بن نويرة من تهييج الحزن على أخيه مالك في مراثيه السّائرة، حتّى وقف مرّة في المسجد، وهو غاص بالصحابة، أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتّكأ على سيّة قوسه، فأنشد:

نِعمَ القتيلُ إذا الرِّياحُ تناوَحَتْ

خلفَ البُيوتِ قتلتَ يابنَ الأزورِ

ثمّ أومأ إلى أبي بكر، كما في ترجمة وثيمة بن موسى بن الفرات من وفيات ابن خلكان، فقال مخاطباً له:

أدعوتَهُ باللهِ ثُمَّ غدرتَهُ

لَو هُوْ دعاكَ بذمَّةٍ لَمْ يغدرِ

فقال أبو بكر: والله، ما دعوته ولا غدرته.

ثمّ قال:

ولَنِعمَ حشوَ الدّرعِ كانَ وحاسراً

ولَنعمَ مأوى الطَّارقِ المتنوِّرِ

لا يُمسكُ الفحشاءَ تحتَ ثيابِهِ

حلوٌ شمائلُهُ عفيفُ المئزَرِ

وبكى حتّى انحطّ عن سيّة قوسه، قالوا: فما زال يبكي حتّى دمعت عينه العوراء.

٢٦

فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر، بل قال له عمر - كما في ترجمة وثيمة من الوفيات -: لَوددتُ أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك. فرثى مُتمّم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد، فقال له عمر: لِمَ لَمْ ترثي زيداً كما رثيت مالكاً؟ فقال: إنّه والله، لَيُحرّكني لمالك ما لا يُحرّكني لزيد.

واستحسن الصحابة ومَن تأخّر عنهم مراثيه في مالك، وكانوا يتمثّلون بها، كما اتّفق ذلك من عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن، كما في ترجمته من الاستيعاب، فبكت عليه وتمثّلت:

وكُنّا كَندمانَي جذيمةَ حقبةً

من الدَّهرِ حتى قيلَ لَنْ يَتصدَّعَا

فلمَّا تَفَرّقنَا كأنِّي ومالكاً

لطولِ اجتماعٍ لَمْ نَبتْ ليلةً مَعَا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً.

٢٧

المطلب الثالث: في تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الميّت ومصائبه

كما كانت عليه سيرة السّلف، وفعلته عائشة إذ وقفت على قبر أبيها باكية، فقالت: كُنتَ للدُّنيا مُذلاً بإدبارك عنها، وكُنتَ للآخرة مُعزّاً بإقبالك عليها، وكان أجلّ الحوادث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.

وفعله محمّد بن الحنفيّة إذ وقف على قبر أخيه المجتبىعليه‌السلام ، فخنقته العبرة - كما في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد - ثمّ نطف فقال: يرحمك الله أبا محمّد، فإنْ عزّتْ حياتُكَ فقد هدّتْ وفاتُكَ، ولَنِعم الرّوح روح ضمّه بدنك، ولَنِعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف لا تكون

٢٨

كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء؛ غذّتك أكفّ الحقّ، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً، وإنْ كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك. ثمّ بكى بكاءً شديداً، وبكى الحاضرون حتّى سمع نشيجهم(١) .

ووقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة، وهو أوّل مَن دُفن هناك كما نصّ عليه ابن الأثير في آخر تتمّة صفين، فقال:« رَحم اللهُ خباباً، لقد أسلَمَ راغِباً وجاهَد طائِعاً، وعاش مُجاهِداً، وابتلى في جِسمِهِ أحوالاً، ولَنْ يضيع اللهُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً ».

ولمّا تُوفّي أميرُ المؤمنينعليه‌السلام ، قام الخلف من بعده أبو محمّد الحسن الزكيعليه‌السلام خطيباً، فقال، كما في حوادث سنة ( ٤٠ هـ ) من تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما:« لَقد قَتلتُمْ اللَّيلَةَ رَجُلاً، والله، ما سَبقهُ أحَدٌ كانَ قَبلَه، ولا يُدركُهُ أحدٌ يكونُ بَعدهُ،

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٨ و ٣ / ١٩٧، تذكرة الخواصّ / ٢١٣.

٢٩

إنْ كانَ رسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبعَثَه في السّريّة وجبرئيلُ عَن يمينِهِ وميكائيلُ عَن يَسارِهِ، ما تَرَك صفراءَ ولا بَيضاءَ... » .

ووقف الإمام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، فقال:« أشهدُ أنّكَ جاهدتَ في اللهِ حقَّ جِهادِه، وعملتَ بِكتابِه، واتّبعتَ سُننَ نبيِّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله حَتّى دَعاكَ اللهُ إلى جِوارِه، فقَبضَكَ إليهِ باختيارِه، لكَ كريمُ ثوابِهِ، وألزَمَ أعداءَكَ الحُجَّةَ مع ما لَكَ مِنْ الحُجَجِ البالِغةِ على جَميعِ خَلقِهِ » .

وعن أنس بن مالك، كما في العقد الفريد وغيره، قال: لمّا فرغنا من دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكت فاطمةعليها‌السلام ونادت:« يا أبتاه! أجابَ ربّاً دَعاه، يا أبتاه! مِنْ ربِّهُ ما أدناه، يا أبتاه! إلى جِبرَئيل نَنعاهُ، يا أبتاه! جَنّةُ الفِردَوسِ مأواه ».

ولَو أردنا أنْ نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.

وحاصله : أنّ تأبين الموتى من أهل الآثار النافعة، بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم، ممّا حكم بحسنه العقل والنّقل،

٣٠

واستمرّت عليه سيرة السّلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنيّة، واقتضته اُصول الترقّي في المعارف؛ إذ به تُحفظ الآثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة.

والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنَّة؛ لاشتمالهما على جملة من مناقب الأنبياء ومصائبهم، ومَن يرضى لنفسه هذا الحمق أو يختار لها هذا العمى؟! نعوذ بالله من سفه الجاهلين.

٣١

المطلب الرابع: في الجلوس حُزناً على الموتى من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة

وحسبك في رجحان ذلك، ما تواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب، وزوجته الصدِّيقة الكبرى اُمّ المؤمنينعليهما‌السلام ، وقد ماتا في عام واحد، فسُمّي: عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين.

وأخرج البخاري في باب مَن جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، من الجزء الأوّل من صحيحه، بالإسناد إلى عائشة، قالت: لمّا جاء النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله قتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس ( أي في المسجد، كما في رواية أبي داود ) يعرف فيه الحزن.

٣٢

وأخرج البخاري في الباب المذكور أيضاً، عن أنس قال: قنت رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شهراً حين قُتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قط أشدّ منه...(١) .

والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تُحصى أو تُستقصى.

والقول: بأنّه إنّما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لَم يتقادم العهد بالمصيبة، مدفوعٌ: بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء.

نعم، يتمّ قول هؤلاء اللائمين إذا تلاشى الحزن بمرور الأزمنة، ولم يكُنْ دليلٌ ولا مصلحة يوجبان التعبّد بترتيب آثاره.

وما أحسن قول القائل في هذا المقام:

خلّي اُميمةُ عَنْ مَلا

مِكِ ما المُعزّى كالثَّكولِ

ما الراقدُ الوسنانُ مِثْ

لُ مُعذَّبِ القلبِ العليلِ

____________________

(١) وأخرجه مسلم أيضاً في باب التشديد في النّياحة من صحيحه. ( المؤلّف ).

٣٣

سَهرانُ مِنْ ألمٍ وها

ذا نائمُ اللَّيلِ الطَّويلِ

ذوقِي اُميمةُ ما أذوْ

قُ وبعدهُ ما شئتِ قولِي

على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تلك الفجائع، وحلّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبّد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلّ حال، والأدلّة على ترتيب تلك الآثار في جميع الأعصار متوفّرة، وستسمع اليسير منها إنْ شاء الله تعالى.

وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيّبة، واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتّى بلغني أنّهم لا يزالوا إلى الآن إذا ناحوا على ميّت بدوا بالنّياحة عليه، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصيبته في عمّه، وأداء لحقّ تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه، وهي قوله:« ولكِنْ حَمزةَ لا بَواكِي لَه » .

وكان الأولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيتهعليهم‌السلام ، والاقتداء به في البكاء عليهم، وقد لام بعضُ أهل البيتعليهم‌السلام مَنْ لم يواسِهم في ذلك، فقالعليه‌السلام :« يا للهِ

٣٤

لِقلبٍ لا يَنصدعُ لِتذكارِ تلكَ الاُمورِ! ويا عَجباً مِن غَفلةِ أهلِ الدّهور! وما عذرُ أهلِ الإسلامِ والإيمانِ في إضاعةِ أقسامِ الأحزانِ؟! ألم يعلموا أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله موتورٌ وجيعٌ، وحَبيبَهُ مقهورٌ صريعٌ؟!... » . وقالعليه‌السلام :«... وقَد أصبَحَ لَحمُهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله مُجرّداً على الرّمالِ، ودَمُهُ الشّريفُ مَسفوكاً بِسيوفِ أهلِ الضّلالِ، فيا لَيتَ لِفاطمةَ وأبيها عيناً تنظرُ إلى بناتِها وبنيِها، وهُمْ ما بَينَ مَسلوبٍ وجَريحٍ، ومَسحوبٍ وذَبيحٍ... » . إلى آخر كلامهعليه‌السلام .

ومَن وقف على كلام أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا الشأن، لا يتوقّف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران، لكنّا منينا بقوم لا ينصفون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

٣٥

المطلب الخامس: في الإنفاق على الميّت في وجوه البرّ والإحسان

ويكفي في استحبابه عمومُ ما دلّ على استحباب مطلق المبرّات والخيرات، على أنّ فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله دالاّن على الاستحباب في خصوص المقام، وحسبك من فعله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيهما(١) بطرق متعدّدة عن عائشة: ما غِرتُ على أحد من نساء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكنْ كان النَّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يُقطّعها أعضاءً ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأنْ لَم يكن في الدُّنيا إلاّ خديجة! فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّما كانَتْ وكانَ لي مِنها ولدٌ » .

قلتُ: وهذا يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت

____________________

(١) فراجع من صحيح البخاري، باب تزويج النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة وفضلها، ومن صحيح مسلم، باب فضائل خديجة اُمّ المؤمنينعليها‌السلام . ( المؤلّف ).

٣٦

وأوليائه في الله عزّ وجل بالخصوص.

ويكفيك من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أخرجه مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميّت إليه، من كتاب الزكاة، في الجزء الأوّل من صحيحه بطرق متعدّدة، عن عائشة: أنّ رجلاً أتى النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول الله، إنّ اُمّي افتلتت(١) نفسها ولَم توصِ، أفلها أجر إنْ تصدّقتُ عنها؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« نعَمْ » .

ومثله: ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عبّاس، في ص٣٣٣ من الجزء الأوّل من مسنده، من أنّ سعد بن عبادة قال: إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة تُوفّيت اُمّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنّ اُمّي تُوفّيتْ وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ بشيء عنها؟ قال:« نعَمْ » . قال: فإنّي اُشهدك أنّ حائطَ المخرف صدقة عليها.

والأخبار في ذلك متضافرة، ولا سيّما من طريق العترة الطاهرةعليهم‌السلام (٢) .

____________________

(١) أي: ماتت فجأة وأخذت نفسها فلتة.(موقع معهد الإمامَين الحسَنين)

(٢) وربما كان المُنكِر علينا فيما نفعله من المبرّات عن الحسينعليه‌السلام ، لا يقنع بأقوال النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا بأفعاله، وإنّما تقنعه أقوالُ سلفه وأفعالهم، وحينئذٍ نحتجّ عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاُموي، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً، فنُحرت عنه، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب ( المؤلّف ).

٣٧

فصلٌ: مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداءعليه‌السلام

كلّ مَن وقف على ما سلف من هذه المُقدّمة، يعلم أنّه لا وجه للإنكار علينا في مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداءعليه‌السلام ؛ ضرورة أنّه لا تشتمل إلاّ على تلك المطالب الخمسة، وقد عرفت إباحتها بالنّسبة إلى مطلق الموتى من كافّة المؤمنين.

وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواساة

٣٨

النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واُسّست على الحزن لحزنه؟! أيبكي - بأبي هو واُمّي - قبل الفاجعة، ونحن لا نبكي بعدها؟! ما هذا شأن المتأسّي بنبيّه والمقتصّ لأثره، إنّ هذا إلاّ خروج عن قواعد المتأسّين، بل عدول عن سنن النّبيِّين.

بكاء النَّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسينعليه‌السلام في مصادر العامّة:

ألم يروِ الإمام أحمد بن حنبل من حديث عليٍّعليه‌السلام في مسنده ١ / ٨٥، بالإسناد إلى عبد الله بن نجا عن أبيه: أنّه سار مع عليٍّعليه‌السلام ، فلمّا حاذى نينوى، وهو منطلق إلى صفين، نادى:« صَبراً أبا عبدِ اللهِ، صبراً أبا عبدِ اللهِ بِشطِّ الفُرات » . قال: قلتُ: وما ذاك؟ قالعليه‌السلام :« دَخلتُ على رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاتَ يومٍ وعيناهُ تفيضان، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، ما شأنُ عينَيكَ تفيضان؟ قال: قامَ من عندِي جبرئيلُ قبلُ، فحدّثني أنّ ولدِي الحُسينَ يُقتل بشطِّ الفُراتِ. قال: فقال: هل لك إلى أنْ أشمّكَ مِنْ تُربتِهِ؟ قال: قلتُ: نعمْ. فمدَّ يدَهُ فقَبضَ قبضةً مِن تُرابٍ

٣٩

فأعطانيهِ، فلَمْ أملك عَينَيَّ إنْ فاضتا » (١) .

وأخرج ابن سعد، كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر(٢) ، عن الشعبي، قال: مرّ عليٌّرضي‌الله‌عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى، فوقف وسأل عن اسم الأرض، فقيل: كربلاء. فبكى حتّى بلّ الأرض من دموعه، ثمّ قال:« دَخلتُ على رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكِي، فقلتُ: ما يُبكيك - بأبي أنت واُمّي -؟ قال: كانَ عندي جِبرائيلُ آنفاً، وأخبرني أنّ ولديَ الحسينَ يُقتلُ بشاطئِ الفُراتِ، بمَوضعٍ يُقال لَهُ كربَلاء » (٣) .

____________________

(١) الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٦، وراجع أيضاً: مسند أبي يعلى / ٣٦٣، مسند البزّار / ٨٨٤، والذخائر للمُحب الطبري / ١٤٨، المعجم الكبير / ٢٨١١، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٧، وقال: رجالُه ثقات. سِيَر أعلام النُّبلاء ٣ / ٢٨٨.

(٢) كلّ ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق، من هذا الحديث وغيره، موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الأحاديث التي أوردها في ذلك الفصل، فراجع. ( المؤلّف ).

(٣) الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٦، وراجع أيضاً: المعجم الكبير للطبراني / ٢٨١١، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٧، وقال: رجالُه ثقات.

٤٠