بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة الخطيب البارع سماحة الشيخ محمد العباد
إنّ المنبر الحسيني كأيّ ظاهرة لا بدّ أن تتّخذ أشكالاً مختلفة في نشأتها وتطورها، فهناك بداية الدعوة إليها، ثمّ غرس بذرتها الأولى، ثمّ تأخذ في النمو وذلك خلال ما تمرّ به من ظروف النمو.
فالمنبر الحسيني كانت بداية الدعوة إليه من خلال فعل النبي
صلىاللهعليهوآله
بالبكاء على الحسين
عليهالسلام
والحث عليه؛ ففي مسند أحمد بن حنبل 2 / 85، عن علي
عليهالسلام
قال: «دخلت على النبي
صلىاللهعليهوآله
ذات مرّة وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟! قال
صلىاللهعليهوآله
: بل قام من عندي جبرائيل فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات».
قال: «فقال: هل لك أن أشمّك من تربته؟». قال: «قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا».
نرى من خلال فعل النبي
صلىاللهعليهوآله
وأقواله حثّ على البكاء على الحسين
عليهالسلام
، وانطلق الأئمّة
عليهمالسلام
يدعون إلى ذلك ويؤكّدون على إحيائه بوسائل مختلفة، ومنها الرثاء النثري والرثاء الشعري، أو ربط بعض الحوادث والصور المعبّرة عن الحزن والأسى بمصاب الحسين
عليهالسلام
.
كلّ هذا يُعطينا أنّ الأئمّة
عليهمالسلام
يدعون إلى اتّخاذ كلّ الوسائل المباحة للوصول إلى هذه الغاية، ولا شك إنّ المنبر له هذا الدور الكبير، وبالتالي فهو يحتلّ مكانة قدسية من خلال ربطه باسم الحسين
عليهالسلام
.
أمّا مَنْ هو أوّل مَنْ اتّخذ المنبر لرثاء الحسين
عليهالسلام
ابنه السجّاد
عليهالسلام
، حيث بذر البذرة الأولى عندما خطب من على منبر الشام، وفي مجلس يزيد وأمام الحشود من الناس حتى ضجّوا بالبكاء عند سماعهم لخطبته، حيث قال
عليهالسلام
فيما قال: «أنا ابن المزمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء».
نرى في خطبة الإمام السجاد
عليهالسلام
فصولاً أخرى غير الرثاء، وأتى أهمّها التعريف بأهل الحقّ، وهم أهل البيت
عليهمالسلام
ودورهم في الدعوة الإسلامية وبالأخص الإمام علي
عليهالسلام
، ممّا يجعله يحتلّ المكانة الأولى من بين الصحابة على الإطلاق، ولا أريد الخوض في تفاصيل هذه الخطبة، ولكن الشيء الذي يمكن أن نشير إليه هو أنّ الدعوة إلى البكاء على الحسين
عليهالسلام
كما إنّها دعوة للتعبير عمّا يختلج في النفس من الحزن والأسى، وتعبير عن الولاء العاطفي للحسين
عليهالسلام
، وكذلك عن رفض الظلم، بالإضافة إلى ذلك نعرف أنّ المنبر الحسيني لا بدّ أن يكون وسيلة من وسائل بيان الحقّ والدعوة إليه، وبيان الباطل والتحذير منه، ووسيلة لتربية الأجيال على أساس الفكر السليم والسلوك الطاهر، ووسيلة أساسية لبيان أهداف الحسين
عليهالسلام
من ثورته وما تحمله من قيم.
ولهذا وبعد أن بذر الإمام السجّاد
عليهالسلام
البذرة الأولى للمنبر الحسيني، أخذ هذا المنبر يمرّ بمراحل عديدة من التطور شكلاً ومضموناً، إلى أن وصل إلى ما نراه عليه اليوم، من احتوائه على الرثاء نثراً وشعراً، واحتوائه على الخطبة التي تبدأ عادةً بآية أو كلام لأحد المعصومين
عليهمالسلام
، ينطلق بذلك الخطيب في طرح الموضوع المناسب ليربطه في نهاية الأمر بمصيبة الحسين
عليهالسلام
، وهذا الذي يميّز المنبر الحسيني عن غيره من المنابر والخطب الأحرى، بحيث سُميت هذه الخطابة بالخطابة الحسينية.
وهذا يدعونا إلى أن ننظر إلى هذه الخطابة نظرةً خاصّة متميّزة عن غيرها من أنواع الخطابة، وبحيث أن تكون جامعة بين العبرة والعِبرة، بين الدمعة والفكرة، وننظر إلى دور الخطابة الحسينية في الحفاظ على ثقافة عاشوراء، وهو تنقل أقوى الصلات عن طريق مزج الفكر والمحبّة والبرهان العاطفي الذي تجسد في كربلاء، ومنها البكاء على مظلوميّة الحسين
عليهالسلام
، ومن خلالها أيضاً نفهم أهداف الإمام من ثورته، بل يمكن أن نجعل هذا المنبر منطلقاً لإيصال صوت الإسلام إلى كلّ مكان.
وكما يُنقل عن أحد المسيحيين إنّه قال: لو كان عندنا الحسين لجعلنا له على كلّ شبر من الأرض منبراً.
وما دامت الخطابة الحسينية أصبحت واقعاً لا غنى عنه ومنذ قرون طويلة، فلا بد أن تكون موضع اهتمام كبير من قِبَل العلماء والباحثين لصيانته [مما يلي]:
أولاً
: من عوامل الضعف؛ وذلك من قبيل التحذير من ذكر ما لا ينسجم مع طبيعة الثورة الحسينية في أهدافها وفكرها وسلوكيات شخصياتها؛ حتى لا تكون الخطابة عامل تشويه لها، ولتصل هذه الثورة نقية إلى كلّ الأجيال.
وثانياً
: للأخذ بوسائل تطويرها حتى تكون الخطابة الحسينية بمستوى تطلّعات الثورة وتطلّعات المستمع، فلا بد من النظر إلى مادة الخطابة، وكذلك منهجيتها، وأيضاً إلى مادة الرثاء شعراً ونثراً ومضموناً وصوتاً؛ حتى تكون هي وغيرها وسائل تطويرية تجعل من هذه الخطابة المتميزة تحافظ على أصالتها وتواكب العصر؛ لتؤدي رسالة الحسين إلى كلّ جيل.
ولا شك إنّ هذا بحاجة إلى تظافر الجهود في هذا الطريق، من إقامة المعاهد وكتابة الدراسات والبحوث؛ لتأهيل الخطيب ليقوم بدوره على أكمل وجه ممكن، بدلاً من فتح المجال أمام الارتجال الذي له آثار سيئة على واقعة الطفّ، كثورة إصلاحية أريد لها أن تكون مدرسة خالدة عبر العصور.
هذا وقد انبرى الأخ الكريم سعادة الدكتور اللويمي (أيده الله)، ومن خلال هذه الدراسة بتسليط الضوء على جوانب كثيرة ومهمّة، ممّا يرتبط بالخطابة الحسينية وسبل تطويرها، ومما يعكس اهتمامه الكبير بالمنبر الحسيني، وقد وُفِّق في هذه الدراسة للتبويب الجيد للموضوع، وكذلك في ربط النظرية بالتطبيق، وفي تشخص المشاكل التي ذكرها والحلول لها، وفي الأفكار والمقترحات فجزاه الله على عمله، وأسأله تعالى أن يوفقه للمزيد من ذلك وهو ولي التوفيق.
محمد العباد
ربيع الآخر 1422 هـ