مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 31902
تحميل: 5449

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31902 / تحميل: 5449
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أمّا أُمّه فهي فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت محمد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله سيدة نساء العالمين، وجدّه لأبيه هو شيخ البطحاء، وكافل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناصر الإسلام أبو طابعليه‌السلام . وأمّا جدّه لاُمّه فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وحبيب إله العالمين، محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا نسب الحسينعليه‌السلام ، فأيّ إنسان في العالم جمع نسباً شريفاً كهذا النسب الشريف؟ أضف إلى هذا النسب الشريف مقامه الراقي عند الله تعالى، ومنزلته العليا في الإسلام، فهوعليه‌السلام :

أولاً : ثالث أئمّة أهل البيت الاثني عشر الذين عناهم الله تعالى بقوله:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (1) . وثالث اُولي الأمر الذين أمرنا الله تعالى بإطاعتهم، فقال:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) .

وفي إمامته وإمامة أخيه الحسنعليهما‌السلام نص نبوي متواتر، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».

ثانياً : فهوعليه‌السلام أحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، كما هو صريح آية التطهير، أي إنّهعليه‌السلام خامس المعصومين الأربعة عشرعليهم‌السلام ؛ محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة مِنْ ذرية الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ثالثاً: هوعليه‌السلام أحد العترة الذين قرنهم رسول الله بكتاب الله العزيز، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما في هذه الاُمّة، حيث قال: «إنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي...».

رابعاً: أنّهعليه‌السلام أحد الأربعة الذين باهل بهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نصارى نجران، وهو أحد المعنين بقوله تعالى:( وأبنائنا وأبنائكم ) .

وهكذا إلى غير ذلك ممّا لا يسع المقام إحصاءه مِنْ فضائله ومناقبهعليه‌السلام .

____________________

(1) الأنبياء / 73.

(2) سورة النساء / 59.

٢١

ولادته:

لقد ولد الحسينعليه‌السلام في الثالث مِنْ شهر شعبان المبارك، السنة الرابعة للهجرة في المدينة المنورة، وسمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حسيناً، كما سمّى أخاه مِنْ قبل حسناً، ولمْ يسمَ بهذين الاسمين أحدٌ من العرب قبلهما، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّهما حبّاً شديداً، ويقول: «هما ريحانتاي من الدنيا. اللّهم إنّي اُحبّهما، واُحبّ مَنْ يحبّهما».

وقد قام بنفسه بتربيتهما حتّى تركهما نموذجين مثاليين، ومثلين كاملين للمسلم القرآني الذي يريده الإسلام، فكانا بذلك القدوة العليا لكلّ إنسان في الدنيا، وفي كلّ صفات الإنسانية وشرائطها؛ ومِنْ ثمّ منحهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مقام السيادة على كافة شباب الجنّة، كما هو نص الحديث الشريف المتواتر: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

ومعلوم أنّ السيادة في عرف الإسلام تعني: الأفضليّة والأكمليّة، والتفوّق في العلم والعمل الصالح. ولا شك أنّ المراد بشباب الجنّة هو كلّ أهل الجنة قاطبة ما عدا جدّهما المصطفى وأبيهما علي المرتضى، اللذين خرجا مِنْ تحت هذا العموم بأدلّة خاصة اُخرى، فهما سيدا أهل الجنّة جميعاً؛ لأنّ كلّ مَنْ في الجنة شباب ليس فيهم شيخ ولا كهل ولا عجوز، حسب ما ورد في النصوص.

وبناء على ما سبق يكون الحسينعليه‌السلام قد عاش مع جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ست سنوات، وعاش بعده أحدى وخمسين سنة، فكان عمره الشريف يوم شهادته نحواً مِنْ سبع وخمسين سنة، وقيل: ثمانية وخمسين سنة؛ بناء على أنّ ولادته كانت سنة ثلاث من الهجرة، قضاها في عبادة الله وطاعة رسوله وخدمة الناس، وختمها بأعظم تضحية عرفها التاريخ حتّى الآن مِنْ حيث القدسيّة والشرف.

كانعليه‌السلام أكثر الناس علماً وأفضلهم عملاً، وأسخاهم كفّاً وأحسنهم خلقاً، وأوسعهم حلماً وأكرمهم نفساً، وأرقهم قلباً وأشدّهم بأساً وشجاعة. هذه كلّها حقائق ثابتة بالإجماع، ومتواترة بين المؤرّخين وأهل السير، ويعترف له بها حتّى الأعداء.

٢٢

قالوا: تلقّى معاوية بن أبي سفيان كتاباً من الحسينعليه‌السلام يعدّد له فيه جرائمه ومنكراته، ورذائل صفاته ومفاسد أخلاقه، وكان يزيد حاضراً عند أبيه، واطّلع على كتاب الحسين وما يذم فيه أباه، فغضب وقال: يا أبت، لا تسكت عن الحسين وأجبه بمثل ما كتب إليك لتصغّر إليه نفسه.

فقال له معاوية: ولكن يا بُني، لا أجد في الحسين عيباً أذكره به، ولا نقصا أعيّره به.

ويكفي أنّ قاتل الحسينعليه‌السلام وحامل رأسه وهو خولّى بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، أو الشمر بن ذي الجوشن (عليه اللعنة) دخل بالرأس الشريف على ابن زياد مفتخراً بقوله: يا أمير،

أوقر ركابي فضةً أو ذهبا

إنّي قتلتُ السيدَ المحجّبا

قتلتُ خيرَ الناسِ أُمّاً وأبا

وخيرَهم إنْ يذكرون حسبا

فقال له ابن زياد (لعنه الله): إذا علمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟! والله، لا نلت منّي شيئاً.

يقول الاُستاذ عباس العقاد في كتابه (أبو الشهداء) ما نصّه: وقد عاش الحسين سبعاً وخمسين سنة، وله من الأعداء مَنْ يصدقون ويكذبون، فلمْ يعبه أحدٌ منهم بمعابة، ولمْ يملك أحد منهم أنْ ينكر ما ذاع مِنْ فضله.

ويقول أيضاً في مقام آخر: فكان الحسينعليه‌السلام ملء العين والقلب في خَلْقٍ وخُلُقٍ، وفي أدب وسيرة، وكانت فيه مشابهة مِنْ جدّه وأبيه.

أولاده:

فالذكور منهم أربعة، وهم: علي الأكبرعليه‌السلام الشهيد، وعلي السجاد الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وعلي الأصغر وهو طفل رضيع، وعبد الله وهو طفل رضيع أيضاً.

وهؤلاء الأربعة لاُمّهات شتّى لا لأم واحدة؛ فعلي الأكبرعليه‌السلام أُمّه ليلى بنت مرّة بن مسعود الثقفي، وعلي السجاد الإمامعليه‌السلام أُمّه شاه زنان بنت

٢٣

الملك يزدجرد بن أردشين بن كسرى ملك الفرس، وعبد الله أُمّه الرباب بنت امرئ القيس الكلبي، وقد قتلوا جميعاً يوم عاشوراء ما عدا الإمام زين العابدينعليه‌السلام الذي نجا بسبب مرضه، ودفاع عمته زينب كما ستعرفه إنْ شاء الله.

وأمّا الإناث منهم فأربعة، وهي: سكينة وفاطمة الكبرى وفاطمة الصغرى ورقيّة، وكلّهن مع الحسينعليه‌السلام في كربلاء ما عدا فاطمة الكبرى؛ فإنّ الحسينعليه‌السلام تركها في المدينة لمرضها.

إخوته:

إنّ إخوة الحسينعليه‌السلام كثيرون، غير أنّ اللذين كانوا معه في كربلاء هم ستة فقط، وهم: العباس بن عليعليه‌السلام وأشقّاؤه الثلاثة؛ جعفر وعبد الله وعثمان، أُمّهم فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة المكنّاة بأمّ البنينعليها‌السلام ، ثمّ محمد بن علي، قيل: اسمه عبد اللهعليه‌السلام ، وكان يُكنى بأبي بكر، وأُمّه ليلى بنت مسعود بن خالد التميمي، ثمّ عمر بن عليعليه‌السلام وأُمّه غير مشخّصة في التاريخ، وقيل: إنّه كان أيضاً مع الحسين أخ له يُسمّى محمد الأصغر، وأُمّه أمّ ولد.

فهؤلاء ستة أو سبعة مِنْ إخوة الحسينعليه‌السلام استشهدوا بين يديه يوم عاشوراء، وكان أفضلهم وأجلهم أبو الفضل العباسعليه‌السلام ، وهو أكبر الهاشميِّين سناً يوم كربلاء ما عدا الحسينعليه‌السلام ، حيث كان عمره أربعاً وثلاثين سنة؛ لذا اختاره الحسينعليه‌السلام حاملاً لرايته العظمى، وعبّر عنه بكبش الكتيبة.

وكانعليه‌السلام وسيماً جسيماً طويل القامة، وجهه كفلقة قمر؛ ومِنْ هنا كان يلقّب بقمر الهاشميِّين، وهو آخر مَنْ قُتِلَ قبل الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء. وكان لقتله صدمة عنيفة في نفس الحسينعليه‌السلام عبّر عنها بقوله حين وقف على مصرعه: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي». وبان الانكسار في وجهه وبكى عليه.

٢٤

وقد نوّه بفضلهعليه‌السلام عدد من الأئمّة المعصومين (صلوات الله عليهم)، ومنهم أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال فيه: «إنّ ابني العباس زقّ العلم زقّاً».

ثمّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام الذي قال عنه: «رحم الله عمّي العباس، لقد جاهد يوم كربلاء وأبلى بلاء حسناً حتّى قُطعت يداه ومضى شهيداً، وقد أبدله الله عن يديه بجناحين يطير بهما في الجنّة مع الملائكة، كما أعطى جعفر بن أبي طالب بموته».

ثمّ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام القائل في جملة تصريح له: «ألا وإنّ لعمّي العباس عند الله لدرجة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة».

وما دفنه الإمام زين العابدينعليه‌السلام وحده بمكان مصرعه إلاّ تنويهاً بفضله، وعلوّ مقامه بين بني هاشم. كما أنّ دفنه لحبيب بن مظاهر الأسديرحمه‌الله في قبر منفرد كان لهذا الغرض، أي التنويه بفضل وعلوّ مقام حبيب بين باقي الأصحاب (رضوان الله عليهم).

وبصورة عامّة فشهداء كربلاء جميعاً هم أفضل الشهداء في الدنيا مِنْ أوّلها إلى آخرها بعد الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام . هم أفضل الشهداء والقتلى الأولى... مدحوا بوحي في الكتاب المبين

٢٥

ما هو عاشوراء مفهوماً وبداية؟

قوله عزّ من قائل:( إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّماوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ ) (1).

إنّ عاشوراء في التاريخ يعني اليوم العاشر مِنْ شهر محرّم الحرام، وشهر المحرّم كما هو معلوم أحد الأشهر الاثني عشر في السنة القمريّة التي هي حسب منازل القمر في مداره السنوي حول الشمس، وهذه الأشهر القمريّة لا تقلّ عن التسعة وعشرين ولا تزيد على الثلاثين يوماً؛ وعليه فالسنة القمريّة تنقص عن السنة الشمسيّة بنحوٍ مِنْ ثلاثة عشر يوماً.

ويبدأ الشهر القمري بظهور الهلال على وجه الأُفق الغربي عند غروب الشمس، وينتهي بكمال العدّة أو برؤية الهلال ثانية. فهو أسهل ضبطاً ومعرفة من الشهر الشمسي بالنسبة إلى عامّة الناس؛ ولهذا السبب اعتبرها الإسلام رسميّاً في أحكامه وشعائره مِنْ صيام وإفطار وحج وغيرها.

وأمّا أسماء هذه الشهور فهي عربية قديمة قبل الإسلام، فالعرب مِنْ أقدم العصور اعتمدوا على هذه الشهور القمريّة، وسمّوها بهذه الأسماء المعروفة لمناسبات خاصّة وقتية، ثمّ زالت تلك المناسبات وبقيت الأسماء.

وفي نفس الوقت اعتبروا أربعةً منها حرماً، أي محرّمة تبعاً لما في الشرائع السماوية السابقة. ومعنى اعتبار العرب لأربعة من الشهور المذكورة حُرُماً: أنّهم كانوا يتركون فيها الحرب والقتال، والغزو والغارات، وسفك الدماء لينصرفوا

____________________

(1) سورة التوبة / 36.

٢٦

ويتفرّغوا فيها إلى شؤونهم التجارية والزراعية والأدبية وغيرها، فيقيمون فيها الأسواق، ويعقدون الأندية والاجتماعات، ويتفاخرون بإنتاجهم الصناعي والأدبي.

والأربعة الحرم عبارة عن الثلاثة السرد؛ أي ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، والواحد الفرد أي شهر رجب.

وكما قدّمنا كان احترام العرب لهذه الشهور الأربعة تقليداً دينياً؛ لذا لمّا ضعف الدافع والشعور الديني عند العرب الجاهليِّين ضعف تبعاً لذلك هذا التقليد، وصاروا يبدلون بعض هذه الأشهر الحرم بغيرها إذا دعت حاجتهم إلى ذلك. كأنْ يحاربوا أو يغزوا في رجب مثلاً ويحترمون بدلاً عنه شعبان أو غيره، وهكذا، وهذا ما يسمّونه بالنسيء الذي حرّمه الإسلام وندّد به في قوله تعالى:( إِنّمَا النّسِي‏ءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) (1).

فالغرض أنّ المحرّم هو أحد الشهور الأربعة الحرم، أي المحترمة منذ القدم. وأمّا عاشوراء فهو يوم العاشر منه، كانوا يعتبرونه أقدس أيّام السنة وأكثرها خيراً وبركة؛ يطعمون فيه الفقراء، ويتفقدون فيه المساكين والأرامل واليتامى، ويعملون فيه الخير.

هذا مفهوم المحرّم ومفهوم عاشوراء مِنْ قديم الزمان وإلى أنْ جاء الاُمويّون إلى الحكم في العالم الإسلامي، فهتكوا حرمة الأشهر الحرم في جملة ما هتكوا مِنْ الحرمات، وارتكبوا في الشهر المحرّم وفي يوم عاشوراء خاصّة أبشع جريمة عرفها التاريخ، فسفكوا فيه أقدس الدماء، وقتلوا فيه أفضل وأشرف الذوات الإنسانية، وذبحوا فيه الأطفال، وقتلوا النساء ومثّلوا بالشهداء، وأحرقوا الخيام على آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورضّوا جثث أهل البيتعليهم‌السلام بحوافر الخيول، فتبدّل بفعلهم هذا معنى المحرّم وعاشوراء، وتحوّل مفهومهما عند المسلمين إلى أيّام حداد وأسى، وصار المحرّم موسماً خاصاً للاحتفال بذكرى اُولئك الأبطال الذين أقدموا على تحمّل المآسي العظام؛ دفاعاً عن الحقّ والعدل وحقوق الإنسان.

ففي الاحتفال بذكرى شهداء كربلاء وأبطل العاشر من المحرّم (سنة 61 هـ) أحسن الأثر في نفوس النشء الجديد، والجيل الصاعد، والشباب والواعي؛ لأنّ ذكراهم ومواقفهم تلقن الشباب دروس العزّة والكرامة، والشعور بالشرف الإنساني،

____________________

(1) سورة التوبة / 37.

٢٧

وتقوّي في نفسه روح التضحية والفداء في سبيل الحقّ والعدل.

فنشر أنباء اُولئك الأبطال هو في رأي الخبراء أكبر خدمة اجتماعية وتربوية تقدّم للمجتمع، ألا ترى العادة الجارية والتقليد السائد عند كافة الشعوب والأمم حيث يحتفلون بين حين وآخر بذكرى ثوراتهم الوطنية، وأبطالهم الثائرين وقادتهم المحررين، ويقيمون لهم التماثيل، ويرفعون صورهم في الشوارع والساحات العامة؛ تخليداً لذكراهم؟

لماذا؟ نعم يعلّلون ذلك بأنّه أداء لحقّهم، وتقدير لصنيعهم أوّلاً، ثمّ تشجيع وتشويق للشباب والنشء الجديد نحو الاقتداء بهم، والسير على مبدئهم وفي طريقهم، والقيام بمثل أعمالهم.

ويقول الخبراء: لولا هذه الذكريات لماتت روح التضحية في نفوس الناس، وسادت روح الأنانية والفردية. فإذا كان كذلك، أليس يجدر بثورة الحسين وموقفه يوم عاشوراء أنْ يُشاد بذكراها في كلّ زمان ومكان؟!

أيّ ثورة وطنية في العالم بلغت في عمقها وشمولها ونبل أهدافها وبركة نتائجها مبلغ ثورة الحسينعليه‌السلام ؟! إنّها لمْ تخدم الشيعة فحسب ولا المسلمين فقط، بل خدمت الإنسانية والحقّ العالمي.

فالمحرّم إذاً في عرف العقلاء موسم سنوي لدورة دراسة تلقى فيها دروس مِنْ سيرة الحسينعليه‌السلام وأصحابه، حول موضوع الإنسانية المثالية ولوازمها ومتطلباتها.

ويوم عاشوراء منه هو في الواقع يوم تظاهرة عالمية؛ تأييداً للحقّ واستنكاراً للباطل، ذلك الحقّ المطلق الذي تجسّد في سيرة الإمام الحسينعليه‌السلام وتضحيته، وذلك الباطل المطلق الذي تمثّل في جريمة الاُمويِّين وسلوكهم، فهذه أبواب المدارس الحسينية مفتوحة فادخلوها بسلام آمنين.

إنّ مدرسة الحسينعليه‌السلام يجب أنْ تفتح في كلّ مكان، وذكراه يجب أنْ تُقام في كلّ زمان تماماً كما صوّرهما هذا الأديب القائل:

كأنّ كلّ مكانٍ كربلاء لدى

عيني وكلّ زمانٍ يوم عاشورا

ولقد حاول أعداء الصلاح والإصلاح، ولا زالوا يحاولون أنْ يخلقوا بعض المبرّرات؛ لكي يتّخذوا مِنْ أيّام المحرّم أعياداً ومناسبات فرح لا أساس لها من الواقع،

٢٨

فمِنْ ذلك مثلاً: زعمهم أنّ هجرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة المنورة كانت في أول يوم من المحرّم، فهم لذلك يتّخذون مِنْ ذلك اليوم عيداً وأسموه عيد الهجرة، مع العلم أنّ هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت أوائل شهر ربيع الأول حسب إجماع المؤرّخين.

وقالوا: إنّ يوم عاشوراء يوم مقدّس ومبروك، فهم لذلك اتّخذوه عيداً يظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون فيه الجديد وثياب الزينة، ويقدّمون التهاني بعضهم لبعض، مع العلم إنّ القدسية والبركة لا يستلزمان التعيّد وإظهار الزينة وتبادل التهاني!

وعلى كلّ حالٍ، لا يوجد أيّ مبرّر لاتّخاذ أيّام المحرّم أو بعضها أعياداً أبداً بعد أنْ وقعت فيه تلك المأساة الخالدة، والكارثة الإنسانية العظمى التي راح ضحيتها العشرات مِنْ ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبنائه وأهل بيته الطاهرين في تلك المجزرة الرهيبة التي لمْ يسبق لها نظير.

ففي حديث الإمام علي الرضاعليه‌السلام قال: «إنّ شهر المحرّم كان أهل الجاهلية فيما مضى يعظّمونه ويحترمونه، ويحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، لكنّ هذه الأمّة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيها؛ فقتلوا فيه ذرّيّته، وسبوا فيه نساءه مِنْ بلد إلى بلد...».

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام قال: «إنّ يوم عاشوراء يومٌ تبرّكت به وفرحت فيه بنو اُميّة وآل مروان؛ لقتلهم الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، فمَنْ اتّخذه يوم فرح وسرور جعل الله له يوم القيامة يوم حزن وخوف وكآبة، ومَنْ اتّخذه يوم حزن ومصيبة جعل الله له يوم القيامة يوم فرح وسرور، وقرّت بنا في الجنان عينه».

ولقد عبّر بعض الشعراء عن منطق التدين والوجدان والضمير الإنساني، حيث قالرحمه‌الله :

ما انتظارُ الدمعِ ألاّ يستهلاّ

أو ما تنظرُ عاشوراءَ هلاّ

كيف لا تحزنُ في شهرٍ به

أصبحت آلُ رسولِ الله قتلا

كيف لا تحزن في شهرٍ به

أصبحت فاطمةُ الزهراءُ ثكلا

كيف لا تحزن في شهرٍ به

رأسُ خير الخلقِ في الرمحٍ معلاّ

كيف لا تحزن في شهرٍ به

أُلبس الإسلام ذلاً ليس يبلا

٢٩

يوم لا سؤددُ إلاّ وانقضى

وحسامٌ للعُلا إلاّ وفلاّ

يوم خرّ ابنُ رسول الله عن

سرجهِ لله خطبٌ ما أجلاّ

يا قتيلاً أصبحت دارُ العُلا

بعده قفراً وربعُ الجود محلا

ما نعتك الخلقُ لكنْ قد نعتْ

فيك إحساناً ومعروفاً وعدلا

* * *

وقال آخر يخاطب الحسينعليه‌السلام :

تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلكَ باكيهْ

تبتلّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلّ منّي بالدموعِ الجاريهْ

* * *

٣٠

لماذا فاق يوم الحسين عليه‌السلام أيّام غيره من الشهداء؟

فما رأى السبطُ للدين الحنيفِ شفاً

إلاّ إذا دمُهُ في كربلا سُفكا

و ما سمعنا عليلاً لا علاج له

إلاّ بنفسِ مداويهِ إذا هلكا

نفسي الفداءُ لفادي شرعَ والدِهِ

بنفسهِ و بأهليهِ وما ملكا

يا ميّتاً ترك الألباب حائرةً

وبالعراءِ ثلاثاً جسمُهُ تركا

في كلّ عامٍ لنا بالعشرِ واعيةٌ

تطبّق الدورَ والأرجاء والسككا

وكلّ مسلمةٍ ترمي بزينتِها

حتّى السماءَ رمتْ عن وجهها الحُبكا

يرد هذا التساؤل بكثرة وإلحاح، وهو:

أولاً: لماذا يعنى الشيعة بإحياء ذكرى شهادة الحسينعليه‌السلام وثورته أكثر مِنْ غيره من الثوار والشهداء؟

ثانياً: لقد مضى على يوم الحسينعليه‌السلام زمن طويل يقارب الأربعة عشر قرناً، فلماذا يُعاد وتجدد ذكراه والاحتفال به في كلّ عام بكلّ جديّة واهتمام؟

فللإجابة على السؤال الأول نقول: لأنّ ثورة الحسينعليه‌السلام أظهر مصداق للثورات التحررية في تاريخ العالم كلّها، واستشهادهعليه‌السلام أوضح وأجلى صورة للاستشهاد في سبيل الله تعالى وذلك هو؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام قام بأداء أعظم فريضة مِنْ فرائض الإسلام، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قام بأدائها على أصعب مراتبها وأشدّ صورها وارفع مستوياتها؛ فالله سبحانه وتعالى احتفظ بيوم الحسين حياً خالداً؛ ليكون حجّة على الناس وقدوة للمسلمين

٣١

ومثلاً أعلا لكلّ رجال الدين والمسؤولين في كلّ زمان ومكان في القيام لهذا الفرض الأعظم.

أمّا كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم الفرائض الإسلاميّة؛ فهو صريح الأحاديث الشريفة والنصوص المؤكّدة الصادرة عن المعصومينعليهم‌السلام . ففي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تزال اُمّتي بخير ما تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا تركوا ذلك تسلّط عليهم شرارهم، ثمّ يدعون فلا يستجاب لهم».

وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا رأيتَ اُمّتي تهاب الظالم أنْ تقول له: أنت ظالم، فتودّع منها». واشتهر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».

وهاك استمع إلى هذا النص الجلي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول: «ما أعمال البرّ كلّها في جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كقطرة في البحر المحيط». وأخيراً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كيف بكم إذا فسق شبانكم، وفسدت نساؤكم، وتركتم الأمر المعروف والنهي عن المنكر؟!».

قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟!

قال: «نعم وشرّ مِنْ ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!».

قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟!

قال: «نعم وشرّ مِنْ ذلك. كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟!».

ولا تنس قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سيد الشهداء عمّي حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام في وجه سلطان جائر، فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله».

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ رأى منكم منكراً فلينكره بيده، ومَنْ لمْ يستطع فبلسانه، وإنْ لمْ يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

وفيما ورد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله في عهده إلى نجله الإمام الحسنعليه‌السلام قال: «يا بُني، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وخض الغمراتِ إلى الحقِّ، ولا تأخذُكَ في الله لومةُ لائمٍ».

وقالعليه‌السلام في وصيته قبيل وفاته: «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيولّى شراركم، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم».

وفيما ورد عن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام قوله: «يأتي في آخر الزمان اُناس

٣٢

حمقى، لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، إلاّ إذا أمنوا الضرر يقبلون على الصلاة والصيام ممّا لا يكلّفهم شيئاً مِنْ أموالهم وأبدانهم، ولو كلّفتهم الصلاة شيئاً في أموالهم وأبدانهم لتركوا الصلاة والصيام كما تركوا أشرف الأعمال؛ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

وهكذا وإلى غير ذلك ممّا لا يسعنا في هذا المقام استقصاءه.

ومن الواضح أنّ كلّ هؤلاء يعبّرون عمّا نطق به القرآن الكريم، حيث أعطى هذه الفريضة أهميّة كبرى فوق كلّ الفرائض الاُخرى، كما هو صريح قوله تعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (1) . انظر كيف حصرت الآية أفضلية هذه الأمّة على سائر الأمم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمّ في الإيمان بالله.

وقال سبحانه وتعالى:( وَالْعَصْر * إِنّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ ) (2) . انظر كيف خصّص التواصي بالحقّ عن عمل الصالحات، حيث يوحي بأنّ كلّ أعمال الصالحات في جهة، والتواصي بالحقّ والصبر في جهة اُخرى. وقال سبحانه وتعالى في معرض بيان الأسباب التي أدّت إلى شقاء بعض الاُمم السالفة:( كَانُوا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) (3) .

والخلاصة: إنّ فريضة الأمر بالمعروف أعظم الفرائض أهميّة في الإسلام؛ وذلك لأنّ على قيام هذه الفريضة يتوقّف قيام الشريعة كلّها، فهي فريضة المحافظة على النظام وضمان تطبيقه، والرقابة الشعبية القائمة عليه؛ ولذا لمْ تسقط عن أيّ مسلم ومسلمة في أيّ مستوى كان.

«الساكتُ عن الحقّ شيطانٌ أخرس».

ولا خلاف ولا شك في أنّ كافة الأنبياء والأوصياء، والعلماء من الصحابة والتابعين، وكثير من المؤمنين قاموا بأداء هذه الفريضة العظمى، وأدّوا هذا الواجب حسب ظروفهم وأحوالهم وامكانيّاتهم، غير أنّ الحسينعليه‌السلام قام بأداء هذا الواجب على نحو من الصعوبة والمشقّة لمْ يسبقه فيه سابق ولمْ يلحقه لاحق.

أجل، لقد وقف الأنبياء والأوصياء في وجه الطغاة والظالمين وكلّفهم ذلك

____________________

(1) سورة آل عمران / 110.

(2) سورة العصر / 1 - 3.

(3) سورة المائدة / 79.

٣٣

تضحيات كبيرة في أموالهم وأبنائهم، وأنفسهم وأهاليهم، ولكن لمْ يتفق لأحد منهم أنْ ضحّى بكلّ هذه الأشياء وغيرها مجتمعة وفي آن واحد مثل الحسينعليه‌السلام ؛ ضحّى بستة أو سبعة مِنْ إخوته، وبثلاثة مِنْ أبنائه؛ اثنان منهم أطفال رضّع، وسبعة عشر شاباً مِنْ بني عمومته وأبناء إخوته، وبنيف وسبعين رجلاً مِنْ خلّص أصحابه، وأخيراً بحياته الزكية، وبعياله وحرمه، وخيامه وماله ومتاعه، وكلّ ما ملكت يداه.

ضحّى بكلّ هذه الأشياء وغيرها بشكل من القسوة والعنف والشدّة، تقشعرّ منه الجلود، ويستعصي على الشرح والبيان، فهوعليه‌السلام بكلّ حقّ وجدارة قدوة الآمرين بالمعروف، والمثل الأعلى بين رجال التضحية والفداء:

وما سمعنا عليلاً لا علاجَ لهُ

إلاّ بنفس مداويهِ إذا هلكا

نفسي الفداءُ لفادي شرعَ والدِهِ

بنفسِهِ وبأهليهِ وما ملكا

فلا عجب بعد هذا إذا عرفنا السبب والعلّة، حيث يُقال: إذا عُرِفَ السبب زال العَجَب. ومنه نعرف أسباب حرص المسلمين عامّة والشيعة منهم خاص على إحياء ذكرى الحسينعليه‌السلام ونشرها، ولفت الأنظار إليها بكلّ الوسائل والشعائر؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام أعظم داعية للجهاد في سبيل الله، وأظهر مثل للثبات والاستقامة على المبدأ، وأرفع منار على طريق الشعور بالمسؤولية وأدائها.

ولولا حرمة النحت والتماثيل في الإسلام لكان من المفيد جداً - بالإضافة إلى ذلك - أنْ نقيم التماثيل للحسينعليه‌السلام في كلّ الساحات والشوارع، بل في كلّ بيت؛ لأنّنا كلّما تذكّرنا الحسينعليه‌السلام تذكّرنا الله والدين، والحقّ والعدل والإنسانية المثالية، وكلّما نسينا أو تغافلنا عن الحسينعليه‌السلام التبس علينا وجه الحقّ، وفقدنا الموازين الإنسانية والمقاييس التي تفرّق وتشخّص الحقّ عن الباطل، وعند ذلك الويل والشقاء حسب ما ورد في الحديث الشريف: «كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟!».

ولقد أحسن مَنْ قال:

لقد تحمّل مِنْ أرزائها محناً

لمْ يحتملها نبيٌّ أو وصيُّ نبي

٣٤

وقال الآخر:

أحسينُ فيما أنت قد حُمّلتهُ

أشغلت فكرَ العالمينَ جميعا

وأمّا جوابنا عن السؤال الثاني فنقول: ليس كلّ حادثة تتأثر بطول العهد ومرور الزمن عليها فتفقد أهميتها وأثرها في النفوس، أو يطويها الزمن في ملف المهملات. كلا، بل ترى بالوجدان أنّ في العالم حوادث وشخصيات يستحيل على الزمن هضمها، وعلى التاريخ استهلاكها وتصريفها.

فمن الحوادث مثلاً: الثورات الشعبية الكبرى، كالثورة الفرنسية وأمثالها التي يحتفل بذكراها رغم مرور الزمن الطويل عليها. ومن الشخصيات مثلاً: السيّد المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام الذي لا يزال يحتفل بذكرى ميلاده كلّ عام رغم مرور ما يقارب الألفي سنة على ولادته. فإذاً خلود الشخصيات والحوادث أو عدم خلودها إنما يدور مدار آثار تلك الحوادث والشخصيات، لا مدار مرور الزمن.

وممّا لا شك فيه بين ذوي البصائر والمعرفة أنّ شخصية الحسين بن عليعليه‌السلام وثورته ضدّ الدولة الاُمويّة هما في رأس قائمة الشخصيات العالمية والحوادث الجلية من حيث الآثار والنتائج؛ لأنّها غيّرت أو أثّرت في مجرى تاريخ الأمّة الإسلاميّة، وصانت الشريعة الإسلاميّة من التحريف والتزييف، وحفظت كيان المسلمين من الزوال والذوبان؛ ولذا فليس مِنْ مصلحة الإنسانية نسيان تلك الشخصية المثالية، أو تناسي تلك الثورة المقدسة؛ حيث إنّ في نسيان شخصية الحسينعليه‌السلام نسيان للإنسانية المثلى في كلّ زمان، كما أنّ في تناسي ثورته المقدّسة فقدان لأعظم درس في الحرية والعزّة والتضحية المقدسة.

فإلى مزيد مِنْ تذكّر الحسينعليه‌السلام ، وإلى مزيد مِنْ إحياء ذكرى ثورته المقدّسة أيها المؤمنون.

٣٥

هل ألقى الحسينُعليه‌السلام بنفسه إلى التهلكة بثورته ضد الاُمويِّين؟

أوّل الشبهات التي ترد على ذهن السامع أو القارئ لمصرع الحسينعليه‌السلام هي شبهة: أنّ الحسين بعمله هذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله تعالى عنها بقوله:( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ ) . والقيام بمثل ذلك العمل الانتحاري يعتبر غريباً مِنْ مثل الحسينعليه‌السلام العارف بشريعة الإسلام، والممثّل الشرعي لنبي الإسلام جدّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لذا فالجواب عن هذه الشبهة يتوقّف على تقديم مقدّمة للبحث في الآية الكريمة، والتعرّف على معنى التهلكة المحرّمة ومتى تصدق، وهل ينطبق ذلك على عمل الحسينعليه‌السلام ؟ وننظر هل يصدق عليه (صلوات الله عليه) أنّه ألقى بنفسه إلى الهلكة والتهلكة أم لا؟

قوله سبحانه وتعالى:( وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ ) (1).

التهلكة: يعني الهلاك، وهو كلّ أمر شاقّ ومضرّ بالإنسان ضرراً كبيراً يشقّ تحمّله عادة؛ مِنْ فقر أو مرض أو موت. والآية الكريمة أمرت أوّلاً بالإنفاق في سبيل الله، أي التضحية والبذل فيما يرضي الله تعالى، ويقرّب الإنسان إلى الله، ثمّ نهت عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة؛ وذلك بترك الإنفاق في سبيل الله.

ثمّ قالت:( وَأَحْسِنُوا ) ، أي كونوا محسنين في الإنفاق والبذل؛ إذ إنّه ليس كلّ تضحية حسنة وشريفة، ولا كلّ بذل هو محبوب وحسن عند الله، وإلاّ لكانت تضحيات المجانين والسفهاء أيضاً شريفة وفي سبيل الله.

____________________

(1) سورة البقرة / 195.

٣٦

فالتضحية الشريفة المقدّسة والتي هي في سبيل الله تعالى تعرف بتوفّر شروط فيها، وتلك الشروط نلخّصها فيما يلي:

الشرط الأول: أن تكون التضحية والبذل والإنفاق في سبيل شيء معقول محبوب عقلاً وعرفاً، أي في سبيل غرض وهدف عقلاني، وإلاّ خرجت عن كونها تضحية عقلائيّة ودخلت في عداد الأعمال الجنونية أو اللاإرادية.

الشرط الثاني : أن يكون المفدّى والمضحّى له أشرف وأفضل من الفداء والضحية لدى العقلاء والعرف العام، كأن يُضحّى بالمال مثلاً لكسب العلم أو الصحة، أو يُضحّى بالحيوان لتغذية الإنسان، وهكذا كلّما كانت الغاية أفضل وأثمن كانت التضحية أشرف وأكمل.

هذان العنصران هما الشرطان الرئيسان من الشروط التي لا بدّ منها في كلّ بذل وإنفاق وتضحية حتّى تكون حسنة وشريفة وفي سبيل الله؛ وعلى هذا يظهر جلياً وبكلّ وضوح أنّ ثورة الحسينعليه‌السلام كانت في سبيل الله مئة بالمئة، وأنّ كلّ ما قدّم فيها وأنفق مِنْ مال وبنين، ونفس ونفيس، وغال وعزيز كان إنفاقاً حسناً، وبذلاً شريفاً، وتضحية مقدّسة يستحق عليها كلّ إجلال وتقديس وشكر؛ بداهة توفّر الشرطين الآنفين في ثورتهعليه‌السلام على أتمّ صورهما حسبما نعرف ذلك مفصّلاً فيما يأتي.

وكذلك يتّضح زيف وبطلان الهراء والتهريج القائل أنّ الحسينعليه‌السلام بنهضته تلك ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لأنّه قام بدون عدّة وعدد كافيين في وجه قوّة تفوقه عدّة وعدداً بأضعاف مضاعفة!

إنّا نقول لهم: لقد قام قبل الحسينعليه‌السلام كثير من الأنبياء والرسل في وجه أعداء لهم أقوى عدّة وعدداً، وقام كثير من الصلحاء وهم عزّل في وجه الطغاة الأقوياء، ولاقوا صنوفاً من العذاب والأذى والقتل، فهل كان كلّ اُولئك على خطأ وباطل في مواقفهم؟!

٣٧

أمّا استدلالهم بفعل أمير المؤمنينعليه‌السلام مع معاوية حيث قَبِلَ الصلح أو التحكيم، وكذلك فعل الحسن الزكيعليه‌السلام حيث صالح معاوية، وقَبْلَ ذلك كلّه فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع المشركين عام الحديبية... فإنّه استدلال فاسد وقياس مع الفارق، حيث صالح هؤلاء أعداءهم؛ لأنّهم أيقنوا بعدم جدوى الحرب والقتال، وعدم الوصول إلى الغاية المطلوبة مع الاستمرار في الحرب، وهي ظهور الحقّ وإزهاق الباطل، بل بالعكس ظهر الحقّ بصبرهم ومهادنتهم أكثر وأكثر.

فصلح الحديبية مثلاً أظهر عطف الرأي العام العربي نحو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأظهر حسن نواياه للعرب، وأنّه رجل سلام وداعية حبّ ومودّة، لا رجل حرب، وبالتالي مهّد ذلك الصلح لفتح مكة بدون قتال، ثمّ لدخول الناس في دين الله أفواجاً.

وأمّا قبول عليعليه‌السلام للتحكيم في صفين، وصلح الحسن مع معاوية فلمْ يكن عن شعور بالعجز عن المقاومة، ولا بدافع قلّة العدد وكثرة العدو، بل لغرض فضح نوايا معاوية، وكشف مؤامراته العدوانية أمام أعين البسطاء الذين كانوا قد خدعوا بنفاقه ودجله.

وكذلك سكوت عليعليه‌السلام عن حقّه بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لعلمهعليه‌السلام أنّ استعمال السيف لا يجدي نفعاً لمصلحة الإسلام، بل يعرض ذلك لخطر أعظم، وضرر أشدّ، وفساد أكبر.

والخلاصة : إنّ آية التهلكة لا تشمل مطلق الإقدام على الخطر، ولا تحرّم التضحية بالنفس والنفيس إذا كانت لغاية أعظم وأفضل، وهدف أنبل وأشرف، كالذي قام به الحسينعليه‌السلام بثورته الخالدة، وحيث توفّرت في تضحياته كلّ شروط التضحية الشريفة والفداء المقدّس على أكمل وجه؛ لأنّهعليه‌السلام ضحّى وفدى، وبذل وأنفق في سبيل أثمن وأغلى شيء في الحياة مطلقاً ألا وهو الإسلام؛ دين الله وشريعة السماء، ونظام الخالق للمخلوق، ودستور الحياة الدائم الذي لولا تضحيات الحسينعليه‌السلام لدُفن تحت ركام البدع والتشويهات والانحرافات التي خلّفتها عهود الحكم السابقة، كما دُفنت الديانات السابقة على الإسلام تحت

٣٨

ترسبات البدع والتحريف حتّى لمْ يبقَ منها أثر حقيقي؛ حيث لمْ يقيّض لها حسين فيستخرجها ويزيل عنها المضاعفات، كالذي فعله الحسين بن علي بالنسبة إلى الديانة الإسلاميّة الخالدة.

وهنا قد يرد سؤال وجيه يجدر بنا التعرّض له والإجابة عليه،والسؤال هو : كيف يكون الإسلام أغلى وأثمن، وأشرف وأفضل مِنْ كلّ الموجودات والكائنات حتّى الإنسان نفسه فضلاً عن المال والولد؟! أليس الله تعالى خلق الكون لأجل الإنسان؟! فكيف يُضحّى بحياة الإنسان في سبيل الدين الذي هو بدوره وجد لأجل سعادة الإنسان وخدمة الإنسان وخيره؟!

والجواب : نعم، إذا تعرّض الدين لخطر الزوال أو التحريف فمعنى ذلك أنّ سعادة الإنسان تعرّضت للخطر، وكرامة الإنسان تعرّضت للزوال، ولا شك أنّ الإنسان إذا دار أمره بين أنْ نعيش بلا سعادة ولا كرامة، أو يموت دفاعاً عنهما وإبقاء لهما لغيره وجب الدفاع والصيانة حتّى الموت.

إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان بلا سعادة وكرامة أو يموت سعيداً كريماً، فلا شكّ أنّ الموت بسعادة وكرامة أفضل من الحياة بدونهما. إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان في مجتمع لا يشعر بكرامته الإنسانية، ولا يخضع لنواميس الحياة الطبيعية أو يموت، فلا خلاف في أنْ الموت خير له وأفضل.

ففي الحديث الشريف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «إذا كان اُمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خيرٌ لكم مِنْ بطنها. وإذا كان اُمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خيرٌ لكم مِنْ ظهرها».

وقال الحسينعليه‌السلام في خطبة: «إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً». إذ إنّ كلّ الأشياء إنّما تخدم مصلحة الإنسان، وتكون خيراً للإنسان إذا كانت مقرونة مع الدين الصحيح.

فالمال مثلاً إنّما يكون خيراً وسعادة إذا كان بيد إنسان متديّن يؤمن بالمبدأ والمعاد، ويتقيّد بحدود الدين في كسب المال وصرفه.

٣٩

أمّا المال إذا كان بيد الملحد الإباحي، المتجرّد مِنْ كلّ قيود الدين والعقل والنظام الاجتماعي الإنساني، فإنّه وسيلة هدم وتخريب، وشقاء لصاحبه ولغيره:( إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (1). وقالعليه‌السلام : «هلك خزّان الأموال وهم أحياء».

وكذلك الأولاد إنّما يكونون خيراً للوالدين وقرة عين لهما إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، وبما فرض عليهم الدين مِنْ حقوق الوالدين واحترامهما، أمّا لو كانوا بخلاف ذلك فهم وبال على الوالدين، يرهقونهما طغياناً وكفراً.

وهكذا كلّ شيء في الحياة نافع وخير إذا ساده النظام والدين، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا، ولا سعادة في دنيا بلا دين. وقال تعالى:( فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ) (2).

ونعود فنقول: إنّ الحسينعليه‌السلام ضحّى في سبيل أقدس قضية وأشرف غاية في الوجود، ألا وهو الإسلام الذي تعرّض لأكبر الأخطار على يد ألدّ أعدائه وهم الاُمويّون، فكانعليه‌السلام بذلك القيام أصدق مثال، وأظهر مصداق للشهداء الذين قال الله تعالى فيهم:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) .

ولله درّ مَنْ قال:

كذبَ الموتُ فالحسينُ مخلدُ

كلّما مرّت الدهورُ تَجدّدُ

وقال الاُستاذ حسين الأعظمي:

شهيد العُلا ما أنت ميتٌ وإنّما

يموت الذي يبلى وليس له ذكرُ

وما دمُك المسفوكُ إلاّ قيامةٌ

لها كلّ عامٍ يومُ عاشور حشّرُ

وما دمُك المسفوكُ إلاّ رسالةٌ

مخلدةٌ لمْ يخلُ مِنْ ذكرها عصرُ

وما دمُك المسفوكُ إلاّ تحررٌ

لدنيا طغت فيها الخديعةُ والمكرُ

وهدمٌ لبنيان على الظلمِ قائمٍ

بناه الهوى والكيدُ والحقد والغدرُ

____________________

(1) سورة العلق / 6 - 7.

(2) سورة مريم / 123 - 124.

(3) سورة آل عمران / 169.

٤٠